مدخل  

يأخذ كتاب “حرب الحضارات لن تقع” الذي صدر في طبعة “كتاب الجيب”، في يوليو/تموز 2018 (بعد طبعة أولى عام 2016)، موقعه الطبيعي في مسار الاستمرارية على مستوى المشاريع البحثية والأكاديمية لمؤلِّفه رافاييل ليوجييه (Raphael Liogier)، عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، أحد المختصين الجادين في الشأن الديني بفرنسا وأوروبا. وهو أستاذ بمعهد الدراسات السياسية (إيكس-أون-بروفانس) بفرنسا؛ وأدار مرصد الشأن الديني من 2006 إلى 2014، ويُدرِّس أيضًا بالمدرسة الدولية للفلسفة.

تنصبُّ أبحاث المؤلِّف، الذي حصل على دكتوراه في علم الاجتماع حول موضوع “تغريب البوذية”، على دراسة تحولات الهويات الدينية، في سياق العولمة، وبناء المتخيل الفردي والجماعي ورهانات التعددية الثقافية في المجتمعات الأوروبية. يتناول كذلك التجليات الحديثة للأديان في مجتمعات العولمة. وقد ألَّف كتبًا ونشر دراسات عن الإسلام والبوذية والمسيحية.

في هذا الكتاب، ووسط صخب الأصوات التي تَدُقُّ في أوروبا والولايات المتحدة طبولَ حرب حضارية فرضها على الغرب إسلام “ذو حدود دموية”، بتعبير صمويل هنتنغتون (Samuel Huntington) في كتابه “صدام الحضارات”، ودين تتجذَّر فيه ثقافة الهيمنة والغزو، حسب تلامذته المنتشرين في الأوساط اليمينية بأوروبا وأميركا، والذين يحضون على التحرك بقوة لوقف ما يعتبرونه مدًّا إسلاميًّا داهمًا، وإنقاذ المكاسب الحضارية المهدِّدة للغرب، يتمسك رافائيل ليوجييه بأطروحة حضارة كوكبية متعددة الروافد تبنيها سيولة الحدود وزخم حركات الهجرة المؤقتة والدائمة وانفجار قنوات التواصل وتدفق المعلومات في جميع الاتجاهات، بل تفرضها طبيعة التحديات التي تواجه الإنسانية.

جدير بالانتباه أن الباحث أنهى مسودة كتابه عقب هجمات 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 التي هزت العاصمة الفرنسية باريس، ونُشِر في ذروة التحريض على الإسلام والمسلمين كعامل تخريب وتهديد مزمن لأمن أوروبا وقيمها. بالنسبة لـ”ليوجييه”، فإن التعايش بين الحضارات أصل، أما العنف فهو دليل أعطاب بنيوية سوسيو اقتصادية وسياسية ينبغي الانكباب عليها بعيدًا عن الأيديولوجيا والرهاب. كما أن إغلاق الحدود وإعلاء الجدران وَهْمٌ غير قابل للتحقيق في زمن العولمة، فضلًا عن كونها سياسة ارتدادية عن دينامية العالم المفتوح الذي بشَّر به الغرب نفسه، ثم إن طبيعة القضايا التي تواجه العالم عابرة للحدود ولا يمكن حلها إلا في إطار حكامة عالمية تلتئم فيها كل الجماعات الإنسانية.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام؛ في القسم الأول، يتساءل رافائيل ليوجييه: “الحضارات…اسم لأي مسمى؟”، ليطرح في القسم الثاني إشكالية “العامل الديني في الحضارة الكوكبية” قبل أن يعكف على مناقشة “الحروب والسلام في الحضارة العولمية”. إنها مباحث تبدو مستقلة نسبيًّا لكنها تتواشج على نحو وثيق، لتخدم أصالة وعمق باحث اعتاد في كتاباته الحفر في المرجعيات الأنثروبولوجية للظواهر، قبل أن يعززها بتوظيف آليات التحليل السوسيولوجي للشأن الديني في مجاله الكوكبي دون أن يغفل استخدام مناهج تحليل العلاقات الدولية، والعلوم السياسية لمتابعة انتقال حركية الهوية من إطار التعبير التلقائي إلى دائرة التوظيف السياسي والأيديولوجي.

إن الكتاب، بنزعته الإنسانية الكونية ومرافعته من أجل الاختلاف كحقيقة مثمنة للاجتماع البشري، يستدعي الكتاب السابق للباحث بعنوان “وَهْم الأَسْلَمَة.. أطروحات حول هوس جماعي” الصادر في طبعتين: 2012 و2016. ففي هذا الكتاب، فكَّك الباحث الفرنسي خطاب تيارات تنتشر في أوروبا الغربية، محذرة من غزو مبرمج وفي المستقبل المنظور من قبل المسلمين، على صهوة انفجار ديمغرافي متواصل وتغلغل استيطاني تدريجي في قلب القارة العجوز، على حساب قيمها العلمانية، وتراثها المسيحي اليهودي ونظامها الديمقراطي وتصورها للحريات الفردية والجماعية.

انتقد رافائيل ليوجييه خطابات أهم مفكري الرهاب الأوروبي من بات يور (Bat Ye’or) وأوريانا فالاتشي (Oriana Fallaci) وبرنار هنري ليفي (Bernard-Henri Lévy)، وكلهم تلامذة لصمويل هنتنغتون، مؤلِّف “صدام الحضارات”، وبرنارد لويس (Bernard Lewis) بشكل أو بآخر. بَسَط خلفياتهم النظرية وقابلهم بحقائق الأرقام المجتزأة أو المغلوطة والمُضَلِّلة التي تروج في سوق الإعلام والاستهلاك السريع لتبرير الخوف والارتياب، وبالتالي، الوصم والتحريض.

وإذ نستحضر الأصوات الجديدة التي تبشِّر بنظرية هنتنغتون، فإنه ينبغي التأكيد على أن الباحث رافائيل ليوجييه ليس صوتًا نشازًا في قارة مستباحة لأصوات التحريض. إنه سليل لشجرة وارفة من المفكرين والمثقفين الملتزمين الحريصين على أن يظل الغرب وفيًّا لقيمه الأنوارية الأصيلة، والمؤمنين بعمق بحقيقة وحدة الحضارة الإنسانية التي هي حصيلة تراكم تجارب جماعات ثقافية مختلفة وأحيانًا متباينة المرجعيات والرؤى. إدوارد سعيد (Edward Said) وإدغار موران (Edgar Morin)، وخوان غويتيسولو (Juan Goytisolo)، ونعوم تشومسكي (Noam Chomsky)، وتزفيتان تودوروف (Tzvetan Todorov) وغيرهم كثير ظلوا يحملون لواء الحوار في الزمن الصعب، ويقدمون التلاقح والانفتاح إجابة استراتيجية عن نقاط الانقسام والشقاق.

سياقات انتعاش نظرية صدام الحضارات

منذ نهاية الحرب الباردة وذوبان الجليد الأيديولوجي الذي كان يشطر العالم حاجبًا مجموعة من العوامل الفاعلة في توجيه العلاقات الدولية، سلمًا وحربًا، تعاونًا وصراعًا، تستعيد الهويات الثقافية والدينية ثقلها في الميزان، ليعيد العالم اكتشاف واقع التعددية الثقافية واختلاف التجارب الحضارية للمجموعات. بعضهم تمسك بهذه الخاصية التعددية بوصفها عامل إثراء لتطور الحضارة الإنسانية، وتثمين للإسهام المتبادل لمختلف الثقافات في الارتقاء بوضع الكائن الإنساني وتعميق تفاعله مع الكون، فيما انطلق آخرون من شرارات العنف التي اندلعت في العقد الأخير من القرن الماضي لينذروا بدخول الإنسانية طورًا جديدًا تحت عنوان حرب الحضارات. هذا الخطاب ليس جديدًا تمامًا، لكن الجديد يكمن في تبلور أرضية سياسية وفكرية حاضنة تعمل على تخصيب المفهوم وجعله مقتربًا تفسيريًّا للاتجاهات الكبرى للعلاقات الدولية، ومرجعًا يملي سياسات عمومية اجتماعية وأمنية تجمع بين القومية والانكفاء.

لقد قوبلت نظرية صدام الحضارات، التي ارتبطت بالمفكر الأميركي، صمويل هنتنغتون، عند طرحها بانتقادات شديدة شرقًا وغربًا نظرًا لطابعها الأيديولوجي وتهافتها العلمي ممثَّلًا في عموميتها وتبسيطها المضلِّل، غير أنه من الصعب إنكار أن اضطرابات وقلاقل النظام العالمي منذ بداية الألفية الثالثة أنعشت النظرية وأنبتت لها نخبًا وأسماء حاملة للوائها وروافع إعلامية مروجة لها بل وأجنحة قيادية تستحث حكوماتها على التأهب لمعاركها والاحتشاد ضد “العدو” المتحفز على حدودها.

ولعل التطورات المتوترة التي عرفتها ملفات الهجرة على خطوط التماسِّ بين الجنوب والشمال، من مختلف المداخل، من آسيا إلى شرق أوروبا، ومن الضفة الجنوبية للمتوسط نحو أوروبا الغربية، ومن المكسيك إلى الولايات المتحدة، بدرجات وبرهانات مختلفة، أذكت الرُّهاب الغربي إزاء العنصر الغريب الذي يهدد الأمن القومي والنسيج المجتمعي، الثقافي والسياسي لمجتمعات الحداثة والديمقراطية، ذات التراث المسيحي-اليهودي، علمًا بأن جل حركات الهجرة تسارعت من بلدان مسلمة. وإلى جانب ملف الهجرة، جاء تطور “الظاهرة الإرهابية” وبروز الحركات الجهادية الجديدة لتزيد في دق الإسفين وتوسيع مساحات الخوف والارتياب في المجتمعات الغربية وفي الدوائر السياسية والبحثية والإعلامية.

الرأي العام بحاجة إلى تفسيرات بسيطة لواقع مركب مأزوم، والتيارات اليمينية وجدت “عدوًّا” سهلًا لإطلاق التعبئة من أجل دحره، والحكومات العاجزة عن إيجاد حلول جذرية للمشاكل الاقتصادية والهيكلية تفضِّل ركوب الموجة لتبرير شرعيتها، وستوديوهات التليفزيون تمنح لنجوم التحذير من غزو “البرابرة الجدد” والدفاع عن الوجود المهدد والقيم الحداثية للغرب فرصة استعراض ملكاتهم التحليلية التحريضية، التي لا تستثني مواطنين أوروبيين كاملي المواطنة، يحملون بالضرورة، وفقط لكونهم مسلمين أو أبناء مسلمين، شبهة المشاركة في مؤامرة ضد الغرب وأوروبا خصوصًا، كما تقول بذلك الكاتبة بات يور.

إن رواج الأفكار المسبقة والأحكام النمطية في سوق الإعلام والفن وفي مختلف ساحات الفعل الاجتماعي، وارتفاع أسهم الأحزاب والمنظمات اليمينية، بتفاوت خطاباتها المتطرفة، في الاستحقاقات الانتخابية للعديد من الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة، بل وفي دول ظلت بعيدة عن أجواء التوتر من قبيل أستراليا ونيوزيلاندا، يمنح نظرية “صدام الحضارات” مجدًا جديدًا يحرج أكثر المتمسكين برؤية متفائلة للسلام العالمي والتلاقح الحضاري والرؤية الإيجابية لعلاقة الذات بـ”الآخر”.

في ندوة بالرباط، لم يتردد وزير الخارجية الإسباني الأسبق، ميغيل أنخيل موراتينوس، في القول: إن الواقع الحالي بتوتراته وشكوكه يعطي مصداقية عملية لنبوءات هنتنغتون. ويستدعي المؤلف نفسه شخصية يسارية منفتحة على الحوار من قبيل هوبير فيدرين (Hubert Védrine) وهو يكاد يستسلم قائلًا: إن “صدام الحضارات تهديد حقيقي”(1). وهكذا يكسب التشاؤم مساحات جديدة.

إن المثير للقلق هو تحول مجال رواج نظرية صدام الحضارات من هامش القرار السياسي والمجال الأكاديمي إلى قلبهما. تصريحات قادة دول من قبيل الرئيسين السابقين، الأميركي جورج بوش، والإيطالي سيلفيو بيرلسكوني، وبابا الفاتيكان السابق، بنيديكت السادس عشر، وغيرهم جاءت لتحفر أخاديد فاصلة بين حضارة ونقيضها. في فبراير/شباط 2012، يستحضر الكاتب خطابًا لوزير الداخلية الفرنسي الأسبق، كلود غيان، قال فيه: “بالنسبة لنا، الحضارات ليست متساوية. الحضارات التي تدافع عن الحرية والمساواة والأخوة أسمى من تلك التي تقبل الاستبداد، ودونية المرأة، والحقد الاجتماعي والعرقي”(2). بل إن تصريح رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق، مانويل فالس، كان أكثر حدة حين شدَّد على أنه “لا يمكننا أن نخسر هذه الحرب؛ لأنها في جوهرها حرب للحضارات. فنحن ندافع عن مجتمعنا، وعن حضارتنا، وعن قيمنا”. كان الرجل يتحدث في سياق مكافحة الإرهاب، الذي اعتبره عنوان حرب بين حضارتين.

تأصيل نظرية صدام الحضارات في الفكر الغربي: من النسبية إلى المفاضلة

لم ينفصل الباحث في كتابه عن نزعته الأنثروبولوجية التي تؤصِّل اشتباكه مع الظواهر الاجتماعية موضوع اهتمامه السوسيولوجي، والمتمركزة أساسًا حول الظاهرة الدينية والهويات الفردية والجماعية. فهو يذهب أبعد من الملابسات التاريخية لاستخدام مفهوم “صدام الحضارات” وإعلان الاستنفار الاستراتيجي ضد الغزو القادم. تقوده حفرياته إلى مسار تبلور تيارات أنثروبولوجية انتعشت في القرن الـ19، ويقوم على فكرة وجود تمايزات جذرية بين الجماعات الإنسانية، مما شكَّل نواة فكرية لبناء الطروحات العنصرية في مرحلة لاحقة، وتفوق أجناس على أخرى وتدشين جدل المفاضلة بين الثقافات، أحيانًا بنظريات علمية مزعومة.

لقد تبلور النقاش الأنثروبولوجي أساسًا بين تيارين؛ بينما يؤمن تيار بمرور جميع الحضارات عبر محطات تطورية معينة، وبالتالي يقرأ خريطة العالم بشكل تراتبي بين حضارات عليا وأخرى دنيا، داعيًا إلى مد اليد من أجل مساعدة الأدنى على الارتقاء (جيمس فرايزر- James George Frazer)، فإن التيار الثاني ينتقد هذا الطرح الذي يعكس رؤية نرجسية متضخمة للعين الأوروبية تجاه باقي الثقافات. بالنسبة لهذا التيار، هناك اختلاف في رؤية كل حضارة للعالم وليس تراتبًا في مراكز الحضارة. الحداثة إذن بالنسبة لهؤلاء مدار ثقافي غربي، في مقابل دوائر حضارية تنمو وفق خصوصياتها في فضاءاتها الجغرافية التي تحتضن تجربتها التاريخية. المختلف إذن ليس أقل تحضرًا. ولذلك، يطيب للمفكر الفرنسي، إدغار موران، أن يستدعي مرارًا مفكرًا من طراز ميشيل دي مونتاني (Michel de Montaigne) حين يقول: “لقد سمينا الحضارات المختلفة برابرة”(3).

هذا التيار له فضيلة أخلاقية في رفض فكرة التفوق الحضاري للغرب، لكنه بالمقابل، بمعاداته للكونية وبالنظر إلى الحداثة كمنتج غربي الهوية، يشجع النزعة القومية المتشددة التي قد تنحدر إلى موقف عنصري إقصائي للآخر. وبالفعل، فقد تطورت النظرية لدى رواد الجيوبوليتيك الألمان الذين طوروا فكرة “المجال الحيوي” العزيزة على قادة الرايخ الثالث.

يثمِّن الكاتب فكرة النسبية الثقافية التي تطفو من ظاهر هذا التيار الذي ينفي كونية الحداثة، لكنه ينبِّه إلى الوجه الخفي والشر الكامن لدى دعاة “النسبية الثقافية المتطرفة”. بالنسبة له، لا يمكن الاعتراف وتثمين الخصوصيات إلا في إطار قاعدة إنسانية كونية توطد التعايش بين عناصرها المتعددة. ذلك أنه باسم هذه النسبية المتطرفة يتم فتح الباب أمام التسامح مع ممارسات منافية للقيم المشتركة، وباسمها أيضًا يتم تبرير تلكؤ الغرب عن دعم انبثاق الديمقراطية الحقيقية إلا إذا تطابق ذلك مع مصالحه. وباسمها، يتم في النهاية ترويج فكرة فض العلاقة مع الحضارات الخارجة عن الفلك الغربي بحجة أن لها ثقافتها ورؤيتها للعالم وينبغي حصرها في مجالها حتى لا يتم تشويه وإفساد منظومة القيم الغربية بتلاقح غير محمود. في توضيح الفرق بين فضيلة النسبية الثقافية وعواقب تطرفها، يستحضر الكاتب هنا تجربته الشخصية مع مخالفيه في موقف الدفاع عن التسامح وتفهم باقي الثقافات قائلًا: “كم مرة قيل لي: بما أنك تناهض القانون الذي يمنع الحجاب الإسلامي بالمدارس، يفترض أن تكون مع ختان الفتيات لدى بعض الثقافات، باسم نسبيتك الثقافية”(4).

إن التطرف في النسبية يضع صاحبه في نفس موقع العنصري الإقصائي لداعية التفوق الحضاري. باسم النسبية المتطرفة تعلو الدعوة إلى الانكفاء على الذات وترك الجماعات ذات الثقافات المختلفة تطور تجربتها الحضارية في جغرافيتها المحددة، وباسم دعوى التفوق الحضاري يتم احتقار جماعات مختلفة وتدجينها بزعم مساعدتها على اللحاق بالركب وتدارك التأخر.

يشدد المؤلِّف على أن النسبية الثقافية بمفهومها النبيل لا تُقَدِّر الخصوصيات إلا في إطار الوحدة الجوهرية للكائن البشري، فهي ترفض الدفع بالخصوصيات لممارسة الإقصاء أو انتهاك الحقوق الطبيعية أو الانكفاء…بقدر ما ترفض مقاربة الخصوصيات على أنها تراتبية تطورية بين الحضارات والثقافات. وللمفارقة، يستدعي المؤلِّف تراثًا حافلًا من التيارات والأسماء الكبيرة في عالم الأدب والفكر ممن كرست فكرة التفوق العرقي وسمو حضارات على أخرى، على غرار آرثر دو غوبينو (Arthur de Gobineau) في كتابه “دراسة حول تفاوت الأجناس البشرية” (Essai sur l’inégalité des races humaines)، والذي حظي بإشادة كبرى من منظِّر وازن للديمقراطية من قيمة ألكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville)، فضلًا عن غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) نفسه صاحب كتاب “سيكولوجية الجماهير” الذي ذمَّ الامتزاج الحضاري بوصفه طريقًا نحو الفوضى(5).

ومن مزايا الكاتب أنه يتجول بين الحقب ليسقط فكرة “الهجرة المنتقاة” التي يتم اعتمادها اليوم في فرنسا ودول غربية على سياقات بداية القرن العشرين والدعوات المحذرة من عواقب امتزاج “عناصر عرقية سيئة” بالعرق الفرنسي. يدق في هذا السياق باب الضمير الأوروبي مذكرًا بأن استبعاد تركيا من الاتحاد الأوربي يُبرِّره الرئيس الفرنسي الأسبق، جيسكار ديستان، صراحة باختلاف الانتماء الثقافي.

يتميز المجهود الحفري للباحث بأنه يكشف حقيقة أن دعوات صدام الحضارات وفك الارتباط بين الحضارة الغربية بتراثها الحداثي “والحضارة الإسلامية بقيمها الهادمة للحريات المهدِّدة للمكاسب الديمقراطية والعلمانية”، في نظر بعضهم، لا تبدو غريبة تمامًا عن تربة فكرية وسياسية لها ذاكرة ممتدة من الأسماء والنظريات والتجارب؛ وإذ يؤصل صدام الحضارات في تاريخ الأدب والعلوم الاجتماعية والإنسانية فإنه يكشف خلفياتها المناهضة لقيم الأنوار والإنسية في الوعي واللاوعي الغربي.

أما عن الجذور الحديثة لنظرية هنتنغتون التي ترفع عنها جدتها وتكشف أن انتعاشها مرتبط بتوظيفها الأيديولوجي والسياسي، فليس المؤلِّف أول من ربط النظرية بأبيها الروحي، المستشرق البريطاني، برنارد لويس. فهذا الأخير استخدم لفظ صدام الحضارات، في أغسطس/آب 1957، في محاضرة حول “الشرق الأوسط في العلاقات الدولية”. يقول برنارد لويس: إن أزمات الشرق الأوسط لا يمكن فهمها فقط من زاوية المصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية، أو حتى بصعود القوميات العربية. يتعين استحضار تاريخ عريق من التعايش والصدام بين كتلتين كبيرتين: أوروبا الغربية بتراثها المسيحي والشرق الأوسط العربي وغير العربي بعقيدته الإسلامية(6).

لكن المؤلِّف يحفر أكثر ليجد أن لفظ صدام الحضارات استُخدم قبل ثلاثين سنة من محاضرة برنارد لويس بواسطة رحَّالة مسيحي هو بازيل ماتيوس (Basil Matthews) الذي جاب المغرب العربي والجزيرة العربية وصولًا إلى أفغانستان، حيث ألَّف كتابًا خلص فيه إلى حالة التضارب التام بين الإسلام والعلم الحديث ونمط الحياة الغربي والديمقراطية والحريات الفردية(7).

يبحث الكاتب في بدايات مَأْسَسَة البحوث التي تكرس جهدها للإقصاء الحضاري باسم الاختلاف الثقافي، والتي تطورت في حضن مثقفين داعمين لفكر الجبهة الوطنية، قاطرة اليمين المتطرف بفرنسا. في عام 1969، تأسست مجموعة البحث والدراسات حول الحضارة الأوروبية ومجلة (Elements) والتجمع الأوروبي للحرية ونادي لورلوج (L’Horloge)، وهو تيار بحثي يؤمن بالتعددية الثقافية لتكريس فكرة الحفاظ على الحدود بين الجماعات الثقافية والعمل على أن تُواصِل كل جماعة تطورها في مجالها الجغرافي والثقافي، وهو نظام للفصل الحضاري باسم قيم “نبيلة”.

يرى الكاتب أن السياسة المتوسطية نفسها للاتحاد الأوروبي ليست إلا تطبيقًا لجوهر هذه الفكرة: العمل على إبقاء الجماعات الحضارية المختلفة في حدودها. إنها سياسة تحدد أولويةً لها كبح دينامية الهجرة. وبالتالي، فـ”الحل هو تقديم المساعدات في عين المكان حتى لا يتحوَّل البحر إلى معبر للغزاة الذين يهددون الأمن الثقافي لأوروبا”.

وبقدر ما للنظرية جذورها الضاربة، فإنها أفرزت امتدادات عميقة اخترقت الكيان الفكري والسياسي الغربي. تحذِّر البريطانية اليهودية ذات الأصل المصري، بات يور، من أَسْلَمَة حاسمة لأوروبا في منتصف الألفية، القارة التي وسمتها “أورابيا” في إشارة إلى احتلال عربي إسلامي للقارة. وغداة هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2011، أصبحت هذه الكاتبة محل احتفاء من قبل دوائر المحافظين الجدد في أميركا واليمين بمختلف تياراته في أوروبا، تجاريها الإيطالية، أوريانا فالاتشي، التي باتت مرجعًا أساسيًّا لليمين الإيطالي، وصولًا إلى أندرس بريفيك، منفذ جريمة أوسلو الذي حدد لنفسه مهمة الدفاع عن الغرب أمام تقدم جحافل المسلمين.

تفكيك نظرية صدام الحضارات: لا حدود بين الهويات

تبدو فكرة صدام الحضارات في محصلتها أشبه بتواطؤ بين الشعبوي الأوروبي والإسلامي المناهض للغرب من خلال دينامية استعادة الهوية التي تتعرض للهجوم. فكرة الصدام تجد بلورتها عند الكاثوليكي المتشدد في أوروبا الغربية، والأرثوذكسي التقليدي الروسي، وأيضًا اليهود الأرثوذكس المتشددين، وصولًا إلى البوذيين المتطرفين في سريلانكا. إنها تسكن كل من رشح نفسه لحمل لواء الدفاع عن هوية جماعية تتعرض لتهديد ماحق.

مقابل ذلك، يرى الباحث أنه في عالم الإنترنت والتبادل المعلوماتي المفتوح، لم تعد هناك دوائر جغرافية مسطرة لبناء هويات متمايزة بشكل جذري، بل ثمة مسلسل لبناء وتفكيك هويات عبر التواصل الاجتماعي الذي أصبح فضاء للرغبة الجماعية بلا وعاء ترابي، في الوقت الذي أتاح أيضًا تشكيل سوق عالمية للرعب، فاعلوها تنظيمات إرهابية تجند شخصيات تشعر بالمهانة وتبحث عن الاعتراف.

لم تعد الهويات كتلًا متراصة بفعل التدفقات المعلوماتية بأذواقها وقيمها وأنماط حياتها. لذلك، فالنتيجة هويات منفلتة وهجينة، ومنظومات قيمية تتعالى على الانقسامات الإثنية والدينية والقومية بل إن الديانات الثلاثة كمنظومات عقائدية وشعائر، لم تنفلت من الفعل التوحيدي للعولمة. متسلحًا بتجربته في الدراسة المقارنة لتحولات الهوية الدينية لدى جماعات مختلفة، يضع الكاتب الإسلام اليوم في وضع المقارنة مع الديانتين التوحيديتين الأخريين، ليخلص إلى أن الديانات الثلاثة تخترقها اتجاهات متماثلة من حيث الجوهر تحت مفعول العولمة العابرة للحدود، والفاعلة في إحداث التغيير والتنميط. يتعلق الأمر بثلاث نزعات: روحية بأشكال مختلفة ذات طابع صوفي، تأملي، أقرب إلى رياضة روحية لمواجهة التوتر والإحباط والضغوط، وكاريزمية تحيل إلى بروز زعامات دينية لها جمهورها ومريدوها من المؤمنين، ثم أصولية تكتسي فعل عودة إلى “الدين الخالص” الذي تعرض للطمس من داخل الجماعة وللاستهداف من خارجها.

إن برنارد لويس وهنتنغتون وتلامذتهما المتكاثرون في الحقل الإعلامي والسياسي الغربي يجمعون، تعسفًا وتعميمًا، كتلًا ثقافية وهويات مختلفة في خانة دينية إسلامية، من وحي وَهْم الغرابة الاستشراقية التي خدمت السياسة الاستعمارية شعوريًّا أو لا شعوريًّا، كما وضح ذلك إدوارد سعيد، خصوصًا في كتابه “الاستشراق”.

وإذ يلتقط الكاتب ربط إدوارد سعيد بين الاستشراق والاستعمار، يطيب له أن يذكر أن هنتنغتون كان يقدم خدماته للمجلس القومي للأمن، وهو مركز تفكير رسمي لواشنطن حول السياسة الخارجية. لقد نشر المقال عن “صدام الحضارات” عام 1993 وأمام الجدل الذي أثاره في سوق الأفكار الاستراتيجية، طوَّره إلى كتاب في 1996.

وكان فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) أعلن “نهاية التاريخ” بانتصار الليبرالية كنظام اقتصادي وسياسي واجتماعي، وتوحيد العالم تحت راية السوق. لكن هنتنغتون رد على تبشيرية فوكوياما بتبيان أن بعض الحضارات غير قادرة على التأقلم مع نظام الديمقراطية. بالنسبة له، الكونية التي بشَّر بها كانط، والمساواة التعاقدية لروسو والليبرالية السياسية لجون لوك منتجات ثقافية غير قابلة للاستنبات في سياقات حضارية غير غربية. وهو لا يخفي أن الغرب حين يرفع شعارات الكونية والدَّمَقْرَطَة إنما يمارس النفاق والبراغماتية، بينما يصف بعض النخب بالسذاجة حين تطالب بدعم مطامح الشعوب إلى الديمقراطية والليبرالية.

يسجل رافائيل ليوجييه أن التقسيم الحضاري لهنتنغتون مرتبك يتجاور فيه الانتماء الديني (الإسلام مثلًا) مع التحديد الجغرافي (الحضارة الإفريقية مثلًا) بالإضافة إلى تحديد لا هو جغرافي ولا هو ديني (الحضارة الغربية). مقتنعًا بـ”النسبية الثقافية” (التي أشرنا سابقًا إلى توظيفها البراغماتي لتكريس الاختلاف مطية لقطع الجسور ومد الأسلاك الشائكة بين المجتمعات)، يهاجم هنتنغتون هذه “الكونية الغربية الفاقدة لأي معنى”(8). بالنسبة له ينبغي جعل الحدود فواصل قاطعة ما أمكن ذلك. ولا جدوى من العمل على إحداث تحول ثقافي ذهني في مجالات حضارية مغايرة. نعم للتعاون المصلحي الذي لا يفضي إلى الامتزاج. ينبغي تفادي التدخل في نزاعات تنتمي إلى حضارات أخرى. عند هنتنغتون، يتجاور القبول بتعددية الثقافات مع الدفاع عن الانكفاء وسد الأبواب والنوافذ أمام التبادل الحضاري دفاعًا عن “استعادة الهوية الغربية”(9).

وجدير بالذكر أنه كلما تم بسط نظرة فاحصة على ساحة الفعل السياسي، انكشف بشكل فادح العمق العنصري لنظرية هنتنغتون، وشبحها المهدِّد للنسيج الاجتماعي في بلدان راكمت تقاليد شعوب متعددة الثقافات على غرار الولايات المتحدة. لقد عبَّر صمويل عن جنون الارتياب الحضاري في كتاب بعنوان: “من نحن؟ تحديات الهوية القومية الأميركية” (2005)(10)؛ حيث حذَّر من خطر الثقافة اللاتينو-أميركية المدعومة بهجرة مكثفة تهدد ثقافة البيض البروتستانت. “إنهم مسيحيون نعم، لكنهم ليسوا مسيحيين كما ينبغي”، بالنسبة له.

الجهادية الجديدة ظاهرة خارجة على البنية الدينية

سيرًا على منوال كتابه السابق “أسلمة الغرب.. طروحات حول هوس جماعي”، يفكِّك رافائيل ليوجييه أوهام الغرب عن إسلام مناهض للحداثة بالطبيعة. والحال أن الإسلام، عقديًّا ولاهوتيًّا، أكثر حداثة، حسب الكاتب، من حيث إنه يقوم على الخضوع لإله غير قابل للتجسيد(11). يعتبر أن القرآن مفتوح للتأويل المحافظ والمجدد على السواء، ويُذَكِّر الفكر الغربي الغارق في الاختزال والتنميطية بأن الإسلام عرف الفصل بين الديني والسياسي منذ العهد الأموي بينما كانت أوروبا غارقة في الظلمات، بل إن الكاتب يستدعي أهمية الشورى للرد على الاتهام الجاهز للإسلام بأنه مناقض جوهريًّا للديمقراطية.

ينبغي تلمس جذور الخطوط المتصادمة، لا في البنية الدينية للحضارة الإسلامية، كما ينحو نجوم الاستوديوهات التليفزيونية في أوروبا وأميركا اليوم. يشدد الكاتب على أن التناقض المفترض بين الإسلام والغرب ليس تعبيرًا عن صدام حضاري، بل نتيجة لأبعاد تجربة تاريخية مشتركة وقسرية تتصل بشكل وثيق بمسلسل الاستعمار الأوروبي. في هذا السياق، يعد دخول نابليون إلى القاهرة، عام 1798، بداية لحدث/عقدة ضمن سلسلة من الأحداث التي طبعت اختلال التوازن بشكل نهائي بين الغرب والإسلام. تناسلت الهزائم التي استوطنت شعور المسلم أمام الغزو الغربي متعدد الأشكال. في المقابل، تبلورت الظاهرة الاستشراقية التي تمازج فيها الانبهار بالتحريض والاحتقار إزاء الإسلام كمنظومة قيم والمسلم ككائن “غير متحضر”.

ينكأ الكاتب بشكل مركز “الجرح النرجسي” كمفهوم محوري في تفسير انتفاضة الهويات، التي قد تتخذ تعبيرات عنيفة أو غير عنيفة. هذا الجرح هو ما ولَّد انبعاث الأصولية التي أفرزت الإسلام السياسي، في نظره. إنه موقف تجاه “ذات دنسها الغرب”.

ومن المفارقات التي يسجلها الكاتب، والتي تزكي تهافت فكرة الصدام الحضاري كحتمية، أن الإسلام السياسي في جوهره موقف ضد الغرب باستعمال مقولات نقدية غربية. إن النقد الموجه إلى الحداثة الغربية من داخلها، ألهم الإسلام السياسي. يتعلق الأمر بفكر مارتن هايدغر (Martin Heidegger) الذي ينتقد ظلام العالم والهستيريا التكنولوجية التعيسة و”الاجتثاث الحديث”، وإرنست يونغر (Ernest Jünger) الذي انتقد طغيان الاستهلاك، والأَمْرَكَة، والبهيمية الحديثة…. وكارل ماركس (Karl Marx) في رفض الفردانية والعبودية الحديثة والاستغلال. تراث كامل ومتعدد الاتجاهات شكَّل موردًا للمنظِّرين الأوائل لفكر النهضة الإسلامية والإسلام السياسي، في استنهاض حالة تعبوية عامة من وحي نقد الذات الواهنة والآخر المدنس. يعود رافائيل ليوجييه للتذكير بأن الأصولية ليست بالضرورة موقفًا وجوديًّا ضد الغرب. إنه تحرك لحماية التقليد ضد شر محدق. تعبير عن شعور بالضعف والظلم، يتطور إلى رهاب.

وبالنظر إلى قربه من جغرافية الأصولية في أوروبا، مجال مراقبته وتأمله الفكري، يتوقف الكاتب بشكل معمق عند الأصوليات في الغرب كفعل يخدم الانتقال من الوعي بالذات كأقلية سلبية إلى أقلية إيجابية تنشد التميز وإثارة الانتباه إلى وجود قائم الذات. وعندئذ، ومن هذا المنظور، يتناول الكاتب الوجه العنيف للأصوليات كما تعكسه الجهادية الجديدة، بوجوهها الشابة التي زرعت الرعب في العديد من العواصم والحواضر الأوروبية.

تنتعش الأصوليات لدى أفراد يعانون عجزًا في الرأسمال الرمزي، وفي الاعتراف بالوجود(12). وتتقاطع الأصوليات عند الخوف من تهديد الغيرية، والديانات والتقاليد الثقافية الأخرى. كما أن الأصوليات توجد في كل الأديان، يقول الكاتب. جذرها النفسي المشترك هو الشعور بالتهديد من الرموز والهويات والسلوكات                                                                                                                                                                                                                                                                                                               المغايرة..

تتطور الأصولية ليس فقط تجاه الآخر، بل تجاه الذات الجماعية التي تصبح موضوع نفي ونقمة، وتنحدر لتشجب تقاليد جماعتها الخاصة بزعم أنها انحراف عن الأصل. ومن هنا احتقارها للتدين الشعبي الذي يوصم بأنه غارق في الضلالات. وينبه الكاتب حاملي فزاعة “الغزو الإسلامي” إلى أن الحرب العقائدية تجري داخل الفضاء الديني نفسه؛ فحرب القاعدة وتنظيم “الدولة الإسلامية” على الشيعة لا تقل ضراوة عن حدة مناهضتهم للغرب، حتى إن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خامنئي، أصبح -على حد تعبيره- “حليفًا موضوعيًّا لباراك أوباما” آنذاك.

إن الإرهاب انفجار لمشاعر جماعية من الإهانة بتعبير عالم السياسة الفرنسي، برتران بادي (Bertrand Badie)، في كتابه “زمن المهانين”(13)، تظل، وفق مسارات تراكمية معينة وبتضافر عوامل مختلفة، مرشحة لإيجاد قناة تصريف استثنائية في تنظيمات متفاوتة الهيكلة والحجم، متباينة القوة اللوجستية والتعبئة الأيديولوجية، تمنح “المهانين” فرصة الانتقام. إنها محاولة لفهم الظاهرة، يقول المؤلف، وليس تبريرًا لها.

في حين يعمد منظِّرو “حرب الحضارات” والمنذرون بغزو إسلامي على الأبواب، إلى تجديد اطمئنانهم لصدق نبوءاتهم عقب كل عملية إرهابية تضرب في عمق أوروبا، ويشغلون المواقع الهجومية للسخرية من سذاجة دعاة الحوار والتعددية الثقافية، ينبري الباحث رافائيل ليوجييه لتجاوز الخلاصات السريعة والكسولة التي تعرض رؤيتها للعالم بمجرد صدور بلاغ عن السلطات الأمنية يكشف اسم المنفذ الذي يحيل إلى “سلالة” مسلمة. وفي هذه النقطة بالضبط، لا يكتفي الباحث بالمجادلة النظرية بل يستدعي تجاربه في المختبرات الجامعية ومتابعاته السوسيولوجية لبؤر الهوية في المجتمعات الأوروبية، وخصوصًا المجتمع الفرنسي، مع انشغال أكثر دقة بمسارات شباب الضواحي الفرنسية التي تنتج صرخات التمرد والانتقام بسبب أوضاع اجتماعية واقتصادية مغلفة بنزعات لوذ بالهويات الأصلية بمكوناتها القومية والثقافية والدينية. يقوده ذلك إلى تفكيك محاولات الربط بين الفعل الجهادي والانتماء العقدي، رغم أن العمليات تتم علنًا باسم الدفاع عن منظومة دينية تخوض حربًا مقدسة ضد الكفار.

جهادية الألفية الثالثة ليست سليلة أصولية دينية، كما تقول بذلك بات يور والفيلسوفان الفرنسيان، برنار هنري ليفي وميشيل أونفري (Michel Onfray). يستعرض رافائيل ليوجييه حالات جهاديين نفذوا عمليات في قلب أوروبا. جلهم يعانون تفككًا أسريًّا وأوضاعًا اجتماعية صعبة في الضواحي، وجرحًا غائرًا في الهوية، يفرزان توجهًا إلى عنف وانتقام كاسحين. الإسلام الراديكالي مجرد شجرة وجدوا فيها إطارًا للتحرك نحو استهداف المجتمع الذي يعيشون فيه. الظاهرة الجهادية لا تتطابق إذن مع حدود هنتنغتون، بل مع جغرافية متحركة سماها أرجون أبادوراي (Arjun Appaduri) “جغرافية الغضب”(14).

على غرار باحثين متخصصين في الإسلام من قبيل أوليفيي روي (Olivier Roy)، يميز الكاتب بين الاتجاه الإسلامي “المزعوم” نحو التشدد، وبين أسلمة التشدد فعليًّا. ليس الإسلام من يتشدد، بل شباب بلا انتماء، أو ماض ديني، يكتشفون عبر الإنترنت قنوات للتعبير عن الكراهية.

إن الجهاد في القرن 21 ليس تعبيرًا عن صدام ثيولوجي، بل نتيجة تضافر عوامل من نبض الحياة الواقعية وتوترات المعيشة. يحيل الكاتب إلى مفعول دَمَقْرَطَة الاتصال والمعلومات، وتمدد مساحات الشعور الجماعي باللاأمن الهوياتي ثم الشعور بالإقصاء والإحباط في مجتمع تتهاطل على بيوته صور وأصوات الناجحين والأثرياء والنجوم، والتي تبدو معها الحياة الرغيدة قريبة بقدر ما هي بعيدة أو مستحيلة التحقق.

وحيث إن رافائيل ليوجييه اعتاد على التعامل مع سيول المعطيات الإحصائية التي تنهال على برامج التليفزيون والصحف، حول تدفقات الهجرة، واتجاهات الجريمة في أوساط أبناء المهاجرين (خصوصًا المسلمين)، بل واللاجئين (كما حدث مؤخرًا في التغطيات الإعلامية لبعض الجرائم التي نُسبت إلى لاجئين سوريين في ألمانيا)، ومع البيانات الديمغرافية التي تنذر بأسلمة سكانية واسعة، والإحصائيات المتعلقة بتطور أعداد المساجد والتجارة الحلال والمقابر الإسلامية….إلخ، فإنه يشهر في المقابل مؤشرات داحضة للمؤشرات التي تضع المسلم في دائرة الاتهام المسبق.

الإنسان المسلم ليس معاديًا بالضرورة لقيم الحداثة والديمقراطية؛ ففي المسح العالمي للقيم، فإن 92 إلى 99 في المئة من المواطنين في ألبانيا، ومصر، وبنغلاديش، وأذربيجان، وإندونيسيا، والمغرب، وتركيا يدعمون المؤسسات الديمقراطية. بينما لا تتجاوز هذه النسبة 89 في المئة بأميركا. إذن، فالواقع أكثر تعقيدًا من تصميم الخرائط المتوهمة، وحفر الحدود طبقًا لأحكام جاهزة(15).

صدام الحضارات ليس في نظر الكاتب إلا وَهْمًا يُشكِّل وقود التعبيرات الجهادية والرهاب الشعبوي الأوروبي في نفس الوقت. نفس الوَهْم يُغَذِّي معسكرين نقيضين يتنفسان نفس هواء: الحقد المرضي على الآخر. هنا، يلتقي ابن لادن مع الأصوليين البروتستانت الأميركيين. فالحقد المتبادل يرسم الصورة نفسها للعالم(16).

يذكِّر ليوجييه بواقع عنيد لا يرتفع: التدفق المعلوماتي الحامل لصور الرفاه والثراء لا يمكن حصره. من يتشبع بهذه الصور قد تتملكه الرغبة في أن يعيش في نيويورك، كما الرغبة في تدميرها…تلك الرغبة اليائسة. الهجرة مسلسل لا رجعة فيه. في نصف قرن من 1965 إلى 2015 انتقل عدد المهاجرين من 77 مليون إلى 200 مليون، أي 3 في المئة من ساكنة العالم. لا يمكن وقف حركات الهجرة إلا بجعل مناطق الجذب مناطق طاردة للرغبة، وبتدمير العالم الافتراضي الذي تسوق فيه نفس الرغبات ونفس المنتجات.

خلافًا للجهاديين القدامى الذين مرُّوا عبر التلقين الديني، فإن الجهاديين الجدد يرتمون في هوس الحرب المقدسة دون أساس ثيولوجي. فشعور الإحباط والغضب يدعو إلى الانتماء لتنظيم عنيف من خلال اللقاء بأصدقاء متشابهين في اليتم وسباق البحث عن معنى أو عبر اكتشاف هذا العالم المثير والجالب للمجد والاعتراف عبر الإنترنت…ينبه الباحث إلى الحقائق الاجتماعية العامة التي ترتسم في خلفيات الشباب الجانح إلى العنف باسم الإسلام. جلهم ينتمي إلى أحياء شعبية، عاطلون، العديد منهم خبروا حياة الإجرام ويوميات السجون. بل إن دراسة حالة هجوم شارلي إيبدو تكشف وجه جهاديين ينحدرون من عائلات غير متدينة بشكل عميق. قاسمهم المشترك وسط عائلي مفكَّك، وحالة يتم حقيقية أو رمزية؛ لا اهتمام بالنصوص الدينية وأحكامها، كما أن اعتناق الفكر الجهادي عند هؤلاء ليس خلاصة انحراف في التدين وتطور نحو الغلو، بل تطلعًا مرضيًّا ويائسًا إلى المجد والاعتراف عبر العنف والانتقام.

عندئذ، وبينما يشكو اليمينيون المتطرفون من تسامح أوروبا مع اقتحام الآخر للمجال العام، برموزه الغريبة، التي تهدد قيم الغرب وأنواره، فضلًا عن الضغط على موارد البلدان المستقبِلة واستنزاف مخصصاتها الاجتماعية وسرقة الوظائف، يضع رافائيل ليوجييه الدولة الأوروبية في قفص الاتهام. أمراض الواقع يراها تطورًا طبيعيًّا لسياسات عمومية لم تكن بالفعل وفية لقيم الليبرالية وحقوق الإنسان. يسجل أن أوروبا تنحدر نحو سياسات تمييزية مناهضة للجماعات الثقافية الأقلية. يمكن فرز ثلاث مراحل لمسار تشدد هذه السياسات: 1) تصنيف بعض المجموعات السكانية بوصفها هامشية، مختلفة. 2) حث الساكنة على استبعاد هذه الجماعة أو تلك من خلال خطاب يصمها كخطر يحمل نوايا غادرة. 3) اتخاذ تدابير عملية تنتقص حقوق هذه المجموعات. يتحدث الكاتب عن عنف جماعي قد يتحول إلى عنف دولة، يتغذى على الحلم الضائع ببناء مجموعة وطنية منسجمة إثنيًّا، ودينيًّا، وثقافيًّا. إنه الرهاب الذي يفضي إلى مناهضة التمازج والتلاقح الثقافي الذي لا يمكن تلافيه في زمن العولمة. تتحول الهويات القومية تحت تأثير هذا الرهاب إلى هويات مفترسة مستعدة للتعبئة ضد ما “يهددها”.

وبالنسبة للمؤلِّف، فإن النزاع العربي-الإسرائيلي يجسد هذا التوظيف الأيديولوجي لمسألة الهوية والتهديد القومي. فقادة إسرائيل يرفعون شعار دولة قومية موحدة إثنيًّا، تواجه التطويق والحصار من قبل “الآخرين”، والحال أن الفلسطينيين هم أكثر ضعفًا، والأكثر معاناة من الحصار والتضييق.

يرى الكاتب أن الغيرية بما تضمره من حضور “الآخر” في “الذات”، تتعرض للمناهضة ليس فقط لأنها مختلفة وغريبة، بل لأنها أيضًا غير آمنة. متحدثًا بلسان المواطن الأوروبي المتوجس من جاره “الغريب” الذي يقاسمه العمارة أو مكان العمل، أو المقهى، يقول: “فنحن لا نعرف هل يتعلق الأمر بمسلم، فقط، أم بجهادي؟ بوذي فقط أم عضو طائفة دينية خطرة؟ يهودي فقط أم فاعل صهيوني؟”(17).

يلوذ الكاتب غير ما مرة بدروس الأنثروبولوجيا. يذكر أن الحضارات كانت تتنازع سابقًا في اعتبار نفسها مركزًا للعالم، والباقي أطراف. كانت تتغذى على تصور معين للعدو يسهم في تشكيل لحمة المجتمع المعني بمحاربته، حسب بيار كلاستر (Pierre Clastres)(18). اليوم لا وجود لمركز، في ظل عولمة مفتوحة، مما يعيد تعريف الحضارة التي كانت مرتبطة سابقًا بوعاء جغرافي معين، وبتعريف الذات في مقابل الآخر الكائن وراء الحدود. تكاد هذه الحدود اليوم تفقد وظيفتها المانعة والمحددة لفضاءات نمو الهويات والثقافات المتمايزة.

وفيًّا لتقاليد الفكر النقدي الذاتي الذي انبثق من داخل التراث التنويري الغربي، يلاحظ الكاتب أن الغرب بصدد نفي جوهر حداثته؛ فالحداثة تتمثَّل قبل كل شيء في خلق إمكانيات لتعايش عدة أنماط من الحياة                         وأشكال للوجود تبدو متنافرة. الحال أن محاولة العودة إلى الانسجام والوحدة عن طريق إقصاء الآخر واستبعاده من المجال القومي لا يمكن أن تفرز هوية مستقرة وواثقة من نفسها، بل ستفجر وضع شقاق عالمي غير قابل للإدارة، وسيقضي على إمكانية تعايش جماعي لا غنى عنه لمستقبل العالم.

تحديات كونية تفرض حكامة جامعة

ثمة مشكلة سياسية في تدبير التعددية الحضارية، أو على الأقل جزء منها هو كذلك. الدولة الأمة تعيش أزمة وجودية في زمن العولمة، فالتدفقات العابرة للحدود تنفلت من سيطرتها، والمشاكل الكبرى ذات طابع عابر للحدود، ومنطق الرأسمالية الجديدة يتحدى الآليات الرقابية الرسمية، واحتكار العنف بات سلطة متجاوزة، والسيطرة على التدفقات الفكرية وهم فادح…. فماذا تبقى للحكومة لتبرير شرعيتها؟ يقول الباحث: إن الدولة الأمة تلعب لعبة خطرة للتعويض عن خسائرها برفع صوت الهوية الوطنية التي تواجه حرب تصفية كما تصور ذلك للجماهير(19). إنها تحاول إنعاش هويات إقصائية أحادية التكوين، بل لا تتردد في إحياء نزعات انفصالية لتبرير الحاجة إليها. والحال أن طبيعة القضايا التي تطرح على المجتمع العالمي تقتضي تضامنًا كونيًّا يبدو بعيد المنال أمام نخبة قيادية غارقة في السياسوية القصيرة الأفق.

النخب تتحاشى الدفاع عن فكرة وحدة العالم كي لا تبدو أنها غارقة في يوتوبيا وبعيدة عن تلبية الانتظارات الخاصة بالهوية القومية، والحال أن وحدة العالم ليست مناقضة للهويات الخاصة، لأنها لا تقوم على التنميط والمركزية، بل على التضامن والتعايش.

هذا هو الحال، لكن التشخيص أسهل من اقتراح البدائل في ظل واقع مضطرب ومختل، ونظام عالمي في وضع مخاض مزمن يعقد كل السيناريوهات والتوقعات. يكاد الكاتب يعترف أن الأمر يتعلق بيوتوبيا حين يرفع شعار حكامة عالمية كمنفذ خلاص من نفق حالة حرب دائمة تعيد البشرية إلى الحالة التي وصفها توماس هوبز (Thomas Hobbes): حرب الجميع ضد الجميع.

وتُعَدُّ فكرة برلمان عالمي نواة أولى نحو تجسيد هذه اليوتوبيا. برلمان مستقل عن سياسات الدول يقترح آليات الضبط الاقتصادي والاجتماعي والقانوني والإنساني خارج منطق المصالح الجزئية القومية. الأمم المتحدة اليوم ليست إلا رجع صدى للنخب التنفيذية في الحكومات بينما المطلوب حكامة عالمية وليس حكومة عالمية تلغي الدول.

إن الحكامة القائمة على مؤسسات عالمية تفرض نفسها اليوم بشدة. تهديد الإرهاب وانهيار النظام المالي والحروب الأهلية والكوارث البيئية كلها تدق ناقوس الخطر. قد تختلف الحضارات في كل شيء، لكنها تتقاسم منظومات بيئية كانت وراء اختفاء حضارات قومية، كما أوضح ذلك الجغرافي جاريد دايمند (Jared Diamond)(20). فلعل الخطر البيئي الماحق وضرورات البقاء تحرِّك دينامية جديدة خارج منطق المغالبة والصراع الذي طبع تاريخ العلاقات الدولية حتى اليوم.

يريدونها عولمة في اتجاه واحد، تسخر المجتمعات الهامشية والهويات المختلفة في الجنوب، وضمنه الفضاء العربي الإسلامي، سوقًا استهلاكيًّا وقواعد خلفية في مسار التنافس بين القوى داخل المجال الغربي. وفي المقابل، يسعون إلى صد أبواب تفاعل متبادل المنافع، وتلاقح يثري التجربة الحضارية الإنسانية. منطق ينسف نفسه حسب الكاتب الذي يبني مجمل فكرة الكتاب على دحض نظرية صدام الحضارات، وتأكيد أن العالم يشهد مخاض حضارة كونية تصنع الوحدة الإنسانية أكثر من أية حقبة سابقة في تاريخ البشرية، وإن كانت لا تعلو على التوترات والاحتكاكات وأشكال العنف الجذرية غير المسبوقة. في الحضارة العولمية، لا دولة تتحكم في مركز العلاقات، والآخر لا يوجد في حدود مسطَّرة، بل يوجد في كل مكان، سواء افتراضًا من خلال فضاءات التواصل والإعلام أو حقيقة من خلال حركية الأشخاص في إطار الهجرة. الغيرية ليست اختيارًا بل واقعًا قائمًا تزكيه حركة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي. وإنه لمن سخرية التطور أن الحضارة الغربية التي كان لها نصيب الأسد في صناعة الثورة التواصلية والتبشير بالقرية الكوكبية تنتج أكثر المواقف ارتدادًا ونكوصًا في اتجاه إعادة إعلاء الأسوار وحشر الآخر داخل حدوده. الجدار العازل ليس تطبيقات مادية في الأراضي العربية المحتلة وعلى الحدود الأميركية المكسيكية وعبر ضفتي المتوسط، بل هوسًا ما فتئ يتغلغل في أعماق الغرب، وعيه ولا وعيه.

خاتمة

رافائيل ليوجييه هو أحد الباحثين المتميزين بموضوعيتهم وأصالتهم واستمرارية مشاريعهم الفكرية وجرأتهم أيضًا في تناول مواضيع ساخنة، تجعله من الأشخاص غير المرغوب فيهم عمليًّا في دوائر الإعلام التي باتت تميل أكثر جهة اليمين. ويكفي مقارنة وضعه في فرنسا مع الحالة الاحتفالية التي يحظى بها كُتَّاب من قبيل برنار هنري ليفي، وميشيل هولبيك وإريك زمور في فرنسا. لكنه ليس صوتًا معزولًا في خانة تحفل بورثة الأنوار ودعاة الحوار الحضاري والحالمين بعالم تتضافر فيه الوحدة والتنوع. إنه سليل شجرة تقاوم غواية الرهاب والقطيعة بين المجتمعات. هو تجسيد لجيل جديد يواصل حمل الشعلة الفكرية والإنسانية التي مثلتها أسماء من قبيل إدغار موران وتزفيتان تودوروف وغيرهما.

يقول إدغار موران: إن الحضارات والثقافات لا تتحاور، وحدهم الأفراد يستطيعون ذلك، أولئك الذين يتمتعون بموقف منفتح ومعترف بالآخر، ويعتقدون أنه انطلاقًا من الاختلافات يمكن إيجاد قاعدة مشتركة، ولغة مشتركة.

بالنسبة له، فإن الغربيين الذين درسوا باقي الحضارات يؤمنون بأن الإسلام لا يمكن أن يُختزل في الأصولية. إنه دين كبير له دور حضاري بارز في التاريخ. بل إنه كان الحضارة العظمى في القرون الوسطى. هناك عدة تأويلات للإسلام، وبمجرد وجود تنوع من داخل الثقافة، ثمة أناس مستعدون للحوار. بذات نبرة رافائيل ليوجييه، يشدد صاحب كتاب “سياسة للحضارة” على أن الاعتراف بالآخر مقدمة ضرورية لأي حوار، فلا حوار بين السيد والعبد. الحوار يستلزم المساواة وهو أمر جديد في الثقافة الأوروبية التي اعتادت الهيمنة والاستغلال بدءًا من غزو أميركا، وتجارة الرقيق. لقد مارس الغرب أقسى وأطول سياسات الهيمنة عبر التاريخ. يستعير موران قولة مونتاني: “إننا نسمي الحضارات الأخرى برابرة”(21).

إن خلاصات “حرب الحضارات لن تقع” لا يمكن إلا أن تستدعي أيضًا رسالة مماثلة ظل يوجهها المفكر الفرنسي البلغاري، تزفيتان تودوروف، الذي رصد في كتابه “الخوف من البرابرة” كيف أن الخوف يسقط الغرب في مقاربة بعيدة عن التسامح تجاه أقليات واسعة، فقط لأنها تعطي للدين مكانة أوسع في حياتها الاجتماعية مقارنة مع المجتمعات الغربية التي تجد صعوبة في تفهم هذه الخصوصية.

يقوم تودوروف بمماثلة منهجية تاريخية حين يربط بين وصف دوائر غربية للحضارة الإسلامية بأنها “بربرية” وبين مفهوم البرابرة في عهد اليونان والذي كان يشمل كل من لا يتحدث اللغة اليونانية، ليخلص إلى أن المركزية الغربية ترى أن كل من يخرج عن القيم الغربية يدخل دائرة “البرابرة”. والحال أن البربرية الحقيقية تتحقق حين تعتقد مجموعة بشرية ما -في إشارة إلى الغرب- بأنها تجسد التمدن والإنسانية وترفض الاعتراف بتجربة الآخر، فتسقط في شَرَك الانغلاق على ذاتها، وذلك مؤشر رئيسي على حالة “البربرية”. وخير تجسيد لهذه الأصوات، الصحفية الإيطالية، أوريانا فالاتشي، في كتابها “غضب وكبراء”؛ إذ ترى أن “مجرد الحديث عن ثقافتين يزعجني. أما وضعهما على نفس المستوى فيثير حنقي”. كما يتوقف عند نموذج الكاتب إيلي برنافي في كتابه “الأديان القاتلة” الذي جاء فيه: “هناك الحضارة وهناك البربرية، وبينهما لا وجود لنقطة حوار”(22).

ينتمي رافائيل ليوجييه إلى عائلة فكرية تحمل همَّ المصير الإنساني أبعد من انتماء شوفيني ضيق أو حسابات مصلحية قومية. ينصت إلى دروس التاريخ وتعقيدات العالم وتعددية حقيقة تاريخية موزعة بين الثقافات والتجارب الحضارية المختلفة. لعله ينتمي إلى الأقلية من حيث مساحات الاعتراف والترويج، وبالتالي التأثير في الرأي العام وفي صناعة القرار. ولعل الأمر كان دائمًا على هذا النحو، حيث أصوات الحكمة واليقظة تحتل الهامش، لكنها بذات الوقت ضرورية لإبقاء جذوة المقاومة حية تطرق باب الضمير، خصوصًا في حقبة يتشكَّل فيها انطباع قلق بأن العالم في رحلة متسارعة نحو الدمار الذاتي، ليس فقط بفعل حروب عبثية واختلالات ذات طابع اقتصادي واجتماعي، وتحديات أمنية عابرة للحدود ومتحدية للسيادات القومية، وأخطار بيئية تحمل على عد عكسي لفرص الحياة على الكوكب، بل أساسًا بفعل غياب الوعي الكافي بأن المدخل الناجع لتدبير هذه القضايا يقتضي تغييرًا جذريًّا في اتجاه وحدة إنسانية جامعة، تتيح لمختلف الأفراد والجماعات حق الحياة والمساهمة في بناء مستقبل العالم.

المراجع

 

(1) Hubert Védrine, Continuer l’Histoire (Paris: Fayard, 2007), 86.

(2) Raphael Liogier, Le mythe de L’Islamisation: Essai sur une obsession collective (Paris: Seuil, Collection Points, 2016), 40.

(3) جاء ذلك في حوار مع إدغار موران ضمن ملف حول “الحوار بين الحضارات” صدر في نشرة اليونسكو (النسخة الفرنسية)le nouveau courrier  . يناير/كانون الثاني 2004. ص 10.

(4) Raphael Liogier, la Guerre des civilisations n’aura pas lieu (Paris: CNRS, Collection Biblisp, 2018), 39.

(5) Ibid, 43.

(6) Ibid, 9.

(7) يتعلق الأمر بالكتاب التالي:

Basil Mathews, Young islam on trek: a Study in the clash of civilisations (New York: Friendship Press, 1926).

(8) Samuel Huntington, Le choc des civilisations (Paris: Odile Jacob, 2005), 481.

(9) Ibid, 481.

(10) Samuel Huntington, Who Are We?: The Challenges to America’s National Identity (Simon & Schuster, 2005).

(11) Liogier, la Guerre des civilisations n’aura pas lieu, 59.

(12) Ibid, 79.

(13) Bertrand Badie, le temps des humiliés: Pathologie des relations internationales (Paris: Odile Jacob, 2014).

(14) Arjun Appadurai, Fear of Small Numbers: An Essay on the Geography of Anger (Duke University Press Books, 2006).

(15) Pippa Norris and Ronald Inglehart, “Islamic Culture and Democracy: Testing the ‘Clash of Civilizations’ Thesis,” Comparative Sociology 1 (3), (2003): 251

(16) Liogier, la guerre des civilisation, 156.

(17) Ibid, 205.

(18) Pierre Clastres, Archéologie de la violence: La guerre dans les sociétés primitives (Paris: Ed de l’Aube, 2010), 86.

(19) Liogier, la guerre des civilisations, 219.

(20) Ibid, 229.

(21) حوار إدغار موران، مرجع سابق، ص 10.

(22) من عرض حول كتاب “الخوف من البرابرة”  (La peur des barbares)لتزفيتان تودوروف، من إعداد نزار الفراوي، الجزيرة نت، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2008، (تاريخ الدخول: 1 سبتمبر/أيلول 2019): https://bit.ly/2orJCyo.