تبحث الدراسة سؤالًا إشكاليًّا في مسار الثورة المصرية: إلى أي مدى أدت التحولات السياسية بعد عشر سنوات من ثورة 25 يناير إلى تفكيك منظومة الهيمنة العسكرية والأمنية على العملية السياسية في مصر، وذلك في إطار مقاربة منهجية تنطلق من مقولات وأدبيات اقتراب العلاقات المدنية-العسكرية في مراحل الانتقال الديمقراطي؟ وتُحلِّل الدراسة أبعاد الثنائيات المركزية التي شهدتها العشرية الماضية، ومن بينها: ثنائية “الثورة والانقلاب”، وثنائية “العسكر والإخوان”، وبيان تأثير هذه الثنائيات على تحولات الثورة وتداعياتها.
كلمات مفتاحية: مصر، ثورة يناير، التحول السياسي، التغيير السياسي، التغيير الثوري، الانقلاب، العلاقات المدنية-العسكرية.
This study seeks to reveal the extent that the political transition in Egypt has led to the dismantling of the military and security services’ dominance of the political process in Egypt ten years after January Revolution. It adopts a methodological approach that stems from the literature of civil-military relations during the stages of democratic transition. It also analyses the dimensions of the central dichotomies that have taken place in the past ten years, including the dichotomies of revolution and coup and the military and the Muslim Brotherhood, and the effect of these dichotomies on the transformations and implications of the revolution.
Keywords: Egypt, January Revolution, Political Transition, Political Change, Revolutionary Change, Coup, Civil-Military Relations.
تمهيد
جاءت ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 إفرازًا طبيعيًّا لما شهدته مصر خلال العقود الستة التي سبقت الثورة من ترسيخ لمنظومة الفساد والاستبداد في عهد الرؤساء الثلاثة الذين تعاقبوا على مصر بعد انقلاب 1952، وفشل للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تم تبنِّيها خلال تلك الفترة، في مقابل ترسيخ هيمنة المؤسسات الأمنية والعسكرية على معظم -إِنْ لم يكن كل- الجوانب الحياتية والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية في الدولة المصرية، وما غرسته هذه المنظومة وتلك الهيمنة من مشاعر الخوف والقهر في نفوس الملايين من المصريين. ولذا كان أحد أهم أهداف ثورة 25 يناير ما يمكن تسميته “كسر حاجز الخوف في هذه النفوس”، والعمل على تفكيك منظومة الهيمنة بعدما انهارت الصورة الذهنية التي عملت على بنائها بين عامي 1952 و2011.
تلك الصورة التي قامت على أن الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية مؤسسات وطنية هدفها الأول حماية الأمن القومي للدولة وحماية مواطنيها، ليجد قطاع كبير من المصريين أنفسهم أمام مؤسسات هدفها الأول حماية نظام الحكم، وضمان الهيمنة على مقدرات الدولة وثرواتها، حتى لو كان ذلك على حساب المواطنين وأرواحهم، وهي الصورة التي زادت رسوخًا بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، والأحداث التي تورطت فيها هذه الأجهزة وسقط فيها مئات القتلى وآلاف المصابين، وما تلاها من حملات قمع واعتقال وملاحقات أمنية وأحكام قضائية طالت عشرات الآلاف داخل مصر وخارجها.
- إجراءات واعتبارات منهجية
أ- إشكالية الدراسة وتساؤلاتها
إذا كانت الثورة فعلًا شعبيًّا، فإن التجارب التاريخية للعديد من الثورات الشعبية أكدت أن لكل ثورة شعبية ثورة مضادة. وإذا كانت ثورة 25 يناير قد سعت إلى تفكيك هيمنة الأجهزة الأمنية والعسكرية على مقدرات الدولة ومؤسساتها وعملياتها، فإن قوى الثورة المضادة -وفي القلب منها هذه الأجهزة الأمنية والعسكرية- قد تبنَّت العديد من السياسات والأدوات لمواجهة الحراك الشعبي الثوري.
وفي إطار هذه الثنائية، الثورة والثورة المضادة، يكون السؤال الرئيسي الذي تسعى الدراسة للإجابة عليه هو: إلى أي مدى أدت التحولات السياسية والحراك الشعبي بعد عشر سنوات من ثورة 25 يناير إلى تفكيك منظومة الهيمنة العسكرية والأمنية على العمليات السياسية والاقتصادية في مصر؟
في إطار التساؤل الرئيسي للدراسة، يسعى الباحث للإجابة على التساؤلات الفرعية الآتية:
- 1. ما التحولات الأساسية التي شهدتها مصر بين 25 يناير/كانون الثاني 2011 و25 يناير/كانون الثاني 2021؟
- 2. ما سياسات وممارسات قوى الثورة سعيًا نحو تحقيق أهدافها وتفكيك بنية الاستبداد والهيمنة العسكرية والأمنية؟
- 3. ما سياسات وممارسات المؤسسة العسكرية لترسيخ الهيمنة والسلطوية في مواجهة القوى الثورية؟
ب- أهمية الدراسة
في إطار أهمية الدراسة، يتم التمييز بين مستويين أساسيين:
أولًا: الأهمية العلمية، وترتبط بما يمكن أن تُحقِّقه هذه الدراسة من تراكم علمي معرفي على المستويات التنظيرية والمفاهيمية والمنهاجية بالتطبيق على ثورة 25 يناير.
ثانيًا: الأهمية العملية، وترتبط بما يمكن أن تنتهي إليه هذه الدراسة من أفكار ومقترحات وتوصيات، تدعم صانعي القرار في الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية المعنية بالثورة المصرية، وخاصة أمام المكانة الاستراتيجية التي تتمتع بها الدولة المصرية، ليس فقط في الإقليم، ولكن في العالم، وما يمكن أن يترتب على التحولات الاستراتيجية التي يمكن أن تشهدها من تداعيات على الإقليم والعالم.
ج- أهداف الدراسة
تسعى الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية:
– بيان المفاهيم المركزية التي تتمحور حولها التحولات السياسية بعد الثورة المصرية، ومن ذلك: التحول السياسي، والتغيير السياسي، والتغير السياسي، وموقع مفهوم الثورة بين هذه المفاهيم.
– تحليل أبعاد الثنائيات المركزية التي شهدتها السنوات العشر الماضية في مسار الثورة المصرية، ومن بينها ثنائية “الثورة والانقلاب”، وثنائية “العسكر والإخوان”، وبيان تأثير هذه الثنائيات على تحولات الثورة وتداعياتها.
– تقديم رؤية تقييمية لما يمكن تسميته “تعثر المسار الثوري”، والأسباب التي أدت إلى هذا التعثر، والأولويات التي تساعد في تجاوزه.
د- حدود الدراسة
يتم التمييز في إطار حدود الدراسة بين ثلاثة مستويات أساسية:
المستوى الأول: الحدود الزمنية، وفيها سيتم التركيز على الفترة الممتدة بين 25 يناير/كانون الثاني 2011 باعتبارها البداية الفعلية للثورة، و25 يناير/كانون الثاني 2021 باعتبارها المتمم للسنوات العشر الأولى بعد الثورة.
المستوى الثاني: الحدود المكانية، وفيها سيتم التركيز على دراسة الحالة المصرية، وثورة 25 يناير التي شهدتها مصر، في سياقاتها الداخلية وتفاعلاتها الخارجية.
المستوى الثالث: الحدود الموضوعية، وفيها سيتم التركيز على التحولات السياسية التي شهدتها مصر خلال عشر سنوات بعد ثورة 25 يناير، وخاصة ما يرتبط منها بالفواعل الأساسية في المشهد السياسي وقضاياه المركزية، وتأثيرها على بنية المؤسسة العسكرية والأمنية في مصر وموقعها في بنية النظام السياسي.
ه- مقترب نظري
تنطلق الدراسة من مقولات اقتراب العلاقات المدنية-العسكرية، والذي ينطلق من:
- أن الركيزة الأساسية في مرحلة الانتقال الديمقراطي فيما يتصل بالعلاقات المدنية-العسكرية، هي التركيز على إخراج الفئة الحاكمة (الجيش) من السياسة وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة.
- أن هناك العديد من الطرق المتبعة في ذلك، منها: بناء تحالف القوى المدنية وقيامها بعملية تعبئة وحشد لإخراج الجيش، مع تقديم ضمانات للمؤسسة العسكرية، أو قيام تحالف القوى المدنية الديمقراطية بعقد اتفاق مع الجناح المعتدل داخل الفئة الحاكمة، كما حدث في أورغواي وتشيلي في الثمانينيات.
- في معظم الحالات الناجحة للانتقال، كان دعم الجيش للمتظاهرين ودعاة الديمقراطية، أو عدم ممانعته فعلًا في انتقال السلطة إليهم؛ عاملًا حاسمًا، كما في إسبانيا والفلبين وبيرو ورومانيا والأرجنتين واليونان. وفي حالات أخرى، انقسم الجيش بين مؤيد ومعارض للانتقال إلى الحكم المدني، كما في البرازيل وأورغواي وتشيلي وكوريا الجنوبية وإندونيسيا.
- أن حالات الانتقال الديمقراطي الناجحة ترتبط بظهور تحالفات مدنية قوية من القوى الرئيسية تستطيع أن تتفاوض على انتقال السلطة بإجماع وطني واسع، وتكون قادرة على تولي السلطة دون التصادم مع قوى رئيسية أو مع المؤسسة العسكرية.
- في حالات الانتقال الديمقراطي الفاشلة التي استمر فيها الجيش في التأثير، كان السبب الرئيسي هو انقسام النخب والقوى السياسية، وعدم وجود إجماع وطني على إخراج الجيش، فضلًا عن عدم وجود بديل سياسي له، مثلما حدث في بنغلاديش وباكستان وفيجي وميانمار (بورما) وتايلند. كما فشلت حالات أخرى بسبب تسييس الجيش وعقد اتفاقيات لتعزيز دوره، ووضع دساتير وتشريعات لتقنين هذا الدور(1).
الإطار المفاهيمي
يبرز في إطار الظاهرة محل الدراسة جدل مفاهيمي متعدد المستويات:
الجدل الأول: بين “التغير” و”التغيير”:
يُفيد “التغير” تحوُّلَ الشيء من حال إلى حال بشكل مفاجئ، وتترتب نتائجه على البيئة السياسية والاجتماعية الداخلية والخارجية التي نشأ في سياقها. أما “التغيير” فيُفيد التحوُّلَ القائم على فكر وتدبُّر مُسبق، ونتائج تكون محسوبة بقدر المستطاع، والخلل في هذا التحوُّل يكون في مساحة ضيقة تَسهُل السيطرة عليها(2).
الجدل الثاني: بين “المتغيرات” و”التحولات”:
يُشير مفهوم المتغيرات إلى أي كمية تتغيَّر، أو أي خاصية مميزة يمكن قياسها، فالمتغير يدل على صفة محددة تتناول عددًا من الحالات أو القيم أو الخصائص. وتشير البيانات الإحصائية إلى مقدار الشيء أو الصفة أو الخاصية، أو العنصر أو المفردة أو الفرد، على أنها “متغيرات”. وقد يشير “المتغير” إلى مفهوم معين يجري تعريفه إجرائيًّا في ضوء إجراءات البحث، ويتم قياسه كميًّا أو وصفه كيفيًّا.
ويتم التمييز في إطار المتغيرات الإحصائية أو البحثية بين ثلاثة أنواع: المتغير المستقل (الذي يؤثر ولا يتأثر بالمتغير التابع)، والمتغير التابع (الذي يتم التأثير عليه من قبل المتغير أو المتغيرات المستقلة)، والمتغير الوسيط (الذي قد يكون له دور في التأثير على المتغير التابع، ولولا وجوده لما استطاع المتغير المستقل التأثير في المتغير التابع)(3).
أما مفهوم التحولات، فيدل -من الناحية الاجتماعية- على التغيرات اللازمة لانتقال بنية اجتماعية إلى أخرى، ومن نظام قائم لهذه البنى إلى نظام آخر. وحتى يتحقق هذا التحول، لا بد من توفر مجموعة من الشروط لكي تتحقق التحولات الاجتماعية: أولها الجذرية بحيث ينبغي أن تكون لا رجعة فيها، وثانيها التحقق والتأكد من الانتقال من بنية إلى أخرى مغايرة، وثالثها إدراك أن طبيعة المجتمع الشامل هي المسؤولة عن صعوبة معاينة أو فهم التحولات الموجودة داخل المجتمع؛ لأنه -كنظامٍ- غيرُ قادر على تسوية البنيات وترسيخها كبنيات مستحدثة ومتوافقة فيما بينها، في حين يحتوي بناؤه على عناصر موروثة من الماضي (الاستمرارية) وعناصر حديثة (الحاضر المؤثر) وعناصر محتملة كجزء من تصور المستقبل (مسارات الاحتجاج والتغير). والتوافق الوحيد الذي يحرص على استمراره هو الوقوف في وجه المخاطر المهددة للنظام الاجتماعي، ولا يسمح بإنجاز التغيرات إلا تلك التي تضمن الحفاظ على النظام الذي يحرسه هو نفسه(4).
وتُعرَف التحولات الاجتماعية بأنها “كل تحوُّل يقع في التنظيم الاجتماعي سواء في بنائه أو وظائفه خلال فترة زمنية.. وهو كل تغيير في التركيبة السكانية للمجتمع، أو البناء الطبقي، أو النظم الاجتماعية، أو في أنماط العلاقات الاجتماعية، أو في مختلف المؤسسات الاجتماعية”(5).
وتُمثِّل التحولات الاجتماعية خاصية أساسية تتميز بها الحياة الاجتماعية، ويُعزى ذلك إلى أنها سبيل بقائها ونموها، وأن بها يتهيأ لها التوافق مع الواقع ويتحقق التوازن والاستقرار الاجتماعي، وعن طريقها تواجه الجماعات متطلبات أفرادها وحاجاتهم المتجددة(6).
وتؤدي التغيرات السياسية والاقتصادية إلى نتائج مباشرة على البنية والتنظيم الاجتماعي، لأنها تفرز واقعًا اجتماعيًّا مغايرًا من شأنه التأثير بطريقة نوعيَّةٍ على البناء الاجتماعي وعناصر التماسك والاستقرار في إطاره. لذلك يُقصد بمفهوم التحولات الاجتماعية كذلك تلك التغيرات في البنى الاجتماعية للمجتمع، أو في أنماط العلاقات أو النظم الاجتماعية، أو في القيم والمعايير التي تؤثر على سلوك الأفراد وتُحدِّد -بشكل أو بآخر- مكانتهم وأدوارهم في مختلف المؤسسات التي ينتمون إليها(7).
الجدل الثالث: “الثورة” بين “التغير” والتغيير”:
تحدث سياند ويلش (Ciande Welch) وماريس بنكر (Maris Bunker) عن وجود نمطين للتحوُّل السياسي: أحدهما ثوري راديكالي، والآخر تدريجي إصلاحي. ويؤكد النمطان أهمية وجود أدوات وقوى معينة -كالأحزاب السياسية والنخب السياسية والبيروقراطية والجيش- تقوم بمهمة التحديث وتحقيق التحول السياسي(8).
وتنهض أبعاد عملية التغير الثوري على تغيُّر البنية الاجتماعية، والقيم ومعتقدات المجتمع، والمؤسسات، وتغيُّرٍ في تكوين القيادة وأساسها الطبقي، وتغيُّر النظام القانوني، وأحيانًا استخدام العنف في الأحداث التي تؤدي إلى تغيُّر النظام. فالتغير الثوري صيغة قد تبدأ سياسية وتنتهي بأن تكون اجتماعية، فتُحدِث تغيرات كمية ونوعية في النظام الثقافي والاجتماعي والاقتصادي.
كما يتم النظر إلى الثورة باعتبارها نشاطًا إنسانيًّا يقترن بمشروع جماعي واجتماعي يستهدف تغيير الأوضاع الاجتماعية القائمة تغيُّرًا نوعيًّا ممتدًّا نحو المستقبل. ومع غياب هذا المشروع تفتقد الثورات الرؤية الكلية الجامعة التي تساعد في بلورة الأهداف وتحديد السياسات وامتلاك الأدوات اللازمة لتحقيق التغيير المنشود.
وعندما تنشأ أوضاع مؤسسات تتعارض مصالحها مع استمرار التطور، تصبح الثورة ضرورة اجتماعية. وعندما تضيق قنوات الاتصال السياسي، وتعجز عن نقل مطالب قوى جديدة في المجتمع، أو عندما تفشل المؤسسات السياسية عن التعبير عن مصالح قوى اجتماعية صاعدة، يُصبح التغيير خارج أُطُر المؤسسات والقوانين، فتكون الثورة(9).
ويرى وليام ميتشل (William C. Mitchell) أن الخطوة الأولى في تحليل التغير السياسي تتمثَّل في تحديد “الأغراض” أو “المكونات” التي يتناولها التغير، ومكونات النظام السياسي، والعلاقات التي تحملها التغيرات (إِنْ وجدت أصلًا)، أي أن التركيز عند ميتشل قائم على التغير في المكونات، أما النظام السياسي فيأتي تناوله باعتباره تجميعًا لمكونات عديدة كلها آخذة في التغير، بعضها بمعدلات سريعة، والبعض الآخر بمعدلات أبطأ(10). فالنظام يتضمن مكونات عديدة (من بينها: الثقافة، والأبنية، والجماعات، والقيادة، والسياسات)، ودراسة التغير في النظام -وفق أحد مستويات التحليل- يمكن أن تبدأ بتحليل التغيرات في هذه المكونات، ثم العلاقة بين التغير في أحد هذه المكونات، والتغير في المكونات الأخرى(11).
وفي إطار هذا الجدل المفاهيمي، يمكن القول إن الثورة فعل شعبي عفوي تلقائي غير منظم؛ يهدف إلى إحداث تغيير جذري شامل في بنية النظام السائد في المجتمع. وتختلف الثورة عن الانقلاب الذي يمكن تعريفه بأنه فعل منظم تُنفِّذه مجموعة منظمة، وهدفه السيطرة على السلطة عبر إزاحة القائمين عليها والهيمنة على مقدراتها، اعتمادًا على عامل القوة الذي يتحكمون فيه.
وإذا كانت الثورة فعلًا شعبيًّا عفويًّا غير منظم، فإن هذا الوصف يعني أنه لا يُشترط أن تتفق فئات الثورة ومكوناتها الأساسية كليًّا في آرائها وتوجهاتها، ولكن يُوحِّدها هدف عام تتفق على ضرورة تحقيقه لمصلحة المجموع. فجوهر الثورة هو ذلك الاختلاف في التفاصيل، وأيضًا التصارع السلمي للأفكار، والاحترام المتبادل بين الفئات على اختلافها لخصوصيات بعضها، مع الاتفاق على تجاوز تلك الخصوصيات. فالثورة لا تنشأ إلا لتحمي قيمة أو قيمًا سامية تعرضت للانتهاك والانتقاص، بغض النظر عن التضحيات التي سيتم الوفاء بها تحقيقًا لأهدافها وغاياتها النبيلة.
وفي إطار الظاهرة محل الدراسة، يمكن القول إن ثورة 25 يناير بدأت باعتبارها نوعًا من أنواع “التغير السياسي”، نظرًا لكونها هبَّة فجائية غير مُخَطَّط لها من جانب المشاركين فيها، ثم تحوَّلت بعد “الانقلاب” إلى “تغيير سياسي” تمَّ التخطيط والترتيب له بشكل واضح من قِبَل المؤسسة العسكرية المصرية التي أدارت مرحلة ما بعد الانقلاب يوم 3 يوليو/تموز 2013، وحتى تاريخ إعداد هذه الدراسة.
- تحولات القوى الثورية: أنماط التفاعلات والتحديات
بعد ثورة 25 يناير، تعددت المنعطفات السياسية التي مرت بها، والتي شكَّلت في الكثير من صورها درجاتٍ من الانقلابات المضادة للثورة، وارتبطت في معظمها بدور المجلس العسكري وتصوره عن هذا الدور، ليس فقط في العملية السياسية، ولكن في كل الجوانب الحياتية للدولة المصرية. فبعد 9 أشهر فقط من الثورة، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2011، مرَّت العملية الانتقالية في مصر بمنعطف بالغ الأهمية بصدور “إعلان المبادئ الأساسية للدولة المصرية الجديدة” عن علي السلمي نائب رئيس الوزراء آنذاك، الذي كان الغرض منه توجيه عملية صياغة دستور 2012. وتمَّ وضع هذه المبادئ بالتشاور المباشر مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي حَكَمَ مصر منذ تنحي الرئيس حسني مبارك في فبراير/شباط 2011، وتُعبِّر بوضوح عن السلطات والصلاحيات التي يتطلَّع المجلس العسكري إلى الاحتفاظ بها بعد عودة الحكم إلى المدنيين(12).
وقد منح المجلس العسكري نفسه وسيلة للتأثير على العملية الانتقالية، تتمثَّل في حقِّه في إحالة أي مادة دستورية يعترض عليها إلى المحكمة الدستورية العليا التي له النفوذ الكبير عليها؛ لاتخاذ القرار النهائي بشأن تأكيد صحتها أو رفضها. وتتسم المعايير التي يُفترَض أن يُطبِّقها المجلس العسكري والمحكمة الدستورية بالعمومية إلى درجة إفراغها من أي معنى قانوني، إذ يمكن الاعتراض على أي مادة تتعارض مع ما يُسمِّيها “أهداف الثورة ومبادئها الأساسية” أو “الدساتير المصرية السابقة”(13).
وبعد مرور ستة أشهر من تولِّي محمد مرسي رئاسة مصر، منح الدستور المصري الجديد القوات المسلحة حيِّزًا من الاستقلالية ودورًا سياسيَّا صريحًا لم تحظَ بهما في ظل حسني مبارك. وربما رأى مرسي -ومعه الأكثرية الإسلامية في الجمعية التأسيسية- أنه من المفيد سياسيًّا أن يقبل بشروط القوات المسلحة من أجل ضمان حيادها خلال المرحلة الحالية من عملية الانتقال الديمقراطي. لكن وخلافًا لباقي أجهزة الدولة المصرية، تنظر القوات المسلحة إلى نفسها على أنها لاعب مُؤَسَّسِي مستقل ذاتيًّا له دور سياسي بامتياز. وتجلى ذلك يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 2012 حين دعا وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي الرئيس مرسي والوزراء الآخرين وطيفًا من الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية والشخصيات العامة، إلى “عقد حوار وطني”، دون استشارة مسبقة لرئاسة الجمهورية، أو المجلس الوزاري الذي يُعَدُّ السيسي عضوًا فيه. وقــد أدى تقليل مؤسسة الرئاسة من شأن الدعوة إلى إلغائها.
وانعكست هذه المرحلة على طبيعة التوازن بين المؤسسة العسكرية ومؤسسة الرئاسة، فما حصلت عليه المؤسسة العسكرية في دستور 2012، كان تعزيزًا لتوجهاتها التي سعت إليها بعد الثورة، حيث نصَّ على أن يكون وزير الدفاع ضابطًا من القوات المسلحة حُكْمًا. كما أن ميزانية الدفاع لن تُقَدَّم حتى كبند واحد إلى البرلمان، بل سيتم تداولها في مجلس الدفاع الوطني الذي سيكون فعليًّا الجهة الوحيدة التي تنظر أيضًا في مصير كلٍّ من المعونة العسكرية الأميركية والاقتصاد العسكري الرسمي.
كما أعاد الدستور الجديد تأكيد تولِّي رئيس الجمهورية رئاسة مجلس الدفاع الوطني، ولكنه خصَّص ثمانية مقاعد من أصل 15 لقادة القوات المسلحة، ما يمنحهم الأكثرية الدائمة من الأصوات فيه. وهذا المجلس يُضفي الصفة الرسمية والمُؤَسَّسِية على دور القوات المسلحة السياسي، إذ يُعطيه الدستور المسؤولية عن “الشؤون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها”، كما يجب استشارته قبل أن يتمكن الرئيس أو مجلس الشعب من إعلان الحرب أو إرسال القوات المسلحة إلى خارج مصر(14).
ومع نهاية العام الأول من حكم مرسي، جاء الانقلاب العسكري الذي أطاح بما يمكن اعتباره منجزات المرحلة الانتقالية الأولى (فبراير/شباط 2011-يونيو/حزيران 2012) والثانية (التي بدأت في يونيو/حزيران 2012 مع تولِّي مرسي مقاليد الحكم).
ورغم وضوح هذه التوجهات التي تبنَّتها المؤسسة العسكرية منذ فبراير/شباط 2011، وبعد تنحي مبارك مباشرة، فإن خرائط التفاعلات التي قامت بها (القوى الثورية) بين يناير/كانون الثاني 2011 ويناير/كانون الثاني 2021، وما شهدته هذه الخرائط من تحولات، قد اختلفت أنماطها، وتفاوتت مستوياتها، وفي إطارها يمكن التمييز بين المستويات التالية:
أولًا: الحراك الميداني.. أنماط ومؤشرات
شكَّلت الحركات الاجتماعية المصرية محركًا أساسيًّا لاندلاع ثورة 25 يناير، واستمرت أهمية هذه الحركات الاجتماعية واتسع دورها أثناء الثورة وبعدها خلال السنوات العشر الماضية، الأمر الذي يجعل من فهمها وتحليل أبعاد وأنماط تفاعلاتها مع سياقها السياسي والاجتماعي، أمرًا مهمًّا لفهم هذه الثورات ومآلاتها المستقبلية.
- التفاعل الاستراتيجي مع السياق السياسي
يُقصد بالتفاعل الاستراتيجي للحركة، الاستراتيجيات والسياسات التي تتبنَّاها عند تفاعلها مع سياقها السياسي والاجتماعي، بما يؤدي إلى رفع قدرة الحركة على تحقيق أقصى استفادة من الفرص السياسية المتاحة، وتمكُّنها من التحرك على الرغم من انحسار هذه الفرصة وانغلاق المجال السياسي في أحيان أخرى.
وفي التطبيق المصري، نجد أن الحركات الطلابية التابعة “للأحزاب المدنية” وحركة “6 أبريل” تفاعلت استراتيجيًّا مع السياق السياسي الجديد بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، وهو ما كان مختلفًا عن تفاعل التيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية، وجاءت نتائجه أيضًا مختلفة باختلاف الاستراتيجية المتبعة. فقد غيَّرت الحركة الطلابية التابعة لحزب الدستور (تأسس عام 2012) استراتيجيتها، فانتقلت من التركيز على السياسات الميدانية إلى تبني سياسات خدمية وثقافية للتفاعل مع انحسار المجال السياسي بعد الانقلاب، مما مكَّنها من الاستمرار. ومن ذلك: إقامة المعارض الفنية، وعرض الأفلام التثقيفية، وتنظيم المناقشات الجماعية.. وقد هدفت من خلالها إلى الاستمرار في نشر ثقافة احتجاجية بأقل تكلفة ممكنة.
هذا التغير على مستوى التكتيكات صاحَبَه تغيُّر على صعيد الشكل التنظيمي للحركة المدنية المصرية، حيث زادت المرونة في التعامل مع شكلها المُؤَسَّسي، وكان تشكيل حزب الدستور أحد مظاهر ذلك، قبل إنشاء مكتب للطلاب داخل الحزب وأسر الميدان الطلابية في الجامعات.
أما حركة “6 أبريل” فقد عجزت عن تغيير أنماط التفاعل الاستراتيجي المرن مع تغيُّر السياق السياسي وانغلاقه، لأن استراتيجياتها كانت قائمة على الاحتجاج والتظاهر السلمي والاستمرار في الميدان، وهي سياسات مثَّلت جزءًا من الهوية الجماعية للحركة وسبب مشروعيتها الرئيسي. وقد دفع ذلك إلى مزيد من استنزاف الحركة التي دخلت في مواجهات مفتوحة، سواء مع المجلس العسكري الذي تولَّى حكم البلاد في مصر بعد ثورة 25 يناير، أو مع نظام الحكم بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013. كما رفضت الحركة التحول إلى حزب سياسي.
- 2. التنظيم والقدرة على التعبئة
تُعَدُّ موارد الحركات الاجتماعية وقدرتها على التنظيم والحشد والتعبئة أحدَ أهم معايير نجاحها أو فشلها في تحقيق أهدافها، فقدرة هذه الحركات على بناء هياكل رسمية (منظمات، مؤسسات) وغير رسمية (روابط اجتماعية وعائلية) للحشد والتعبئة، شرط أساسي لبناء تنظيم قوي قادر على تحقيق أهداف الحركة.
ومن بين هذه الحركات روابط الألتراس، أو روابط مشجعي كرة القدم، التي برزت في الاحتجاجات والمظاهرات سواء أثناء ثورة 25 يناير أو بعدها، وهي تنظيمات من روابط اجتماعية مختلفة، لا ترتبط حياة أعضائها بعضهم ببعض في مدرجات ملعب كرة القدم فقط، وإنما أيضًا في الحياة اليومية لكل منهم، عبر شبكات التواصل والترابط الاجتماعي.
وشكَّلت روابط الألتراس -بقدرتها على التنظيم- علامة فارقة في تاريخ الحركات الاجتماعية في مصر، حيث نجحت في جعل صوتها مسموعًا خلال الثورة وبعدها، بل واستمر تأثيرها حتى مع انحسار المجال السياسي بعد انقلاب 2013، رغم عدم كونها في الأساس تنظيمًا سياسيًّا. لكنها عانت من عدم قدرتها على بناء تنظيم قوي قادر على الضغط على السلطة العسكرية لتحقيق أهداف الثورة وتحويلها إلى سياسات ملموسة، بجانب عدم قدرتها على تقديم بديل سياسي واقعي ذي مصداقية لدى الجمهور، الأمر الذي شكَّل أحد ملامح الضعف البنيوي لثورة 25 يناير، وحال دون تعبئة الطاقات المجتمعية لتحويل الاحتجاج الشعبي والحراك المجتمعي إلى مشروع سياسي قادر على مواجهة النظم العسكرية المتعاقبة، وتغيير قواعد الصراع، بدلًا من هيمنة الجيش والإفراط في استخدام الأدوات القمعية، وتحويل المسار السياسي الذي نشأ بعد ثورة 25 يناير إلى مسار عسكري بعد انقلاب 2013.
- 3. العلاقة بين زيادة القمع وإمكانية التعبئة
شهدت مصر في أعقاب انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 انحسار الحراك السياسي وتواري الحركات الاجتماعية. وترجع أسباب هذا الانحسار، أو ضعف التعبئة، إلى عدة عوامل منها: الخوف الذي نتج عن استخدام السلطة استراتيجيات مختلفة للقمع “غير المحسوب”، والخوف من المجهول أو من مصير دول أخرى في المنطقة، وهو ما استثمره النظام لصالحه؛ لأن المواطنين يخافون من الدولة، وعليها، أي يخشون من بطشها ويخشون في الوقت ذاته من تَحلُّلِها. هذا بجانب تراجع الأمل والشعور بالهزيمة (على مستوى المسار العام والشعور الشخصي، لا على مستوى نجاح الثورة أو فشلها)(15).
وفي إطار هذه العوامل، يمكن القول إن أنماط الحراك السياسي والاجتماعي تعددت في مصر بعد 3 يوليو/تموز 2013، حيث ظهرت عدة أنماط رئيسية:
الأول: حراك المنظمات الحقوقية، أو ما يُسمِّيه البعض حراكَ القضية الواحدة التي تتناول انتهاكات حقوق الإنسان والحريات وتدافع عن الضحايا(16).
الثاني: حراك النقابات المهنية التي تُعْنَى بحقوق وحريات أعضائها، خاصة حرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم، وتُواجه التدخلات الأمنية المتكررة في شؤونها.
الثالث: حراك المجموعات الطلابية التي تطالب بحريتي التعبير والتنظيم في الجامعة، وترفض إلغاء السياسة داخل الحرم الجامعي.
الرابع: الحركات العمالية التي تكتسب زخمًا متزايدًا مع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والممارسات القمعية التي يمارسها الحكم إزاء النشطاء بين العمال.
الخامس: حراك المواطنين العفوي والغاضب في مواجهة سياسات الحكومة في بعض الأحيان، أو عنف الأجهزة الأمنية في أحيان أخرى(17).
السادس: الحراك الموجَّه الذي تقف خلفه بعض الشخصيات أو الكيانات، ضد فساد واستبداد نظام الحكم (ثورة الغلابة في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وحراك سبتمبر/أيلول 2019، وحراك سبتمبر/أيلول 2020).
وبعد مرور عشر سنوات على ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وأكثر من 7 سنوات على انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، لم تتمكن السلطة من القضاء على حيوية الحراك السياسي والمجتمعي الذي لم يتوقف، بل إن هذا الحراك الجديد أجبرها في بعض الأحيان على تقديم بعض التنازلات (بغض النظر عن حجمها، ومصداقيتها أو الهدف منها).
ومن بين صور هذه التنازلات: إحالة منتهكي حقوق الإنسان من عناصر الأجهزة الأمنية إلى القضاء للمساءلة والمحاسبة، وتنفيذ بعض مطالب الاستقلال النقابي قبل الانقلاب عليها، والاستجابة لمطالب العمال ذات الصلة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والتراجع الوقتي عن الاستخدام العنيف لأدوات القمع المباشر وغير المباشر، كما حدث في حراك سبتمبر/أيلول 2020، وتراجع السلطات عن هدم منازل المواطنين.
وفي إطار هذه الأنماط للحراك السياسي والاجتماعي بعد 3 يوليو/تموز 2013، تبرز عدة مؤشرات وملاحظات أساسية:
أ- المبادرات الاحتجاجية: تطورت مبادرات احتجاجية ارتبطت بانتهاكات الحقوق والحريات المتراكمة، وضمَّت بين صفوفها طلابًا وشبابًا ونشطاء وحقوقيين، وغابت عنها الأطر التنظيمية المحددة، والتزمت كل منها بقضية واحدة، مثل: جريمة الاختفاء القسري، أو سلب حرية مواطنين بسبب القوانين القمعية كقانون التظاهر، أو جرائم التعذيب داخل السجون وأماكن الاحتجاز (مثال: مبادرة “الحرية للجدعان” التي تولَّت الدفاع عن حقوق الطلاب والشباب والإعلاميين المسلوبة حريتهم).
ب- النقابات المهنية: نشطت نقابات مهنية اشتبكت مع السلطة بشأن قضايا تتعلق بالدفاع عن استقلال النقابات، ومحاولة غلِّ يد الأجهزة الأمنية والاستخباراتية عن العبث بداخلها، والانتصار لحقوق وحريات الأعضاء، ومن بينها حرية اختيار ممثليهم، والحماية من التعرض لاعتداءات الأمن وللممارسات القمعية، والتعبير العلني عن الرأي فيما يخص قضايا نقابية أو قضايا عامة (مثال: نقابة الأطباء، ونقابة الصحفيين).
ج- الحراك الطلابي: لم تتمكن السلطة من الضبط الأمني للجامعات الحكومية والخاصة، والقضاء التام على الحراك الطلابي، رغم أنها استخدمت كل ما لديها من أدوات للقمع والتعقب، وللحصار باسم القوانين واللوائح والإجراءات، بل واستعانت بشركات أمن خاصة داخل حرم الجامعات، ودفعت الإدارات الجامعية لإنزال عقوبات قاسية بالطلاب غير الممتثلين، وسلبت حرية بعضهم وأحالتهم إلى المحاكم. وفي المقابل، استمرت الجامعات ساحاتٍ رئيسية لمقاومة السلطوية، تارة بالتظاهر والاعتصام، وتارة أخرى بالمشاركة الكثيفة في انتخابات الاتحادات الطلابية لإنجاح مرشحين غير مرشحي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية.
د- الحراك العمالي: أخفقت السلطة في القضاء على الحراك العمالي، ولم ينجح المزج بين القمع والتعقب وإجراءات الترهيب المتراوحة بين الفصل التعسفي من مكان العمل وإحالة بعض العمال المحتجين إلى القضاء العسكري؛ في إنهاء الاحتجاجات العمالية. فقد تواصلت هذه الاحتجاجات باستخدام أدوات التظاهر والاعتصام والإضراب للمطالبة بحقوق اقتصادية واجتماعية، وامتدت خريطتها لتشمل القطاعين العام والخاص ولتجمع بين العمال والموظفين.
ه- شبكات التواصل: نظرًا لأن السلطة أحكمت سيطرتها على المساحات الإعلامية التقليدية، اضطلعت شبكات التواصل الاجتماعي بأدوار رئيسية في كشف الانتهاكات وخلق حالة رأي عام حولها، وحفزت البعض على الاحتجاج العفوي في مواجهتها. ولم تتوقف هذه الاحتجاجات العفوية على الرغم من القمع الممنهج في مواجهتها من قِبَل النظام، والكلفة الباهظة التي يتحملها بعض المحتجين.
و- دعوات التظاهر: تكرر خروج بعض المواطنين إلى الساحات العامة احتجاجًا على قرارات وإجراءات وممارسات حكومية بعينها، كتورط عناصر أمنية في تعذيب وقتل مصريين داخل أماكن الاحتجاز الشرطي، أو اعتراضًا علنيًّا على سياسات نظام الحكم، مثل توقيع اتفاقية التنازل على جزيرتي تيران وصنافير(18)، أو استجابة لدعوات سياسية صدرت عن بعض الشخصيات أو الرموز، كما حدث في حراكيْ سبتمبر/أيلول 2019 وسبتمبر/أيلول 2020.
– حراك سبتمبر/أيلول 2019:
قبل الذكرى التاسعة لثورة 25 يناير، جاءت دعوات للنزول يوم 20 سبتمبر/أيلول 2019 بعد توقف الحراك الثوري في الشارع المصري لقرابة ثلاث سنوات، وتحديدًا منذ الدعوة إلى ما يُسمَّى “ثورة الغلابة” في نوفمبر/تشرين الثاني 2016. وجاء حراك 20 سبتمبر/أيلول نتيجة التفاعل مع دعوة الفنان والمقاول محمد علي، وكان مؤشرًا على كسر حاجز الخوف -بشكل نسبي- داخل نفوس المصريين، بسبب حالة القمع غير المسبوقة التي عمل عليها نظام السيسي خلال سنوات ما بعد 3 يوليو/تموز 2013. كما أظهر أن الاستجابة لدعوات التظاهر جاءت لعدة أسباب، منها: طبيعة الخطاب الجديد من شخص مثل محمد علي، ووجود دلائل على إمكانية التغيير إذا وقف جانب من النظام وراء دعوة النزول.
وكشف تفاعل المصريين على شبكات التواصل الاجتماعي مع حراك 20 سبتمبر/أيلول 2019، عن مدى استعداد الجماهير للنزول إذا وجدت قيادة فعالة موثوقة تقود الحراك، وتوقعت أن يؤدي نزولها إلى إحداث تغيير.
كما أظهر الحراك ودعوات التظاهر التي أعقبته تأثير الخطاب الشعبوي على الجماهير إيجابيًّا، فالخطاب الذي قدَّمه محمد علي أثَّر بشكل كبير في قطاعات واسعة من المواطنين، من الداخل وفي طبقات ومستويات مختلفة، حيث كان خطابًا شعبويًّا بسيطًا، بعيدًا عن الخطاب السياسي المعهود الذي يستخدمه المعارضون.
كما كانت هناك قناعات بأن أغلبية من شارك في هذا الحراك -سواء من الأفراد أو من بعض القوى المعارضة- كان يعلم بوجود تدافعٍ داخل المؤسسات السيادية بين طرفين لكل منهما قوى وإمكانيات، وأن الثورة الحقيقية ليست لها قوى وإمكانيات تمكِّنها أن تكون طرفًا ثالثًا للدخول في مثل ذلك الحراك. وكان الهدف من الاشتباك مع هذه الحالة تحقيق أهداف تكتيكية مرحلية من هذا الصراع. وهذا الوعي تنامى مرحليًّا طبقًا لمفهوم وضع الأهداف بناء على الإمكانيات والقدرات(19).
– حراك سبتمبر/أيلول 2020:
تزامن هذا الحراك مع تطبيق السلطة لقانون هدم وإزالة ما أسماها مسؤولو النظام المباني المخالفة لأحكام البناء، وطالبت المظاهرات برحيل رأس النظام. وكان الأخطر في هذه الاحتجاجات أن مطلب رحيل السيسي لم يصدر عن رموز وتيارات المعارضين أو الرافضين له فحسب، بل صدر كذلك عن عدد من مؤيديه ممن تضرروا من سياساته الاقتصادية والاجتماعية. وتحوَّلت الاحتجاجات من مطالب اقتصادية إلى هتافات سياسية، وتصاعدت لتصل إلى مطالبة السيسي بالرحيل، وهو الهتاف الذي أصبح صداه يتردد بقوة في الشوارع المصرية، وذلك بعد أن كان مقتصرًا على مواقع التواصل بسبب القمع الأمني(20).
واتسمت هذه المظاهرات بعدة سمات، من بينها:
- التوقع المسبق لحدوثها: كانت السلطات المصرية تتحسَّب لنطاق احتجاجات واسعة، وهو ما دفعها يوم 28 أغسطس/آب 2020 إلى توقيف محمود عزت القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، المحكوم عليه بالإعدام والسجن المؤبد في عدة قضايا. كما انتشرت قوات من الشرطة في الميادين والشوارع، وارتبط بهذا الانتشار إقامة “كمائن” تستوقف المارة وتطالع هواتفهم المحمولة وتفتش تطبيقات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر، لمعرفة انتماءات الموقوفين السياسية. كما أغلقت السلطات المقاهي يوم 14 سبتمبر/أيلول وشددت على أصحابها بعدم الفتح مجددًا إلا بتعليمات أمنية، وحشدت الأغاني الوطنية في الإذاعات المحلية، وهو ما استنكره قطاع من النخبة المصرية.
- اتسم نطاق الاحتجاجات بعدم الاقتصار على الاعتراض بسبب قانون مخالفات البناء، ولكنه ارتبط بعدة ملفات منها: واقعة مقتل الشاب الشهير باسم “إسلام الأسترالي”، وهي الواقعة التي تسببت باحتجاجات واسعة في حي المنيب غرب القاهرة الكبرى. كما أن الاحتجاجات التي شهدتها مدينة “العاشر من رمضان” والتي انتهت بهروب قوات الأمن بعد إلقاء قنابل المولوتوف عليها، لم تكن بسبب هدم المنازل، وإنما حدثت بين عدد من الشباب وبين سيارتي دورية للشرطة.
- اتساع نطاق الاحتجاجات جغرافيًّا: فقد بدأ رصد الاحتجاجات المتعلقة بقانون مخالفات البناء مع تداول رواد موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك مقطع فيديو، يظهر فيه عشرات الأهالي من منطقة سرياقوس بالخانكة في محافظة القليوبية يوم 27 أغسطس/آب 2020، وهم يرشقون بالحجارة الجرافات المكلفة بهدم عدد من البيوت المخالفة، بينما ألقت قوات الأمن القبض على 15 منهم. ومن الخانكة إلى الاحتجاجات في القاهرة (منطقة الدويقة) والإسكندرية (منطقة المنشية) والجيزة (قرية الكداية)، وفي محافظتي بورسعيد والسويس (شمال شرق مصر)، وفي محافظة أسيوط (في صعيد مصر).
- الاستمرارية: فرغم أن بداية الاحتجاجات كانت محدودة فإن تطورها رافقه ارتفاع منسوب العنف، ولم يُخفِّف خروج رئيس الحكومة في مؤتمر صحفي مفاجئ للحديث عن أزمة هدم البيوت المخالفة؛ من مخاوف المصريين أو يُهدِّئ احتجاجاتهم التي كانت أخذت منحى تصاعديًّا.
- مع مراعاة حجم وتأثيرات حراكيْ سبتمبر 2019 و2020، يمكن القول إنهما اتسما بقدر عال من الوعي لدى المحتجين، بالنظر إلى ربط اتساع نطاق الحراك بتوفر شروط القيادة وتوافق النخب المعارضة، وهي شروط يراها البعض ناتجة عن تفكيك تخوفات الشارع المصري الذي يريد انتقالا مستقرًّا محميًّا، ولا سبيل للاستقرار والحماية إلا عبر توافر هذه الشروط(21).
ثانيًا: الحراك السياسي وخرائط المبادرات
شهدت مصر خلال فترة ما بعد 3 يوليو/تموز 2013 اتجاهين رئيسيين من المبادرات(22):
- مبادرات الوعي
تُشير هذه المبادرات إلى أن مصر تعاني أزمة تحتاج من كل مصري الإدلاء بدلوه للخروج منها، وفي هذا الإطار تتعدد المبادرات ومؤشرات الحراك، والتي يهدف بعضها إلى إنتاج حراك على أرضية الجماهير، وبعض آخر إلى تحريك العلاقة بين الإخوان ورموز السلطة، وبعضٌ ثالث إلى إنتاج قوة سياسية بديلة للإخوان:
أ- مبادرة “لنصنع البديل الحقيقي”: أطلقها المعارض حمدين صباحي، في مارس/آذار 2016، وكان مضمونها الدعوة إلى إنقاذ مصر من حالة الخواء السياسي التي تعانيها، والتي تفتقد في إطارها إلى وجود تنظيم سياسي قادر على أن يُمثِّل قيدًا على انفراد رموز النظام بالحكم، وهو ما من شأنه أن يورد مصر موارد مهلكة في حالة التعمق وخلوّ الساحة ممن يمكنه توفير ضغط يحول دون مزيد من التردي والفراغ السياسي. وقامت دعوة صباحي لتوحيد حزبيْ “الكرامة” و”التيار الشعبي” في تنظيم واحد قادر على توفير تنظيم سياسي بديل.
ب- دعوات 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2016: عُرفِت هذه الدعوات باسم “ثورة الغلابة”، ولم يكن لها من برنامج سوى ما أعلنته من تعبئة منضبطة لما توقعته من ثورة جياع، مما يمهد الطريق لاحتوائها والحيلولة دون تحوُّلها إلى إعصار لا يبقي ولا يذر. غير أن هذه الحركة اصطدمت بغياب القوى الراعية، وفقدان الرؤية العملية، فضلًا عن فقدان سائر عناصر رأس المال السياسي اللازم لتفاعل القواعد الجماهيرية التي خاطبتها الدعوة.
ج- مبادرة الجماعة الإسلامية المصرية: قُدِّمت الدعوة لكل من رموز نظام الحكم وجماعة الإخوان، في ديسمبر/كانون الأول 2016، لاتخاذ خطوة إلى الخلف، لكن الأحداث تجاوزتها لأن خطوات رموز السلطة في إغلاق المجال العام ومصادرته تجاوزت الحديث عن قانون التظاهر، ومنح بعض الحريات، بعد تدفقات القوانين التأميمية، ومن بينها قانون الجمعيات الأهلية وقانون الهيئات الإعلامية.
د- دعوة إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان لحكماء مصر إلى العمل على إيجاد مخرج من الوضع السياسي المأزوم. وتتضمن هذه الدعوة، التي أطلقت في أبريل/نيسان 2020، تفويضًا نسبيًّا من الإخوان لمن أسماهم منير الحكماء؛ بالتحرك وتقديم مبادرة وطنية للإخوان. ولم يستبعد منير استعداد الجماعة لسماع مبادرات من رموز نظام الحكم.
- مبادرات الإنقاذ
شهدت مرحلة ما بعد 3 يوليو/تموز 2013 عددًا من المبادرات، منها: وثيقة بروكسل (مايو/أيار 2014)، ومبادرة “دعم الشرعية” التي عدَّلت وثيقة بروكسل يوم 17 مايو/أيار 2014، و”بيان القاهرة” الصادر يوم 23 مايو/أيار 2014 لتفادي النقد الذي وُجِّه إلى وثيقة بروكسل لكونها صدرت من خارج مصر، ومبادرة “إحنا الحل” (15 يناير/كانون الثاني 2015)، ومبادرة “الإفلات من السقوط” (فبراير/شباط 2016)، ومبادرة الفريق الرئاسي للدكتور عصام حجي (أغسطس/آب 2016)، ومبادرة واشنطن التي صدرت بتوافق قوى سياسية مصرية في أعقاب مجموعة ورش عمل عقدت في الولايات المتحدة (سبتمبر/أيلول 2016)، ومبادرة “وطن للجميع” التي أطلقها الأكاديميان المصريان عماد شاهين وعبد الفتاح ماضي.
وتبرز عدة ملاحظات على هذه المبادرات، منها:
- أن هذه المبادرات تحمل نظرة مبدئية لرموز نظام الحكم، وترى فيها المدخل لاستمرار حالة التدهور التي ميزت أداء إدارة مبارك قبل ثورة 25 يناير. كما ترى أن العلاج الناجع لتردي أوضاع دولة بحجم مصر، يكمن في منظومة كُفء على الصعيد السياسي تتسم بالأبعاد الأساسية لمفهوم الديمقراطية؛ من المسؤولية والمساءلة، وسيادة القانون والمساواة أمامه، والشفافية، وتوسيع دائرة المشورة، بما يحقق الانتماء للمصريين، ويدفعهم جميعًا إلى المشاركة البناءة في إعزاز الوطن.
- تضمنت هذه المبادرات التأكيد على ضرورة تعزيز منظومة إنفاذ القانون بجناحيها: جناح التطبيق (القضاء)، وجناح التنفيذ (الشرطة)، بما يحفظ للوطن تماسكه وقوته، وتمكُّنَ القانون الذي يُعَدُّ السبيل الوحيد لإنجاح الدولة في مرحلة تهيمن فيها على مصر منظومة أمنية تحركها علاقات القوة والإرادات الظرفية، وتحمل رؤى غير متماسكة، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الثقافي أو السيادي.
- تتفق المبادرات على أن المؤسسة العسكرية المصرية مؤسسة وطنية، وأن وطنيَّتها تنبع من وظيفتها المرتبطة بالمرابطة على ثغور مصر وحمايتها، والحيلولة دون اختراق البلاد في ظل بيئة إقليمية ودولية شديدة الاضطراب، تحتاج رؤية واضحة للتعاطي معها.
- 4. تضمنت هذه المبادرات التأكيد على أن النخبة العسكرية ليس من مهامها إدارة اقتصاد البلاد، وأن تدخُّلها في ذلك ترتب عليه إفساد كامل لاقتصاد مصر.
- حققت هذه المبادرات تقدمًا مهمًّا على أرضية بناء أجندة وطنية عابرة للتيارات حول قضايا لا يمكن إغفال أولويتها، مثل قضية الهوية. ومع بناء هذه الأجندة، بدا كأن كل تيار في مصر قد انقسم إلى قسمين: قسم مُرْتَهَن لرموز نظام الحكم وحساباته معها، وقسم مُرْتَهَن لبناء أجندة وطنية يتفق عليها الجميع.
- حرصت بعض المبادرات على تقديم أطر مُؤسَّسية ورموز سياسية لإدارة الأزمة التي تشهدها البلاد، حيث تضمنت ترشيحات لرأس جديد للسلطة التنفيذية، سواء عبر تفويض الشرعية لرئاسة الحكومة، أو عبر إنتاج رأس جديد متمثل في مجلس، فضلا عن قوائم حكومية تنفيذية تحمل أسماء محددة، وتحمل في بعض الأحيان بدائل لهذه الأسماء(23).
وترتبط فعالية المبادرات السياسية بقدرتها على التأثير في المشهد السياسي المصري، وقدرة القائمين عليها على الاستفادة من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد، وتوظيف هذه الظروف في الحشد السياسي والتعبئة الجماهيرية خلف هذه المبادرات، في مواجهة نظام معياره الأول في الحكم هو فرض الهيمنة على الدولة ومقدراتها، مهما كانت التداعيات على حاضرها ومستقبلها.
ومن بين هذه الظروف، الأزمة الاقتصادية التي طالت كافة السلع والخدمات، سواء في توفرها أو في تسعيرها، وتصاعد المنهج القمعي الحكومي الذي تحوَّل من منهج في مواجهة الأفراد عبر الاختفاء القسري والاعتقال والتصفية، إلى منهج قمعٍ مجتمعي شامل، عبر ترسانة من القوانين التي تُكبِّل الحقوق وتنتهك الحريات. هذا إلى جانب انتكاسات السياسة الخارجية المصرية، بدءًا بالتفريط في أراض مصرية (تيران وصنافير)، والتفريط في غاز شرق المتوسط، والتوقيع على اتفاق المبادئ الخاص بسد النهضة الإثيوبي، وتورط النظام في العديد من الأزمات الخارجية ذات التأثيرات السلبية على الأمن القومي المصري، مثل ليبيا والسودان(24).
ثالثًا: القوى الإسلامية بين مرحلتين
فتحت ثورة 25 يناير المجال لبروز العديد من الجماعات والتيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، للمشاركة في العملية السياسية في مرحلة ما بعد الثورة. إلا أن هذا البروز، رغم ما ترتب عليه من إيجابيات في المرحلة الأولى للثورة (2011 – 2013)، أفرز تحديات عديدة بعد انقلاب 2013، يأتي في مقدمتها كيفية إدارة التفاعلات بين هذه الجماعات في ظل تصاعد حدة الانقسامات السياسية والفكرية بينها، بل وداخل التيار الواحد والجماعة الواحدة(25).
وهنا يمكن التمييز في إطار دور التيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية في الثورة المصرية، بين مرحلتين:
المرحلة الأولى: من الثورة إلى الانقلاب
استفادت القوى الإسلامية بعد ثورة 25 يناير من وضعها التنظيمي آنذاك، حيث كانت “القوة الوحيدة المنظمة وذات القواعد العريضة في نظام ومجتمع تآكلت تنظيماته وجماعاته في ظل الاستبداد، كما ترنحت في نهاية عهده أركان الدولة التنفيذية والتشريعية والأمنية”(26).
وخلال الفترة الممتدة من 25 يناير/كانون الثاني 2011 إلى 3 يوليو/تموز 2013، برزت مجموعة من الملاحظات على أداء القوى الإسلامية(27):
- 1. وجود مَيْل شديد للانتقال من النشاط الديني إلى النشاط السياسي، سعيًا نحو ضمان عدم إنتاج نظام معادٍ لهم ولأفكارهم وتوجهاتهم، وحرصًا على التواجد في كافة مجالات العمل السياسي، والاستفادة من حالة الانفتاح التي خلَّفها الفراغ السياسي في مصر بعد حلِّ الحزب الوطني الديمقراطي، وزيادة فكرة تَدْيِين المجال العام ونقل الرؤية الأيديولوجية من المسجد إلى المؤسسات السياسية.
- 2. التفاعلات بين الأحزاب والتيارات الإسلامية اتسمت خلال هذه المرحلة بالسيولة الشديدة، وبرز أن العامل المحدد لهذه التفاعلات تمثَّل في الاعتبارات المصلحية، وليس الانتماءات الفكرية والأيديولوجية.
- 3. القوى الإسلامية كانت أكثر رغبة وحرصًا على الانخراط في السياسة الرسمية بدلًا من البقاء خارج أطر وقواعد اللعبة السياسية، وذلك مقارنة بنظرائهم في التيارات الليبرالية واليسارية. فمع وجود تفوق عددي، سعت القوى الإسلامية للمنافسة على السلطة وملء فراغات المجال العام بكافة أشكاله ومؤسساته.
- 4. تراجع في عدد من المقولات التقليدية التي يستند إليها خطاب عدد من هذه القوى، كمقولات المشروع الإسلامي والدولة الإسلامية، وهو ما تم تفسيره بأنه يعكس تراجعًا في رأس المال الفكري والأيديولوجي والإقناعي لدى هذه القوى.
- 5. رغم حالة الصحوة السياسية التي عاشتها القوى الإسلامية خلال العامين الأولين بعد ثورة 25 يناير، فإن هذه الصحوة لم يصاحبها انتعاش فكري وثقافي للخطاب السياسي الإسلامي، ومدى قدرته على مواكبة التطورات السريعة التي ولَّدتها الثورة، أمام سيطرة نزعة الغلبة والهيمنة على إدارة القوى الإسلامية لقضايا التعددية والتفاعل السياسي خلال هذه المرحلة، وهي نزعة تعكس ضعفًا في فهم عدد من هذه القوى لقضايا وأبعاد التحولات الديمقراطية في المراحل الانتقالية، وخاصة تلك التي تكون بعد ثورات شعبية.
- رغم تصاعد بل وكثافة الحديث عن مفاهيم “الأسلمة” و”الأخونة” و”السلفنة/التسليف”، من الثورة حتى الانقلاب، فإن الممارسة الفعلية للقوى الإسلامية كشفت وجود العديد من “القيود والحدود الهيكلية” و”التحديات العملية” التي تعترض طريق هذه القوى نحو إعادة صياغة الدولة والمجتمع والمجال العام، وفقًا لتصوراتها ومنطلقاتها الأساسية(28).
المرحلة الثانية: بعد الانقلاب العسكري
تراوحت مواقف التيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية بين المعارضة الواضحة للسلطة والتعرض المستمر لعنفها وممارساتها القمعية، وبين الالتصاق بها بحثًا عن دور وسعيًا نحو مكاسب سياسية أو مادية أو طلبًا للحماية من التهديد الدائم بالتعقب والقمع.
فقد تعرض الإخوان المسلمون لعنف رسمي ممنهج وقمع أمني متواصل، فتم اعتقال الرئيس محمد مرسي ومعاونيه المباشرين من قيادات الصف الأول من جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة، وتمَّ الزَّجُّ بالمئات من قيادات الجماعة في السجون، إضافة إلى أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة وحزبها ومن المتعاطفين معها ومن قيادات وعناصر الأحزاب السياسية المتحالفة معها كحزب الوسط، وحزب البناء والتنمية، وغيرهما. وكذلك أعضاء بعض الجماعات السلفية التي قررت معارضة الانقلاب والمطالبة بإعادة الرئيس السابق محمد مرسي إلى منصبه، ويُستثنى من ذلك الدعوة السلفية وذراعها السياسي حزب “النور”، والتي تماهت مع الانقلاب وأيدته(29).
وبحلول خريف 2013، وباستثناء من تمكَّن من الخروج من مصر من قيادات الصف الأول لجماعة الإخوان المسلمين، ومن قيادات الصف الأول في حزبي الوسط والبناء والتنمية، كان العدد الأكبر من قيادات الصف الأول قد سُلِبَت حريته وأصبح في مواجهة إجراءات تقاضٍ متنوعة. كما جرت انتهاكات ممنهجة للحقوق والحريات، وتكررت عمليات القتل خارج إطار القانون، وجرائمُ التعذيب والإهمال الطبي المفضي إلى الوفاة داخل السجون وأماكن الاحتجاز.
خلال هذه الفترة، جرى تصنيف جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، وصدر قرار بحلها من قِبَل السلطة التنفيذية، وأُلْغِيت رخصة حزبها السياسي -حزب الحرية والعدالة- من قِبَل القضاء الإداري، وشكَّلت السلطة الحاكمة لجنة تنفيذية وليست قضائية لحصر “أموال الإخوان”، وإحالة التصرف بها إلى الحكومة. وتوالت قرارات التحفظ على أموال المئات من المواطنين بدعوى الانتماء لجماعة إرهابية، وأغلقت الأجهزة الأمنية -بقرارات تنفيذية لا وفقًا لأحكام قضائية- وسائل إعلام صحفية وتليفزيونية كانت تتبع الجماعات الإسلامية.
وبين عامي 2013 و2020، نفذت الأجهزة الأمنية عمليات تقاضٍ سريعة ومتعاقبة ضد قيادات الصف الأول والصفوف الوسيطة للإخوان والسلفيين المعارضين وضد آلاف المعتقلين، وصدرت أحكام سريعة وجماعية بالإعدام والسَّجن لسنوات طويلة، دون مراعاة لضوابط التقاضي العادل.
وانتقل النظام من تعقب الجماعات الإسلامية إلى تعقب أي معارض لسياساته من أي تيار، بذات السياقات وبنفس الأدوات، فتمَّ الزَّجُّ برجال أعمال امتنعوا عن تقديم الدعم المالي “لمشروعاته الكبرى” إلى لجنة حصر أموال الإخوان، وكذلك الزج بصحفيين ونشطاء إلى محاكمات صورية واتهامهم بالانتماء إلى “جماعة الإخوان الإرهابية”. واستُخدِمت القوة المفرطة داخل حرم الجامعات للتعامل مع الاحتجاجات الطلابية، وأُنزِلَت بالطلاب المحتجين العديد من صور العقاب، بين الاعتقال والفصل من الدراسة أو عقوبات تأديبية أخرى.
ومع استمرار الأزمات والملاحقات، برزت عدة انشقاقات داخل جماعة الإخوان المسلمين بين شيوخ وشباب، أو بين حمائم وصقور. لكن رغم هذه الممارسات، استطاعت جماعة الإخوان التماسك إلى حد كبير، وحافظت على خطوط الاتصالات والخطوط الإدارية داخل الجماعة، بل أسست لنفسها قدرات وأساليب لاستمرار الحضور الإعلامي والميداني(30).
- المؤسسة العسكرية وسياسات ترسيخ الهيمنة
تبنَّت المؤسسة العسكرية المصرية في تعاطيها مع ثورة 25 يناير العديد من السياسات والممارسات، سواء في المرحلة الانتقالية الأولى التي أشرف عليها المجلس العسكري (من فبراير/شباط 2011 إلى يونيو/حزيران 2012)، أو خلال العام الأول من حكم الرئيس محمد مرسي، والذي استمرت فيه سلطة المجلس العسكري بشكل غير ظاهر، أو التحكُّم المباشر بعد 3 يوليو/تموز 2013 وحتى يناير/كانون الثاني 2021 (حدود الفترة الزمنية لهذه الدراسة). وتوزعت المهام والأدوار والوظائف التي قامت بها المؤسسة العسكرية خلال السنوات العشر (محل الدراسة) بين سياسات ترسيخ السلطوية والاستبداد، والتقنين القانوني لهذه السياسات، والانتهاك الممنهج للحقوق والحريات، وسياسات الهيمنة والعسكرة الكلية للاقتصاد بدرجة تصل إلى ما يمكن تسميته “امتلاك الدولة”، وتعزيز مقولة إن مصر “جيش له دولة وليست دولة لها جيش”، وهو ما يمكن تناوله من خلال المحاور التالية:
أولًا: السلطوية والاستبداد
يستلزم توطيد السلطوية وضعَ قواعد مؤسسية معترفٍ بها، ويمكن التنبؤ بها لتنظيم عملية التفاعل بين المجموعات المختلفة داخل جهاز الدولة، وكذلك بين الدولة والمجتمع. وينبثق توطيد السلطة من مَأْسَسَة قنوات تَمْثِيل المصالح الخاضعة لسيطرة الدولة، والوساطة بين الدولة والمجتمع، خصوصًا الفئات التي يسعى النظام إلى الحصول على دعمها.
وقبل ثورة 25 يناير، تحقَّق ذلك من خلال الهيئات النقابية التابعة للدولة، التي احتكرت تَمْثِيل المصالح بالنيابة عن العمال وقطاع الأعمال، مثل اتحاد نقابات عمال مصر، واتحاد الصناعات المصرية، واتحاد الغرف التجارية، وكذلك من خلال الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، وهي الجهات التي كانت تتولَّى توزيع الرعاية وتتوسط مع المجتمعات المحلية والفئات الاجتماعية.
ويسمح توطيد السلطوية للنظام بالحفاظ على استمراره من خلال تقليص الاعتماد على قمع الرأي المخالف والمعارضة السياسية بشكل دائم وعنيف. وبهذه الطريقة، يكون النظام أقل عرضة لعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي المتمثِّل في الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات الحاشدة والإضرابات وحتى الانقلابات، التي تزيد من مخاطر حدوث تغيرات مفاجئة في بنية سلطة الدولة أو تركيبة القيادة السياسية.
وبعد 3 يوليو/تموز 2013، لم يُنْشِئ نظام الحكم أو يحافظ على قاعدة اجتماعية واسعة ومتينة ترتبط مصالحها بالسياسات التي ينتهجها. وقد اعتمد النظام لضمان شرعيته والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي؛ على تحالف اجتماعي-سياسي مُؤَلَّف من الجيش وقوى الأمن وفئات من موظفي بيروقراطية الدولة والقطاع العام، كان قد تشكَّل لمعارضة ثورة 25 يناير ضد حسني مبارك.
بعد الانقلاب، شارك الجيش وقوى الأمن في عمليات قمع واسعة لتهميش جماعات المعارضة الرئيسية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها الإسلاميون، إضافة إلى مجموعات ناشطة مثل حركة “شباب 6 أبريل”. وتمكَّن الجيش وقوى الأمن خلال السنوات التالية من استعادة جزء كبير من المجال العام الذي خسراه لصالح المجتمع المدني والمعارضة السياسية بعد ثورة 25 يناير. وتمَّ فرض ضوابط أمنية أكثر تشددًا في الجامعات، وقلَّصت السلطات تمويل وأنشطة منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وحظرت جميع أشكال الاحتجاج العام(31). وفرض النظام سيطرته الرسمية وغير الرسمية على وسائل الإعلام المملوكة للقطاع الخاص، مما اضطر هذه الوسائل إلى التعبير عن خطٍّ موالٍ للنظام وممارسة الرقابة الذاتية. وفُرضِت قيود مماثلة على وسائل التواصل الاجتماعي، كما اعتقلت السلطات عددًا من النشطاء بسبب الآراء المنشورة على حساباتهم في تويتر أو فيسبوك.
وتوسَّع نطاق القمع الذي تمارسه الشرطة، وأثَّر في صورة النظام وشرعيته المحلية، وأدى إلى توتير العلاقات مع نقابات المحامين والأطباء والصحفيين الذين ساندوه عندما تولَّى السلطة. وقوبلت حملة القمع هذه بانتقادات من دول غربية ترتبط بعلاقات استراتيجية مع النظام، وكذلك من عديد المنظمات الدولية -الحكومية وغير الحكومية- لحقوق الإنسان.
وفشل النظام في بلورة قنوات ذات طابع مُؤَسَّسي للوساطة، وتمثيل مصالح الفئات الاجتماعية التي يسعى إلى الحفاظ على تأييدها، فلم يتم تأسيس أي حزب سياسي حاكم على غرار الأحزاب التي كانت موجودة عندما كان جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك يتولَّون رئاسة للبلاد. وهذا النهج من شأنه أن يؤدي إلى توطيد دعائم الحكم السلطوي، ويعزِّز من حالة عدم الاستقرار. كما سيُصعِّب على النظام الحفاظ على الدعم الذي يتمتع به داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وستكون قدرته مستحيلة على توطيد سلطته والعودة إلى الوضع الذي كان سائدًا في عهد مبارك، حين كان الحكم السلطوي أكثر مؤسسية ومرونة(32).
وتوسعت السلطة في استخدام أدوات القمع المباشر وأدواتها القانونية لإغلاق الفضاء العام والسيطرة على الفاعلين المشاركين، واستعادت ماضي الحصار الأمني للنقابات المهنية وللحركات الطلابية والعمالية، وتكررت مشاهد التفخيخ الأمني للنقابات المهنية التي تعارض مجالسُ إداراتها المنتخبة السياساتِ الرسمية، والصراعات المصطنعة بين المجالس المنتخبة وأعضاء في النقابات عُرِف عنهم التبعية للأجهزة الأمنية والاستخباراتية، والأطواق الشرطية المحيطة بمقرات النقابات وبالمصانع التي تحدث بها مظاهرات أو اعتصامات أو إضرابات، والإحالة السريعة للنشطاء والمتظاهرين إلى القضاء المدني أو العسكري(33).
ثانيًا: الانتهاك الممنهج للحقوق والحريات
شهد الملف الحقوقي في مصر بعد 3 يوليو/تموز 2013 تحولات عديدة يمكن اعتبارها كارثية، وكانت بدايتها عمليات أمنية كثيرة راح ضحيتها آلاف القتلى. وهنا تبرز أحداث رابعة التي عُرِفت باسم “مجزرة رابعة” يوم 14 أغسطس/آب من العام نفسه، واعتبرتها منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية “أسوأ عملية قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث” و”جريمة محتملة ضد الإنسانية.”
كانت تلك الواقعة جزءًا من عمليات أمنية عنيفة مماثلة، من بينها ما اشتهرت باسم “مجزرة الحرس الجمهوري” يوم 8 يوليو/تموز 2013، التي سقط فيها أكثر من 50 قتيلًا، و”مجزرة المنصة” يوم 27 من الشهر ذاته، التي سقط فيها نحو مئة قتيل، و”مجزرة ميدان النهضة” يوم 14 أغسطس/آب 2013، التي سقط فيها نحو مئة قتيل أيضًا.
لقد كانت “مجزرة رابعة” نقطة فارقة في طريق ثورة 25 يناير، حيث جمَّدت احتمالات نجاح التحول الديمقراطي في مصر مؤقتًا، بعدما أفرطت السلطة في إراقة الدماء، وفشلت في تقنين الصراع السياسي وضبطه بصناديق الاقتراع، والمواد الدستورية، والمفاوضات، والتنازلات المتبادلة، وإبعاده عن العنف السياسي واستخدام السلاح، بينما استمرت في نهجها التدميري للمؤسسات في مصر، والقمع الوحشي للمعارضين، الأمر الذي من شأنه أن يشرعن المزيد من أنواع العنف السياسي وأشكاله، بدءًا من الانقلابات العسكرية وانتهاء بالإرهاب(34).
وقد تزايد في أعقاب الانقلاب استهداف كل الكيانات والمؤسسات المعنية بالملف الحقوقي، عبر العديد من المستويات:
- 1. المستوى القضائي
بدأت التحقيقات الجنائية في أكبر قضية استهدفت قيادات وأعضاء أكثر من 37 منظمة حقوقية، ووجهت لهم تهم بتلقي تمويلات أجنبية دون موافقة السلطات، والعمل دون ترخيص، فضلًا عن اتهامات أخرى تتعلق بالإضرار باﻷمن العام والتخابر مع جهات أجنبية. وفي إطار هذه القضية، صدرت قرارات بمنع سفر عشرات من أبرز المدافعين والمدافعات عن حقوق اﻹنسان، وتم التحفظ على اﻷموال واﻷملاك الشخصية والمؤسساتية لبعضهم(35).
وقد بدأت الملاحقات القضائية والتحقيقات الجنائية وحملات التشويه الإعلامي في النصف الثاني من العام 2011، وركزت في مرحلتها اﻷولى على المنظمات الحقوقية الدولية العاملة في مصر، مما أسفر عن صدور أحكام بالسجن تتراوح بين عام وخمسة أعوام ضد 43 أجنبيًّا ومصريًّا من العاملين بهذه المنظمات في يونيو/حزيران 2013 بتهم التمويل اﻷجنبي غير القانوني، والعمل بدون رخصة(36).
واستمرت منظمات حقوق اﻹنسان المصرية في التنديد والكشف عن محاولات قوى الثورة المضادة للالتفاف على عملية التحول الديمقراطي في مصر، ومواصلة جرائم وانتهاكات حقوق اﻹنسان خلال المراحل الانتقالية المختلفة التي أعقبت الثورة عام 2011، وحتى وصول الرئيس السيسي إلى سدة الحكم، وهو ما مثًّل سببًا رئيسيًّا لدى المؤسسة العسكرية واﻷجهزة اﻷمنية لاتخاذ قرار استراتيجي بحصار وإنهاء النشاط الحقوقي المستقل في البلاد، وإعادة هيكلته والسيطرة على مخرجاته، وتأسيس قطاع جديد من المنظمات الحقوقية يؤيد ويبرر لخطاب الدول(37).
- 2. المستوى التشريعي
تمَّ تغليظ القيود المنظمة لعمل المنظمات غير الحكومية، وكذلك تغليظ عقوبات تلقي التمويل اﻷجنبي، وتعرَّض عدد كبير من النشطاء واﻹعلاميين والمحامين والنقابيين وغيرهم من المهتمين بالدفاع عن حقوق اﻹنسان؛ إلى اعتقالات تعسفية طويلة المدة، ومحاكمات ذات طبيعة سياسية. وقد وصلت الحملة ضد الحقوقيين إلى توجيه تهديدات مباشرة بالقتل ضد بعضهم داخل مصر وخارجها، والتجسس على أنشطتهم وتحركاتهم واتصالاتهم في الداخل والخارج.
واستجاب قطاع داخلَ منظمات حقوق الإنسان لهذا الوضع من خلال إجراءات للتكيف مع المتغيرات اﻷمنية والتشريعية الجديدة، بغرض المقاومة من أجل استعادة مساحات داخل المجال العام، عبر وضع تكتيكات مختلفة لحماية المؤسسات والعاملين فيها، مع استمرار تقديم الدعم للضحايا، وتوثيق ورصد وفضح الانتهاكات، حتى وإن كان على نطاق محدود، وتوزيع الأدوار بين أعضاء هذه المنظمات داخل البلاد وخارجها.
واتجهت بعض المنظمات الحقوقية إلى تجميد أنشطتها العلنية بشكل كامل، مع استمرار حرص قياداتها وأعضائها على الاحتفاظ بمستوى من التنسيق والحوار والتعاون غير الرسمي بين قيادات هذه المنظمات وباقي فعاليات حقوق اﻹنسان في مصر وخارجها، بينما جمَّدت منظمات أخرى عملها رسميًّا داخل البلاد واحتفظت بفريق عمل محدود يعمل بشكل استشاري، ونقلت أعمالها بالكامل إلى خارج البلاد، سعيًا نحو حرية الحركة واستقلاليتها.
كما شهدت السنوات الأخيرة تأسيس منظمات حقوقية جديدة في الخارج تضم في عضويتها وبين فريق عملها نشطاء وكوادر من داخل البلاد. وهناك قطاع محدود من المنظمات الحقوقية استمر في العمل العلني، متحملا كافة المخاطر والتهديدات ثمنًا لذلك الاختيار الصعب.
ونتج عن الإجراءات الموجهة ضد منظمات حقوق اﻹنسان صعوبة في تنسيق المواقف واﻷعمال المشتركة بين المنظمات الحقوقية، حيث انخفض مستوى التنسيق بشكل كبير أمام تردد كثير من الجمعيات في الانضمام العلني إلى بيانات وتقارير قد تعرِّض أعضاءها لمزيد من اﻹجراءات الانتقامية، أو بسبب تغير التوجهات السياسية لبعض المنظمات، واختلافها في القراءة السياسية للأحداث التي شهدتها مصر بعد 3 يوليو/تموز 2013، وتباين مواقفها إزاء تدهور حالة حقوق الإنسان. كما انخفض مستوى التنسيق والتواصل بين المنظمات الحقوقية والقوى السياسية المعارضة اليسارية والليبرالية، خاصة مع تردد عدد من هذه القوى في كثير من المناسبات في إدانة ممارسات السلطة الحاكمة.
في المقابل، حافظت بعض المنظمات الحقوقية على مستوى التنسيق في المواقف العلنية، خاصة مع انضمام جمعيات شبابية جديدة تضم في عضويتها كوادر داخل مصر وخارجها، وكذلك استمرار تأسيس بعض المبادرات والتنسيقيات المحدودة، أو تنظيم أنشطة نقابية داعمة للحريات، وإصدار بيانات مشتركة من حين لآخر. وبرزت امتدادات خارجية لبعض المنظمات الحقوقية، من أجل تسهيل عملها وإدارتها، وحتى يستمر وجودها الميداني والبشري في الداخل بصور مختلفة. كما أن بعض المنظمات والتحالفات الجديدة التي انطلقت من الخارج مؤخرًا، هي نتاج اتفاق وعمل مشترك بين فريقٍ داخل البلاد وفريقٍ خارجها.
ثالثًا: عَسْكرة الاقتصاد وامتلاك الدولة
لم يكن التحول الجذري للاقتصاد العسكري في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي نتيجة لاقتصاد سياسي يطغى عليه الجانب العسكري بشكل متزايد، بقدر ما هو نتيجة لتسلسل هرمي للضباط يسعى إلى ابتزاز أكبر قدر ممكن من الامتيازات خلال عهده في السلطة. فقد أدى عدم الاتساق والطابع غير الرسمي والافتقار العام إلى البيانات حول العمليات الاقتصادية للقوات المسلحة المصرية؛ إلى صعوبة مقارنتها بالمؤسسات العسكرية الأخرى ذات المحافظ الاقتصادية.
وفي إطار هيمنة المؤسسة العسكرية المتصاعدة على المقدرات الاقتصادية للدولة بقطاعاتها المختلفة، تبرز مجموعة من الاعتبارات والمؤشرات الأساسية:
- 1. في إطار السعي إلى تحقيق التنمية الاقتصادية، يجد نظام الحكم منذ يوليو/تموز 2013 نفسه محاصرًا في كثير من الجهات، فمن غير المرجَّح أن تسمح له علاقته السيئة مع القطاع الخاص بتبنِّي سياسات يمكن أن تساعد في إعادة إطلاق عجلة النمو الاقتصادي. كما أن عزوف النظام عن إغضاب القاعدة الداعمة له في جهاز الدولة البيروقراطي جعلته عاجزًا عن تطبيق إصلاحات تُعتبر ضرورية جدًّا نظرًا إلى المعوقات المالية في مصر.
وتمثَّلت استجابة النظام لهذه التحديات في محاولة دفع عجلة النمو من خلال زيادة الدور الاقتصادي للشركات المملوكة للجيش، والإبقاء على الجيش راضيًا عن النظام، ومهيمنًا على مشاريع الأشغال العامة. وقد وسَّع الجيش نشاطه الاقتصادي في مشاريع البنية التحتية والمرافق العامة، عبر شراكة مباشرة مع الشركات العربية والأجنبية، ليس فقط بهدف زيادة الأرباح أو كسب حصة أكبر من السوق، وإنما -وهو الأهم- بهدف دعم إعادة تأسيس الدولة السلطوية(38).
- 2. إن تمدُّد الشركات المملوكة للجيش لتطال القطاع العقاري وقطاع تطوير الأراضي، ومنح الجيش هامشًا واسعًا من الحرية لاتخاذ قرارات سياسية، قد يؤدِّيان إلى سوء استخدام السلطة. ويُسبِّب ذلك أيضًا تضاربًا محتملًا في المصالح، لأن إشراف الجيش على تطوير الأراضي العامة ينبغي أن يركِّز على تعزيز الصالح العام، في حين أن دوره كجهة فاعلة في السوق يهدف بشكل أساسي إلى تحقيق أقصى حدٍّ من الربح للشركات المملوكة له.
- 3. إذا كان النشاط الاقتصادي الذي يمارسه الجيش قد يحقِّق نموًا محددًا ومؤقتًا، فمن غير المرجَّح أن يشكِّل استراتيجية مستدامة لتحقيق التعافي الاقتصادي، لأن القطاع الخاص المصري كبير جدًّا بحيث لا يمكن تجاهله أو الاستغناء عنه. وقد يكون خطيرًا أيضًا ضخُّ استثمارات القطاع الخاص المستقبلية في الاقتصاد من خلال شراكات مُبهمة مع الجيش، ذلك أن هذه الاستثمارات ستعتمد اعتمادًا كبيرًا على الدور السياسي للجيش، مع احتمالات سوء توزيع الموارد العامة من أجل اكتساب شعبية أو إرضاء دائرة أنصاره الأساسيين(39).
- 4. يعتمد الاقتصاد المصري بشكل كبير على القطاع العام الذي تقوده المؤسسة العسكرية، وقد أثبت عدم قدرته على تحقيق النمو طويل الأجل. ورغم أن نظام الحكم نفَّذ العديد من الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي ولم تتمكن الحكومات المصرية السابقة من إنجازها، مثل تحرير سعر الصرف، وخفض الدعم على الوقود والغذاء، وتنفيذ تدابير تقشُّفية معينة، ورفع أسعار الفائدة لتعويض الأثر التضخمي لتخفيض قيمة العملة، ووجود خطوات لإصلاح بيئة الأعمال من خلال تحديث بعض القوانين والقواعد التنظيمية.. رغم ذلك فإن هذه الإصلاحات لم تُوقِف تراجع الاقتصاد المصري الكبير عن نظرائه في الدول الناشئة.
ومن منظور صندوق النقد الدولي والأسواق المالية الدولية، كان برنامج مصر ناجحًا لأنه ساعد في تخفيض حدة الاختلالات والتشوهات على صعيد الاقتصاد الكلي وفي استقرار الأوضاع المالية، لكنه فشل في تحقيق الهدف الأساسي والأهم وهو وقف اعتماد الاقتصاد المصري على القطاع العام، بل تحويله إلى اقتصاد تحركه قوى السوق ويقوده القطاع الخاص، وهذا الهدف يتطلب تقليصًا تدريجيًّا للدور المباشر للمؤسسة العسكرية المستحكمة في قطاعات مهمة من الاقتصاد(40). لكن الحكومة تجاهلت القضية برمتها وشرعت في توسيع نطاق دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد بشكل واضح وصريح، وهو ما جعل “الإصلاحات” تتم على حساب المواطنين وباقي المكونات الاقتصادية في المجتمع.
- 5. يستند الاقتصاد العسكري إلى قدرة القوات المسلحة المصرية على الاستفادة من دورها الرسمي الأساسي في الدفاع عن الوطن، والسلطات الرسمية وغير الرسمية التي تتمتع بها داخل الدولة المصرية، والتي تمَّ ترسيخها في القوانين ولوائحها التنفيذية والمراسيم الرئاسية وغيرها من التشريعات التي تُفوِّض وزارة الدفاع والهيئات التابعة لها، ووزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع؛ الانخراطَ في أشكال متنوعة من النشاط الاقتصادي خارج المجال المحدد والأضيق من الإنتاج العسكري.
- 6. خلال العقود الأربعة الماضية، وتحديدًا بعد توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل، اكتسبت المؤسسة العسكرية الحق في منح العقود التجارية والقيام باستثمارات كبيرة، وتقديم “هدايا” مالية أو مادية أخرى -كالأراضي والجسور والطرق السريعة والأغذية- إلى هيئات حكومية أخرى ومنظمات شبه حكومية وإلى الجمهور العام، من دون الحاجة إلى موافقة مسبقة أو تصديقٍ لاحق من أي سلطة أخرى في الدولة. كما أن الهيئات العسكرية لا تضطر إلى التنسيق مع أي هيئة حكومية مسؤولة عن الإدارة أو التخطيط الاقتصادي عند تصميم أو تنفيذ استراتيجياتها التجارية والإنتاجية والاستثمارية الخاصة، أو تشكيل الشراكات التجارية، أو التصرف في الإيرادات.
- 7. فاقمت قدرة المؤسسة العسكرية على حجب أنشطتها باسم الأمن القومي غموضَ المعلومات المتعلقة بالمعاملات المالية، وهو ما أسهم في إحداث بيئة قابلة للمتاجرة الداخلية وتحويل موارد الدولة وانتهاك القوانين بعيدًا عن أي رقابة، فالجزء الأكبر من القطاع الاقتصادي العسكري الرسمي لا يقع ضمن اختصاص هيئات التدقيق ومكافحة الفساد في مصر، وأقوى الهيئات الرقابية -هيئة الرقابة الإدارية- يرأسها ويعمل فيها عدد كبير من الضباط السابقين من القوات المسلحة، مما يضمن وقاية إضافية من التفتيش(41).
- 8. وضع تشريع 2014 الذي تمَّ تجديده عام 2016، جميع “المرافق العامة والحيوية” ضمن الاختصاص القضائي العسكري حتى العام 2021، موعد تجديد القانون. كما تعزَّز دور المؤسسة العسكرية في استغلال الأراضي العامة والتحكُّم في عملية استخدامها من قِبَل القطاع الخاص، مما زاد فرص السعي إلى تحقيق الريع والفساد على نطاق واسع(42).
- 9. بالإضافة إلى السيطرة الاقتصادية المباشرة للمؤسسة العسكرية، ظلَّت قطاعات مهمة من الاقتصاد تحت التأثير غير المباشر للمؤسسات الأمنية والعسكرية من خلال شبكة واسعة من كبار الضباط المتقاعدين الذين يشغلون مناصب إدارية عليا، أو يعملون كأعضاء في مجالس إدارة شركات في جميع فروع المؤسسات العامة المترامية الأطراف، وكذلك في أجزاء من القطاع الخاص. كما يتولَّى رئاسة غالبية السلطات المحلية في الأقاليم وجميع الهيئات العامة تقريبًا (في النقل البحري والطيران والسكك الحديدية وقناة السويس) جنرالاتٌ سابقون أو ضباط متقاعدون رفيعو المستوى. وتساعد هذه الشبكة في ضمان بقاء السياسات الاقتصادية والقرارات الاستراتيجية لشركات القطاع الخاص ضمن المعايير التي تحددها المؤسسة العسكرية(43).
- يتغلغل الضباط العسكريون الموجودون في الخدمة الفعلية وكذلك المتقاعدون في بيروقراطية الدولة، خاصة منذ العام 2011، عندما بدأت العقود الحكومية الجديدة والسيطرة على التدفقات الاستثمارية الضخمة من الخليج؛ في دفع توسع الاقتصاد العسكري. كما تُشكِّل شبكات الامتياز التكافلية سِمَةً أساسية من سمات الطبقة الحاكمة التي استغلت الإنفاق العالي على الدفاع والمليارات من المساعدات العسكرية الأجنبية ومجموعة الامتيازات المؤسساتية التي تمنحها لها الدولة.
- يعمل الاقتصاد العسكري مثل حاضنة امتيازات للطبقة الحاكمة، فالضباط العسكريون يتمتعون بإمكانيات غير متكافئة للحصول على الإعانات، والصفقات السياسية والاقتصادية، والتناوب داخل وخارج الجهات الحكومية والشركات الخاصة للاستفادة من العلاقات الشخصية والوصول إلى معلومات مقيدة. وفي الكثير من الأحيان، يتلقى ضباط رواتب من قبل شركات خاصة للعمل في مناصب العلاقات العامة أو الشؤون الحكومية، لأن بإمكانهم تسريع الحصول على التراخيص والإعفاءات التنظيمية والخدمات الحكومية الأخرى.
- يرى صانعو القرار/العسكريون مؤسستهم على أنها مصدر للتغيير الهيكلي، وأن الدعم الحكومي والتفاخر المؤسساتي يدفعان القوات المسلحة المصرية إلى توفير السلع الأساسية والرعاية الطبية بأسعار أقل من السوق. ويمكن للمؤسسة العسكرية أن تواصل حشد الدعم من المصريين، لأن عملها على توفير الخدمات الجماعية، مثل البنية التحتية والسلع الأساسية والرعاية الصحية؛ أكثرُ وضوحًا لعامة الناس من أنشطة الفساد والاحتيال والهدر التي تمارسها هذه المؤسسة، والتي خلقت طبقة من المصريين فاحشي الثراء يعتمد استمرارُ امتيازاتهم على دولة سيئة الإدارة لا تستطيع فرض ضرائب على الأغنياء، أو منع التدفق غير المشروع لرأس المال، أو فرض حماية للعمالة أو البيئة، أو التدخل لكبح مراكمة الثروة(44).
- يؤكد حجم المشاريع العقارية والبنية التحتية على أهمية سيطرة وزارة الدفاع على استخدام جميع أراضي الدولة، كما منح الرئيس عبد الفتاح السيسي وزارة الدفاع حق الانتفاع الاقتصادي الكامل على 21 طريقًا سريعًا بين المدن وشريطًا بعرض 4 كلم بجانبها، مما يمكِّنها من جباية رسوم المرور، وتشغيل أو منح الامتيازات التجارية (بما في ذلك الخدمات على جانب الطريق والإعلان)، ووضع ومراقبة شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية (بما في ذلك كبل الألياف البصرية). وتقع المخالفات أو الحوادث أو النزاعات التجارية التي تحدث على هذه الطرق أو التي تتعلق بها تحت اختصاص المحاكم العسكرية، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع المناطق والمنشآت العسكرية.
- تتمتع المؤسسة العسكرية بالاستفادة غير المقيدة من المياه التي يتم رفعها من الأحواض الجوفية أو المنقولة عبر القنوات من بحيرة ناصر أو نهر النيل، بغض النظر عن الجدوى الاقتصادية أو الآثار البيئية. كما امتدت هيمنة المؤسسة إلى استخراج الموارد الطبيعية، ففي عام 2015 اشترط مرسوم حكومي موافقة وزارة الدفاع لاستخراج الثروة المعدنية، وفوَّضها لتحصيل الرسوم على جميع المخرجات في مواقع الإنتاج. كما حصلت الوزارة على حقوق حصرية للاحتفاظ بعائدات استخراج ومعالجة المواد الخام من المناجم والمحاجر على الأراضي التي تسيطر عليها المؤسسة العسكرية.
وأنشأ جهاز مشروعات الخدمة الوطنية مصانع للرخام والغرانيت بسعة إنتاجية تفوق حجم إجمالي الإنتاج الوطني من هذا المنتج، وهو ما يضعها في موقع احتكاري محتمل. واستحوذ الجهاز على حصة الأغلبية في الشركة العامة التي تسيطر على موقع الرمال السوداء الوحيد في مصر، الذي ينتج المعادن الثقيلة مثل التيتانيوم والزركونيوم. كما استحوذ على حصة في التنقيب عن الذهب، ووسع دوره في إنتاج وتسويق الفوسفات والأسمدة. وتقع الغالبية العظمى من مواقع الاستخراج في المناطق الخاضعة للسيطرة العسكرية، والتي من خلالها تشق المؤسسة العسكرية الطريق أمام حصة الدولة في هذه القطاعات وتُقحِم نفسها في التجارة الخارجية.
وبدلًا من فتح المجالات الاستثمارية الجديدة، توسعت الشركات العسكرية في قطاعات السلع القابلة للتداول، مما ألحق خسائر فادحة بالمنتجين من القطاع الخاص ونقل حصتهم في السوق إلى الشركات العسكرية. وفي عام 2019، وضع الرئيس السيسي الأراضي المحيطة بالوجهة السياحية الرئيسية في الغردقة و47 جزيرة في البحر الأحمر تحت سيطرة وزارة الدفاع(45).
خاتمة
أولًا: من الناحية المفاهيمية، وفي إطار ما أثارته الثورة المصرية من جدل حول مفاهيم الثورة والانقلاب والتحول السياسي والتغيير السياسي، انتهى الباحث إلى:
1ـ أن ما حدث يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011 يُشكِّل نموذجًا من نماذج التغيير الثوري، استنادًا إلى توفر الضوابط الشكلية والمنهاجية لمفهوم الثورات باعتبارها “هبَّة فجائية غير مخططة تشارك فيها كل أطياف الشعب، وتعبِّر عن إرادة جمعية للمواطنين، سعيًا نحو تحقيق أهدافهم المشتركة. وهي شكل من أشكال التغير السياسي، ترتب عليها لاحقًا عدة تغييرات وتحولات سياسية، ارتبطت بنظام الحكم وبنيته التشريعية والمؤسسية والتنفيذية”.
- 2. ما حدث يوم 3 يوليو/تموز 2013 هو انقلاب عسكري، استنادًا إلى توفر الضوابط الشكلية والمنهاجية لمفهوم الانقلاب، والذي يرتبط بتدخل القوات المسلحة بما لديها من قوة عسكرية وأمنية رادعة للإطاحة بالنظام السياسي القائم الذي جاء وفق آليات ديمقراطية متعارف عليها.
ثانيًا: أن المؤسسة العسكرية المصرية التي أدارت مصر بعد ثورة 25 يناير بشكل مباشر (على مرحلتين: الأولى فترة حكم المجلس العسكري بقيادة المشير حسين طنطاوي بين فبراير/شباط 2011 ويونيو/حزيران 2012ـ، والثانية بعد الانقلاب منذ يوليو/تموز 2013 وحتى يناير/كانون الثاني 2021)، وبشكل غير مباشر (خلال العام الأول من حكم الرئيس محمد مرسي، حيث هيمنت على مؤسسات الدولة، ووجهت العمليات السياسية والاقتصادية والإعلامية بما يؤدي إلى إفشال حكمه وتأجيج الغضب الشعبي ضده، وذلك بين يونيو/حزيران 2012 ويونيو/حزيران 2013).
وخلال السنوات العشر الماضية، تعددت السياسات والممارسات التي تبنتها المؤسسة العسكرية الحاكمة بمصر، في إدارتها للتحولات السياسية، ومن ذلك:
- 1. ترسيخ السلطوية والاستبداد عبر ترسانة من القوانين والتشريعات والمؤسسات التي يتم بها الهيمنة على مختلف مقدرات الدولة، وتأميم كل القطاعات السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والدينية، واستخدامها كأدوات وظيفية تحت الإشراف المباشر للمؤسسة العسكرية.
- الانتهاك الممنهج للحقوق والحريات سواء عبر عمليات القتل المباشر في الميادين والساحات ضد المتظاهرين السلميين، أو القتل خارج إطار القانون في مواجهتها للمعارضين السياسيين، تحت دعاوى واهية لا تستقيم مع الاتفاقيات والمعاهدات القانونية والحقوقية، الوطنية والدولية، أو عبر عمليات الاعتقال والاختفاء القسري، والمطاردات والملاحقات الأمنية التي لم تتوقف ضد المعارضين وأسرهم منذ 3 يوليو/تموز 2013 وحتى الآن (يناير/كانون الثاني 2021).
- 3. فرض هيمنة على كل القطاعات الاقتصادية للدولة، ونقل ملكيتها إلى المؤسسة العسكرية التي أصبحت أكبر مالك وأكبر مستثمر وأكبر شريك تجاري في مصر منذ 3 يوليو/تموز 2013، مع إغراق البلاد في ديون داخلية وخارجية (وصلت رسميًّا في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 إلى 124 مليار دولار)، واستنزاف جزء كبير من مقدرات الدولة في مشروعات وهمية بهدف تحقيق شرعية إنجاز زائفة للنظام الحاكم (مثل تفريعة قناة السويس الجديدة، والعاصمة الإدارية الجديدة، والمقرات الحكومية الجديدة في مناطق خارج القاهرة).
- تبني سياسات الإفقار المتعمد للمواطنين، والتوسع في قوانين وتشريعات الجباية، ورفع الدعم عن المواطنين في السلع الأساسية، مما ترتب عليه ارتفاع نسبة الفقر إلى نحو 60% وفق المؤشرات الدولية حول الحد الأدنى للفقر.
ثالثًا: في ظل سياسات القمع والقهر والانتهاك والتأميم والهيمنة التي قام عليها نظام الحاكم، لم يتوقف الحراك السياسي والاجتماعي للقوى الثورية، وإِنْ كان بدرجات ومستويات وأدوات مختلفة خلال مرحلة ما بعد 3 يوليو/تموز 2013، حيث كانت بدايته مع الاعتصامات الواسعة في عدد من الميادين الكبرى، والتي تمَّ فضها بالقوة من جانب النظام في رابعة والنهضة ورمسيس وغيرها، ثم الدعوات السنوية إلى التظاهر في ذكرى 25 يناير من كل عام، وكذلك في فترات ومناسبات مختلفة (كما في يوم الأرض خلال أبريل/نيسان 2016 احتجاجًا على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين للسعودية، أو في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 فيما عُرِف باسم “ثورة الغلابة”، أو دعوات سبتمبر/أيلول 2019 وسبتمبر/أيلول 2020).
كما اتخذ الحراك أشكالًا أخرى عبر الحركات الطلابية، والنقابات المهنية، والمنظمات الحقوقية، والوقفات الاحتجاجية، ومبادرات التسوية، والمواجهة الإعلامية عبر قنوات فضائية ومنصات إلكترونية وشبكات تواصل اجتماعي أصبحت تشكِّل إحدى أدوات كشف انتهاكات النظام، ونشر الحقائق حول ممارساته، في ظل هيمنته الكاملة على الإعلام الداخلي -الحكومي والخاص- ورغم إقراره العديد من القوانين والتشريعات لملاحقة القنوات والمنصات والشبكات الإعلامية المعارضة له.
رابعًا: يرتبط ضعف الحراك السياسي والاجتماعي بشأن قدرته على تحقيق وإدارة تغيير سياسي حقيقي في مواجهة النظام -بدرجة أساسية- بالعديد من أوجه القصور الذاتي التي تعاني منها القوى السياسية الثورية والمعارضة، سواء على مستوى بناء البديل الوطني الجاهز لقيادة الثورة وإدارة الحراك من ناحية، أو بناء المشروع السياسي والفكري المتكامل للثورة من ناحية ثانية، أو بناء القيادة السياسية الموثوقة والمتوافق عليها من ناحية ثالثة، أو الإدارة الفعلية للحراك السياسي والاجتماعي والحقوقي وللعلاقات الدولية من ناحية رابعة. وهي أمور تحتاج إلى استكمال حقيقي وجاد، إذا كانت هناك إرادة حقيقية لاستكمال مسار ثورة 25 يناير.
المراجع
(1) انظر في أدبيات هذا الاقتراب:
– عبد الفتاح ماضي، “العلاقات المدنية-العسكرية والجيوش والتحول الديمقراطي”، مؤتمر تحولات الديمقراطية في العالم العربي، (مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية، بيروت، 28-29 يونيو/حزيران 2012).
– Rebecca L. Schiff, The Military and Domestic Politics: A Concordance Theory of Civil-Military Relations, )Routledge, 2008(.
(2) أحمد إبراهيم خضر، “الفرق بين مصطلحي التغيرات والمتغيرات”، الألوكة، 2 مارس/آذار 2013، (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bitly/35yoRni.
(3) محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، (الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1989)، ص 506.
(4) محمد المرجان، “التحولات المجتمعية ومفهوم الاستعصاء المتجدد”، المجلة المغربية للعلوم الإنسانية والاجتماعية (العدد 6، 2019)، ص 75-84.
(5) عبد اللطيف كداي، “التحولات الاجتماعية القيمية للشباب المغربي: محاولة للرصد والفهم”، مجلة كلية علوم التربية (العدد 7، 2015)، ص 79.
(6) محمد سعيد عبد المجيد وممدوح عبد الواحد الحيطي، “التحولات الاجتماعية والسياسية وسمات الشخصية المصرية: دراسة ميدانية”، حوليات آداب (عين شمس، مصر، المجلد 43، 2015)، ص 370.
(7) إبراهيم إسماعيل عبده محمد، “التحولات الاجتماعية ما بعد الربيع العربي وانعكاساتها على الشباب من منظور علم الاجتماع السياسي: دراسة حالة مصر خلال الفترة من 2011-2018″، مجلة جيل للدراسات السياسية والعلاقات الدولية، (بيروت، العدد 14، يناير/كانون الثاني 2018)، ص 115-120.
(8) Ciande E. Welch and Maris Bunker, Revolution and Political Change (California: Duxbury press ,1972), 34.
(9) فاروق يوسف، الثورة والتغيير السياسي مع التطبيق على مصر، (القاهرة، مكتبة عين الشمس، 1979)، ص 10.
(10) William C. Mitchell, The American Polity: A Social and Cultural Interpretation (New York: The Free Press of Glencoe, 1962), Book Reviews, Henry M. Holland, Social Forces, Vol. 42, Issue. 1, (October 1963):119–121.
(11) عبد الغفار رشـاد محمد، “نظريات التنمية السياسية”، (القاهرة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1999-2000)، ص 48-50.
(12) يزيد صايغ، “المجلس العسكري المصري في المرحلة المقبلة”، مركز كارنيغي الشرق الأوسط، 15 ديسمبر/كانون الأول 2011، (تاريخ الدخول: 3 يناير/كانون الثاني 2021)، https://bit.ly/3bKA5Jp.
(13) يزيد صايغ، “المرحلة الانتقالية الثانية في مصر: مرسي مقابل المجلس”، كارنيغي الشرق الأوسط، 28 يونيو/حزيران 2012، (تاريخ الدخول: 3 يناير/كانون الثاني 2021)، https://bit.ly/38Cvu9V.
(14) يزيد صايغ، “العلاقة المدنية-العسكرية الجديدة في مصر”، كارنيغي الشرق الأوسط، 10 يناير/كانون الثاني 2013، (تاريخ الدخول: 3 يناير/كانون الثاني 2020)، https://bit.ly/3bziAvk.
(15) نادين عبد الله، “بعد 7 سنوات من الثورات العربية: الحركات الاجتماعية في مصر وسوريا بين المقاومة والانحسار والتحول”، مبادرة الإصلاح العربي، 31 مايو/أيار 2020، (تاريخ الدخول: 1 أكتوبر/تشرين الأول 2020)، https://bit.ly/3fLriXf.
(16) يبرز في هذا السياق ما قامت به المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وقدرتها على الإفراج عن قادتها الذين اعتقلتهم السلطات المصرية في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بعد إدارة حملة واسعة من العلاقات العامة الدولية، أفرزت ضغوطًا واسعة على النظام الذي رضخ للضغط الدولي عليه في هذا الملف.
(17) عمرو حمزاوي، “عن الحراك المجتمعي الجديد في مصر: مقاومة السلطوية بعيدًا عن السياسة الرسمية”، مركز كارنيغي الشرق الأوسط، 5 نيسان/أبريل 2017، (تاريخ الدخول: 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bit.ly/35uwbjN.
(18) المرجع السابق.
(19) “الموقف المصري عقب الذكرى التاسعة لثورة يناير”، المعهد المصري للدراسات، 4 فبراير/شباط 2020، (تاريخ الدخول: 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، .https://bit.ly/36AJdx9
(20) “احتجاجات الإسكندرية بداية ثورة ضد السيسي”، بوابة الشرق، 10 سبتمبر/أيلول 2020، (تاريخ الدخول: 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bit.ly/2FN0S9X.
(21) وسام فؤاد، “احتجاجات وضع الحدود في مصر”، المعهد المصري للدراسات، 23 سبتمبر/أيلول 2020، (تاريخ الدخول: 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bit.ly/2ViUJqe.
(22) وسام فؤاد، “مصر: المبادرات.. الركن الثالث أو الموات”، المعهد المصري للدراسات، 9 يناير/كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول: 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bit.ly/3ll5kvH.
(23) المرجع السابق.
(24) المرجع السابق.
(25) عصام عبد الشافي، “بناء التحالفات بين الجماعات السياسية: خبرات وسيناريوهات”، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، 13 يناير/كانون الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 13 يناير/كانون الثاني 2021)، https://bit.ly/39sUpfs.
(26) نادية مصطفى، “تقييم الأداء السياسي للقوى الإسلامية.. لماذا الآن؟”، شبكة أون إسلام، 15-19 فبراير/شباط 2012، (تاريخ الدخول: 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bit.ly/39powo7.
(27) خليل العناني، “حالة الإسلاميين في مصر بعد عامين على الثورة”، الحياة، 23 يناير/كانون الثاني 2013.
(28) المرجع السابق.
(29) شهدت حملات الاعتقال الممنهج عددًا من التواريخ المهمة، من بينها:
(أ) في 3 يوليو/تموز 2013 ألقت الشرطة القبض على محمد سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب (2012) ورئيس حزب الحرية والعدالة، ورشاد البيومي نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، ووجهت إليهما اتهامات عدة بقتل المتظاهرين في الأحداث التي شهدتها البلاد بعد 30 يونيو/حزيران 2013.
(ب) في 5 يوليو/تموز 2013، ألقت الشرطة القبض على خيرت الشاطر النائب الأول للمرشد العام لجماعة الإخوان، ووجهت إليه ذات الاتهامات.
(ج) في 29 يوليو/تموز 2013، تم القبض على رئيس حزب الوسط أبو العلا ماضي ونائبه عصام سلطان، بتهمة التحريض على قتل المتظاهرين وإهانة القضاء.
(د) في 20 أغسطس/آب 2014 تمَّ القبض على المرشد العام للإخوان محمد بديع، وتبعه الأمين العام لحزب الحرية والعدالة محمد البلتاجي يوم 29 من الشهر ذاته، ووجهت إليهما اتهامات بالتحريض على العنف والقتل في “أحداث رابعة العدوية والنهضة” وبالتخابر مع دول أجنبية.
(هـ) في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2013، أوقفت الشرطة عصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة، ووجهت إليه ذات الطائفة المعتادة من الاتهامات.
(30) لتشخيص العوامل التي ساعدت في تماسك جماعة الإخوان المسلمين في مصر، راجع: باربرا زولنر، “البقاء على رغم القمع: كيف استطاعت جماعة الإخوان المسلمين المصرية الصمود والاستمرار؟”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 18 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bit.ly/3oDzPPZ.
(31) فاطمة رمضان وعمرو عادلي، “السلطوية منخفضة التكاليف: نظام السيسي والحركة العمالية في مصر منذ العام 2013″، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 17 سبتمبر/أيلول 2015، (تاريخ الدخول: 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bit.ly/38zZZNR.
(32) عمرو عادلي، “النظام المصري ومعضلات إعادة تأسيس السلطوية”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 21 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، .https://bit.ly/3sliZHR
(33) حمزاوي، “عن الحراك المجتمعي الجديد في مصر”، مرجع سابق.
(34) عمر عاشور، “الحصاد الأمني لانقلاب السيسي”، الجزيرة نت، 5 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bit.ly/35ZySdL.
(35) عمر عاشور، “في ذكرى المذبحة.. رابعة وأبعادها السياسية”، الجزيرة نت، 18 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، . https://bit.ly/2JO2ceC
(36) Elissa Miller, Margaret Sutter, “Case No.173: The State of Egypt’s NGOs’,” The Atlantic Council, March 29, 2016, (accessed: November 12, 2020). https://bit.ly/3iiEUuJ.
(37) Human Rights Watch, “Egypt: Unjust Verdict in Rights Workers’ Trial”, June 4, 2013, (accessed: November 12, 2020). https://bit.ly/39CK966.
(38) Amr Hamzawy, “Legislating Authoritarianism: Egypt’s new Era of Repression,” Carnegie Endowment for International Peace, March, 2017, (accessed: November 12, 2020). https://bit.ly/2JBTzUk.
(39) عادلي، “النظام المصري ومعضلات إعادة تأسيس السلطوية”، مرجع سابق.
(40) Yezid Sayigh, “Owners of the Republic: An Anatomy of Egypt’s Military Economy, Program on Civil-Military Relations of the Arab States (CMRAS) of the Carnegie Middle East Center, November 18, 2019.
(41) في مايو/أيار 2011 أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم بعد سقوط حسني مبارك، مرسومًا نقل سلطة تحديد ما إذا كان يجب محاكمة ضباط القوات المسلحة المتهمين بمكاسب غير مشروعة في المحاكم العسكرية أو المدنية؛ إلى النيابة العامة في وزارة الدفاع، حتى لو كان المشتبه بهم قد تركوا الخدمة. انظر، المرجع السابق.
(42) جورج العبد، “الاقتصاد المصري: في براثن الدولة العميقة”، كارنيغي للشرق الأوسط، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2020، (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bit.ly/3q6pBb4.
(43) Reuters, “From war room to boardroom. Military firms flourish in Sisi’s Egypt,” May 16, 2018, (accessed: November 12, 2020). https://reut.rs/38Bhr4l.
(44) شانا مارشال، “الطبقة الحاكمة الناشئة في مصر”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2020، (تاريخ الدخول: 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، .https://bit.ly/35Wfe2a
(45) يزيد صايغ، “المؤسسة العسكرية المصرية كرأس حربة لرأسمالية الدولة”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2020، (تاريخ الدخول: 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، https://bit.ly/3oDiGpz.