مقدمة 

في 2016، قرَّر ولي ولي العهد، آنذاك، محمد بن سلمان، طرح شركة أرامكو النفطية السعودية للاكتتاب في الأسواق المالية بصفته رئيسًا لمجلسها الأعلى، بغرض تحصيل نحو 100 مليار دولار من بيع 5 بالمئة من أسهم الشركة، ليستثمرها في خطته الاقتصادية التي تنشد إخراج المملكة من الاعتماد شبه الكلي على مداخيل النفط في مصروفاتها، وإيجاد مداخيل من مصادر أخرى، تستند إلى تنويع الاقتصاد بتشجيع المبادرة الخاصة وجذب الاستثمارات الدولية، والمراهنة على الموارد المستدامة مثل التعليم والتكنولوجيا.

يُعَدُّ القرار، وإن تم تأجيله مؤخرًا بتدخل من الملك سلمان، كما نقلت وكالة رويترز، تحولًا معاكسًا للمسار الذي درجت عليه المملكة في التعامل مع أرامكو، وهو السعي الحثيث منذ إنشائها في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي إلى الامتلاك الحصري لها، وستغيِّر تداعياته -إن تمسكت قيادة المملكة بتطبيقه- شكلَ المملكة المعهود.

للبحث في هذه التداعيات، نحتاج إلى فحص الترابطات التي تكوَّنت بين المملكة وشركة أرامكو

في المنظور التاريخي، حتى نتبين مدى التشابك القائم بينهما، وعلاقات التأثير والتأثر التي ستنتج عن أي تحول يحصل لأي منهما. ويسعفنا كتاب “الشركة السعودية: سعي المملكة العربية للربح والسلطة” للكاتبة إلين والد، الصادر عن بيغاسوس للكتب، في ربيع 2018، بمنظور تاريخي عن الترابطات بين قيام المملكة وتحديثها والتحولات التي عرفتها شركة أرامكو.

لا شيء يعلو على الربح 

استعانت إلين والد في استقصائها للشبكة العلائقية التي تكوَّنت بين المملكة العربية السعودية وشركة أرامكو بمستندات الخارجية الأميركية، وأداة المقابلة؛ حيث أجرت حوارات مع قيادات الشركة والعاملين فيها، فضلًا عن الكتابات والدراسات التي تطرقت للموضوع، وتوصلت إلى عدد من الخلاصات شيَّدت عليها الكتاب:

1- كل ما ينفع أرامكو ينفع السعودية.

2- الربح هو الهدف الوحيد للشركة وتجنب خلطه بأي اعتبارات سياسية.

3- السعي المتدرج لرفع مداخيل المملكة من أرباح الشركة وامتلاك أصولها.

4- الجمع بين امتلاك الشركة والخبرات التقنية والتسييرية المتراكمة منذ تأسيسها.

5- الفصل التام بين تسيير الشركة بمنطق الأعمال وتعظيم الأرباح وملكية الحكومة السعودية لها.

6- تفادي الدخول في صراع مكشوف مع الولايات المتحدة حول أرامكو.

يعج الكتاب بالقصص والتفاصيل للتدليل على هذه الأفكار الرئيسية، حتى كأنه فيلم سينمائي، لكن هناك بعض الأحداث التي أوردها والتفسيرات المقدمة لها، تبدو مبتكرة وقوية في التدليل على المراد.

الحدث الأول، هو تجربة رئيس وزراء إيران الأسبق، محمد مصدق، في تأميم النفط الإيراني في الخمسينات من القرن الماضي، وقد كانت النتيجة كارثية. استعانت الشركة البريطانية للبترول التي كانت تستغل البترول الإيراني بحكومتها لفرض حصار على تصدير النفط الإيراني، فواجه الاقتصاد صعوبات أحدثت اضطرابات اجتماعية وسياسية أضعفت مصدق. ولم يكن الانقلاب البريطاني/الأميركي عليه (19 أغسطس/آب 1953)، في نظر الكاتبة، إلا رصاصة الرحمة التي تلت موته السياسي (سُجِن ثلاثة أعوام ثم أُطلق سراحه واستمر رهن الإقامة الجبرية حتى وفاته عام 1967).

كانت السعودية تراقب ذلك، واستخلصت درسين: ينبغي تفادي الـتأميم؛ لأن نتائجه ستكون سلبية على سلامة الشركات البترولية وفاعليتها وعلى قدرة الدول على تسويق البترول في الأسواق الخارجية. وقد التزمت قيادة المملكة بهذه الخلاصة بعد ذلك، وجعلتها سياسة ثابتة.

من جانب آخر، استعانت المملكة بالخوف الذي أثاره تأميم مصدق للنفط الإيراني للضغط على الشركات الأميركية المالكة لأرامكو لتحصيل تنازلات ترفع نسبة أرباحها من مداخيلها.

ورث وزير النفط السعودي في السبعينات، أحمد زكي يماني، هذه الخبرة، واستعملها بمهارته القانونية ليحقق هدفين كانت القيادة السعودية تضعهما دائمًا نصب أعينها: امتلاك الشركة ورفع أرباحها.

كانت أرامكو موزعة بين أربع شركات أميركية: إكسون وشيفرون وتكساكو وموبيل، بنسب حسب التتالي: 30%، 30%، 30%، 10%. وكانت استراتيجية يماني امتلاك الحصص جميعًا مع تفادي التأميم.

يُلقي الكتاب ضوءًا جديدًا على دور السعودية في وقف تصدير النفط الذي أقرَّته الدول العربية في أوبك ردًّا على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في حرب 1973. تختلف الكاتبة مع النظرة السائدة التي تفسر سلوك المملكة المساند لحظر تصدير النفط لاعتبارات أيديولوجية تتعلق بالتضامن العربي وتفسِّره باعتبارات تعظيم الربح التي تتمسك بها أرامكو. تستند الكاتبة في ذلك إلى أن خلال السبعينات كان هناك اتجاه دولي يضغط لرفع أسعار النفط، وكانت الدول الغربية تمانع. وقد كانت المملكة تريد رفع الأسعار حتى تحصل على مداخيل أكبر تستعملها في تحديث البلاد لكنها لم تجد الفرصة الملائمة للضغط على الشركات الأميركية المالكة لأرامكو وللضغط على الولايات المتحدة للقبول بالزيادة المنشودة. لكن حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 والدعم الأميركي لإسرائيل وما أثاره من سخط في الرأي العام العربي وفَّر الفرصة المنتظرة التي استغلها يماني في الضغط على الشركات الغربية والولايات المتحدة للقبول بالزيادة؛ وقد تحقق ذلك. علاوة على أن المملكة استعملت تلك الأموال التي حصلت عليها لشراء نحو 25 بالمئة من أصول الشركة.

تنبِّه الكاتبة في تحليل هذه الأزمة إلى جانب رئيسي في استراتيجية السعودية حتى بات سمة من سماتها، وهو الابتعاد عن التطرف؛ فتذكر أن إيران وليبيا كانتا تضغطان للمطالبة برفع الأسعار إلى أقصى حد لكن المملكة كانت تعارض حتى تحافظ على استمرار الطلب على النفط؛ لأن الأسعار المرتفعة جدًّا بمقاييس ذلك الوقت ليست مربحة على المدى الطويلة إذا جعلت الدول المستهلكة غير قادرة على الدفع واضطرت إلى التوقف عن الشراء.

تسرد الكاتبة أيضًا قصة حصلت عليها من أبحاثها وحواراتها، وهي التماس الولايات المتحدة من الملك فيصل، خلال الحظر النفطي، السماح لبارجة أميركية، رست بموانئ المملكة، بالتزود بالبترول، فلم يمانع فيصل، حتى لا يبدو متشددًا لا يراعي جوانب أخرى مهمة في علاقاته مع الولايات المتحدة.

تستنج الكاتبة أن حرص السعودية على الاعتدال في المطالب تحكمه اعتبارات الربح التي تشكِّل القيمة الرئيسية لشركة أرامكو ولكنه الربح على المدى الطويل.

واصل يماني استراتيجية القضم التي اعتمدها، فاشترى 60 بالمئة أخرى خلال السبعينات، ثم أخذ بقية الحصص مع بداية الثمانينات من القرن الماضي. وبذلك، باتت المملكة المالك الحصري لشركة أرامكو من خلال الممازجة بين الوسائل القانونية والضغوط السياسية، مع الحفاظ على الخبرة التي راكمتها من الشركات الأميركية ودون الدخول في صراع مع الولايات المتحدة.

تشير الكاتبة إلى أن يماني رغم نجاحه في تمليك السعودية شركة أرامكو أخفق في فهم آليات السوق، وتقدم دليلًا على ذلك، أن يماني كان يعتقد أن قدرة السعودية على رفع الإنتاج أكثر من غيرها يجعلها الدولة المرجِّحة في السوق، وتتمكن بذلك من التحكم في الأسعار. لكن هذه الاستراتيجية فشلت في الثمانينات عندما انهارت الأسعار ولم تتمكن السعودية من رفعها، لأن ما تستطيعه هو إغراق السوق لخفض الأسعار أما خفض الإنتاج فليس بمقدورها إرغام الدول أو الشركات الأخرى على فعله حتى ترتفع الأسعار.

يعود الفضل لعلي النعيمي، الذي تولى إدارة الشركة في الثمانينات، في النظر إليها كقوة طاقوية مؤهلة للتوسع العالمي. شرعت الشركة تحت قيادته في الاستثمار في منشآت للتصفية بشراكة مع ما بات يُعرف حاليًّا بمصفاة موتيفا، أكبر مصفاة في الولايات المتحدة. وكان هذا الاستثمار فاتحة ثلاثة عقود من الاستثمارات وتطوير المصافي بباقي نواحي العالم، خاصة في آسيا. وبمرور السنوات، استثمرت أرامكو في مصافي في كوريا الجنوبية، والفليبين والصين واليابان. وقد جعلت هذه الاستراتيجية أرامكو اللاعب الأول في سوق الطاقة بالمنطقة الواقعة شرق الهند.

لم تكن أرامكو قادرة على تحقيق هذه المشاريع في التصفية والمشتقات البترولية لو ظلت مملوكة من الشركات الأميركية، لأن هذه الشركات كانت تحصر دور أرامكو في إمدادها بالنفط فقط، ولا تعبأ بقدرتها الكامنة على التحول إلى لاعب عالمي في سوق الطاقة. علاوة على أن هذه الشركات لا تجد الحافز لتحويل أرامكو إلى منافس لها يضر بأعمالها.

لاحقًا، عادت أرامكو إلى السعودية للاستثمار في تكرير النفط وتصنيع مشتقاته. هذه العمليات وفرت فرص عمل في السعودية وجذبت رؤوس أموال خارجية. أحد الأمثلة على هذه الاستثمارات الداخلية هي شركة صدارة للكيميائيات بجبيل التي أنشأتها أرامكو بالشراكة مع شركة داو للكيميائيات. هذه الاستثمارات خارج السعودية وداخلها في التكرير والبتروكيميائيات هي التي جعلت المملكة تخفف الصدمات الناتجة عن انخفاض أسعار النفط.

تستند الكاتبة إلى هذه الخبرة التي تشكَّلت تاريخيًّا لتقديم تفسير جديد لرفض المملكة، في 2014، خفض الإنتاج لرفع الأسعار. نشير إلى أن التفسير السائد هو أنها كانت تريد إغراق السوق لخفض الإنتاج حتى تُلحق أضرارًا بإيران وروسيا نظرًا لخلافاتها السياسية معهما. تقول الكاتبة: إن وزير الطاقة السعودي، علي النعيمي، كان يفكر نفس التفكير الذي ورثه من يماني، وهو أن أرامكو تتجنب خلط السياسة بالربح، وأن رفضه خفض الإنتاج لم يكن من أجل تحقيق مكاسب سياسية بل من أجل الضغط على روسيا تحديدًا حتى تأتي إلى طاولة التفاوض وتقبل توزيع حصص خفض الإنتاج على بقية الدول ولا تتحملها السعودية لوحدها؛ وهذا ما تحقق. وبعدها وافقت السعودية على المشاركة في خفض الإنتاج فارتفعت الأسعار.

وصفة النجاح

تفادت المملكة تأميم أرامكو حتى تحافظ على علاقتها المميزة مع الولايات المتحدة وتستبقي الخبراء الغربيين الذين يعملون في الشركة، واختارت لامتلاكها شراء حصص الشركات الأميركية بالتدرج والأناة.

بعد امتلاك المملكة للشركة، شرعت في تكوين نخبة واعدة من العمال السعوديين بإرسالهم إلى الخارج للتكوين في قطاع الأعمال النفطية ثم بجعلهم يحتكون، بعد عودتهم، بالخبرات الغربية التي لا تزال بالشركة، فحققت هدفين مهمين، هما: تأميم فعلي للشركة؛ لأن موظفيها صاروا سعوديين، والحفاظ على خبرات الشركة ومراكمتها. وكانت النتيجة أن ملكية الشركة تغيرت لكن ثقافتها القائمة على نشدان الربح منذ تأسيسها استمرت.

لم تغير كذلك الملكية نمط تسيير الشركة القائم على فصل ميزانيتها عن مالية الدولة. وهو نمط في التسيير مماثل لنمط شركات المساهمة الخاصة. تُعَدُّ الدولة السعودية المساهم في حالة أرامكو فتحصِّل منها الضرائب والأرباح وفي المقابل تحافظ الشركة على مداخيلها. وقد صان هذا التقسيمُ الشركةَ من الفساد الذي يطول في العادة الشركات المملوكة من الدولة؛ لأن علاقة إدارة أرامكو بالدولة ليست علاقة ولاء في المقام الأول بل علاقة تمكينها من أعلى قدر من الأرباح.

رسخت المملكة طابع الأعمال في أرامكو بمنع توليها من قبل أمراء العائلة الحاكمة لا يمكن محاسبتهم أو قد تؤدي محاسبتهم إلى اضطراب سياسي، وحصرت إدارة الشركة في تكنوقراط استحقوا مناصبهم بفضل مؤهلاتهم العلمية وخبرتهم، ويمكن للدولة أن تحاسبهم على حصيلتهم دون خشية على تماسك العائلة أو زعزعة استقرار البلد.

الرواية الغائبة

توقفت الكاتبة في استعراضها لتاريخ أرامكو، عند سنة 2015، لأنها أرادت أن يكون الكتاب بالأساس تاريخيًّا لا يخوض في الشأن الجاري. قد يعتبره النقاد يتناول مرحلة ولَّت أو تكاد ولن ينفع في تلمُّس سمات المرحلة الجديدة. هذا صحيح في جانب منه لكن من جانب آخر يساعد الإطار الذي استخلصته الكاتبة من التطور التاريخي للشركة في تفسير الصراعات الدائرة بين الراغبين في الحفاظ عليها والساعين إلى تغييرها، وتأثير ذلك على موازين القوى داخل المملكة، كما ذكرنا مثال علي النعيمي وخالد الفالح.

استندت الكاتبة بشكل أساسي على الوثائق الأميركية؛ لأن أرامكو رفضت كشف وثائقها حفاظًا على مبدأ السرية الذي تلتزم به. أفقد ذلك الكتاب جزءًا كبيرًا من أهميته؛ لأنه لم يتمكن من تأكيد معلومات أساسية مثل القيمة التي دفعتها السعودية لشراء أرامكو؛ حيث ذكرت الكاتبة مبلغ 2 مليار دولار لكنها لم تستطع التثبت منه من جهة سعودية موثوقة، أو توثيق الصراعات بين مختلف الأطراف السعودية في تحديد سياسة الشركة وخياراتها لتأكيد الفرضيات التي استندت الكاتبة إليها في تفسير التطور الذي عرفته شركة أرامكو.

انعدام اليقين

تقع أرامكو في قلب نشوء المملكة ورسوخها. أسهمت الأموال التي جنتها في إنشاء بنية حديثة من العمران والمواصلات والطرقات، ونقل البلاد من نمط اقتصادي قائم على الزراعة إلى نمط قائم على الصناعة والخدمات، وإنشاء مراكز حضرية تعيش فيها غالبية السكان.

واستعملها الملك عبد العزيز في عقد الصفقة التاريخية مع الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت: النفط مقابل الأمن. فكانت الركن الأساسي في ضمان أمن المملكة، وتوفير الدعم الغربي لها.

واستعانت بها المملكة في مواجهة المخاطر الإقليمية والدولية. تبرز مرحلتان بهذا الخصوص: مرحلة المد القومي خلال الحقبة الناصرية الذي تصدَّت له السعودية بتشكيل شبكة من التحالفات تحت عنوان الرابطة الإسلامية. ثم مرحلة الثورة الإيرانية التي كانت تتعهد بتغييرات تشمل كامل المنطقة تطيح بالأنظمة المتحالفة مع الغرب، فواجهتها المملكة بتحالفات تحت عناوين قومية مثل دعم العراق في حربه على إيران.

لعبت أرامكو أيضًا دورًا في مدِّ المملكة بالإمكانات المالية التي تصدت بها لموجة الربيع العربي سواء بالداخل أو في منطقة الخليج أو في العالم العربي. سمحت مداخيلها للملك عبد الله بصرف نحو 130 مليار دولار على الرواتب والنفقات لامتصاص السخط الشعبي(1)، وتقديم معونات للبحرين وعُمان والأردن والمغرب لنفس الدواعي، ودعم انقلاب عبد الفتاح السيسي على الرئيس المصري المنتخب، محمد مرسي، بنحو 20 مليار دولار(2).

تبدلت الأوقات، فلم تعد أرامكو قادرة على توفير المصروفات الضرورية للدولة السعودية، لعدة أسباب، فمن جهة، انخفضت أسعار البترول نتيجة الأزمة الاقتصادية التي خفضت الطلب عليه، فلم تعد المملكة تحصل على مداخيل ثابتة توازن مصروفاتها. يُقدِّر صندوق النقد سعر البرميل الضروري للسعودية بنحو 80 دولارًا، لكن هذا السعر غير ثابت حاليًّا ويتأرجح غالبًا نحو الأسفل. علاوة على أن عدد سكان المملكة تزايد فتزايدت متطلباتهم(3).

لم تعد الولايات المتحدة الأميركية بحاجة مثل السابق للنفط السعودي بل باتت شبه مكتفية ومصدِّرة له. تفقد بذلك السعودية الركن الذي قام عليه التوافق الاستراتيجي بينهما وهو الأمن مقابل النفط.

يفاقم ولي العد السعودي، محمد بن سلمان، بأسلوبه المتفرد والمتسرع والمغامر من المخاطر التي تواجه أرامكو؛ حيث لم تعد تابعة كما في السابق لوزارة النفط التي يديرها تكنوقراط بل صارت تابعة للمجلس الأعلى لأرامكو الذي يتبع مباشرة ولي العهد. فصارت الشركة لأول مرة منذ تأسيسها خاضعة لفرع واحد من فروع العائلة السعودية الحاكمة، وقد أثَّر ذلك على آلية اتخاذ القرار. كانت أرامكو في السابق تقدم خططها للمجلس الأعلى للبترول والمعادن لتقييمها فاعتمادها ثم تتحول إلى الملك للمصادقة عليها لكن محمد بن سلمان لم يلتزم بهذه الإجراءات لما قرر بيع خمسة بالمئة من حصص الشركة.

لم يمض أكثر من عامين على إعلان ابن سلمان اكتتاب أرامكو حتى قرر أبوه تعليق الأمر. يشير المحللون إلى عدد من الأسباب لذلك؛ أولها: أن الاكتتاب ينزع عن أرامكو طابع السرية الذي أحاطت به نفسها ويضطرها إلى القبول بالتدقيق في حساباتها، وقد تكون لذلك تداعيات سياسية على العائلة الحاكمة. الثاني: تخشى المملكة أن الاكتتاب في بورصة غربية مثل نيويورك أو لندن قد يجعل أرامكو رهينة تقلب السياسة الغربية التي تتبدل مواقفها من السعودية حسب عدة اعتبارات منها حقوق الإنسان.

يمكن اعتبار إخفاق أهم قرار اتخذه محمد بن سلمان في إدارة أرامكو مؤشرًا على أن الركائز التي قامت عليها الشركة منذ تأسيسها وكانت سببًا في نجاحها الاستثنائي تواجه تحديات قد تحولها إلى شركة تخضع في المقام الأول للأهداف السياسية لأحد أفرع العائلة السعودية وليس للربح، وتعطي الأولوية في تعيين إدارة الشركة للولاء وليس للكفاءة فتفقد أهم ميزة تنافسية منحتها التفوق وجعلتها الركيزة التي قامت عليها الدولة السعودية الحديثة.

لا يقل تفرد ابن سلمان في قراراته بخصوص أرامكو عن تسرعه. يحلِّل مركز ستراتفور هذا الجانب بالرجوع إلى سنة 2016 لما انخفضت أسعار النفط، ويقدم تحليلًا يختلف عن تحليل صاحبة كتاب الشركة السعودية الذي تطرقنا له سابقًا. كان وزير النفط، علي النعيمي، باعتباره من التكنوقراط، متشبعًا بثقافة الشركة، يسعى إلى عقد اتفاق بخفض الإنتاج لرفع الأسعار لكن تدخل ابن سلمان أفشل مساعيه التي أوشكت على النجاح. أُزيح النعيمي بعدها من منصب وزير النفط وحل مكانه خالد الفالح، التكنوقراط المقرب من الملك، فاستأنف مساعي التوصل إلى اتفاق على خفض الإنتاج. ومهما كان الأمر، فإن تعيين الفالح وقرار تعليق اكتتاب أرامكو يدلان على أن الملك لا يزال يصون تقاليد شركة أرامكو من سياسات ابنه الجديدة(4).

خاتمة

قد يكون من المفارقات القول: إن أرامكو يمكن أن تؤدي دورًا محوريًّا في تحرر الاقتصاد السعودي من التبعية لها إلا أن النظر إلى الخبرة التي راكمتها في مجال الصناعات الطاقوية كميزة تنافسية، تجعل موظفيها السعوديين الذين يبلغ عددهم 55 ألفًا ركيزة التنويع الاقتصادي للمملكة مثلما أن الخبرة في الصناعة البنكية والساعات كانت الميزة التنافسية لسويسرا أو مثلما كانت الأزياء والمأكولات الميزة التنافسية لإيطاليا. لكن المشاريع الكبرى التي أعلن عنها ولي العهد، محمد بن سلمان، مثل نيوم، لا تأخذ في الاعتبار كل ذلك وتقوم على تقنيات جد متطورة لا تمتلك السعودية فيها تقاليد راسخة ولا تضع في الحسبان توفير فرص عمل للسعوديين التي تُعَدُّ التحدي الرئيسي لاستقرار السعودية ورفاهها وليس تشغيل الروبوتات.

المراجع

(1) Filkins, Dexter, “A Saudi Prince’s Quest to Remake the Middle East”, New Yorker, 9 April 2018, (Visited on 1 November 2018):

https://bit.ly/2pVdLng

(2) “Bruce Riedels Saudi Arabia is at its least stable in 50 years”, Al-monitor, 23 September 2018 (Visited on 1 November 2018):

https://bit.ly/2IcWHBf

(3) Sullivan, Kevin, “In Saudi Arabia, unemployment and booming population drive growing poverty”, Washington post, 3 December 2012, (Visited on 1 November 2018):

https://wapo.st/2C6BLtb

(4)  “Saudi Aramco Fall Prey to a Prince’s Politics”, Stratfor, 3 January 2018, (Visited on 1 November 2018):

https://bit.ly/2RdI0Wn