أقام مركز الجزيرة للدراسات خلال الشهور المنصرمة العديد من الفعاليات والأنشطة ذات الطابع العلمي حول قضايا وأحداث مؤثرة في المشهد الحالي بالمنطقة. وتضمنت هذه الفعاليات نقاشات مستفيضة بين متخصصين ومهتمين وفاعلين مباشرين في الأحداث، رأت هيئة التحرير أهمية إيجاز أبرزها في هذه الزاوية.
ومن بين الفعاليات العديدة التي نظمها المركز، جرى اختيار ندوتين، كانت الأولى بعنوان “العراق في ظل المتغيرات الداخلية والخارجية”، وعُقدت في مدينة إسطنبول التركية بالتعاون مع مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية “سيتا” خلال يناير/كانون الثاني الماضي (2019)، فيما كانت الثانية بعنوان “التحولات السياسية في المغرب العربي: الحصيلة والآفاق”، وعقدت في تونس العاصمة بالتعاون مع مركز الدراسات المتوسطية والدولية خلال فبراير/شباط الماضي.
وفيما يأتي وصف تفصيلي لكل من الندوتين.
العراق في ظل المتغيرات الداخلية والخارجية
مقدمة
رغم هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق، واستعادة الأراضي والمدن التي كانت تحت سيطرته، وتشكيل الحكومة الجديدة في أكتوبر/تشرين الأول 2018، عاد العراق إلى مربع الأزمة السياسية من جديد مع بقاء عدة وزارات سيادية شاغرة، والفشل في إعادة مئات الآلاف من النازحين إلى ديارهم، وعجز الدولة عن تحرير الآلاف من المدنيين الذين اختطفتهم الميليشيات، وكذلك الفشل في إعادة إعمار المدن التي دمرتها الحرب، وفي مقدمتها الموصل التي ما زالت أنقاض الحرب فيها تطمر أشلاء الضحايا من أبنائها منذ نحو عام ونصف.
وتذهب تحليلات إلى أن صمود الحكومة حتى الآن -برغم عدم اكتمالها- يُمثِّل نجاحًا لحالة الاستقرار السياسي والأمني ولو نسبيًّا، كذلك فإن استمرار الدعم الدولي للنظام السياسي في العراق هو أيضًا سبب في التفاؤل بقدرته على عبور المرحلة الانتقالية الحالية، لكن ذلك لم يمنع تزايد المخاوف من عودة تنظيم الدولة إلى المشهد السياسي العراقي من جديد، لاسيما بعد هجمات متعددة قام بها في أنحاء متفرقة من العراق.
وقد استدعت هذه المتغيرات جملة من التساؤلات: هل سيتمكَّن العراق بسلطاته الثلاث وحكومته الجديدة من تقديم نموذج سياسي يأخذ بعين الاعتبار المطالب الشعبية أم أنه سيبقى أسيرًا للتجاذبات الإثنية والمذهبية التي تلت الاحتلال الأميركي للبلاد؟ وهل ستنجح مشاريع إعادة الإعمار ومحو آثار الدمار الذي خلَّفه تنظيم “الدولة الإسلامية” في مختلف أنحاء العراق وبالأخص في مدينة الموصل وإنهاء حالة التوتر والاستقطاب المغذِّيان للإرهاب؟ وهل بالإمكان عمل ذلك كله دون إعادة هيكلة الاقتصاد، وتخصيص الميزانيات الكافية، وتفعيل الرقابة لمنع الفساد وتجاوز المشكلات المتعلِّقة بتردي المرافق العامة والخدمات وفي مقدمتها نقص الكهرباء وشح المياه؟ وكيف سيتمكَّن العراق من المضيِّ بثبات نحو المستقبل وسط بيئة إقليمية ودولية ما فتئ لاعبوها يتدخلون في شؤونه، ويتخذون من ساحته ميدانًا للتنافس والصراع؟
شكَّل هذا الحقل الاستفهامي محور القضايا التي ناقشتها ندوة بحثية مشتركة نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية “سيتا”، وقناة الجزيرة مباشر، في مدينة إسطنبول بتركيا، يوم 26 يناير/كانون الثاني 2019، تحت عنوان: “العراق في ظل المتغيرات الداخلية والخارجية”. وشهدت الندوة عقد ثلاث جلسات حوارية شارك فيها نخبة من الباحثين والأكاديميين والخبراء من العراق وتركيا.
- معضلات النظام السياسي العراقي وإشكالياته
2.1. المحاصصة الطائفية
يعاني النظام السياسي العراقي الذي تشكَّل في أعقاب الغزو الأميركي، عام 2003، من خلل بنيوي ما فتئ يلقي بظلاله على العملية السياسية بأكملها، بل كان أحد أهم أسباب تناسل الأزمات السياسية وبقائها دون حل؛ إذ بُني هذا النظام على أساس المحاصصة الطائفية عوضًا عن المواطنة، ما نجم عنه شعور بالغبن لدى العديد من مكوِّنات المجتمع كالسُّنَّة والكرد والتركمان بعدما وجدوا أنفسهم غير قادرين على المنافسة السياسية في وسط يغلب عليه ويتحكَّم فيه المكوِّن الشيعي. وهو الاستنتاج الذي خلص إليه المشاركون في الجلسة الحوارية الأولى: الدكتور بلغي دومان، منسق قسم الدراسات العراقية بمركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام) بتركيا، والدكتور يحيى الكبيسي، المستشار بالمركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، والدكتور ماهر النقيب، عضو هيئة التدريس بجامعة جانقايا بتركيا، والدكتور قحطان الخفاجي، أستاذ الاستراتيجية في جامعة النهرين بالعراق.
وقد عمل الشعور بالغبن، لاسيما وسط السُّنَّة، على تهيئة بيئة ساعدت -من وجهة نظر هؤلاء الباحثين- على ظهور جماعات العنف الديني، مثل القاعدة وتنظيم “الدولة الإسلامية”، ورغم هزيمة هذين التنظيمين فليس مستبعدًا عودتهما بأسماء مختلفة طالما بقيت دوافع ظهورهما أول مرة على حالها لم تتغير. وما لم تتم إعادة النظر في الأسس والمرتكزات التي قام عليها النظام السياسي العراقي، وتخليصه من آفة المحاصصة الطائفية والعودة به إلى ركيزة المواطنة وما يلزم ذلك من تعديلات دستورية، وإشاعة ثقافة سياسية جديدة، وترسيخ مبدأ “الديمقراطية التوافقية” فإن التأزم الحالي للعملية السياسية سيستمر.
2.2. مثالب الفيدرالية
كان من المؤمَّل مع تطبيق النظام الفيدرالي في العراق أن تتحسن الكفاءة الإدارية للدولة وأن يشعر المواطنون بذلك، خاصة في الخدمات والمرافق العامة، لكن يبدو أن الفيدرالية في العراق -أو بمعنى أدق- سوء تطبيق الفيدرالية حال دون ذلك؛ إذ أضحت -بحسب المتحدثين في هذه الجلسة- بابًا من أبواب الفساد المالي والإداري، بعدما انتهز العديد من الكتل السياسية ذات النفوذ في هذا الإقليم أو ذاك وضعها للإثراء غير المشروع وترسيخ وجودها عوضًا عن الاهتمام بمصالح السكان؛ الأمر الذي بدَّد الميزانيات المخصصة لتحسين البنية التحتية وتطوير المرافق والخدمات. وتأسيسًا على هذا، فإن إعادة النظر في النظام الفيدرالي العراقي الراهن -كليًّا أو جزئيًّا- من شأنه أن يسدَّ هذه الثغرة ويُصلح هذا الخلل ويزيل عقبة كَأْدَاء من أمام مسار التنمية في العراق.
- تحديات إعادة إعمار العراق وبناء الدولة
1.2. غياب الرؤية الاقتصادية
رغم أن العراق بلد غني بالنفط والغاز والثروات المعدنية؛ إذ تبلغ احتياطياته النفطية على سبيل المثال 153 مليار برميل، أما احتياطياته من الغاز فتُقدَّر بحوالي 131 تريليون متر مكعب، ومن الفوسفات 5.7 مليارات طن، فضلًا عن كميات أخرى كبيرة من الكبريت، واليورانيوم، والزئبق الأحمر، فإن اقتصاده متأزم وعجلة التنمية فيه مُتَعَثِّرَة كما تُبيِّن المؤشرات التي وردت في مداخلة الدكتور غازي السكوتي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بغداد، وتشمل:
– تراجع مساحة الأراضي الزراعية من 48 مليون دونم قبل الغزو إلى 11 مليون دونم فقط حاليًّا.
– تزايد معدلات استيراد السلع الأساسية إلى 92%.
– زيادة رقعة الفقر ووصول أعداد مَنْ يحتاجون إلى مساعدات غذائية إلى 5.7 ملايين عراقي.
– وصول حجم الدَّيْن الخارجي إلى 133 مليار دولار.
– تبديد ما يقرب من تريليون دولار بسبب الفساد.
ويعود السبب في تردي الأوضاع الاقتصادية بالعراق، كما حددها المشاركون في الجلسة الحوارية الثانية، وهم: الدكتور غازي السكوتي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بغداد، والسيد حاتم الفلاحي، خبير الشؤون الأمنية والاستراتيجية، والدكتور همام الشماع، أستاذ الاقتصاد المالي في جامعة بغداد، والدكتور عبد الله الحمودات، الباحث الإعلامي والمهتم بشؤون الموصل، إلى جملة من العوامل، أهمها وأبرزها: غياب الرؤية الاقتصادية التي يمكن أن تنبثق عنها استراتيجية تنموية تعيد الحياة لقطاعات الاقتصاد الحيوية كالقطاع الزراعي والصناعي والمالي والمصرفي. ودون وجود هذه الرؤية ستظل كل الموارد سابقة الذكر غير مستمرة، ولن يكون بمقدر العراق إعادة الإعمار وبناء الدولة.
2.2. تعدد ولاءات الأجهزة الأمنية
لا تقتصر تحديات إعادة إعمار العراق على غياب الرؤية الاقتصادية، وإنما ثمة تحدٍّ آخر لا يقلُّ عنها أهمية يتمثَّل في تعدُّد ولاءات ومرجعيات الأجهزة الأمنية الكثيرة التي تشتغل دون أي تنسيق بينها، كما لاحظ المتحدثون في الجلسة، بل إن بعضها يعمل ضد البعض الآخر، وهو ما أدى إلى هشاشة الوضع الأمني في عموم البلاد، وأفرز بيئة غير جاذبة للاستثمارات المحلية أو الأجنبية. وقدَّم الخبير الأمني والاستراتيجي، حاتم الفلاحي، في سياق تحليله للتحدي الأمني وتعدد ولاءات الأجهزة الأمنية، نموذجًا دالًّا عن هذه الحالة مُمَثَّلًا في قوات الحشد الشعبي التي تتكون من عدة فصائل لكل مجموعة منها مرجعيتها المختلفة عن الأخرى، فثمة 40 فصيلًا يتبعون في ولائهم ومرجعيتهم لإيران، و17 فصيلًا يتبعون آية الله علي السيستاني، وعدة فصائل سُنِّية ومسيحية تتبع الحشد الشعبي وتعود في مرجعيتها إلى إيران. كما توجد فصائل تتبع مرجعيات أخرى كالصدر والحائري والشيرازي وحسن نصر الله، هذا فضلًا عن قوات البيشمركة، وقوات مسلحة تابعة لحزب العمال الكردستاني.. ما جعل كل هذه القوات والأجهزة والفصائل التي تحظى بتسليح وتمويل وتدريب والتي لها مرجعيات داخليًّا وخارجيًّا لا تخضع لسلطة مركزية فكانت أحد عوامل الهشاشة الأمنية التي يعاني منها العراق وجعلته بلدًا غير جاذب للاستثمار، بل وغير قادر على الاستفادة من موارده وثرواته، وما لم يتم إدماج هذه القوات وتلك الفصائل -كأفراد- مع قوات الحرس الوطني أو مع المؤسسة العسكرية فإن تعدد ولاءات الأجهزة الأمنية سيظل حائلًا دون إعادة إعمار البلاد.
3.2. نقص المياه وعدم تنويع مصادر الدخل
ثمة مشكلات أخرى لا يمكن للعراق تحقيق ما يصبو إليه من إعادة الإعمار دون إيجاد حلول جذرية لها، وفي مقدمتها مشكلة نقص المياه لما لها من تأثير خطير على القطاع الزراعي الذي يعمل فيه قرابة 60% من القوى العاملة. وقد حذَّر الدكتور همام الشماع، أستاذ الاقتصاد المالي في جامعة بغداد، من مُهدِّديْن إذا اجتمعا معًا كانت لهما نتائج وخيمة على العراق: المهدِّدُ الأوَّل هو نقص المياه، والثاني عدم تنويع مصادر الدخل؛ لأن الاعتماد على مورد وحيد هو النفط بنسبة تفوق 90% مع ما تشهده أسواقه العالمية من تذبذب واتجاه عام نحو الانخفاض، يجعل اقتصاد العراق على حافة الخطر دائمًا. وهذا يعني أيضًا أنَّ العراق سيكون بحاجة إلى استيراد احتياجاته الغذائية الأساسية من الخارج نتيجة لشُحِّ المياه وأثره على القطاع الزراعي، ونتيجة أيضا لتخلُّف القطاع الصناعي في وقت لا يجد الموارد المالية التي تلبي له هذا الاحتياج، وهو ما يُنذِرُ بعواقب وخيمة لخَّصها الدكتور الشماع بقوله: “إذا تضافر انهيار القطاع النفطي مع الزراعي فإن العراق سيكون أمام مجاعة وليس أمام مأزق اقتصادي فقط”.
4.2. أسباب تعثُّر إعادة الإعمار في الموصل وكركوك
تواجه عملية إعادة الإعمار في الموصل وكركوك تعثرًا بسبب العوامل السياسية والاقتصادية التي أشار إليها الباحثون في الجلستين الحواريتين السابقتين. فبعد طرد تنظيم الدولة من الموصل لا يزال قرابة 380 ألف موصلي نازحين، كما تظل مستويات البطالة بين الشباب هي الأعلى في العراق بنسبة تصل إلى 70%، فضلًا عن تردي الخدمات التعليمية والصحية، والاتهامات الجزافية بـ “الدَّعْشَنَة”، وما يصاحبها من اعتقالات عشوائية واختفاء قسري. وقد شكَّلت الموصل -بحسب بعض الباحثين- نموذجًا لغياب الرؤية الاقتصادية، والفساد وتعددية ولاءات ومرجعيات القوات والأجهزة الأمنية وفَرْضِها ما يشبه الإتاوات على رجال الأعمال؛ الأمر الذي أخَّر مشاريع إعادة الإعمار وبدَّد ثمرات القليل الذي أُنجز منها.
أما كركوك، فرغم غناها بالنفط فإن بنيتها التحتية متردية ومرافقها العامة في حالة مزرية، وذلك لعدة أسباب أهمها عدم القدرة على حسم الخلاف بشأن ما يُعرف بالمناطق المتنازع عليها في هذه المدينة، والجدل الدائم بشأن تفسير المادة 140 من الدستور الخاصة بها، وهو ما دفع الدكتور ماهر النقيب، عضو هيئة التدريس بجامعة جانقايا بتركيا، إلى المطالبة بإلغاء هذه المادة الدستورية، واقترح كذلك إخراج قوات البيشمركة الكردية من المدينة واستبدال قوات تابعة للجيش العراقي بها، كما أشار إلى أهمية اختيار أحد ولاة أقاليم العراق من التركمان على غرار ولاة الأقاليم من الأعراق الأخرى، وإلى إعادة تدوير جزء من عائدات نفط كركوك داخل المدينة لتحسين بنيتها التحتية التي لم تشهد تطويرًا منذ عقود.
- مخاطر الصراعات الإقليمية والتجاذبات الدولية
تُلقي البيئة المحيطة بالعراق؛ الإقليمية والدولية، بظلالها على أوضاعه السياسية والاقتصادية، ومن ثمَّ تجعل مستقبله السياسي مُكتَنَفًا بالمخاطر المستمرة؛ فقد اتخذت بعض القوى الإقليمية والدولية من العراق ميدانًا للصراعات الإقليمية والتجاذبات الدولية، وأصبح لكل منها أجندته ومشاريعه وأدواته في الداخل التي تعمل وفق توجيهاته. هذه القضايا شكَّلت محور الجلسة الحوارية الثالثة التي شارك فيها: الباحث يشار الشريف، ومدير المركز السومري للإعلام والدراسات في المملكة المتحدة، فارس الخطاب، ورئيس الأكاديمية الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية التركية، الدكتور مسعود أوزجان، والباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات والخبير في الشأن العراقي، الدكتور لقاء مكي، والباحث السياسي مصطفى كامل.
وقد لاحظ بعض الباحثين أن إيران منذ الغزو الأميركي للعراق ما فتئت تمد نفوذها وتبسط هيمنتها عليه بشتى الطرق؛ إذ إن لها أحزابها السياسية وجماعاتها الدينية وميليشياتها المسلحة، فضلًا عن اعتبار العراق سوقًا كبيرة لبيع المنتجات الإيرانية وبابًا للتحايل على العقوبات الأميركية. والحال لا تختلف كثيرًا بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية التي لها أيضًا نفوذها السياسي والعسكري والأمني، وقد أدخل الصراعُ الأميركي-الإيراني على العراق وفي العراق هذا البلد في حالة من عدم الاستقرار السياسي ليس من المُرَجَّح الخلاص منها قريبًا ما لم يتوصلا إلى تفاهمات واتفاقات فيما بينهما.
أما السياسة العربية، كما أوضحها الدكتور لقاء مكي، فهي غائبة تارة ومتصارعة تارة أخرى، متأثرة بالصراعات العربية البينية وسياسة المحاور والاستقطاب التي يعاني منها العالم العربي، وفي الغالب فإن هدفها مصلحة الأنظمة العربية حتى وإن كانت تتعارض مع منظومة الأمن القومي العربي؛ فعلى سبيل المثال لا توجد استراتيجية للسياسة الخارجية السعودية إزاء العراق رغم أن الرياض قد انكشفت أمام إيران بعد غزو العراق واحتلاله، أما مصر فقد ضعفت إقليميًّا وانحسر حضورها في العراق خاصة بعد اختطاف وقتل سفيرها في بغداد.
وبالنسبة للأردن، فعلى الرغم من أنه أقام علاقة مع العشائر السُّنِّية غرب الأنبار في محاولة لإيجاد مناطق نفوذ هناك لكن أثر هذه المحاولات ضعيفٌ ولا يعوَّل عليه، ولا يزال الأردن بحاجة إلى نفط العراق بأسعار تفاضلية. وفيما يخص السياسة السورية إزاء العراق فقد كانت دمشق متهمة في عهد حكومة رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، بتسهيل وصول “المجاهدين المسلحين” إلى العراق، وكان دافعها -هي وإيران- في ذلك يتمثَّل في استنزاف الوجود الأميركي في هذا البلد بأيدي السُّنَّة.
أما دول الخليج العربي -ورغم أنه من المفترض أن تكون الأكثر انشغالًا بالعراق- فليس ثمَّة تنسيق فيما بينها لرسم سياسة خليجية موحَّدة تجاه العراق، وإن كانت الكويت هي الدولة الخليجية الأكثر اهتمامًا بالعراق حاليًّا لأسباب تاريخية معروفة، وثمة مساعٍ تقوم بها الكويت لزيادة حضورها وبخاصة وسط عشائر البصرة.
وكما يتضح من هذه الصورة العامة فإن بالإمكان التأكيد على عدم وجود سياسة عربية واحدة إزاء العراق تستطيع أن تنافس السياسة الإيرانية والأميركية هناك.
خاتمة
ثمة تحديات كبيرة لا تزال تواجه العراق سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، كما لا تزال مصادر التهديد الإقليمي والدولي ماثلة؛ فداخليًّا يعاني النظام السياسي، الذي تأسس في أعقاب الغزو الأميركي عام 2003، من آفة المحاصصة الطائفية التي أضعفت النسيج الاجتماعي وأجَّجت الخلافات الدينية والمذهبية والعرقية، وأشعرت عديد المكونات بالتهميش والظلم، وثمة حاجة ماسَّة أكدها الباحثون المشاركون في الندوة بشأن إعادة تأسيس النظام السياسي العراقي على أساس المواطنة كما كانت الحال منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي. كذلك، فإن النظام الفيدرالي المُطبَّق في العراق حاليًّا بحاجة إلى إعادة نظر بعد ما تبيَّن استغلاله من قِبَل عديد القوى السياسية للإثراء واعتمادهم عليه تُكَأَةً للفساد، ما تسبَّب في تبديد الميزانيات المحلية المخصصة لتطوير البنية التحتية وتحسين المرافق والخدمات.
أما على المستوى الاقتصادي، فإن العراق بحاجة إلى رؤية اقتصادية تنبثق عنها استراتيجية تنموية تعيد الحياة إلى قطاعات الاقتصاد الحيوية؛ الزراعية والصناعية والمصرفية، ويستطيع بموجبها العراق استثمار ثرواته الطبيعية والبشرية الكثيرة والمتنوِّعة.
وبالتوازي مع ذلك، فإن حاجة العراق أساسية لبيئة إقليمية ودولية تكفُّ عن التدخُّل في شؤونه وجَعْلِه ميدانًا للصراعات وتصفية الحسابات بين المشاريع والأجندات المتضاربة، وما يتبع ذلك من استقطابات وتعدُّد في الولاءات والمرجعيات ما فتئ يترك أثره السلبي على مؤسسات الدولة ووحدة المجتمع.