تأليف: كارا رايغلي، موراي سيمونز (Cara Wrigley, Murray Simons)
دار النشر: Routledge
تاريخ النشر: ديسمبر/كانون الأول 2024
اللغة: الإنجليزية
الطبعة: الأولى
عدد الصفحات: 160
الإبداع في التعقيد العسكري، والتصميم، والعوامل المربكة للنظم التقليدية، وقوات الدفاع
Creativity in Military Complexity: Design, Disruptors and Defence Forces by Cara Wrigley and Murray Simons
ملخص
اختلفت طبيعة الحروب ونوعيات الأسلحة في السنوات الأخيرة مقارنة بما كانت عليه في الماضي؛ فقد أصبح الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيرة، والهجمات السيبرانية…، أسلحة تُستخدم في التخطيط، وانتقاء الأهداف، وتوجيه الضربات، وباتت توقع بالعدو خسائر كبيرة مادية وبشرية. وقد استطاعت بعض الجيوش، خاصة في الدول المتقدمة، أن تتطور وتتكيف وتعيد هيكلة نفسها لتواكب هذا التقدم، بينما بقيت جيوش أخرى على فكرها القديم وهيكلها التقليدي؛ لا تستطيع أن تواكب العصر أو تلحق بمتغيراته، وأضحت عُرضةً في أي مواجهة عسكرية لأن تُمنى بخسائر جسيمة. من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب، الذي خصصه مؤلفاه للإجابة عن أسئلة كثيرة، من بينها: كيف تتطور الجيوش التقليدية؟ وما الذي تحتاجه من أجل تحقيق ذلك، سواء على مستوى الثقافة المؤسسية، أو إعادة الهيكلة والتنظيم، واستحداث برامج تدريب جديدة؟ وما بينهما من أفكار وتصورات ورؤى وتوصيات احتشدت بها فصول هذا الكتاب.
الكلمات المفتاحية: التفكير التصميمي العسكري، البيئة الجيوسياسية، الجيوش، الحروب الحديثة.
Abstract
The nature of warfare and the types of weapons used have significantly changed in recent years compared to the past. Artificial intelligence, drones and cyberattacks are now employed in planning, target selection and precision strikes – inflicting major material and human losses on adversaries. Some armies, particularly in developed countries, have managed to evolve, adapt and restructure themselves to keep pace with this transformation. Others, however, remain rooted in outdated thinking and traditional structures, making them vulnerable to defeat and heavy losses in any modern military confrontation.
This is the importance of this book, which the authors devoted to addressing key questions: How can traditional armies modernise? What do they need to achieve this – whether in terms of institutional culture, restructuring, organisation, training or the broader spectrum of ideas, frameworks and recommendations that the book discusses across its chapters.
Keywords: military design thinking, geopolitical environment, armed forces, modern warfare.
تمهيد
تعد الحرب واحدة من أهم الأدوات التي تلجأ إليها الدول لحماية مصالحها وتحقيق أهدافها إقليميًّا ودوليًّا، وهي تشهد تغيرًا مستمرًّا منذ بداية القرن الحادي والعشرين بسب عوامل عديدة مثل تغيير ساحات الصراع، وكيفية إدارة العمليات العسكرية، وأنظمة التسليح، وأساليب القتال، والتطور التكنولوجي لاسيما من بعد ظهور الطائرات المسيرة، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، والأسلحة ذاتية التشغيل، والهجمات السيبرانية؛ لذلك أصبحت الدول أمام تحديات جديدة تتعلق بكيفية صياغة إستراتيجياتها العسكرية لتتماشى مع هذا التحول الذي شهدته طبيعة الحرب، وكذا التحول في طبيعة التهديدات الأمنية منذ بداية القرن الحادي والعشرين.
في هذا السياق، صدر كتاب “الإبداع في التعقيد العسكري، والتصميم، والعوامل المربكة للنظم التقليدية، وقوات الدفاع” الذي يندرج ضمن الدراسات التي تنشرها دار نشر روتلدج (Routledge) حول: “الصراع، والأمن، والتكنولوجيا” Technology) (Routledge Studies in Conflict, Security an، بغية تقديم رؤية معاصرة في التفكير والتخطيط العسكري، وكيفية تطوير قدرات الجيوش (الغربية) لتتمكن من التكيف والابتكار وتحقيق النجاح الذي لم يعد قاصرًا على التفوق في العُدَّة والعتاد في عصرنا الحالي، وتحديد العوامل التي حالت دون تحقيق ذلك وأسهمت في تكريس العمل بالأساليب التقليدية لسنوات طويلة، والتي لم تعد تواكب التطورات الحاصلة في البيئتين، الأمنية والتكنولوجية.
ويستند المؤلفان إلى خبرتهما الأكاديمية والمهنية؛ حيث تعد البروفيسورة Wrigley C. أستاذة التصميم والابتكار لقوات الدفاع في أستراليا، بينما شغل الدكتور الضابط Simons M. منصبًا رفيعًا في أكاديمية قوات الدفاع الأسترالية، والكتاب موجه إلى صانعي القرار، والقادة العسكريين، وطلبة الدراسات العليا، والباحثين في مجالات الدراسات الأمنية والعسكرية والعلاقات الدولية.
يمثل الكتاب إضافة للفكر الإستراتيجي المعاصر من خلال تقديم نموذج معرفي قائم على الإبداع والابتكار يوجِّه العمل العسكري ويقوده نحو النجاح والفاعلية في مواجهة بيئات الصراع الحديثة وتحدياتها. وعلى الرغم من تركيز الكتاب على النماذج الغربية فإنه يمكن أن يكون بمنزلة دليل للمؤسسات العسكرية في الدول العربية لتحويل التفكير العسكري من النموذج التقليدي الجامد إلى نموذج أكثر ابتكارًا وتكيفًا؛ خاصة أن البيئة الأمنية العربية تشهد اضطرابًا مستمرًّا وتغيرات مفاجئة يصعب التنبؤ بها، كما هي الحال على سبيل المثال مع الحرب الإسرائيلية على غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول عام 2023 وتبعاتها الإقليمية، والحرب على جنوب لبنان، والحرب مع إيران، والعدوان على سوريا…، وهذه كلها حوادث تؤكد أهمية الاستثمار في التكنولوجيا العسكرية الحديثة الأكثر دقة والأقل تكلفة وجهدًا، والعمل على تعديل الجيوش العربية لميزانياتها الدفاعية لتتوافق مع هذه التطورات(1).
عنوان الكتاب
يقصد المؤلفان بمفهوم “الإبداع في التعقيد العسكري” Creativity in Military Complexity)) أن البيئة العسكرية معقدة مما يتطلب تشجيع الإبداع من أجل ابتكار حلول غير تقليدية تُمكِّن من مواجهة هذا التعقيد. أما كلمة التصميم (Design) الواردة في العنوان فيُقصد بها إيجاد إطارٍ للتفكير الإستراتيجي بغية صياغة استجابات مبتكرة. وفيما يتعلق بـ”العوامل المربكة (Disruptors) فيُقصَد بها تلك العوامل التي تكسر النمط السائد وتؤدي إلى التغيير، وقد تشمل اختيار قادة مبتكرين، أو التوصل إلى تقنية حديثة مثل الطائرات المسيرة، أو الذكاء الاصطناعي، أو أحداثًا غير متوقعة مثل التعرض لهجمات سيبرانية… وعليه، فإن العنوان يشير إلى كيفية مواجهة تعقيد البيئة العسكرية من خلال دمج هذه العناصر في صياغة العقيدة العسكرية للدول، وذلك لمواجهة التحديات الأمنية المستحدثة منذ بداية القرن الحادي والعشرين.
يستهل المؤلفان طرحهما بالحديث عن الطبيعة المعقدة للبيئة الجيوسياسية المعاصرة، وتعدد الجهات الفاعلة فيها مما يستدعي ضرورة انفتاح المؤسسات العسكرية على الأفكار الجديدة، وتقبُّل التغيير، وإشراك جميع الفاعلين في عملية التغيير؛ ليس فقط القادة والمنتمين إلى المؤسسة العسكرية، بل الفاعلين من قطاعات أخرى، أكاديمية وحكومية، بالإضافة إلى تبني الابتكار والتفكير التصميمي، لاسيما في أوقات السلام التي تخف فيها الضغوط، وبذلك تصبح الجيوش أكثر استعدادًا لمواجهة تعقيدات الحروب الحديثة.
مقدمة الكتاب
ينطلق المؤلفان من رؤية قوامها أن تمجيد البطولات التاريخية للجيوش له دور في تعزيز قيم الولاء والصمود، ولكنه يؤدي -في الوقت نفسه- إلى الجمود والانغلاق على الأفكار الجديدة، وتفضيل الأساليب التقليدية. كما أن الاستثمار في التقنية الحديثة في المجال العسكري يظل بلا جدوى ما لم يكن ثم استثمار في العقول أيضًا، من خلال تنميتها على التفكير الإبداعي؛ أي إن الابتكار الحقيقي لا يكمن فقط في اقتناء المعدات التكنولوجية المتطورة التي دأبت الدول في السنوات الأخيرة على الاستثمار فيها، بل يجب أيضًا أن يزامنه تدريب المبدعين والمبتكرين على توظيف هذه المعدات بطرق فعَّالة. وفي ظل التغير المستمر الذي تشهده البيئة الجيوسياسية والأمنية العالمية فإنه يتعين على الجيوش تبني عملية تحول جذري فيما يتعلق بكيفية اتخاذ القرار، وطرق حل المشكلات، ومواجهة التحديات التقليدية وغير التقليدية التي تستدعي حلولًا مبتكرة، ومن بين هذه التحديات يشير المؤلفان إلى التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها النظام الدولي، لاسيما بظهور قوى تعادلية مثل روسيا والصين، وتنامي التنافس الإستراتيجي في منطقة الهندو-باسيفيك، وزيادة الإنفاق العسكري، والتحول المستمر في شبكة التحالفات السياسية، والاعتماد الاقتصادي المتبادل. كما أن التطور التكنولوجي المتسارع في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والأنظمة الذاتية والتحكم عن بُعد تفرض ضرورة تجديد الإستراتيجيات العسكرية بشكل جذري. وكما يقول المؤلفان: “لا يمكن الاستمرار في التفكير التقليديLegacy Thinking)) إذا كان الهدف حل مشاكل المستقبل”(2). وإذا كان التفوق في الحرب يعتمد في الماضي على التفوق البشري وامتلاك الأسلحة الثقيلة فقد أصبح راهنًا مرتبطًا بشبكة من التحالفات السياسية والاقتصادية، وبالقدرة على تنفيذ الهجمات السيبرانية، كما أنه بات يتطلب تجنيد الكفاءات وجذب العقول القادرة على توظيف التكنولوجيا المتطورة لمواجهة تعقيدات الحروب الحديثة. وعليه، فالكتاب يُعدُّ دعوةً لتبني الإبداع والتصميم في الإستراتيجية العسكرية للتعامل مع التحديات المعاصرة بعيدًا عن التفكير العسكري التقليدي الذي يعتمد على تكرار التجارب السابقة أو محاكاة الخبرات الماضية.
وحسب المؤلفيْن، يقوم التفكير التصميمي العسكري Military design thinking)) على ثلاثة أبعاد أساسية في المجال العسكري وهي: الإبداع (Creativity)، والتفكير التصميمي ((Design thinking والابتكار (Innovation). فالإبداع هو المرحلة الأولى التي يتم فيها توليد الأفكار الجديدة. أما التفكير التصميمي فهو العملية التي من خلالها يتم تحويل هذه الأفكار إلى حلول قابلة للتنفيذ، ويمثل الابتكار الطريقة التي من خلالها يتم تنفيذ هذه الأفكار بحيث تُحدث فرقًا وتغييرًا حقيقيًّا في الواقع. ولتحقيق ذلك لابد من محاربة الجمود العقلي، والتفكير التقليدي، وضرورة اتباع نهج التجديد المستمر في الأفكار، والإستراتيجيات، والمرونة، والتكيف مع التهديدات الجديدة… وهو ما تتيحه المرونة المعرفية (Cognitive agility). ويؤكد المؤلفان أن الابتكار ينبغي ألا يكون بلا ضوابط، بل من المهم أن يكون ضمن الحدود الأخلاقية والقانونية ومحترمًا لعلاقات الدولة الخارجية.
فصول الكتاب
يتألف الكتاب من خمسة فصول تمحور مضمونها حول مفهوم التفكير التصميمي العسكري، وكيفية تنمية العقليات الإبداعية، وتحليل القيود المؤسسية والتنظيمية التي تعيق الابتكار وتكرس الجمود داخل المؤسسة العسكرية، وتقديم إطار يؤخذ مسارًا إستراتيجيًّا ويقود نحو ثقافة عسكرية قادرة على الابتكار والتكيف.
تستند الأطروحة الأساسية للفصل الأول على الطرح القائل بأن الاعتماد على نجاحات الماضي واستنساخ الانتصارات السابقة لم يعد كافيًا للحكم على فاعلية الجيوش وقدرتها على مواجهة التحديات والأحداث غير المتوقعة وغير المسبوقة، كما أنه يعيق الانفتاح والتغيير. لذلك، فلابد من تبني عملية تحوُّل معرفي وتنظيمي للمؤسسات العسكرية، وإعادة صياغة الإستراتيجية العسكرية. وعلى هذا الأساس ينطلق المؤلفان في تحليلهما من إشكالية محورية يمكن صوغها سؤالًا على النحو التالي: كيف يمكن للمؤسسات العسكرية أن تتكيف مع بيئات معقدة وسريعة التغيير؟ أي بعبارة أخرى: كيف يمكن دمج الابتكار ضمن البيئة العسكرية والأمنية الغالب عليها طابع التعقيد؟ لأنه من المعروف أن التفكير التقليدي للمؤسسات العسكرية التقليدية لم يعد مواكبًا لمواجهة التهديدات الهجينة للأمن القومي في القرن الحادي والعشرين، والتي تتسم بسرعة التطور وعدم القابلية للتنبؤ. كما أن ساحات المعارك لم تعد تقتصر على الفضاءات التقليدية بل أصبحت تشمل الفضاء السيبراني والفضاء الخارجي، ومن ثم تبرز الحاجة إلى التفكير بشكل مختلف ومبتكر، واعتماد التفكير المتشعب ((Divergent thinking كأسلوب تفكير إبداعي يقوم على توليد أكبر عدد من الأفكار والحلول، وهو ما يتناسب مع المواقف الطارئة وغير المألوفة، مما يعزز فرص الاستجابة الفعالة للتهديدات بدل الاعتماد على النماذج التقليدية والخطط الجاهزة التي تؤدي إلى الجمود العقلي، وضعف القدرة على التكيف، والعجز عن التفكير خارج الصندوق. وفي هذا السياق، يقترح المؤلفان الموازنة بين التوجه نحو التنوع المعرفي (Epistemic Diversity)، الذي يتيح لصانعي القرار عدة طرق للوصول إلى حلول مختلفة للمشكلات والأزمات التي يسبِّبها التعقيد (Complexity) في الأنظمة العسكرية الحديثة.
يرى المؤلفان أنه ولتحقيق ذلك يمكن الاعتماد على أطر نظرية قدمها العديد من الباحثين، من أبرزهم راسل أكوف (Russell Ackoff) الذي قدَّم أربعة أساليب للتعامل مع المشكلات، وهي: التجاهل (Absolve) حيث يتم تجاهل المشكلة أملًا في أن تُحل ذاتيًّا، والحل (Solve) باستخدام منهجية منطقية وتقنيات علمية لحل المشكلة، والتوفيق أو التسوية (Resolve) وتُستخدم في الحالة التي لا يمكن الوصول فيها إلى الحل المثالي، فيتم الاكتفاء بأفضل الخيارات الممكنة أو الحلول المقبولة، ثم الحل الجذري (Dissolve) الذي يقوم على فكرة أنه إذا تعذر حل المشكلة داخل إطارها فيتم تغيير الإطار بالكامل لإزالة سبب المشكلة.
ينتقل المؤلفان في الفصل الثاني إلى الحديث عن تطور التفكير التصميمي العسكري باعتباره نهجًا معرفيًّا غيرَ خطِّيٍّ ظهر استجابةً لتعقيدات البيئة العسكرية. والتفكير التصميمي، كما يقولان، لا يقتصر على المجال العسكري فقط بل يتم الاعتماد عليه في العديد من القطاعات الأخرى بوصفه وسيلة للتعامل مع المشكلات المعقدة وتعزيز فرص الابتكار(4). لذلك تم إدراجه في معظم مناهج التعليم العسكري في الدول الغربية. ويعني -حسب بعض الباحثين- “القدرة على فهم بيئة الصراع الحالية من منظور شمولي، وتخيُّل بيئة مرغوبة لما بعد الصراع، وتحقيقها بوسائل عسكرية وغير عسكرية غير تقليدية”(3)، ويتم استخدامه في مختلف مستويات العمليات العسكرية، ويتميز بعدة خصائص، من بينها: أنه يركز على التنوع المعرفي، وأنه شامل لجميع المجالات العسكرية، كما يتميز بالمرونة والقدرة على التكيف، ويحتاج إلى تعزيزٍ لثقافة الإبداع والتجريب داخل المؤسسة العسكرية، وإلى العمل الجماعي القائم على تنوع الخلفيات والخبرات وغيرها من الخصائص التي تجعله الأسلوب الأمثل لفهم وتوجيه العمليات العسكرية في القرن الحادي والعشرين.
في الفصل الثالث، يسلِّط المؤلفان الضوء على تنمية العقليات الإبداعية داخل المؤسسات العسكرية والعوامل التي تساعد على تحقيق ذلك؛ فعلى المستوى الفردي يتم هذا الأمر من خلال تشجيع الأفراد العسكريين على الإبداع، وتوفير بيئة مشجعة لهم، مع وجود قيادة عليا داعمة. أما المستوى التنظيمي فيتطلب تغيير الثقافة التنظيمية، وبناء بيئة مؤسسية تشجع التفكير الإبداعي من خلال اعتماد إستراتيجيات متكاملة، ومناهج تعليمية غير تقليدية، وتعزيز التبادل المعرفي بين الدول لنقل المعرفة والتجارب الناجحة.
ينظر الفصل الرابع في موضوع القيود والأساليب التنظيمية العسكرية التقليدية بوصفها عوامل تعيق الابتكار، ومن بينها: الثقافة التنظيمية العسكرية الصارمة التي، وعلى الرغم من كونها تعزز الانضباط العسكري فإنها لا تشجع على الابتكار والتغيير، ومن بينها كذلك الممارسات الراسخة، والتسلسل الهرمي؛ لأن السلطة مركَّزة في أعلى المستويات؛ الأمر الذي يعني أن المبادرات المفترض أن تأتي من أسفل إلى أعلى غالبًا ما يتم رفضها أو تجاهلها خوفًا من المخاطرة والفشل. ومن خلال تبني مجموعة من المبادرات يمكن تجاوز هذه القيود، من ذلك مثلًا: تشجيع المخاطرة المحسوبة، وتعزيز التعاون بين مختلف أقسام المؤسسة العسكرية، وتوفير البيئة المناسبة التي تشجع على الإبداع، وتدريب القيادة على المرونة، والانفتاح على الأفكار الجديدة. أي بعبارة مختصرة، فإن الابتكار في المجال العسكري يتطلب تغييرًا ثقافيًّا وتنظيميًّا شاملًا، يقوم، حسب الكاتبيْن، على توافر أربعة شروط مترابطة: رؤية وطنية واضحة وطويلة المدى، وبنية تحتية داعمة، وقدرة معرفية إبداعية تقوم على تمكين الأفراد وتقدير خبراتهم، ودمج الابتكار في السياسات الحكومية وتقييم الأداء.
ويخصِّص المؤلفان الفصل الأخير للتذكير بأبرز الأفكار الأساسية التي تم التطرق إليها في الفصول السابقة مع تقديم توصيات لصنَّاع القرار والقادة العسكريين حول ضرورة تشجيع الإبداع، والتفكير التصميمي، والابتكار داخل وحداتهم العسكرية، أو داخل المؤسسة العسكرية ككل، وذلك بطريقة مرنة لتتكيف مؤسساتهم -بشكل مستمر- مع التحديات المستجدة، خاصة أن النجاح الحقيقي هو القدرة على الازدهار والتكيف في بيئة دائمة التغير، وتحقيق السلام المستدام بعد القتال، وهو ما يتطلب عقليات إبداعية وتدريبات طويلة المدى بهدف تبني ثقافة مؤسسية تدعم الابتكار، وترحب بالأفكار غير التقليدية، وتشجع المبدعين، كما سبق القول.
والمتأمل في هذه التوصيات يرى أنها تتسم بالترابط فيما بينها؛ فعلى سبيل المثال، التوصية المتعلقة بضرورة تشجيع القادة العسكريين للمبادرات القادمة من الأسفل يردفها المؤلفان بالقول: إنه لتحقيق ذلك لابد من تدريب هؤلاء القادة على التواضع مع أفراد وحداتهم، والسماح لهم بالتعبير عن أفكارهم، وإتاحة الفرص لهم لإبداء آرائهم. لذلك يؤكد المؤلفان أهمية تنويع الآراء والخبرات، وإشراك أطراف متعددة ومتنوعة في صنع القرار، وحتى الشركاء الخارجيين مثل مراكز الأبحاث، ورواد التقنية، لأن ذلك يعزز الابتكار، ويسهم في حل المشكلات بشكل فعَّال، بالإضافة إلى ضرورة تقليل العراقيل البيروقراطية التي تكرِّس الجمود المؤسسي، وتبسيط عملية اتخاذ القرار. ويؤكد المؤلفان على تقليل أهمية تفادي الوصول إلى الكمال أو الحل المثالي للمشكلات، لصعوبة ذلك. وبدلًا من هذا يمكن قبول درجة معينة من عدم الكمال عند تنفيذ أي فكرة، وبناء على الخبرة المكتسبة من الميدان يتم تحسين ذلك تدريجيًّا، وهو ما يشجع على المخاطرة والابتكار وتسريع تطوير العقيدة العسكرية.
ملاحظات نقدية
بشكل عام، يقدم المؤلفان في كتابيهما دعوة إلى ضرورة تبني منظور جديد يوجه العقيدة العسكرية للدول في القرن الحادي والعشرين لتجاوز التفكير التقليدي، يعتمد على الإبداع والابتكار لمواجهة تعقيدات المشهد الأمني والعسكري الحديث، ويواكب التطور التكنولوجي الذي مسَّ أنظمة التسلح والاستطلاع وجمع المعلومات والتخطيط للعمليات، مع ما يتطلبه ذلك من تحلي القادة بروح المخاطرة والشجاعة واتخاذ خطوات عملية في هذا الاتجاه، في مقدمتها تجاوز العراقيل الفكرية والمؤسسية، وإعادة التفكير في ماهية النجاح العسكري الذي لم يعد قاصرًا على الفوز في المعارك بل على القدرة على التكيف والمرونة، وابتكار الحلول والانفتاح على الأفكار الجديدة. ومع إقرارهما بصعوبة تحقيق ذلك فإن الالتزام بعملية تطوير مستمرة للجيوش لتتماشى مع البيئة الإستراتيجية المعقدة والمتغيرة بشكل دائم كفيل بتجسيد هذه التوصيات على أرض الواقع.
وعلى الرغم من أهمية الطرح المُقدم في هذا الكتاب الذي يُبرز أهمية التفكير التصميمي والإبداع في الإستراتيجية العسكرية المعاصرة ودوره في معالجة التعقيد، فإن تطبيق ذلك ليس بالسهولة التي يتصورها المؤلفان، لأن تبني المؤسسات العسكرية للابتكار والإبداع يتوقف على ما إذا كانت تشجع ذلك في ثقافتها التنظيمية، وكذا على درجة تقبلها للتغيير، ناهيك عن باقي القيود السياسية والثقافية والتنظيمية المتجذرة في التفكير العسكري التقليدي والتي أغفلها المؤلفان. كما أنهما لم يقدما الطريقة العملية لإحداث هذا التحول في التفكير العسكري، والتي من خلالها يتم ضبط العلاقة بين الانضباط والصرامة العسكرية من جهة والابتكار من جهة ثانية؛ فالترحيب بالأفكار والنماذج الجديدة في المؤسسات العسكرية يتسم بالحذر، وفي المقابل غالبًا ما يُفضل العمل بالنماذج السائدة والمجربة للحروب(5)، وبالتالي، تظل هناك فجوة قائمة بين الخطاب التنظيري الذي غلب على هذا الكتاب والممارسة العملية للمؤسسات العسكرية. وبالإضافة إلى ما سبق، يؤخذ على المؤلفيْن تركيزهما على المؤسسات العسكرية للدول الغربية ذات القدرات التكنولوجية المتقدمة، وأغفلا الإشارة إلى المؤسسات العسكرية في الدول النامية، بما فيها الدول العربية، وما إن كانت تلك النماذج الغربية قابلة للتطبيق عندها أم يلزمها تكييف وتحوير يتناسبان وبيئة تلك المؤسسات. مع ذلك يبقى الكتاب مرجعًا قيِّمًا في مجال التفكير العسكري المعاصر، ويعد خطوة تأسيسية لتوجه جديد لتحديث المؤسسات العسكرية من أجل مواجهة التحديات غير التقليدية الراهنة.
خاتمة
يمثِّل هذا الكتاب محاولة لتجديد التفكير العسكري من خلال اعتماد الإبداع إطارًا معرفيًّا ومنهجيًّا يوجه المؤسسات العسكرية من الناحية التنظيمية لمواجهة تعقيدات بيئة الحروب المعاصرة، وكمهارة فردية يتم الاعتراف بها وتشجيعها من قبل القادة العسكريين. ويُظهر الكتاب أهمية ذلك في تحفيز المؤسسات العسكرية على تبني المرونة والتكيف مع التحولات التي تشهدها البيئة الجيوسياسية الإقليمية والعالمية فضلًا عن التطور التكنولوجي المتسارع، كما أن الكتاب يُعد مرجعًا مهمًّا في مجال الدراسات العسكرية والأمنية ويفتح المجال أمام الباحثين وصُنَّاع القرار للبحث في كيفية تجاوز الأطر التقليدية التي تحكم المؤسسات العسكرية، والممارسات الراسخة حول الانضباط، والقيادة، والتخطيط، والانفتاح على مقاربات جديدة ومبتكرة.
المراجع
(1)Global Snapshot: The Middle East and North Africa Defense Environment,” Defense One, 05/02/2025. Accessed on 13/08/2025, at: https://bit.ly/3QWfKdJ
(2) Cara Wrigley, Murray Simons, Creativity in Military Complexity Design: Disruptors and Defence Forces, London: Routledge, 2024, p. 5.
(3) Cara Wrigley, Murray Simons, Creativity in Military Complexity Design: Disruptors and Defence Forces, London: Routledge, 2024, p. 42.
(4) Cara Wrigley, Genevieve Mosely, Michael Mosely, “Defining Military Design Thinking: An Extensive, Critical Literature Review,” She Ji: The Journal of Design, Economics, and Innovation, Vol. 7, Issue 1 (2021) , p. 105.
(5) Ben Zweibelson, “Why Do Militaries Stifle New Ideas?”, Contemporary Issues in Air and Space Power, Vol. 2, No. 1 (2024). Accessed on 18/08/2025, at: https://bit.ly/4fPkSWm
(6) Rajeswari Pillai Rajagopalan, Sameer Patil, Future Warfare and Critical Technologies: Evolving Tactics and Strategies, India: ORF & Global Policy, 2024.
* د. حسيبة معوش، أستاذة بجامعة عباس لغرور خنشلة، الجزائر، باحثة في العلاقات الدولية.
Dr. Hassiba Maouche, Professor at Abbes Laghrour University-Khenchela and researcher in international relations.
