ملخص:
منذ الأزل، تعدَّدت محاولات إضفاء الشرعية على الأنظمة الاستبدادية والتسلطية. وعلى منوالها، تسعى أنظمة الاستبداد الشرقي المعاصرة، وفي مقدمتها الصين، إلى تقديم نفسها بديلًا معقولًا عن الأنظمة الديمقراطية الاجتماعية. تروم هذه الورقة البحثية دحض هذه الأطاريح، من خلال الاشتباك النقدي مع مقالة “أزمة الديمقراطية الليبرالية” لـ”امحمد جبرون”، والتأكيد أن النظام الديمقراطي الاجتماعي يظل متَّسقًا مع الخصوصيات المحلية، والنظام الأمثل لتمثُّل طوباوية “نظام الجدارة”.
كلمات مفتاحية: الديمقراطية الاجتماعية، الاستبداد الشرقي، حكم الجدارة، الصين، امحمد جبرون.
Abstract:
Since antiquity, there have been many attempts to legalise authoritarian regimes. As such, contemporary eastern authoritarian regimes, led by China, seek to present themselves as a reasonable alternative to social democratic regimes. In this research paper, the author refutes these theses through a critical review of Mhamed Jebroun’s “The Crisis of Liberal Democracy”, affirming that the social democratic regime remains the ideal system to endogenise local idiosyncrasies and the utopia of “meritocracy”.
Keywords: Social Democracy, Eastern Despotism, Meritocracy, China, Mhamed Jebroun.
مقدمة
للوهلة الأولى، قد يبدو مفارقًا انشغال الباحث امحمد جبرون، وهو القادم من قرار البحث التاريخي والفكر السياسي الإسلامي، بموضوع راهنٍ عُنِيت به باستفاضةٍ بحثًا وتحليلًا أدبيات الفلسفة السياسية الغربية المعاصرة. بيد أنه مع التقدُّم قليلًا في المقالة الموسومة “أزمة الديمقراطية الليبرالية: الأبعاد القيمية وآفاق الإصلاح السياسي”، والتي نشرتها مجلة لباب في عددها الخامس (فبراير/شباط 2020)، تبدأ المفارقة في التبدُّد وتتجلى معالم “خيط أريادني” الذي يربط بين العالمين؛ وهو خيطٌ خفي يحبكه الدكتور امحمد جبرون على امتداد أسطر هذا البحث، مداره إضفاء الشرعية على نظام حكم “أهل الحل والعقد”، بالصيغة المعاصرة لنظام حكم “النخبة”، أو حكم “أهل الكفاءة”، أو ما يسمِّيه “الميريتوقراطية” (Meritocracy).
ومقاربة امحمد جبرون في هذه المقالة، وفي سواها(1)، ليست جديدة أو بدعًا من القول؛ بل هي قديمة قِدَم هيمنة الأنظمة الأحادية الاستبدادية والتسلطية، وقِدَم محاولات إضفاء الشرعية عليها، سواء بشكل قبلي نسبة إلى نشأتها وقيامها، أو بشكل بعدي نسبة إلى “الضرورة الحتمية” لاستدامتها، من خلال بناء سرديات حول إنجازاتها، أو ضمانها اللُّحمة والوحدة الوطنية، أو وقوفها في وجه عدو خارجي حقيقي أو متخيَّل… إلخ. إذ لا يمكن فهم مرام امحمد جبرون من “نقد الديمقراطية الليبرالية” ومديح “السلطوية الآسيوية” من دون العودة إلى المشروع الفكري الذي يحمله وينشغل به منذ سنوات، ومداره تأصيل الحكم الأوتوقراطي و”الدولة الإسلامية” القائمة على متخيَّل الخلافة الراشدة. وهو يسعى من خلاله وبخطى ثابتة إلى إضفاء الشرعية على أنماط “الملك العضوض” و”الملك الجبري” التي شهدها التاريخ العربي الإسلامي المديد، وامتداداتها المعاصرة في أنظمة تسلطية وتحكُّمية لا تزال تقاوم مدَّ الربيع الديمقراطي وتؤجِّل الولادة الجديدة للأمة.
سوف نخصص المبحث الأول لمناقشة نقدية أولية لبعض الجوانب المنهجية والموضوعاتية للمقالة التي بين أيدينا؛ قبل أن ننتقل في المبحث الثاني إلى القضية الجوهرية المتعلقة بنقد تهافت أطروحة امحمد جبرون في شَرْعَنَة أُسُس الاستبداد الشرقي القائم على حجية أهلية “أهل الكفاءة” في الحكم عوضًا عن أهلية “حكم الشعب”؛ ثم نعود في المبحث الثالث لنناظر بين الديمقراطية الاجتماعية والأنظمة “التحكُّمية” الأخرى التي ينافح عنها جبرون.
1. الإشكالات المنهجية والموضوعاتية في البحث
1.1. الإشكالات المنهجية
منهجيًّا، تتسم مقاربة الدكتور امحمد جبرون بالتجزيئية-الاختزالية. فالمدخل الرئيس لجبرون لـ”نقد” منظومة الديمقراطية الليبرالية برمتها، هو الأخذ ببعض جوانبها الجزئية التي تشهد “تأزُّمًا”، مثل الشعبوية والهوية، ليعمِّم أحكام القيمة بإطلاق على المنظومة بأسرها، دون أي مسوِّغ منهجي لهذا التعميم. فإن كان المنهج القائم على أساس اجتزاء جزء من الهامش وتعميم الحكم بناء عليه على الكل، منهجًا متسقًا لتحليل بعض الأنظمة المتسقة والقابلة للتجزيء، فهو غير مناسب لمقاربة النظام الديمقراطي من خلال تناول جوانب فرعية فيه وتغييب جوانبه الجوهرية، لاسيما أسس الحرية والمساواة.
في مقدمة الأبعاد الفرعية في منظومة الأنظمة الديمقراطية التي ينطلق منها جبرون لاستنتاج “الأزمة الوجودية” للديمقراطية، نجده يولي أهمية خاصة لمسألة تصاعد الشعبوية في الأنظمة الديمقراطية في الآونة الأخيرة؛ فنجده يقول: “إن هذه التحولات القيمية التي مسَّت الديمقراطية الأميركية وباقي الديمقراطيات الاجتماعية الغربية بدرجات متفاوتة، لم تكن تحولات هامشية، وغير مؤثِّرة على النظام السياسي وسياساته، بل كانت مؤثرة في المشهد السياسي العام، وحاسمة في بعض الأحيان، فقد كانت أحد عوامل فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وصعود الشعبويين وتصدُّرهم المشهد السياسي في أكثر من بلد أوروبي، كما هي الحال في فرنسا مع الجبهة الوطنية، وفي ألمانيا مع البديل لأجل ألمانيا..” (ص 69-70). وما وراء الخلط بين الشعبوية واليمين المتطرف، وبين صعود الشعبوية وصعود اليمين المتطرف(2)، وإن كان صعود الشعبوية في العقود الأخيرة يطرح حقيقة تحديات جمَّة أمام الديمقراطية التمثيلية المعاصرة، فهذا يصبُّ أكثر في منحى تجدُّدها، كما سنعرض لذلك لاحقًا.
كما أن تناول مسألة “التعدد الثقافي” بدوره قاصر في هذه المقاربة التجزيئية وتحكمه التحيُّزات المسبقة. فنقرأ في المقالة: “…مفهوم التعدد الثقافي (Multiculturalism) -الذي يحيل بشكل أساس ومطلق إلى خاصية الانقسام الاجتماعي- أمسى خاصية البرنامج السياسي، الذي أصبح هو الآخر يثمِّن كل انقسام ثقافي” (ص 68). وهذه نظرة قاصرة، على اعتبار أن المقاربة الديمقراطية للتعدد الثقافي تنظر له من موشور “الاندماج الاجتماعي”، على خلاف الأنظمة التسلطية الاستبدادية التي تنظر له من موشور “الانقسام الاجتماعي”، موظِّفةً إياه فزَّاعةً تسند بناءها التسلطي الاستبدادي. وهو ما درُبت عليه الأنظمة العربية التسلُّطية لضمان استدامتها، من خلال تأجيجها الانقسامات الدينية أو المذهبية أو الأيديولوجية أو اللغوية أو الثقافية أو العرقية، والدفع بانزلاق المجتمع إلى الانقسام وأتون الصراع الأهلي، بغرض تنصيب نفسها حكمًا بينها وضمانًا للوحدة والاستقرار.
والقول نفسه بالنسبة إلى مقاربة الفردانية التي تتبوَّأ مركزية في المنظور الديمقراطي الذي يستمد جوهره، من حرية ومساواة، من هذا الأساس الأنطولوجي؛ إذ نقرأ في المقالة: “… إذا كانت قيمة الفردانية وما رافقها من قيم أنتجت لنا انقسامًا سياسيًّا استنادًا إلى الموقف الاقتصادي أو السياسة الاقتصادية، فظهر اليمين، واليسار، والوسط، والذي لم يكن له من معنى خارج الاقتصاد، فإن التحول القيمي الجديد، والانتقال التدريجي من الفردانية إلى الجماعتية أنتج لنا انقسامًا سياسيًّا من نوع جديد، واستنادًا إلى الوعي الجماعتي، تمثَّل في الأحزاب والتيارات الهوياتية أو الشعبوية، وتمثَّل أيضًا في مُعانقة اليسار واليمين التقليديين لخطابات ومطالب الجماعات الهوياتية” (ص 68)(3). والنظر المتوجِّس إلى الفردانية، كما في مقاربة جبرون، إنما ينم عن روح سلطوية تقمع الفرد وتقمع الحرية؛ وهو ما يُفسِّر أن الذات الفردية في السياق العربي الإسلامي ما فتئت تغيب غيابًا قسريًّا بفعل سيادة “فقه الغلبة والاستبداد” الذي ظل يسعى على مرِّ التاريخ ودون هوادة إلى تذويبها في بوتقة الرعية، وإخضاعها في قالب الامتثال الاجتماعي، بالإضافة إلى غيابها غيابًا طوعيًّا من جهة الانضواء العضوي في “بارادايم الجماعة” الذي يُغيِّب الذات الفردية للمصلحة شبه-الحصرية للذات الجماعية. ومن ثم، فقد ظل سؤال التنوير، عبر التاريخ الإسلامي المديد، وإلى اليوم، مؤجلًا ومرهونًا بالتصدي لأسئلة الذات الفردية واستقلالها عن الأغيار، لاسيما عن أية سلطةٍ/سلطويةٍ خارجية، وحريتها في الفعل الإرادي والتعاقد، على خلاف السياقات الغربية حيث وُجدت أرضية خصبة لتبلورها في نماذج ديمقراطية، لاسيما مع مقدم الحداثة.
كما تتبيَّن غَلَبة التجزيئية-الاختزالية في تناول جبرون مكامن “الأزمة العميقة التي تعاني منها التجربة الديمقراطية”، في القول مثلًا إن: “الأزمة العميقة التي تعاني منها التجربة الديمقراطية بمختلف أوجهها في الغرب وخارجه، هي أزمة قيمية في العمق، وليست أزمة تَمْثِيل، ومؤسسات…” (ص 59). ففي جانبٍ منها، إن كانت “الأزمة العميقة التي تعاني منها التجربة الديمقراطية بمختلف أوجهها في الغرب وخارجه” هي أزمة قيمية بالفعل، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان ولا ينتطح فيه عنزان، فإن بُعدها الأساس يظل كامنًا في التمثيلية التي أضحت قاصرة في الديمقراطيات المعاصرة، ومنقطعةً عن القواعد الشعبية العميقة، سواء بالنظر إلى احتراف النخب السياسية مهنة التمثيلية، أو بفعل انقطاعها عن الواقع المعيش لأغلبية الشعب. ويناقض قول جبرون هنا تركيزه في نقد النظام الديمقراطي على تأزُّمه من خلال صعود الشعبوية؛ فالأخيرة هي في حد ذاتها تعبير عن أزمة تمثيلية وإحساس الفئات الشعبية الواسعة بانقطاع النخب السياسية، والاقتصادية، والإعلامية، عنها. وهي إشكالية مرتبطة بدورها بمعاناة النظام الديمقراطي على نحوٍ مستدام من معضلة الترابط المتلازم بين السلطة السياسية والثروة الاقتصادية(4). وفي مقابل هذه الاختلالات البنيوية التي يغيب عن جبرون الخوض فيها ومناقشتها، تجدر الإشارة إلى أن الأنظمة الديمقراطية ما فتئت تجترح نماذج أخرى تكميليةً للتمثيل؛ ومنها نظام “القُرعة” (Sortition) الذي جرى، على سبيل المثال، إعادة إدراجه في عام 1971 في بعض الأنظمة السياسية (في ألمانيا والولايات المتحدة)؛ ومنها أيضًا “هيئات المحلفين المواطنية” (Citizens’ Jury)، وهي جمعيات مؤقتة يتم تعيينها بالقرعة أو يجري اختيارها بطريقة أخرى عشوائية (المُقاربة في الشارع العام على سبيل المثال) من أجل توجيه القرارات السياسية؛ ومنها “الاستطلاع التداولي” (Deliberative Opinion Poll)، وهو تكييف للنموذج الديمقراطي يقتضي أن يُجمع الناس من جميع أنحاء الدولة أو الإقليم في مكان واحد لمناقشة المسائل المتصلة بالمجتمع واتخاذ قرار بشأنها؛ ومنها “الموازنة التشاركية” (Participatory Budgeting)، التي ذاع صيتها منذ أن اشتهرت تجربة بورتو أليغري بالبرازيل في عام 1989 وجالت العالم بأسره، وهي تستلهم التجارب الأميركية للديمقراطية المباشرة على مستوى البلديات في القرن التاسع عشر، لاسيما تلك التي أُعجب بها ألكسي دو توكفيل(5).
2.1. عدم دقة ومغالطات
بالإضافة إلى هذه الإشكالات المنهجية، ثمة العديد من أحكام القيمة غير المسوَّغة في المقالة، فضلًا عن أنها تجافي الواقع تمامًا. ومن ذلك القول: “إن الديمقراطية الليبرالية اليوم تعاني من أزمة مزدوجة، تعاني من جهة من التلاشي التدريجي لأساسها القيمي المرجعي وهو الفردانية، باعتبارها تمركزًا حول الذات، وتطلعاتها التحررية، والذي يتمثَّل في صعود نوع من الجماعتية، حيث يغفل في إطارها الفرد عن ذاته، ويذوب في جماعة هوياتية، ويتقاسم معها عددًا من الهموم والمطالب، ولا يخفى أن هذه الدينامية أي التحول نحو الجماعتية يعاكس تمامًا الدينامية التي كانت وراء ظهور الديمقراطية وانتصارها السياسي (ص 76). وهذا قول غير دقيق تمامًا. فعلى خلاف الأنظمة العربية الإسلامية التي تظل إلى اليوم تقمع الفردانية، ما يفضي بدوره إلى محاصرة مساحات الحرية(6)، تظل الفردانية، بوصفها “تمركزًا حول الذات وتطلُّعًا للتحرر”، مركزية في النسيج المجتمعي الغربي، وأساسية في منظومته الديمقراطية.
ومن ذلك أيضًا القول: “صعود التيارات الإسلامية في عدد من هذه الديمقراطيات الصاعدة في العالم الإسلامي… يتحدى المرجعيات الديمقراطية في أصولها القيمية كالفردانية، والمواطنة، والحريات” (ص 87-88). فلا يأتي الباحث بأية مسوِّغات تسند هذا الحكم بـ”عدم ديمقراطية” الحركات الإسلامية بتعارضها مع قيم “الفردانية، والمواطنة، والحرية”. وتيمة الديني والسياسي هي تيمة مركزية في الفكر السياسي المعاصر، وليس المقام مقام استفاضة فيها.
وحين ينتقل الباحث إلى “معقل” حجاجه الآسيوي، نجده في البداية يخلط خلطًا عميقًا بين بلدان جنوب شرق آسيا والصين: “تقدم بلدان جنوب شرق آسيا وفي طليعتها الصين، التي تجر وراءها موروثًا ثقافيًّا وسياسيًّا عريقًا، يتجسد جزء عظيم منه في الديانة الكونفوشيوسية، مثالًا واضحًا على الصلة بين القيم السياسية والمجتمعية وبين الديمقراطية الليبرالية على صعيد العالم اليوم، فهذه البلدان في عمومها مترددة في الأخذ بالنظام الديمقراطي الليبرالي، وتحاول بأشكال مختلفة تكييفه مع خصوصيتها الثقافية والقيمية السياسية” (ص 74). وهذا الخلط بين الصين وبعض بلدان جنوب شرق آسيا (ص 58) هو مغالطة بالنظر إلى التمايزات الكبرى بين هذه البلدان. ومن المهم التذكير في هذا الصدد بأن إحدى سمات آسيا الأساسية تنوعها الشديد والاختلافات الكبيرة فيما بين بلدانها، ليس بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية وبلدان أخرى في المنطقة فحسب، ولكن أيضًا داخل كل بلد. وإن كان كونفوشيوس يُعدُّ هو المرجع الأساسي الذي تجري العودة له في تفسير القيم الآسيوية، فإنه ليس المؤثِّر الفكري الوحيد في هذه البلدان؛ ففي اليابان والصين وكوريا على سبيل المثال، هناك تقاليد بوذية قوية، وواسعة الانتشار، وقديمة جدًّا، تعود لأكثر من ألف وخمسمئة عام. ولذا، فالثقافات الآسيوية متنوعة للغاية بحيث لا يمكن اختزالها في شكل أوحد من الكونفوشيوسية، خاصة ذاك الشكل المنغرس في الصين. كما أن النمو الاقتصادي السريع في العديد من دول شرق آسيا، وخاصة في تايوان وكوريا الجنوبية والفلبين وتايلاند، قد أحدث تحولات كبرى في العديد من الجوانب المجتمعية، ولاسيما في تطور ثقافة مجتمع الاستهلاك، والحركية الاجتماعية، وتحسين معايير التعليم، وتسوية هياكل السلطة الهرمية. وقد كانت هذه بعض أهم نجاحات الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي(7).
والأمر نفسه بالنسبة إلى الحديث عن “القيم الآسيوية” (ص 84). فمفهوم “القيم الآسيوية”، الذي ابتكره لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة السابق، لا يزال غامضًا حتى اليوم(8)؛ إذ إن هذه “القيم الآسيوية” لا تمتلك خصوصية آسيوية على نحو خاص(9)، ولم يجر استخدامها سوى لتبرير الأنظمة الجماعية والسلطوية(10)، التي تهدف إلى مقايضة الديمقراطية والحريات المدنية بمستويات من التنمية والرفاهية والأمن(11).
كما تخلط المقالة أيضًا بين النموذج الصيني والنموذج السنغافوري (ص 85)، مسقطةً بعض خصائص “نظام الجدارة” المميِّزة للنموذج السنغافوري على النموذج الصيني، وهو ما سنعود إليه لدى مناقشة نظام الجدارة أسفله.
3.1. تبسيطية وغياب مسافة نقدية
السمة الغالبة لمقاربة المقالة لما يفترض أنها “الظاهرة المراد تفسيرها” (Explanandum) ونقدها واقتراح بدائل عنها، وهو تفصيل القول في أسس النظام الديمقراطي ونقدها، أن مقاربتها تظل عمومًا سطحية وتبسيطية، ولا يجري نقاش الفكرة الديمقراطية من أساسها؛ وفي ذلك نجد الباحث يقول: “..للفكرة الديمقراطية باعتبارها أفضل تجسيد سياسي عرفته الإنسانية لسلطة الشعب” (ص 59)، مكتفيًا بالتعريف المبدئي لها لإبراهام لنكولن في خطاب جيتيسبورغ في عام 1863: “يُعَرِّف إبراهام لينكولن الديمقراطية بكونها “حكم الشعب بواسطة الشعب لأجل الشعب”. ويتميز هذا التعريف مُقارنة بالتعريف اليوناني الشهير “حكم الشعب لنفسه بنفسه” بإظهار غاية الحكم، وهي خدمة الشعب وتحقيق مصالحه” (ص 61). ومن خلال هذه التعريفات التبسيطية، وغير المرخَّصة بأي نقاشٍ جدِّي، يعرج الباحث لاستخلاص أحكام قيمة غير مسوَّغة عن الديمقراطية من مثل القول: “تعيش الديمقراطية الليبرالية أوقاتًا حرجة على صعيد العالم لم تمر بها من قبل، بلغت درجة التشكيك في جدواها، وكونها أفضل النظم السياسية، أو أقلها سوءًا في إدارة الشأن العام” (ص 57)؛ أو القول: “فعلى سبيل المثال ما تشهده إسبانيا في منطقة كتالونيا، وما تشهده بلجيكا من جمود سياسي قاتل بسبب الصراع بين الفرانكفون والفلامان وغيرها من الأمثلة هي أعراض مباشرة للأزمة البنيوية التي تعيشها الديمقراطية” (ص 78)؛ أو القول: “ومن الواضح جدًّا أن الاتجاه التجزيئي الذي تسير في اتجاهه هذه التشكيلات الهوياتية من الناحية السياسية يُعاكس تمامًا الاتجاه الذي ازدهرت في إطاره الديمقراطية، وهو إطار عقيدة الهوية الوطنية. ولا يخفى أن هذه الانقسامات تشكِّل تهديدًا جديًّا لاستقرار المجتمع، ورفاهه” (ص 79). ويجدر التنويه في هذا المقام إلى أن التفسير الذي يقترحه تقليديًّا مُنظِّرو الديمقراطية لمصطلح “حكم الشعب” يحمل التركيز على كلمة “الحكم”، من دون التوقف كثيرًا عند مفهوم “الشعب”(12). ففكرة الحكم “بـــ” الشعب تشير إلى أن إكراه الدولة يُستمد من الشعب لكنه يجب أن يمتثل، بعد تنفيذ الإجراءات الملائمة، إلى دور الشعب في صنع القرار. فالإجراء الديمقراطي لا يمكنه أن يكون كافيًا بحدِّ ذاته، بل ينبغي أيضًا أن يكون الحكم “من أجل” الشعب؛ أي إن سياسات الحكم نفسها ينبغي أن تنعكس على الوضع القانوني والاجتماعي-الاقتصادي والاعتباري للمواطنين بوصفهم المصدر النهائي للسلطة، مع احترام مصالحهم وضمان أن الإكراه من لدُن الدولة لا يعاملهم بطريقة تُهدِّد هذا الوضع. وفكرة أن السلطة الديمقراطية تأتي من الشعب وأنها يلزمها أيضًا احترام وضع أفرادها بوصفهم مواطنين هي السبيل إلى ربط نظرية الديمقراطية بنظرية العدالة. ففهم المثالية الديمقراطية على أنها مُحدَّدةٌ جوهريًّا بالقِيَم الديمقراطية يؤدي إلى النظر في التبرير وحدود الإكراه المشروعة في المجتمع السياسي، بحيث تؤدي القِيَم الأساسية للديمقراطية دورًا مركزيًّا في المناقشات بشأن هذه الجوانب من إكراه الدولة. وهو ما سنعود لمناقشته أسفله.
والأمر ذاته ينطبق على تناول المقالة التبسيطي للتوجُّه نحو إحياء الهويات المحلية والمطالب بالاستقلالات الذاتية في إسبانيا أو بلجيكا (ص 78)، والتي تزايدت بشكل متزامن مع موجة العولمة منذ نهاية ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي. ومن ثمة، فالخلاصات المتسرِّعة التي يخرج بها الباحث بشأن “الأزمة البنيوية التي تعيشها الديمقراطية” ليست دقيقة؛ إذ تشهد هذه الديمقراطيات تطورات ملموسة في هذه الاتجاهات، ويكتسي الإطار الديمقراطي أهمية بالغة في تجديد عملية تحديد الهوية والاعتراف، لأن المُواطنة الحقة تقتضي تجدُّد النشاط السياسي للمواطنين، ولو بشكل مُتقطِّع (كل أربع أو خمس سنوات مثلًا بمناسبة الانتخابات وتجديد النخب السياسية والتداول على السلطة). مما يعني تجاوز الوضع القانوني الصوري والتشارك السياسي الإجرائي الخالي من أي مضمون معياري من أجل الحديث عن الهوية الثقافية والقِيَم المشتركة التي تُحدِّد نشأة وتطور وتجدد المُواطنة التي تدافع عن هذه القِيَم في إطار “حساسية مُوحَّدة” أو “جبهة مُوحَّدة”.
فما وراء أبعادها المؤسساتية أو الإجرائية، يغيب عن مقاربة جبرون أن الديمقراطية هي في المقام الأول “ثقافة” تصقل كيفية فهم أفراد المجتمع لهويتهم، وتُفرز إدراك المصلحة العامة كوسيط بين مصالحهم الخاصة وتصوراتهم لما هو حَسَن، وتُنمِّي الشعور بالعدالة عبر تنمية شعورهم بقيمتهم الذاتية من خلال المشاركة السياسية أو الانخراط في المجتمع المدني؛ ذلك “أن عملية بناء المُواطنة متكاملة مع سيرورة ترسيخ فكرة الديمقراطية وتوطينها في الثقافة السياسية، وأن المُواطنة والديمقراطية مُتلازمتان من حيث التطور والمآل”(13). ولذا، نجد من شروط المُواطنة الحقيقية “الإدارة الديمقراطية للتنوع والتعددية”(14)، التي تعني الفصل الصارم بين المجال العمومي “المُحايد” والمجال الخاص من دون المعارضة بينهما، بحيث تستطيع جميع أنواع الانتماءات التعبير عن نفسها بحرية ما دامت تظل ضمن حدود القانون، في ظل ثقافة سياسية مُشتركة ومنظومة قِيَمية مُتَّسقة. والمجتمع المدني والسياق المجتمعاتي الوسيط (Meso) الذي يربط بين المجالين، الخاص (Micro) والعام (Macro)، هو العلامة المُميِّزة لمجتمع ديمقراطي يستطيع أن يُبدع في كل آن أشكالًا جديدة للتعبير وأن يُجسِّدها على أرض الواقع. المشكل اليوم أنه حتى في دول ذات تقليد ديمقراطي عريق وراسخ، قوَّضت التعددية الثقافية إلى حدٍّ ما (بفعل عوامل الهجرة والعولمة وغيرها) الفصل المُحدد بين المجالين، العام والخاص، واتساق التشكيلات المجتمعاتية، مما يستدعي توسيع مفهوم المُواطنة بشكل مُؤَسَّس على المعاني الأساسية للعدالة التي تنبني على صهر معاني الحرية والمساواة والمسؤولية الشخصية والالتزام المُتبادل والتضامن والإخاء.
وعلاوة على ذلك، فإن مقاربة إشكالية “الاعتراف” في تعقيداتها وتمحُّلاتها تظل أيضًا جدَّ تبسيطية في المقالة التي بين أيدينا، وغير كافية للاستمساك بها تحليليًّا، وهو ما سنفصِّل القول فيه أسفله.
2. الحل والعقد والاستبداد بديلًا عن الحرية والديمقراطية الاجتماعية!
1.2. النموذج الصيني “الميريتوقراطي”
جوهر حِجَاج امحمد جبرون قائم على إبراز أفضلية النظام الصيني القائم على “الانتقاء” و”التعيين” على النظام الديمقراطي القائم على “الانتخاب” و”التمثيلية”، من منطلق أن النظام الصيني يقوم على “الميريتوقراطية”(15)، أي على الجدارة والاستحقاق: “ولعل أهم وأبرز هذه الأفكار ما يُصطلح عليه بالنظام الميريتوقراطي… والذي يركز على الكفاءة والانتقاء بدل الانتخاب” (ص 58)؛ وهو يعبِّر عنه بوصفه نظامًا “يحقق التقدم، والعدالة، والكرامة، بعيدًا عن قيمة الفردانية وقريبًا من الجماعتية” (ص 86). وإذ يجري على مدار المقالة استنساخ الخطاب الرسمي الصيني من دون أية مسافة نقدية، فإنه يتم السكوت على طبيعته التسلطية المركزية، وتغييب أبعاد الحريات الفردية والجماعية؛ فضلًا عن عدم مناقشة أسس “نظام الجدارة”، سواء على المستوى المعياري أو على المستوى الوضعي.
وهذا ما يتجلى في رجوع جبرون إلى الباحث الصيني، تشانغ ويوي، بشكل مستفيض: “ينطلق ويوي من مقدمة أساسية أن النظام الديمقراطي لا تتوافر فيه صفة النموذج الكوني، الذي يصلح لكل الشعوب بغضِّ النظر عن ثقافتها، وقيمها، وخبراتها التاريخية، وأن التجربة الديمقراطية كما يشهد الواقع عليها، ليست أفضل نظام سياسي، فقد أمست جسرًا آمنًا لفوز عديمي الكفاءة بالسلطة؛ وأمست مصدرًا لسياسات عدائية-إمبريالية، كما تسببت في الكثير من الفوضى والاضطراب في عدد من أنحاء العالم، كما هي الحال في بلدان الربيع العربي” (ص 81)؛ أو القول: “إن أطروحة ويوي التي تقدم النظام السياسي الصيني للعالم؛ باعتباره نموذجًا غير ديمقراطي في الحكم؛ مختلفًا وفعالًا، لا تقترح هذا النظام نموذجًا قابلًا للنسخ والنقل إلى باقي دول العالم، بل تحرِّض باقي الشعوب على التمرد على الفكرة الديمقراطية، وتُقدِّم لها وصفة النجاح السياسي والتنموي، والتي تلخصها في المزاوجة والتوليف المبدع بين الخصوصية التاريخية والثقافية والقيمية وبين الدولة الحديثة. فالدولة الصينية -في نظر ويوي- كدولة حضارية عريقة (Civilizational State)، تجمع بصورة عبقرية بين خبرات وتقاليد تمتد إلى خمسة آلاف عام، والدولة-الأمة، الحديثة” (ص 81-82)؛ أو القول: “ولا يتردد ويوي في هذا السياق في التصريح بأن النظام السياسي الصيني يستثمر هذه الشرعية، ويدعو باقي الدول غير الغربية إلى احترام تقاليدها السياسية، وعدم الانجرار وراء الرومانسية السياسية التي تجسدها الديمقراطية، والتي قد تكون مكلفة جدًّا. وهكذا، ففرادة النموذج الصيني وقوته، بحسب زهانغ، تتجسد في قدرته على تحديث التقاليد السياسية للصين، وكونفوشيوسيتها” (ص 83)(16). وحين يسوق جبرون هذه الاقتباسات المستفيضة عن تشانغ ويوي، فهو يُتبعها مباشرةً بـ”ينبغيات” بقوله: “وهو ما يجب أن تفعله باقي الدول” (ص 83)؛ ما ينمُّ عن تماهيه الكامل مع هذا النموذج تمامًا كما يروِّج له الصينيون(17). ولا يجري إطلاقًا مناقشة هذا النظام “الميريتوقراطي” الذي يدِّعيه النظام الصيني في أُسُسِه أو في أسئلته نسبة إلى مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الحزب الشيوعي الصيني قد شرع في إعادة الاعتبار للقيم الكونفوشيوسية، بعد أن ظلت منبوذة لأمد بعيد في العهد الماوي، مع التحوُّل الكبير الذي جاء به دينغ شياو بينغ في عام 1978 (سياسة الإصلاح والانفتاح)؛ ومن ثم، شرع في الانفتاح، والعودة إلى الجذور الكونفوشيوسية، وبدأ يمنح تدريجيًّا مكانة أكبر لمبدأ الجدارة، لاسيما، كما يُبرز ذلك أحد أبرز مناصري هذه المنظومة، دانييل بيل (Daniel Bell)، من خلال تشجيع أفضل الطلاب للانضمام إليه، وانفتاح العديد من المشاريع التعليمية على تدريس الأدبيات الصينية الكلاسيكية(18). وبدأت الكونفوشيوسية تشهد حياة جديدة(19)، بفعل سعي دعاية النظام القائم لإضفاء الشرعية على احتكار الحزب الواحد للسلطة(20)، وأيضًا بفعل تحولات لعملية مجتمعية تطورية لا يتحكَّمون فيها، من حيث إن الكونفوشيوسية بدأت تشهد اهتمامًا متزايدًا من لدن الجامعيين وما يمكن تسميته “المجتمع المدني” الصيني. بيد أنه في الواقع، تظل الفجوة بين أسطورة مجتمع الجدارة والواقع اليومي لمجتمع الأوليغارشية جلية وواضحة، ويظل الولاء للحزب، وليست الجدارة، هو العامل الأساسي في عملية التعيين(21).
ولذا، فعلى الرغم من سياسة “الإصلاح والانفتاح” التي شهدتها البلاد منذ عام 1978 بدفع قوي من دنغ شياو بينغ، ينبغي (إعادة) التأكيد على أن الصين تظل دولة استبدادية تمارس التحكُّم وتواصل قمع الحريات العامة والحريات الفردية(22). فعلى سبيل المثال، من حيث “التصنيف العالمي لحرية الصحافة” الأخير لمنظمة “مراسلون بلا حدود” لعام 2020، تحتلُّ الصين المرتبة 177 في العالم، من بين 180 دولة!(23) كما ينبغي التأكيد على أن النجاح الاقتصادي الهائل الذي توظِّفه جمهورية الصين الشعبية للترويج لنموذجها ليس نابعًا من بنية التحكُّم الشامل للحزب الشيوعي، بل من تضافر تغيرات عدة على المستوى المحلي خصوصًا. فالأوتوقراطية لم تكن وحدها المفتاح للنمو الهائل الذي شهدته الصين خلال العقود الأربعة الماضية(24)، بل يرجع الفضل أيضًا وبدرجة مهمة إلى إدخال بعض الإصلاحات البيروقراطية (التي يعود فيها الفضل الكبير لدينغ شياو بينغ)، وإرساء أسس حكامة حديثة لم تشهدها الصين في تاريخها(25)، واستعداد بيجين للسماح للفاعلين المحليين بالارتجال واجتراح حلول متسقة مع سياقاتهم المحلية وقدراتهم، بدلًا من الاعتماد الصارم على الأوامر من الأعلى إلى الأسفل، مما جعل البلاد تستفيد من المعارف والموارد المحلية، وتعزِّز التنوع، وتحفيز الناس على المساهمة بأفكارهم وجهودهم وجني ثمارها(26).
ولذا، فمن الصعب القول: إن “القيم الآسيوية” التي يدَّعيها الحزب الشيوعي، ومن بينها نظام الجدارة، راسخة في النموذج الصيني. فعمليات الانتقاء على أساس الجدارة والاستحقاق، على محدوديتها نظريًّا، تظل محدودة أكثر عمليًّا، لكونها تخص حدود الجماعة الأهلية للحزب الشيوعي فقط، على أساس الولاء للحزب، وتُقصي كل من هم خارجه(27)، وأيضًا لسِمة الفساد الكامنة في المنظومة البيروقراطية الشيوعية(28). وذلك على خلاف النموذج السنغافوري الذي يُجسِّد هذه “القيم الآسيوية” بشكل أفضل، من خلال الجمع بين أبعاد التحكُّم والحكم الرشيد والاستقرار السياسي والكفاءة الاقتصادية. ولذا، غالبًا ما يجري وصف “نظام الجدارة” مبدأً أساسيًّا للهوية الوطنية في سنغافورة، ويُشار إليه باسم “الحلم السنغافوري”، حيث يصبح الانتقال الاجتماعي والاقتصادي ممكنًا من خلال العمل الجاد والقدرة، بغضِّ النظر عن الاختلاف العرقي. وفي مثل هذا النظام القائم على الجدارة، يُسمح للجميع بفرصة النجاح بناء على الاختبارات نفسها، ويتم اختيار الأكثر موهبة بناء على هذه التحديات غير التمييزية. لكن على الرغم من أن نظام الجدارة في سنغافورة قد خلق طبقة متوسطة كبيرة من خلال السماح بالتنقل الاجتماعي الصاعد بين معظم السنغافوريين، إلا أنه يبدو أيضًا أنه قد خلق ظروفًا بنيوية وثقافية تولِّد عدم المساواة والنخبوية(29)؛ ومن ذلك أن النظام التعليمي يقوم على تعريف ضيق للغاية للجدارة، يكاد يحصره في القدرات الأكاديمية(30).
2.2. التأصيل لنظرية الحل والعقد تحت غطاء “الميريتوقراطية”
يستهل امحمد جبرون حجاجه الرئيس عن نظام الجدارة (أو “الميريتوقراطية”) بـ”دفوعات شكلية” عن مضمون يصبُّ بالمجمل -على خلاف ذلك- في تأصيل الاستبداد؛ فنجده يقول: “حديثنا عن أزمة الديمقراطية، والشكوك التي تحوم حول مستقبلها، لا يجب أن يُفهم على أنه مدح للأوضاع والأنظمة الاستبدادية، والتسلطية، بل على العكس من ذلك، هو دعوة للاجتهاد لأجل بناء نظام سياسي أكثر وفاء للفكرة الديمقراطية باعتبارها أفضل تجسيد سياسي عرفته الإنسانية لسلطة الشعب، وأكثر تجاوبًا مع الخصوصية الثقافية والقيمية للمجتمعات الإنسانية، وأكثر فعالية في جلب المنافع ودفع المضار” (ص 59). غير أن مضمون المقالة يصبُّ برمته، على العكس من ذلك، في التأصيل للاستبداد الشرقي، الذي يجري تجسيده في حالتي روسيا وبعض بلدان جنوب شرق آسيا، وفي طليعتها الصين، التي “تجرُّ وراءها موروثًا ثقافيًّا وسياسيًّا عريقًا” (ص 74)، محاولًا إبراز أن “قيم العمل، والجماعتية، والروحانية، والتراتبية، بالإضافة إلى عنصر التقاليد” (ص 72)، التي تسم هذه البلدان، غير متسقة مع إرساء النظام الديمقراطي. وبتعبير آخر، يعيد امحمد جبرون إنتاج خطاب الاستبداد الشرقي متوسِّلًا بأدبيات معاصرة. وباستخلاصه، “انطلاقًا من عدد من الدراسات”، أبرز القيم السياسية التي تحفل بها الثقافة الكونفوشيوسية، ينتقي جبرون من بينها قيم “الاستقرار والنظام” (ص 75)، و”الخضوع والطاعة” (ص 75)، بالإضافة إلى قيم “التشاركية أو الجماعتية” (ص 75)، و”المساواة” (ص 76)، و”الشخصنة” (ص 76). وهي جميعها قيم تصبُّ في بوتقة إعادة إنتاج أُسُس الاستبداد الشرقي وتعزيز المنظور الهوبزي للسيادة المطلقة التي تتسامى عن أية تعاقدية، وتعبِّر عن التماهي الكامل ما بين كيان الدولة وشخص الحاكم.
يسوق امحمد جبرون النموذج الصيني (و/أو الآسيوي)، والقيم الآسيوية التي يقوم عليها، لادعاء أهلية هذا النظام السلطوي ليكون بديلًا عن النموذج الديمقراطي، لاتساقه مع القيم الآسيوية (المحلية) من جهة، ومن غير التصريح بذلك، بحكم النتائج الاقتصادية الباهرة التي حققها هذا النظام خلال العقود الأربعة الأخيرة: “…إن الشرعية السياسية في الخطاب التاريخي الصيني ليست شرعية حديثة، كما يحددها الفكر السياسي الحديث، بل ترتبط بعنصرين رئيسين: بكسب أو خسارة قلوب وعقول الشعب، وبالاستحقاق والجدارة القائمة على انتقاء المواهب للحكم أو ما يسمى بـ”ميريتوقراطي”، بدل الانتخاب الذي تؤكد عليه الديمقراطية. ويعبِّر هذان العنصران بصورة أو أخرى عن امتداد واستمرار للثقافة السياسية الكونفوشيوسية في الصين الحديثة والمعاصرة. وهذه الشرعية الموصولة بجذور الصين وتقاليدها، هي ما يفسر حكامتها الجيدة، مقارنة بالدول الأوروبية” (ص 82). بيد أن ما يسمِّيه جبرون هنا “ميريتوقراطية” ما هو سوى إعادة إنتاج -بلغة حديثة- للنظام الأرستقراطي الطبقي، المتأصِّل في الثقافة الإسلامية باسم “أهل الحل والعقد”. وسوقه لهذا الحديث إنما مرامه تعزيز منظوره لنظام التحكُّم في ظل حكم النخبة، وهو ما يتوافق مع النظام التقليدي في التراث الإسلامي لـ”أهل الحل والعقد”. ومفهوم “أهل الحل والعقد” الذي يحيل إليه امحمد جبرون بشكل مضمَّن طيلة أسطر هذا البحث مفهوم راسخ في الموروث الإسلامي، وإن كان ليس له أثر في الكتاب والحديث. وتعود استعمالاته الأولى لأحمد بن حنبل (ت. 241 ه)، وأبو الحسن الأشعري (ت. 330 ه)، وأبو بكر الباقلاني (ت. 403 ه)، وأبو الحسن الماوردي (ت. 450 ه)، وأبو يعلى الفراء (ت. 458 ه). وعلى الرغم من اكتسائه مفاهيم متعددة في ثنايا هذه الأدبيات التراثية، فالمراد بالعقد والحل -على وجه العموم- هو عقد نظام المسلمين في شؤونهم العامة السياسية وغيرها، ثم حلُّ هذا النظام متى دعت الضرورة، وإعادة عقده وترتيبه من جديد.
ومن ثم، فهناك شبه إجماع لدى الأقدمين والمحدثين على أن “عقد الإمامة” لا يتم سوى باختيار أهل الحل والعقد. وفي ذلك يقول أبو المعالي الجويني: “وإن لم يصح النص [من الشارع على إمام]، فاختيار مَنْ هو من أهل الحل والعقد كافٍ في النصب والإقامة، وعقد الإمامة”(31). ويترتَّب عن هذا القول أن أي نظام سياسي آخر، نابعٍ مثلًا من انتخاب عموم الناس بوصفهم مواطنين متساوين تمامًا وكاملي الكينونة والحقوق، لا يُعتدُّ به: “أما بيعة غير أهل الحل والعقد من العوام فلا عبرة بها”(32). ومن ثمة التماثل القوي مع أنظمة الاستبداد الشرقي التي يحيل إليها امحمد جبرون في هذه المقالة، والتي تربط الشرعية بالنخب الحاكمة عوضًا عن حكم الشعب. ويمتدَّ هذا التماثل إلى صفات “أهل الحل والعقد”، والتي نجد أفضل توصيف لها عند أبي المعالي الجويني؛ فهو يستثني منهم النساء والعبيد وأهل الذمة والعوام: “فما نعلمه قطعًا أن النسوة لا مدخل لهن في تخير الإمام وعقد الإمامة (…) وكذلك لا يناط هذا الأمر بالعبيد، وإن حووا قصب السبق في العلوم. ولا تعلُّق له بالعوام الذين لا يُعَدُّون من العلماء وذوي الأحلام. ولا مدخل لأهل الذمة في نصب الأئمة؛ فخروج هؤلاء عن منصب الحل والعقد ليس به خفاء”(33). وهو يحدِّد بالمقابل صفاتهم على النحو التالي: “إنا لا نشترط بلوغ العاقد مبلغ المجتهدين، بل يكفي أن يكون ذا عقل وكيسٍ وفضلٍ وتهدٍّ إلى عظائم الأمور، وبصيرة متقدة بمن يصلح للإمامة، وبما يُشترط استجماع الإمام له من الصفات”(34). ثم يضيف: “فأما الأفاضل المستقلُّون، الذين حنَّكتهم التجارب، وهذَّبتهم المذاهب، وعرفوا الصفات المرعية فيمن يناط به أمر الرعية، فهذا المبلغ كافٍ في بصائرهم”(35). وهنا أيضًا التماثل بالغ بين صفات “أهل الحل والعقد” ومعايير “انتقاء” (وليس “انتخاب”) أعضاء الحزب الشيوعي الصيني لتبوُّء المسؤوليات.
الفكرة الرئيسة التي يدافع عنها جبرون هي أن الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات الشرقية تتحكَّم فيها موروثات ثقافية وذهنيات موغلة في التقليدية، أنتجت، على نحو تراكمي، بنية عقلية تبرِّر السلطوية والاستبداد(36)، وثقافة للخضوع والإذعان والعجز العام تؤدي إلى تكريس النظم التسلطية وعرقلة عملية التحول الديمقراطي. وهذا منظور خاطئ ومخطئ في آن معًا، لأن الجينات الثقافية للشعوب الشرقية لا تنطوي على أية “حصانة” أو “مناعة” ضد “عدوى” الحقوق والحريات والحكم الرشيد، بل إن “مجموعها الوراثي” (Genome)، شأنها في ذلك شأن سواها من شعوب البسيطة، قوامه الفردية والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة.
3. الحرية والديمقراطية الاجتماعية بديلًا عن الحل والعقد والاستبداد
1.3. في فهم الديمقراطية
يعرض الدكتور امحمد جبرون للديمقراطية دون أن يخوض فيها درسًا وتحليلًا، بل يكتفي بتعريفات تبسيطية وبجوانب فرعية فيها تشهد تأزُّماتٍ ليخلص إلى “الأزمة الوجودية” للمنظومة برمتها. ومن ثم، من الضروري العودة إلى تأصيل مفهوم الديمقراطية وأُسُسِه، حتى نتبيَّن أن قيامه على مبادئ الحرية والمساواة يجعله الأكثر أهلية لاستيعاب “نظام الجدارة” الذي تدَّعيه الأنظمة السلطوية الآسيوية. فأهم ما يميز النظام الديمقراطي المساواة بين جميع المواطنين، مقارنة مع النظام النخبوي لأهل الحل والعقد، الذي يعقد تراتبية في ظاهرها قائمة على الجدارة وفي حقيقة ممارستها تستنسخ الأرستقراطية الوراثية والمحسوبية، هي أن الجميع يكتسي في النظام الديمقراطي نفس المنزلة الاعتبارية، وأن من هو “اسم بلا لقب، وبلا حَسَب ولا نسب، مَن أبوه فلاح وجده فلاح لا مِن سادة نُجُب”(37)، له المنزلة الاعتبارية نفسها تمامًا لمن يجمع الحسب والنسب والمال والسلطة. وعطفًا على تعبير إبراهام لنكولن، “مثلما لا أودُّ أن أكون عبدًا، فإنني لا أودُّ أن أكون سيِّدًا. هذا يُعبِّر عن فكرتي عن الديمقراطية”(38)، تكمن الديمقراطية الجوهرية في “تحييد” (Neutralizing) وضعية العبد أو السيد في التفاعل الاجتماعي ووضعها في الخلفية، ولاسيما من خلال درء المستويات الحادة للتفاوتات الاجتماعية، وتبويء الكرامة الإنسانية والمواطنة المشتركة بينهما الصدارة في المجال العام.
وعلى خلاف المجتمع الأرستقراطي حيث الوضعيات الاجتماعية جامدة، فإن المجتمع الديمقراطي مجتمع متحرك ويضمن تكامل أعضائه بشكل مختلف. فبالنسبة إلى توكفيل، من اللحظة التي لم يعد يوجد فيها أية حواجز قانونية أو ثقافية لتغيُّر الوضعية الاجتماعية، فإن الحراك الاجتماعي في المجتمع الديمقراطي (صعودًا أو هبوطًا) يُصبح هو القاعدة. ولا يكفي انتقال الميراث حينها للحفاظ على المستوى الاجتماعي، بل إن إتاحة الفرصة للإثراء تصبح متاحة للجميع. ويظهر بذلك المجتمع الديمقراطي المنفتح بوصفه مجتمعًا تجري داخله إعادة توزيع الوضعيات الاجتماعية باستمرار، مما يسمح بتحوُّل التطبق الاجتماعي (Stratification)، والمعايير، والقِيَم. ومن ثم، يغيب عن المقاربة التبسيطية للنظام الديمقراطي أنه نظام حي وليس جامدًا، إي إنه يتجدَّد باستمرار. كما أنه يظل مسعى غير كامل نحو تحقيق قيم إنسانية مركزية، وفي مقدمتها قيمة الحرية. فللنظام الديمقراطي بنية عميقة تجعل باستطاعته كل مرة أن يجدِّد نفسه، وأن يولد من جديد، وأن يؤمِّن باستمرار إمكانية تطورية كامنة.
وهذا يعني أن الأبعاد الإجرائية للديمقراطية لا تكتمل سوى بتكاملها مع أبعادها الجوهرية؛ ففيما يؤكد اتجاه الديمقراطية الإجرائية، مع هابرماس ورولز مثلًا، على البُعد التداولي، أي على النقاش وجَوْدته، والحِجاج والقُدرة على الوصول إلى التوافق بشكلٍ حيادي، ويقوم على فكرة أن الإجراء هو أكثر أهمية من النتيجة، فإن بُعد الديمقراطية الجوهرية يُحيل على عملية متجدِّدة باستمرار، لتحقيق أقصى قدر من الفرص لجميع الأفراد في تشكيل حياتهم الخاصة والمشاركة والتأثير في المناقشات بشأن القرارات العامة التي تُؤثر فيهم. وعلى وجه العموم، يدافع هذا الاتجاه عن فكرة المواطن الفاعل القادر على التفكير والتصرف بحكمة، على اعتبار أن المواطنة الفاعلة تفترض النقاش بين المواطنين بترابط مع الفعل الاجتماعي، ما وراء الإجراء المحض. ومن ثم، وعلى خلاف ما يدِّعيه مقال جبرون، يحمل النظام الديمقراطي في متنه البُعد “المجتمعاتي” (Communitarian)، في خلاف المقاربة الإجرائية المحضة، من خلال تأكيده على عدم جدوى المشروع المتمثِّل في تحديد قواعد العدالة بغض النظر عن الثقافة والتقاليد ونمط حياة المجتمعات حيث يجب تطبيق هذه المبادئ(39).
من جهة أخرى، يُرخِّص النظام الديمقراطي بمستويات عليا من إمكانات تحقيق العدالة لا يتيحها أيٌّ من الأنظمة التحكُّمية السلطوية أو شبه السلطوية سواه، وذلك بوضعه الكرامة الإنسانية واحترام الذات في أعلى سلَّم العدالة الاجتماعية. ونجد الفكرة الأساسية المُوجِّهة لهاته المُقاربة عند جون رولز (John Rawls) حين يعتبر أن احترام الذات يُمثِّل “أهم الأصول الاجتماعية الأولية”(40) الذي يعكس حقيقة شعور الفرد بكونه متيقِّنًا من قيمة مشروع حياته ومن قدرته على تحقيقه. ويفترض تقدير الذات الاعتراف بالآخر، ويتضمَّن تبعًا لذلك بُعدًا اجتماعيًّا قويًّا يستلزم البين-فردية؛ وهو ما يتوافق مع وجهة نظر هيغل القائلة بأن الفردية وبين-الفردية تتشاركان في نشأتهما، وأن الوعي الذاتي يعتمد على تجربة الاعتراف الاجتماعي؛ مما يجعل أشكال الاجتماع كافة تقوم على أساس النضال من أجل هذا الاعتراف. وبتعبير آخر، ما يمكن نعته بمجتمعات عادلة هي تلك المجتمعات التي تسمح لأعضائها ببلوغ هذا الاعتراف ودرء الاحتقار. وقد بلور أكسل هونِت (Axel Honneth) هذه الوضعية الهيغلية في نظرية للاعتراف تؤكد أن الشعور بالاحتقار الناتج عن عدم المساواة وعن الظلم يمكن أن يؤدي إلى النضال من أجل تغيير الأوضاع الجائرة وانتزاع الاعتراف(41). كما أسهمت نانسي فريزر (Nancy Fraser) بدورها في ترسيخ الوعي المعاصر ببُعد الاعتراف والكرامة الإنسانية، من خلال ربطها الاعتراف بإعادة التوزيع. ودفاع فريزر عن مكانة الاعتراف في نظرية العدالة غير راجعٍ إلى كون إنكار الاعتراف خطًّا أخلاقيًّا في حدِّ ذاته، بقدر ما هو راجع إلى كون “بعض المجموعات والأفراد يجدون أنفسهم تُصَدُّ في وجوههم فرصة المشاركة في التفاعل الاجتماعي على قدم المساواة مع الآخرين”(42)، ليس فقط بسبب التفاوتات ذات المصادر الاجتماعية والاقتصادية التي تتطلب إعادة الهيكلة الاقتصادية، وإنما أيضًا -وعلى نحو متزايد- بسبب التفاوتات والمظالم المعيشة بوصفها “تفاوتات في الوضعية [الاعتبارية]”(43).
وهذا ما لا يمكن تحقيقه سوى في منظومة ديمقراطية تقوم على بناء قوى مضادة فعَّالة، وقادرة على تحدي قواعد اللعبة وتكوين الفضاء العام المعارض. ومن ثم، فإن الديمقراطية تتغذَّى على السجال الذي يُوسِّع من نطاق الممكن، ويفتح المجال للمجموعات المستبعدة، أو التي تُشكِّل أقليات(44). وهذه المقاربة الغنية القائمة على الاعتراف تتجاوز المفاهيم الضيقة التي يعتمدها جبرون، والتي تحصر آمال البشر ومحفزاتهم في إشباع الحاجات الأساسية، ومن ثم تقصُر متطلبات العدالة على هذه المستويات، من قبيل الرُّؤى الفقهية التقليدية التي تختزل العدل في النظام الذي يُؤمِّن للناس جميعًا “حدَّ الكفاف”، الذي يُعرِّفه ابن حزم بقوله: “يُقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، ومسكن يَقِيهم من المطر والشمس وعيون المارة”(45). فالفقهاء الأصوليون -في مجملهم- قد أكدوا على مبدأ إشباع كل الاحتياجات الأساسية للأفراد (الحاجات الدنيا) حتى حد الكفاية، من منطلق مساواة الحاكم -أو الحكومة الإسلامية- في العطاء، دون أن يتمكَّنوا من تجاوز هذه الرؤية القاصرة نحو حقوق الإنسان الأخرى السياسية أو الثقافية أو الروحية (الحاجات العليا)، ودون أي منظور شامل للعدالة الاجتماعية. وهو ما كان يصبُّ تمامًا في مصلحة الأنظمة “العضوض” و”الجبرية” القائمة، مثلما يصبُّ في مصلحة الأنظمة التسلطية وشبه التسلطية المعاصرة التي أدركت بمكيافيلية منذ زمن بعيد أن إشباع مواطنيها لاحتياجاتهم الأساسية سيزيد من طموحهم بشكل تصاعدي، ومن ثم، من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع سقف الاحتياجات إلى مستويات المطالبة بالتوزيع المنصف للثروة وللسلطة.
وبقيامه على أساس وضع “القرين-للقرين” (Peer-to-Peer) لكل فرد في المجتمع، عوضًا عن وضع الرعية إزاء الحكام وأهل الحل والعقد في المنظور التقليداني-السلطوي، يضمن النظام الديمقراطي إعادة ترتيب العلاقات الاجتماعية للإنتاج، بحيث تبدو تلك الطريقة الوحيدة للتأكد من أن يتم القضاء على كل الإجحافات الحادة لعدم المساواة الاجتماعية الموصولة بأبعاد الاعتراف واحترام الذات. فالشخص الذي يعيش في بيئة اجتماعية واقتصادية معينة يلعب دورًا أساسيًّا في تشكيلها؛ وحين يشارك بقدراته كفرد له تصور للحَسَن وقدرة على التعاون مع الآخرين في العلاقات الاجتماعية المُنتِجة، فسوف يُمَدُّ بـ”الأسس الاجتماعية لاحترام الذات”، على حد تعبير رولز. وبعبارة أخرى، المواطنون الكائنون في هذا النسق “لديهم شعور حي بقيمتهم كأشخاص… وسيكونون قادرين على الدفع بأهدافهم بثقة في النفس”(46). والسبيل الوحيدة لذلك هي التأكد من جعل بنية الاقتصاد بالشكل الذي يسمح بتفريق السيطرة على الموارد الإنتاجية على نطاق واسع، ومن ثمَّ بضمان أن يكون جميع المواطنين قادرين على امتلاك هذا “الشعور الحي” بقوتهم الذاتية، وإبعاد إمكانية عدم المساواة المُنتَقِصة في السلطة والمكانة. ويتجلى الربط بين تحقيق الذات ونظرية العدالة بشكل أوضح حين نضعه ضمن إطار المفهوم المركزي في الفكر الليبرالي الاجتماعي: “ديمقراطية امتلاك الملكية” (Property-Owning Democracy)(47).
2.3. نظام الجدارة بين الديمقراطية والأنظمة السلطوية
النقطة الأساسية التي سعينا إلى إبرازها، والتي تقوِّض حجاج امحمد جبرون بالكامل، هي أن النظرية الديمقراطية تحمل في متنها أصل الجدارة والاستحقاق، على الأقل على المستوى المعياري، على خلاف الأنظمة التحكُّمية التي يدعو لها. فبقيامها على مبدأ “لكُلٍّ حسب استحقاقه”، تمنح الديمقراطية الاجتماعية بديلًا نسقيًّا معقولًا عن التقليد المنفعي المهيمن القائم على مبدأ “لكُلٍّ حسب حظِّه”(48)، وعن تقليد أقصى اليمين الليبرتاري القائم على مبدأ “لكُلٍّ حسب حقوقه”، وتقليد أقصى اليسار الماركسي القائم على مبدأ “لكُلٍّ حسب احتياجاته”.
وقبل إبراز تهافت ادعاءات الأنظمة السلطوية قيامها على أساس نظام الجدارة وسعيها لإضفاء الشرعية على سلطويتها من هذا الباب، في مقابل رسوخ نظام الجدارة في المنظومة الديمقراطية، من المهم بادئ ذي بدء مناقشة هذا المفهوم في حد ذاته. فالمصطلح المركَّب “نظام الجدارة” (Meritocracy)، متأتٍّ من الأصل اللاتيني (Mereo) الذي يعني “أن تكون جديرًا” أو “أن تحصل على”، ومن الأصل الإغريقي المعروف (Krátos)، الذي يعني “الحكم”، أو “السلطة”، أو “النظام”، ما يقيم رابطًا بين النظام القائم والجدارة. وقد استخدم مايكل يونغ (Michael Young) مصطلح “نظام الجدارة” لأول مرة في كتابه “صعود نظام الجدارة” في عام 1958(49)، موظِّفًا هذه “القصة الخيالية الكارثية” (Dystopia) لإدانة الآثار الضارة لمنظومة التعليم الإنجليزية، خاصة بالنسبة إلى الأفراد الذين يقبعون في أسفل الهرم الاجتماعي، والذين لا يستطيعون حماية أنفسهم من انتهاكات النخبة المتحكِّمة. وفي أعقاب يونغ، أصبح نظام الجدارة يرمز إلى فلسفة تدعو إلى مكافأة الأفراد على أساس جهودهم وإنجازاتهم، عوضًا عن الاستناد إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي، أو العرق، أو الجنس. وبتعبير آخر، نموذج الجدارة هو مبدأ أو مثالية للتنظيم الاجتماعي على أساس تمكين الأفراد من الوصول إلى جميع الوضعيات الاجتماعية في البنيات الاجتماعية المختلفة، من المدرسة إلى المؤسسات المدنية أو العسكرية، إلى سوق الشغل، إلى أعلى سلَّم الإدارة والمؤسسات والدولة، كلٌّ حسب استحقاقه (الكفاءة والعمل والجهود والمهارات والذكاء والفضيلة). ومن ثم، يحمل نظام الجدارة في متنه مبدأ المساواة كما يُجسِّده على سبيل المثال إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 الذي يؤكد أن “جميع المواطنين متساوون… ولكل واحد منهم الحق في الرتب العالية والوضعيات والوظائف العمومية، بحسب قدراتهم ومن دون أي تمييز آخر سوى فضائلهم ومواهبهم”(50). بيد أن الواقع يختلف عن هذه الصورة المثلى؛ فإن كان لنظام الجدارة أثر في مختلف التجارب التاريخية التي نحت نحوه، فهو يتجلى بشكل أساسي في النظام المدرسي، حيث يمكنه أن يؤسس لمبدأ تكافؤ الفرص (الصوري وليس بالضرورة الحقيقي). ومن ثم، فلنظام الجدارة، باعتباره مبدأً للعدالة، دلالات شبه طوباوية لا يمكن تحقيقها في الواقع. وهذا هو السبب في انتقاد بيير بورديو (Pierre Bourdieu) وجون-كلود باسرون (Jean-Claude Passeron) لنظام الجدارة في تطبيقه وليس في مبدئه(51). وهذا هو أيضًا السبب الذي جعل جون رولز يعترض على المثل الأعلى للجدارة(52).
وفي مقابل استيعاب الديمقراطية لنظام الجدارة -على طوباويته- مبدأً معياريًّا ذا إمكانات تطبيقية واسعة، نجد له استخدامات كثيرة أداةً أيديولوجية لإضفاء الشرعية على أنظمة سياسية غير عادلة، في أسسها أو في نمط اشتغالها، أو في توزيعها للخبرات المادية و/أو الرمزية، وبديلًا لفقدها أساس الشرعية الديمقراطية؛ كما أنه يتجلى أيضًا في الخطابات المعاصرة لإضفاء الشرعية على النخب التكنوقراطية عوضًا عن النخب الديمقراطية. ولذا نجده كثيرًا ما يتباعد عن مبدأ العدالة الذي يقوم عليه في الأصل، ليكون أقرب إلى النظام “الأرستقراطي” (Aristocracy)، المتأتي من الجذر الإغريقي (Aristoi)، الذي يعني “الأفضل”، و(Kratos)، الذي يعني “الحكم”، أو “السلطة”، أو “النظام”، بما يعني “منح السلطة للأفضل” (بهذا المعنى الأصلي، دون ربطه بالتوارث). وإن كان نظام الجدارة قد أُفرغ على مرِّ التاريخ، وعبر هذه التوظيفات السلطوية، من معاني العدالة التي يقوم عليها في الأصل، فذلك لأن النخب القائمة (“الأرستقراطية” أو غيرها) هي من تحدد ورثتها، مقحمةً بذلك عناصر المحسوبية والولاء. وهو ما يعني إعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية القائمة، مع جعلها في الآن ذاته المحرومين من الوصول للوضعيات الاجتماعية يشعرون بالذنب، لعدم “جدارتهم” أنفسهم، وليس بفعل فاعل، وعدم “قدرتهم الذاتية” على ارتقاء السلَّم الاجتماعي.
كما يغيب عن مقاربة جبرون لـ”نظام الجدارة”، وعن المقاربات النخبوية الأرستقراطية عمومًا، أن المعارف والخبرات الناجعة ليست حكرًا على “النخب” المتعلمة تعليمًا أكاديميًّا عاليًا والحاصلة على شهادات عليا، والمراكمة خبرات واسعة؛ بل إنه توجد العديد من “المعارف” و”الخبرات” الناجعة التي يمكن للمواطن العادي أن يحشدها في تفاعله الاجتماعي وأدائه المواطني، من قبيل “معرفة الاستخدام” التي تُثري معرفة الخبراء التقنية، كما كتب عنها جون ديوي (John Dewey) في عام 1927: “إن الشخص الذي يرتدي الحذاء هو الذي يعلم الأفضل إن كان يوجعه وأين يوجعه، حتى لو كان الإسكافي هو الخبير الذي هو أفضل حَكَمٍ لمعرفة كيفية علاج ذلك… هناك حتمًا فئة من الخبراء بعيدة جدًّا عن المصلحة العامة، بحيث إنها تصبح بالضرورة فئة ذات مصالح خاصة ومعرفة خصوصية؛ وهو ما يعني، بالنسبة إلى مسائل تخص المجتمع، جهلًا وعدم معرفة”(53). فعندما تجلس هيئة المحلفين مثلًا في المحكمة، يتعلق الأمر في الواقع بشكل آخر من أشكال المعرفة يُعترف بها للمواطن: “الحس السليم”، والقدرة على الحكم بشكل صحيح، وبنزاهة، في ظل وجود مشاكل لا يمكن حلُّها عن طريق “التفكير العلمي”. وهذا “الحس السليم”، الذي ينبغي تمييزه بعناية عن “الحس العام”، يتوافق مع تشكيل رأي مستنير، على أساس معلومات كافية، من خلال مداولة عالية الجودة، وحتى إنها تُؤَسِّس في السياسة لمفهوم الديمقراطية: الاعتراف لجميع المواطنين بالكرامة المبدئية على قدم المساواة.
ولئن كان امحمد جبرون يعيد في هذه المقالة إنتاج فقه “المتغلِّب” بلغة معاصرة، لغة “نظام الجدارة”، من منطلق الخصوصية الثقافية غير المتَّسقة مع النظام الديمقراطي، فينبغي التأكيد على أن قيم الحرية والمساواة والكرامة هي قيم كونية فاضلة، لا خصوصية فيها، كما أن الخضوع والإذعان والخنوع والعجز التام هي رذائل كونية، لا خصوصية فيها. ومثلما أنه لا يوجد أي استثناء روسي أو صيني فيما يخص قيم الحرية والمساواة، فكذلك لا يوجد استثناء عربي أو إسلامي. وهذا المنظور التقليداني السلطوي يحمل في متنه -فضلًا عن ذلك- بُعد “تَشْيِيء” الإنسان (Reification) كما يُجلِّيه أليكسي دو توكفيل(54)، ولا يمكن أن يمثِّل بديلًا عن مبادئ الفردية والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.
خاتمة
يظل الفارق الأساسي بين الأنظمة الديمقراطية الاجتماعية التي يتصدى امحمد جبرون لنقدها وأنظمة الاستبداد الشرقي، المقنَّعة بقناع حكم النخبة، أو حكم أهل الجدارة، أو حكم أهل الحل والعقد، في أن من يطرق بابك ليلًا أو في الصباح الباكر هو “بائع الحليب” وليس “زوار الليل”(55) الذين أبدعت الأنظمة الاستبدادية القمعية في ابتداع وسائل متجدِّدة لقمعهم الضمائر، وطرائق عدة لانتهاكهم الحريات المدنية والسياسية. وهو ما يجعل، من ثم، من فكرة الاستبداد (بمفهوم غياب الحرية وتحكُّم القسر والإكراه) أفضل فكرة نستمد منها فكرة الديمقراطية. بمعنى أن الحرية هي الشرط الأول والجوهري وحجر زاوية النظام الديمقراطي، بغضِّ النظر عن أي إجراء أو تشريع أو جدارة.
وبالمحصلة، تظل الحرية، والتبادل الحر والطوعي للإرادات، وغياب القهر والإجبار، على الصعيد السياسي كما على الصعيد الاقتصادي، مع ما يقتضيه ذلك من حقوق وأمن ودولة حقٍّ وسيادة قانون، الشرط الأول والأساسي لتعريف النظام الديمقراطي، في مُقابل النظام السلطوي. ولذلك، فإن الدور الأساسي للحرية في الديمقراطية جلي ولا يمكن إنكاره أو السكوت عنه ما دامت في كل الحالات أسوأ الديمقراطيات هي مُفضَّلة بكثير على أفضل الديكتاتوريات أو ضروب الاستبداد الشرقي التي يدعو لها امحمد جبرون، بتماهٍ مع مرامٍ تسعى إلى اختطاف الأمل الذي ولَّده الربيع العربي بالتحرر والرقي لمصاف الأمم الحرة والمستقلة والمُمَكِّنة لكرامة مواطنيها، وإدامة حكم الطغيان والاستبداد الشرقي المستمر منذ قرون، وتأبيده باسم الخصوصية (الجينية) الثقافية.
المراجع
(1) نجد هذه التيمة في العديد من مؤلفات الباحث، ومنها: مفهوم الدولة الإسلامية (الدوحة/بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)؛ نشأة الفكر السياسي الإسلامي وتطوره (الدوحة، منتدى العلاقات العربية والدولية، 2015)؛ في هدي القرآن في السياسة والحكم (الدوحة/بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018).
(2) على اعتبار أن الشعبوية، التي تقوم على إقامة التعارض بين الشعب والنخب السياسية أو الاقتصادية أو الإعلامية، هي أيضًا شعبوية يسار؛ كما تجسدها مثلًا حركات “فرنسا الأبية” (France Insoumise) في فرنسا، و”بوديموس” (Podemos) في إسبانيا. وللتأصيل النظري لشعبوية اليسار، ينظر:
Chantal Mouffe, Pour un Populisme de Gauche, Traduction: Pauline Colonna d’Istria (Paris: Albin Michel, 2018).
(3) ما وراء عدم استيعاب هذا البعد المركزي وإيفائه حقه على المستوى المعياري، على اعتبار أن قيمة الفردانية في المجتمع الليبرالي المنفتح هي ركن زاوية النسيج المجتمعي، وتسهم في تعظيم المصلحة العامة من خلال سعي الأفراد إلى تعظيم مصلحتهم الخاصة، دون تعارض بينهما بل بتكامل، فإن الإشارة المقتضبة لتبلور الفردانية في التاريخ الأوروبي (ص 62-63) تظل بدورها غير مقنعة؛ إذ إنها لا تأتي على أي ذكر للدور المركزي الذي أدته المدينة الإغريقية والقانون الخاص الروماني في ذلك. لتأصيل هذين البُعدين المركزيين، يُنظر:
Philippe Nemo, Histoire des Idées Politiques dans l’Antiquité et au Moyen Âge (Paris: PUF, 1998).
(4) وهو ما يسمِّيه موريس دوفيرجيه “نظام حكم الأغنياء” (Ploutocratie). يُنظر:
Maurice Duverger, Janus Les Deux Faces de l’Occident (Paris: Fayard, 1972).
فعلى خلاف ما يوحي به المثل الصيني القديم: “لا تمر الثروة عبر ثلاثة أجيال” (富 不过 三代)، في إشارة إلى أن محسوبية النخب يتم في الغالب استبدال من هم في أسفل التسلسل الهرمي في المجتمع بها بعد مرور ثلاثة أجيال، فإن هذه التراتبيات الاجتماعية تظل مستدامة عبر الأجيال. وهو ما سلطت عليه الضوء في الآونة الأخيرة وعلى نحو جلي الأعمال البارزة للاقتصادي الفرنسي، طوما بيكيتي، لا سيما في كتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”، الذي أبرز من خلال دراسة بيانات الدخل والثروة على مدى ثلاثة قرون في بعض الدول الغربية أن الامتيازات تستمد من الوراثة أكثر منها من الجدارة. يُنظر:
Thomas Piketty, Capital in the Twenty-First Century, Trans. Arthur Goldhammer (Cambridge, MA, London, EN: The Belknap Press of Harvard University Press, 2014).
(5) للمزيد من التفصيل بشأن هذه الإجراءات الديمقراطية التصحيحية، يُنظر: مراد دياني، حرية، مساواة، كرامة إنسانية (الدوحة/بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016).
(6) ما فتئ تغييب الفردانية في السياق العربي الإسلامي يسهم في بروز نوع من “العجز العام”؛ فجميع الأفراد عاجزون ذاتيًّا ويسهمون في بناء “سيد مصطنع”، أو “سيد مطلق”، يفوقهم جميعًا ويتسامى عليهم؛ ذلك أنه في غياب استقلالية الذات الفردية، تبرز الحاجة الماسَّة إلى الأمان، ويعلو حب البقاء على سواه من غرائز الإنسان وحاجاته العلوية؛ وهو ما لا يتأتى وفقًا للمنظور الهوبزي إلا ببناء غيرية متسامية (ليفياثان) يبنونها بأيديهم، وينتظمون حولها بوصفها مركزًا يمتلك الحق المطلق والسيادة المطلقة التي تتسامى عن أية تعاقدية.
(7) Cf. Uk Heo and Sung Deuk Hahm, “The Third Wave of Democratization and Economic Performance in Asia: Theory and Application,” Korea Observer, vol. 43, no. 1 (Spring 2012): 1-20.
(8) في مقابلة لفريد زكريا مع لي كوان يو، الوزير الأول السنغافوري السابق، في عام 1994، ولدى سؤاله عن خصوصية “النموذج الآسيوي”، ذكر الأخير أن “الفرق الأساسي بين المفاهيم الغربية للمجتمع والحكومة ومفاهيم شرق آسيا… هو أن المجتمعات الشرقية تعتقد أن الفرد موجود في سياق أسرته… فالأسرة جزء من الأسرة الممتدة، ثم الأصدقاء والمجتمع الأوسع. ولا يحاول الحاكم أو الحكومة التوفير لشخص معين أفضل مما توفره له الأسرة”:
Fareed Zakaria, “Culture is Destiny: A Conversation with Lee Kuan Yew,” Foreign Affairs 73 (March-April 1994): 113.
(9) Cf. Amartya Sen, Human Rights and Asian Values (New York: Carnegie Council on Ethics and International Affairs, 1997), 30.
(10) يقوم الرفض الأيديولوجي للقادة الصينيين لكل ما يتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون على التأكيد على أن هذه القيم، التي من المفترض أن تكون كونية، ليست سوى “حصان طروادة” للمصالح الغربية. ولذا، نجد أن النقاش حول “القيم الآسيوية” قد بدأ للمرة الأولى في سياق محدد، في أعقاب مجزرة ميدان “تيانانمين” في عام 1989، حين نكَّل النظام الشيوعي الصيني بالآلاف من الطلاب والعمال الصينيين، الذين تظاهروا ضد الفساد والتضخم المالي ومن أجل الديمقراطية.
(11) Cf. Mark Thompson, “Whatever Happened to ‘Asian Values’?,” Journal of Democracy, vol. 12 (2001): 159; Fareed Zakaria, “Asian Values,” Foreign Policy, vol. 133 (2002): 38-39.
(12) وهو ما يُغيِّب أيضًا إشكالية الفرد/المواطن الحر والمستقل داخل زخم “الشعب”؛ على اعتبار أن وضع الفرد السيادي يعني إجمالًا قدرته على المشاركة -بوصفه مواطنًا- في إجراءات صنع القرار السياسي.
(13) امحمد مالكي، “من أجل تصورات جديدة للمواطنة”، في المواطنة في المغرب العربي، نشرة مركز الدراسات المتوسطية والدولية (العدد 9، نوفمبر/تشرين الثاني 2012)، ص 2.
(14) Dominique Schnapper, La relation à l’autre (Paris: Gallimard, 1998), 186.
(15) يعمد الباحث إلى نقرحة مفهوم (Meritocracy) بـ”الميريتوقراطية “؛ فيما سنعبِّر عنه في هذا البحث بالأحرى بـ”نظام الجدارة”.
(16) بالإضافة إلى تشانغ ويوي، تسوق المقالة أيضًا فرانسيس فوكوياما، بيد أننا لن نناقشه هنا لعدم اتساقه مع سياق الموضوع.
(17) ما دامت المقالة تركز على الصين بوصفها “نموذجًا” يقابل النموذج الديمقراطي الليبرالي الذي يوصف بكونه “غربيًا”، فقد كان بإمكان الدكتور امحمد جبرون –مثلًا- تعزيز حجاجه بالاعتماد على منظور “الحلم الصيني” (The Chinese Dream) الذي أصبح يقابل به الصينيون في السنين الأخيرة منظور “الحلم الأميركي” (The American Dream)، على اعتبار أنه حلم بالخلاص الجماعي والنجاح الجماعي في مقابل الخلاص الفردي والنجاح الفردي في النموذج الأميركي. كما كان أيضًا بإمكانه التركيز بالأحرى على “الحلم السنغافوري” (The Singaporean Dream) على اعتبار أنه الأقدر على تمثُّل منظور “نظام الجدارة”، مقارنةً بالنموذج الصيني.
(18) Daniel A. Bell, China’s New Confucianism: Politics and Everyday Life in a Changing Society, 2nd ed. (Princeton: Princeton University Press, 2010).
(19) Ibid.
(20) توجد (صوريًّا) في الصين ثمانية أحزاب سياسية منذ عام 1950، وهي جميعها عضوة في “المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني”، ويحلو للمسؤولين الشيوعيين القول: إن جمهورية الصين الشعبية بها تعددية حزبية، بيد أن باقي الأحزاب ليست أحزاب معارضة بل موالاة!
(21) Wen-Hsuan Tsai and Chien-Wen Kou, “The Party’s Disciples: CCP Reserve Cadres and the Perpetuation of a Resilient Authoritarian Regime,” The China Quarterly, vol. 221 (March 2015): 1-20.
(22) وهو ما تعزَّز من جديد، بعد فترة انفتاح نسبي وريادة شيوعية جماعية، منذ وصول الرئيس الحالي، شي جين بينغ، للحكم في عام 2013. للتوسع، انظر:
Wilfred M. McClay, “A Distant Elite: How Meritocracy Went Wrong,” The Hedgehog Review, vol. 18, no. 2 (Summer 2016); Minxin Pei, “China: From Tiananmen to Neo-Stalinism,” Journal of Democracy, vol. 31, no. 1 (January 2020): 148-157.
(23) Reporters without Borders, “2020 World Press Freedom Index,” “accessed June 6, 2020”. https://bit.ly/3f6ov9x.
(24) وهو ما يمكن توصيفه حقيقة “معجزة اقتصادية”؛ إذ انتقل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 156 دولارًا للفرد في عام 1978 (سنة بداية التحول نحو سياسة “الإصلاح والانفتاح”)، وهو ما كان يمثِّل نحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة إلى الفرد للبلدان الإفريقية جنوب الصحراء، إلى أزيد من 10 آلاف دولار للفرد في عام 2019! للمزيد، راجع:
The World Bank, “GDP per capita (current US$) – China,” “accessed March 15, 2020”. https://bit.ly/2U5BU9b.
(25) Cf. Kishore Mahbubani, Has China Won? The Chinese Challenge to American Primacy (New York: PublicAffairs, 2020).
(26) Cf. Yuen Yuen Ang, “The Real China Model: It’s Not What You Think It Is,” Foreign Affairs (June 29, 2018).
(27) Pei, “China: From Tiananmen to Neo-Stalinism,” op. cit.
(28) في كتاب “العصر الذهبي للصين”، تُبرز يوين يوين أنغ بجلاء أزمة الفساد المتفاقمة لدى البيروقراطية الشيوعية الصينية. ففي دراسة عن 331 من سكرتيري الحزب الشيوعي الصيني على مستوى المدن كانوا في منصبهم في عام 2011 (وهو أعلى منصب سياسي بحكم الواقع de facto في منطقة اختصاصهم)، تبيِّن أنغ أن 40 في المئة من أولئك الذين سقطوا في تهم الفساد، كانت قد جرت ترقيتهم قبل سقوطهم ببضعة سنوات أو حتى بضعة أشهر فقط بالنسبة إلى بعضهم. يُنظر في ذلك:
Yuen Yuen Ang, China’s Gilded Age: The Paradox of Economic Boom and Vast Corruption (Cambridge, UK; New York, Melbourne, New Delhi: Cambridge University Press, 2020).
(29) Cf. Kenneth Paul Tan, Singapore: Identity, Brand, Power (Cambridge, UK: Cambridge University Press, 2018).
(30) يبقى أنه تظل هناك تدابير قادرة على تصحيح نقائص نظام الجدارة وقصور نظام تكافؤ الفرص، وفي طليعتها سياسات التمييز الإيجابي (Positive Action)، ولكن لا مجال للاستفاضة فيها في هذا المقام.
(31) أبو المعالي الجويني، الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق عبد العظيم الديب، ط 2 (الدوحة، مكتبة إمام الحرمين، 1979)، ص 27.
(32) شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، (بيروت، دار الكتب العلمية، ط3، 2003)، ج 7، ص 410.
(33) الجويني، الغياثي، مرجع سابق، ص 62-63.
(34) المرجع السابق، ص 63.
(35) المرجع السابق، ص 64.
(36) وهو ما يصادف واقع الحال؛ إذ إن تاريخ الشرق وحاضره مفعمان بالطغيان والاستبداد؛ وهذا “الخليفة الأموي القرشي”، الوليد بن يزيد، بحسب بعض الروايات، يُنشد:
ونحن المالكون الناس قسرًا * نسومهم المذلَّة والنكالَا
ونُوردهم حِياض الخسف ذلا * وما نألوهم إلا خبالًا
(37) محمود درويش، من “بطاقة هوية”، في ديوان أوراق الزيتون (1964)، مؤسسة محمود درويش، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2020): https://bit.ly/3dprHgG.
(38) Abraham Lincoln, “Autograph fragment,” (August 1, 1858), in Roy P. Basler, ed., The Collected Works of Abraham Lincoln, vol. 2 (New Brunswick: Rutgers University Press, 1953).
(39) لتفصيل ذلك، يُنظر: مراد دياني، حرية، مساواة، اندماج اجتماعي (الدوحة/بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014).
(40) John Rawls, A Theory of Justice (Cambridge, Ma: The Belknap Press of Harvard University Press, 1971), 396.
(41) Axel Honneth, La Lutte pour la Reconnaissance, (Paris: Editions du Cerf, 2000), 162.
(42) Nancy Fraser, Qu’est-ce que la Justice Sociale? (Paris: La Découverte, 2005), 50.
(43) Nancy Fraser, “Recognition without ethic?,” Theory, Culture and Society, vol. 18, no. 2-3 (2001): 21-42.
(44) Fraser, Qu’est-ce que la justice sociale? ; Axel Honneth, La Société du Mépris: Vers une Nouvelle Théorie Critique (Paris: La Découverte 2006).
(45) ابن حزم، المحلى، (بيروت، دار الآفاق الجديدة، د.ت.)، ج 1، ص 156.
(46) Rawls, A Theory of Justice, 59.
(47) لتفصيل هذه النظرية معياريًّا ومناقشتها ضمن إطار “النموذج الإسكندنافي”، ينظر: دياني، حرية، مساواة، كرامة إنسانية، مرجع سابق؛ مراد دياني، “نظرية “الطريق الثالث”: قراءة في “ديمقراطية امتلاك الملكية: رولز وما بعده”، عُمران (العدد 6-7، شتاء 2014)، ص 177-182.
(48) Rawls, A Theory of Justice, xi.
(49) Michael Young, The Rise of the Meritocracy 1870-2033: An Essay on Education and Society (London: Thames and Hudson, 1958).
لكن إن كان المصطلح حديثًا، فالممارسات التي يشير إليها قديمة جدًّا، خاصة في الصين، حيث أعلنه كونفوشيوس كمبدأ في القرن السادس قبل ميلاد المسيح، وَوُضعت هذه الممارسات قيد العمل في سلالة هان عقب أربعة قرون، من خلال استخدام امتحانات مكتوبة لتقييم المسؤولين وترتيبهم في الخدمة المدنية الإمبراطورية. وكما يوحي بذلك مثال الصين الإمبريالية القديمة، فإن استخدام الاختبارات والمعايير “الموضوعية” الأخرى للجدارة المؤسسية مرتبط في كثير من الأحيان بالاحتياجات والضرورات المؤسسية للمنظمات البيروقراطية، يُنظر في ذلك مثلًا:
Pei Wang, “Debates on Political Meritocracy in China A Historical Perspective,” Philosophy and Public Issues (New Series), vol. 7, no. 1 (2017): 53-71.
(50) “Déclaration des Droits de l’Homme et du Citoyen de 1789,” Article 6, LegiFrance, “accessed on 5/4/2020”. https://bit.ly/2JbYxE0.
(51) Jean-Claude Passeron et Pierre Bourdieu, Les héritiers : Les étudiants et la culture (Paris: Les éditions de Minuit, 1964).
(52) Rawls, A Theory of Justice, 107.
(53) John Dewey, The Public and its Problems (University Park: Pennsylvania State University Press, [1927] 1984), 154.
(54) “أودُّ أن أتخيَّل تحت أية ملامح جديدة يمكن للاستبداد أن يَحُلَّ في العالم: أرى حشدًا لا يُحصى من الناس مُتماثلين ومُتساوين يَدُورون بلا هوادة حول أنفسهم من أجل الحصول على مُتعٍ صغيرة ومُبتذلة، يملؤون بها نفوسهم. كُل واحد منهم، مُنْطَو بمعزل عن الآخرين، هو كغريب عن مصير كل الآخرين (…). فوق هؤلاء تنتصب سلطة هائلة ووصية، تأخذ على عاتقها بمفردها تأمين تَمتعهم والسهر على مصيرهم. [هذه السلطة] هي مطلقة، دقيقة، مُنتظِمة، مُؤَمِّنة ووديعة (…). كنت دائمًا أعتقد أن هذا النوع من العبودية، المنتظِمة، الوديعة، الهادئة (…) يمكن توليفها بشكل أفضل مما نتصور مع بعض الأشكال الخارجية للحرية، وأنه لن تكون استحالة بالنسبة لها أن تستوطن حتى في ظل سيادة الشعب ذاتها”:
Alexis de Tocqueville, De la démocratie en Amérique, (Paris: Editions Gallimard, [1840] 1992), 2: 434.
(55) “الديمقراطية هي عندما يُطرَق بابك في الساعة السادسة صباحًا… وأنه [من يطرق الباب] بائع الحليب!”:
Henri Jeanson, cited in Serge Portelli, Juger: Spirale sécuritaire, libertés en danger (Paris: Les Editions de l’Atelier/Editions Ouvrières, 2011), 72.