مقدمة

تعاني المنطقة العربية أكثر من أزمة في التعامل مع حاضرها، ناهيك عن الحيرة في تحديد البوصلة نحو استشراف المستقبل. فقد تحوَّلت آمال الانتفاضات العربية في التغيير السياسي الشامل عام 2011 إلى تفاقم الأوضاع السياسية والأمنية وتردي الأحوال الاقتصادية مما يثير المزيد من الضجر وخيبة الأمل لدى الشعوب، وأيضًا التلاعب السياسي على نطاق واسع بسبب الأداء الرديء لحكومات إسلامية وعلمانية وعسكرية وقومية وائتلافية وغيرها من أصناف الحكومات التي قدَّمت نفسها بديلًا بعد سقوط أنظمة ابن علي ومبارك والقذافي وصالح. وبعد ثماني سنوات من فورة الآمال عالية السقف، تحوَّلت قصة التغيير والإصلاحات الديمقراطية في العالم العربي إلى حكاية لا متناهية. وتجد المجتمعات العربية نفسها تتعثر أمام عملية الانتقال من وضع تُسمِّيه أدبيات علم الاجتماع السياسي “التحرر من” (freedom-from) (الحرية السلبية كناية عن المطالبة بتغيير الأنظمة القائمة عام 2011) إلى تحديد وضع “التحرر إلى” (freedom-to) (تركيب نظام سياسي بديل بعد الانتفاضة أو الثورة). فكيف يمكن لهذه المجتمعات أن تتحوَّل من الوضع الأول الذي ينطوي على “حرية وصفية” (descriptive freedom) إلى تحديد آليات العمل السياسي من منطلق “حرية تقييمية” (evaluative freedom) في حقبة ما بعد الانتفاضات؟

يمكن تعقُّب أصل هذا المفهوم “التحرر من وإلى” إلى أعمال إيمانويل كانط (Immanuel Kant) في أواخر القرن الثامن عشر، وفي المقام الأول “ميتافيزيقيا الأخلاق”. كما تم تطويره في وقت لاحق من قِبَل عالم النفس الاجتماعي، إريك فروم (Erich Fromm) (1900-1980)، في كتابه: “الهروب من الحرية” في عام 1941، وكذلك المنظِّر السياسي، أشعيا برلين (Isaiah Berlin) (1909-1997)، في محاضرتين عن مفاهيم الحرية ألقاهما في جامعة أكسفورد في عام 1958. يُعرِّف برلين الحرية، بالمعنى السلبي، بأنها “إجابة على السؤال: “ما المجال الذي يُترك أو يُترك فيه الشخص -أو مجموعة من الأشخاص- لما يمكن أن يفعلوه أو يكونوا عليه، دون تدخل من قبل الآخرين”(1).

مع مطلع عام 2019، تبدو جلُّ الدول العربية عالقة داخل مثلث مظلم وخانق يتوالد الضغط بفعل تقارب أضلاعه الثلاثة:

 1- دينية الخطاب السياسي: كناية عن دور حركات الإسلام السياسي التي تكرِّس منحى أيديولوجيًّا يستغل سماحة الدين لتحقيق طموحات سياسية.

2- توحش السلطة: في إشارة إلى مقاومة أصحاب النفوذ السياسي والمالي لمشروع التغيير وعودة الدول العميقة وتبريرها سياسة التخوين والشيطنة والإقصاء لمعارضيها سواء كانوا من الإسلاميين أو من سواهم تحت ذريعة “مقاومة التطرف” أو “مكافحة الإرهاب”.

3- نكوص الهويات الوطنية في أغلب الدول العربية وقيام عصبيات جديدة تتمحور حول الطائفة أو المذهب أو الأصل العرقي أو اللغة وشتى الفوارق الضئيلة بين شيعة مقابل سُنَّة، وإسلاميين ضد حداثيين، وتعريبيين ضد تغريبيين، وأمازيغ ضد عرب وغيرها من أصناف التخندق الهُوِيَّاتِي.

تركز هذه الدراسة على تحليل الديناميات البنيوية والاجتماعية والثقافية التي تتحرك داخل أضلاع المثلث المجازي، وتفكيك العوامل التي دفعت المنطقة العربية إلى مأزق التحديات والتخبط السياسي حتى في تونس التي يعتبرها البعض قصة النجاح الوحيدة في الانتفاضات العربية. ثمة أكثر من سؤال يطرح نفسه بإلحاح في مستهل العام الثامن بعد الانتفاضات: كيف انتهى الأمرُ بالمنطقة العربية إلى هذه الحال دون استكمال دورة الانتقال السياسي؟ ولماذا يتركز كل هذا العنف والصراع في منطقة ذات بُعد استراتيجي، تقع في قلب العالم وتحظى بموارد طبيعية وبشرية هائلة؟ لماذا يظلُّ العجز الهائل في مشاريع الإصلاحات الديمقراطية وفي الكياسة عند الاختلاف وأخلاقيات الخطاب العام في هذه المنطقة؟

تهتمُّ هذه الدراسة بالبحث فيما يمنع المجتمعات العربية من أن تختطَّ مسارًا سهلًا يأخذها إلى الحداثة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية؟ وهل ثمة أي أفق حقيقي لعصر عربي تنويري يساعد العالم العربي في مرحلة المخاض قبل ولادة ديمقراطية عربية؟ وتقترح الدراسة أيضًا بضع خلاصات حول تداعيات ما يمكن اعتباره عصرًا جديدًا للطائفية وبقية تحديات التحديث والإصلاحات الديمقراطية في العالم العربي.

ملامح المشهد العربي الراهن

قد يكون القول: إن المنطقة العربية تتخبَّط في أزمة في هذه الحقبة المليئة بالاضطرابات نوعًا من التهوين من سوء الواقع الحالي؛ فقد أصبح اليمن وسوريا وليبيا مرادفات لحروب أهلية ضارية، ومختبر تجارب لسياسات داهية تنتهجها بعض القوى العظمى والدول الإقليمية والميليشيات المسلحة وسط تزايد عدد القتلى بين المدنيين وتعثُّر مهام السلام التي تقودها الأمم المتحدة في تلك الدول الثلاث. ومن شأن الحسابات الاستراتيجية الراهنة لكل من روسيا وإيران وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة في سوريا بشكل عام أن تؤدي إلى حرب إقليمية في حال تصرَّف أحد هؤلاء اللاعبين بشكل يُبعثر ميزان القوة الهش الراهن في المنطقة. ويظل الموقف الراهن بين إسرائيل وإيران مثلًا مثيرًا للقلق سواء بحكم الوضع العسكري المتقلب في سوريا أو العداء المستشري بينهما منذ الثورة الإسلامية عام 1979 وحملة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، منذ أعوام لحرمان طهران من إمكانية تطوير قدراتها النووية. في شهر مايو/أيار من عام 2018، قرَّر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الانسحاب من الاتفاق النووي الذي وقَّعته سبع دول، وفرض عقوبات على جميع الشركات والحكومات التي تقوم بالاستثمار داخل إيران. وقد ألمح ترامب في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2018 إلى “أن جميع الدول ستقاطع النظام الإيراني”(2). ويبدو أن هذه التطورات تعزز آمال نتنياهو أكثر من أي زعيم آخر في المنطقة بإمكانية عزل إيران والنشوة بتكريس تفوق عسكري إسرائيلي في المنطقة وسط مسيرة التطبيع مع بعض الدول الخليجية بعد مصر والأردن.

في الوقت ذاته، تظل دول أخرى مثل العراق ولبنان رهينة سياسات طائفية وتنافس محتدم بين مختلف التيارات المذهبية والسياسية لنيل السيطرة على البرلمان وسائر أجهزة الدولة. وإذا اتجهنا جنوبًا، يبدو أن بعض دول مجلس التعاون الخليجي قد استنفدت الرغبة في الائتلاف، وانقلب بعضها ضد بعض. ومع دخول الأزمة الخليجية شهرها التاسع عشر دون ظهور مؤشرات فعلية على قرب طيِّ صفحة العداء بين الرياض وأبو ظبي من جهة والدوحة من جهة أخرى، تضعف مشاعر التفاؤل بعودة مجلس التعاون الخليجي إلى الواجهة كَتَكَتُّل إقليمي متماسك من جديد.

في مصر، تتجلَّى حالة فريدة من عَسْكَرَة الدولة والمجتمع؛ فقد أصدر القضاء مؤخرًا أحكامًا بالإعدام ضد خمسة وسبعين ناشطًا وعضوًا في جماعة الإخوان المسلمين. وهي أحكام تعكس الخط السياسي غير الحصيف للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يؤمن بسحق أي معارضٍ محتمل له سواء كان إسلاميًّا، أو علمانيًّا، أو معتدلًا، أو أيًّا كان. وإذا تحرَّكنا باتجاه الغرب، ليست الأمور في دول المغرب الكبير وردية على أية حال؛ فليبيا تظل حالة تعثُّر متشابك في الانتقال السياسي رغم جهود خمسة من المبعوثين الدوليين الذين أرسلتهم الأمم المتحدة للتعامل مع النزاع الليبي بعد سقوط معمر القذافي عام 2011 وسط انتشار السلاح وتجدد أعمال العنف، ومعضلة الهجرة العشوائية، وعودة العبودية وأسواق النخاسة. وتبيَّن أنه تمَّ بيع عدد من اللاجئين الأفارقة مقابل 800 دولار للعمل في المزارع في مناطق تحكمها بعض القبائل الليبية.

في تونس المجاورة، التي تعتبر الأمل الوحيد المتبقي للانتفاضات العربية أو ما سُمِّي بـ”الربيع العربي”، أصبح التطاحن السياسي الداخلي في النصف الثاني من عام 2018 مناسبة لاستعراض القوة بين حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس التونسي، وزعيم الحزب الحاكم نداء تونس، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد. أما الجزائر، فتُجسِّد حالة فريدة من المتاهة السياسية واليأس الاقتصادي والضجر الاجتماعي وسط الحديث عن احتمال ترشيح الرئيس المريض، عبد العزيز بوتفليقة، لفترة رئاسية خامسة في انتخابات عام 2019. ثمة نقاش سياسي حامي الوطيس بين الجزائريين حول معضلة واحدة: من هو الحاكم الفعلي للجزائر؟ ويسود الاعتقاد الشعبي بأن صنع القرار الفعلي يظل في دائرة صغيرة من السياسيين غير المعروفين وقادة الجيش ورجال المخابرات. وهم المعروفون أكثر بين الجزائريين بالتسمية الفرنسية “le pouvoir” (السلطة).

في أقصى المغرب، كشفت المظاهرات التي أعقبت مقتل صياد السمك، محسن فكري، داخل شاحنة لنقل القمامة في مدينة الحسيمة الساحلية، في 28 أكتوبر/تشرين الأول عام 2016، ومسيرات الاحتجاج التي قام بها عمال المناجم في مدينة جرادة، والمقاطعة المفتوحة لبعض العلامات التجارية لشركات البنزين والماء والحليب، كشفت عجزًا في قدرة جهاز الشرطة والمخابرات على احتواء حركة الاحتجاجات الشعبية. وعكست أيضًا عمق الفجوة بين الدولة والمجتمع وتآكل مصداقية الحكومة ومن خلفها المَلَكية وثقة الشعب فيهما. في الوقت ذاته، عززت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في موريتانيا سلطة الحزب الحاكم، الاتحاد من أجل الجمهورية، ومهدت الطريق للرئيس محمد ولد عبد العزيز ليعلن حملة لتضيق الخناق على المؤسسات التعليمية التابعة للتيارات الإسلامية.

ما وراء السببية

يستدعي تحليل الأوضاع الراهنة في المنطقة العربية ثلاث ملاحظات رئيسية، أولها: لا يمكن الاعتداد بمنطلق أحادي في تحديد ديناميات التدهور الذي وصلته الأوضاع العربية بداية 2019 أو أنها تُعزى إلى سبب واحد، بل إلى حزمة عوامل بنيوية واقتصادية ونفسية تتداخل في ما بينها وتزيد في مستوى تشابكها. لذلك تستحضر هذه الدراسة نظرية التعقيد أو التشابك (complexity theory) كإطار تفسيري لفهم “كيف يتفاعل الأفراد والمنظمات ويرتبطون ويتطورون في إطار نظام اجتماعي أوسع”، وكما تقول إيف ميلتون كيلي (Eve Mitleton-Kelly)، من كلية لندن للاقتصاد: إن “التعقيد يشرح لماذا قد تكون للتدخلات عواقب غير متوقعة؛ إذ تؤدي العلاقات المتداخلة والمعقدة بين العناصر داخل أي نظام معقد إلى سلاسل متعددة من التبعيات”(3).

مع دخول العام الجديد، ثمة مؤشرات يتم الكشف عنها تدريجيًّا عن أكثر من اتجاه واحد في خسارة أو تقلص الرأسمال الاجتماعي في كلٍّ من أبعاده السياسية والمجتمعية في المنطقة العربية. وتبرز بعض الأسئلة الصعبة: ما الذي نال من حيوية الرأسمال الاجتماعي بين الدولة والمجتمع في السنوات القليلة الماضية؟ كيف يتحرك هذا التراجع في الاتجاهين الرأسي والأفقي معًا؟ تبعًا لذلك، تدعو الحاجة لإجراء تشخيص سوسيولوجي دقيق للتفكك بين السياسة والمجتمع في الدول العربية، بين النص والممارسة، بين الجسد والروح، وبين الخطاب ومسار السياسات العامة. وهناك أدوات متنوعة من العلوم الاجتماعية في المتناول من علم النفس الاجتماعي إلى علم الاجتماع السياسي، من مفهوم الاحتياجات الإنسانية الأساسية إلى الاقتصاد الكلي، ومن السياسة الواقعية إلى نظريات الحركات الاجتماعية والعمل الجماعي. وعلى طول الخط المتوازي بين الخطاب الرسمي والسرديات الشعبية التي تغمر وسائل التواصل الاجتماعي، هناك المزيد من الاختلافات ومحاور التباعد، مما يثير أسئلة جديدة حول تقلبات رأس المال الاجتماعي العربي، بإيعاز من بعض الديناميات المحلية والإقليمية والدولية.

يقول عالم الاجتماع الأميركي، تشارلز رايت ميلز (Charles Wright Mills)، في كتاب “الخيال السوسيولوجي”، الذي أصدره عام 1959، “لا يمكن فهم حياة الفرد أو تاريخ المجتمع دون فهم كليْهما معًا”. كان ميلز يؤمن بأن علم الاجتماع يمكن أن يثبت لنا أن “المجتمع -وليس نقاط ضعفنا وإخفاقاتنا- مسؤول عن العديد من مشاكلنا”(4). وجادل بأن من المهام الرئيسية لهذا العلم تحويل المشاكل الشخصية إلى قضايا عامة وسياسية. وتوقَّع أن يكون الخيال السوسيولوجي “الوعيَ الحيويَ للعلاقة بين التجربة الفردية والمجتمع الأوسع”(5).

عند التحليل الدقيق لأوضاع دول، مثل: سوريا والعراق واليمن ولبنان والسودان وجنوب السودان وليبيا، لا يجد المرء تصنيفًا آخر غير دول هشة أو دول فاشلة. فقد جاءت أكثر الدول العربية ضمن أول خمس عشرة دولة في مؤشر الدول الهشة لعام 2018(6). ولا يمكن لدول أخرى كانت تعتقد أنها مستقرة وتصمد في وجه رياح عام 2011 أن تدَّعي أنها قوية أو مترسخة حتى وإن كانت ملكيات، مثل: المغرب أو الأردن؛ نظرًا لموجة الغضب الشعبي بسبب ارتفاع مستوى المعيشة وفشل الحكومات في ضمان الاحتياجات البشرية الأساسية.

ثانيًا: بموازاة التغير النسبي في ميزان القوة على المستويين، الدولي والإقليمي، في ضوء استراتيجيات الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، تحرَّك ميزان القوة الداخلي في عدة دول عربية ضمن المواجهة بين حكومات وجيوش نظامية من جهة، وحركات اجتماعية تدفع للتغيير بخطاب سلمي أو بقوة السلاح ونشاط الميليشيات المسلحة من جهة أخرى. وازداد دور الفاعلين من غير الحكومات (non-state actors) كجماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن وحزب الله في لبنان وسوريا، والحشد الشعبي في العراق، ومئات الجماعات المسلحة في ليبيا وبقية منطقة الساحل والصحراء. وتمكنت هذه الأطراف غير الحكومية من تغيير ميزان القوة وفرض إرادتها ضمن أية معادلة سياسية أو عسكرية. على هذا المنوال، انتقل الزخم في تدفق التحولات إلى صناعة الفعل من قِبَل هذه الأطراف فيما وجدت أغلب الحكومات العربية نفسها في مربع ردِّ الفعل، وفي بعض الأحيان إلى موقف المتفرج المرغم على قبول تلك الأجندة والسياسات. ويُذَكِّر هذا الوضع بالمقولة الشهيرة للمؤرخ اليوناني ثيوسيديديس (Thucydides) في كتابه “تاريخ الحرب البيلوبونيسية” (431 قبل الميلاد)؛ حيث كتب: “يفعل الأقوياء ما في مقدورهم فعله، ويعاني الضعفاء كما يجب عليهم أن يعانوا”.

ثالثًا: ينطوي أحد التحديات الراهنة على معضلة الاختلاف بين دينية الخطاب السياسي، كركن رئيسي في خطاب الإسلام السياسي، وروحانية الدين والبعد الإنساني والقِيَمِي في صياغة أي نظام سياسي بديل في المنطقة. فيظل السؤال: كيف ننظم الترابط بين المسجد والكنيسة والوزارة والبرلمان والرأي العام، وندعو للانفتاح والتنوع والقيم الكونية؟ واقع الحال يظهر أن جل التيارات السياسية في المنطقة تنطلق من منصات دينية -إسلامية أو إسلاموية- وتتبنى مرجعية دينية لخطابها السياسي. وحتى بعض الأحزاب الشيوعية أو الماركسية العربية التي كانت تسعى لإحداث قطيعة بين الدين والسياسة في السبعينات أصبحت اليوم تقترب في خطابها الرسمي وأجنداتها الحزبية مع خطاب الأحزاب الإسلامية والقومية، مثل حزب التقدم والاشتراكية في المغرب الذي تحالف مع حزب العدالة والتنمية في حكومة عبد الإله بنكيران (2011-2016). في الوقت ذاته، تتبنى جميع الدول العربية هوية وطنية تستحضر مقومات الإسلام والعروبة والثقافة المحلية.

 

دينية الخطاب السياسي

حين يكون المرء متدينًا سواء كان مسلمًا أو مسيحيًّا أو يهوديًّا، فهذا يعني أن ثمة دافعًا إيجابيًّا يدفعه للتمسك بالبعد الروحاني الذي قد يصل إلى الزهد والتصوف فضلًا عن التسامح المجتمعي. لكن هذا التدين ينمُّ عن دلالات متعددة وأصداء لا متناهية بين المنحى السياسي والفلسفي والديني والاجتماعي. وخلال الاهتمام بالتدين من خلال الدراسات المقارنة بشأن تأثير الخطاب الديني في السياسة بين علم الاجتماع السياسي العربي ونظيره الغربي، تبرز مشكلة الدلالات بين تباين الاصطلاحات مثل مفهوم (religiousness) و(religiosity).

تقول باربرا هولدكروفت (Barbara Holdcroft) في دراستها المفصلة المنشورة في “مجلة التحقيق والممارسة” (the Journal of Inquiry and Practice): “إن لفظ “religiosity” يشمل أبعادًا تجريبية وعقلانية وأيديولوجية وفكرية وعقائدية واجتماعية وطقوسية وأخلاقية وثقافية، وتَبعيَّة”(7). و”يمكن أن يكون التدين مصطلحًا محمَّلًا بالعديد من المرادفات كالورع، والتقوى، والمحافظة، والإيمان، والعقيدة، والإخلاص، والقداسة”. هكذا تتضح إشكالية الدلالات ومدى تباينها بين الدراسات العربية والأجنبية عند الوقوف عند تقاطع الطرق بين السياسة والدين والثقافة. وليس من السهل الحسم في مدى دقة المرادفات العربية وترجمة لفظ “religiosity”. قد تتعدد الخيارات البديلة بين “زهد” أو “تقوى” أو “تصوف”، وهي أبعد من المعنى المقصود. لكن مرادف “الدينية” و”دينية الخطاب” تظل الأفضل في تقريب المعنى من “religiosity”.

بهذا المعنى، تظلُّ الدينية تركيبة معقَّدة في جميع الديانات والمجتمعات التي تستمد دساتيرها ومنظوماتها السياسية من الكتب المقدسة، وهي أيضًا موضوع بحث مثير للعلوم الاجتماعية. ولا يعزى الأمر إلى قيمته اللاهوتية فحسب، بل وأيضًا ما يتضمنه من حمولات ثقافية وأيديولوجية يتم توظيفها حاليًّا من قِبل أغلب الفاعلين غير الحكوميين وحركات الإسلام السياسي في نشاطهم بالمجال العام واستمالة تأييد مزيد من القلوب والعقول. يقول عالم الاجتماع الأميركي جيرهارد لينسكي (Gerhard Lenski) (1924-2015): “إن هناك أربع طرق تجسِّد هذه الدينية ومدى انتشارها، وهي: الجمعياتية (تشكيل جمعيات أهلية)، والمجتمعية، والمذهبية، والتعبدية”(8). وفي كتاب بعنوان “الدين والمجتمع في حالة توتر”، حدَّد الباحثان الأميركيان في سوسيولوجيا الدين، تشارلز غلوك (Charles Glock) (1919-2018) ورودني ستارك (Rodney Stark) (1934/ -)، خمسة أبعاد للدينية، وهي: “البعد التجريبي، والبعد الشعائري، والبعد الأيديولوجي، والبعد العقلاني، وأخيرًا، بُعد الترابط المنطقي”(9).

من هذه المنطلقات التركيبية لخطاب الدينية، لا يمكن تحميل القرآن أو النصوص المقدسة الأخرى اللوم عن موجات التطرف المتنامية في المنطقة العربية أو بقية العالم الإسلامي، وإنما ينبغي التركيز على تحليل الرواسب النفسية للتركيبة الدينية في عقل ونفس أي مسلم أو مسيحي أو يهودي ومدى نزعتها نحو تكريس ثقافة التطرف أو صناعة السلام. وهذا يرتبط بمسألة الانسجام الديني بفعل أن المبادئ والقيم الدينية متوحِّدة بشكل منظَّم بين النفوس والأرواح والعقول. وثمة قدر من الشد والجذب والانشطار داخل الثقافة المحلية الواحدة في الجغرافيا العربية وسط تآكل الروابط مع “اللُّحمة” العربية وظهور نزعات عدائية عربية/عربية مثل العداء المتنامي بين دول الخليج، وبين السودان وجنوب السودان، وبين الجزائر والمغرب وغيرها من الانشطاريات العربية الأخرى. ويتمسك البروفيسور مارك تشافز (Mark Chaves) من جامعة دوك (Duke) الأميركية بما يُسمِّيه “مغالطة الانسجام الديني”، ويقدم مثالًا على ذلك قائلًا: “قد لا يؤمن اليهود المحافظون بما يقولونه في صلوات أيام السبت، وقد لا يؤمن رجال الدين المسيحي بالله، وكذلك الذين يقومون بصلوات الاستسقاء، قد لا يفعلون هذا في موسم الجفاف!”(10).

يسعى معهد أبحاث الاقتصاد والسلام لقياس السلام وفوائده بمؤشرات عددية، وللرد بشكل علمي على السؤال: هل الدين هو السبب الرئيسي في صراعات اليوم؟ بعد دراسة خمسة وثلاثين من الصراعات المسلحة عام 2013، توصل المعهد إلى أن الدين لم يكن سببًا في أربعة عشر من تلك الصراعات أي بنسبة 40 في المئة. كما تبيَّن من خلال الدراسة أن الدين كان سببًا من ثلاثة أسباب أو أكثر في 67 في المئة من الحالات التي تم الجزم فيها بأن الدين هو “السبب الوحيد للنزاع”(11). والمثير في حالة الصراعات العربية وجود بُعدين خاصَّيْ: البعد الأول أيديولوجي تحدِّده “التوقعات أن من هو متدين سيحمل قناعات معينة”، (كعقائد معلنة على سبيل المثال). والبعد الثاني ذهني وفكري وله ارتباط، كما يقول غلوك وستارك، بتوقعات “أن الشخص المتدين سيكون مدركًا وواعيًا للمبادئ الأساسية لدينه ومصادره المقدسة (مثل قراءته للتاريخ، والأخلاق، والمبادئ المعيارية)(12).

يعكس مشهد التطاحنات السياسية والثقافية الراهنة حاليًّا في المنطقة العربية ميولًا متزايدة نحو استخدام القوة وبقية أنساق العنف السياسي. وينطوي خطاب أغلب هؤلاء الفاعلين غير الحكوميين مثل الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق وأنصار الشريعة في ليبيا، فضلًا عن قوى مسلحة دينية من أبرزها تنظيمي القاعدة و”الدولة الإسلامية”، إلى جانب طائفة واسعة من تنظيمات مسلحة تستخدم مرجعية إسلامية، على توظيف توشية من منطق مقدس وصوفي في تبرير الحرب على من يعتبرونهم “كفارًا” أو “خونة” أو “أعداء الأمة” في الداخل والخارج. كما يعمدون إلى تبرير منطق القوة في مواجهة خصومهم من خلال تأويلات بعيدة عن فحوى النصوص الدينية التي يتم انتقاؤها من القرآن أو السُّنَّة. والملاحظ أن حركات الإسلام السياسي اعتمدت على هذه الدينية في الخطاب وتركيب العدائية إزاء الآخرين، ليس فقط على المستوى الفردي فحسب، بل أيضًا على المستوى المجتمعي. وعبر التحول الراهن التي تشهده المجتمعات العربية، أصبحت هذه الدينية بمثابة الأداة الجيوسياسية حسب طبيعة المرحلة في يد تلك الحركات الإسلامية.

 

الدينية كأداة جيوسياسية

ينبغي أن يستحضر المرء توقيت الانتفاضات العربية بموازاة انتعاش السلفيات والإسلامويات المتعددة (جمع إسلاموية) على امتداد المنطقة العربية، بدلًا من سلفية واحدة أو تيار إسلامي متكامل. وتلاحظ الباحثة في تطور الحركات الإسلامية، جنيف عبدو (Geneive Abdo)، أن “القادة البارزين للأيديولوجيات الدينية حاليًّا بدأوا يظهرون خلال فترة السبعينات، وقاموا وقتها بتحضير الأرضية في دولهم من أجل انتشار صحوة دينية تستمر حتى الوقت الراهن. في ردِّ السُّنَّة على الثورة الإيرانية التي قامت عام 1979 وأيضًا رد الشيعة على تنامي قوة الإخوان المسلمين في مصر، بدأ الطرفان في نسج رابط بين معتقداتهم الدينية القائمة منذ عصور والممارسات والسلوكيات التي تعكس خصائص الهوية الشخصية، وأيضًا تعزيزه بتركيب مفهوم جديد للولاء، بشكل هشٍّ ومصطنع، للدولة القومية الحديثة نسبيًّا كظاهرة جديدة”(13).

يمكن أن يسهم هذا المنطلق التحليلي في دراسة الدينية الإسلامية في مستويين: 1) دلالة الدينية الإسلامية في منحاها العام المتداول كما يفهمه المسلمون كافة كتوازن قائم بين الدولة المدنية والمسجد في المجتمعات المعتدلة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا. و2) الدينية الإسلاموية التي يتبناها أنصار الإسلام السياسي ويروجون لها كنماذج حصرية طهورية أو خالصة كالوهابية، والقاعدية، والداعشية وغيرها من التيارات الجهادية الأخرى في السعودية وسوريا والعراق وليبيا. وينبغي التركيز أيضًا على الرافعات الجمعياتية والمجتمعية والمذهبية والتعبدية، حسب تعبير جيرهارد لينسكي، لهؤلاء الإسلامويين المتطرفين لتشريح نشاطهم ومدى شعبيتهم في المجال العام في الداخل وأيضًا بين الجاليات العربية في دول أوروبا وأميركا الشمالية ودول أخرى. ولا ينبغي أن تقتصر عملية التحليل أو التشريح على مجرد علاقتهم مع النص المقدس ومدى تأويلاتهم لفحوى رسالة الإسلام، وإنما مع الانتباه أيضًا إلى الأبعاد السياسية والأيديولوجية. نتيجة لهذا الانتشار للدينية الإسلاموية، أصبح التشابك بين ما هو سياسي وما هو ديني رصيدًا استراتيجيًّا في الحياة العامة.

يمكن للمرء أن يجادل بأننا في حقبة هندسة وصناعة نماذج تجريبية من حركات ونشطاء الإسلام السياسي الذين يؤمنون ليس في القداسة والبعد الروحي لمعتقداتهم فحسب، بل وأيضًا في تعزيز متانة رؤيتهم السياسية كمسار لدينيتهم من أجل إعادة صياغة الخطاب العام، وتركيب الهويات بمواصفاتهم الثقافية، وبالتالي إعادة تنظيم المجتمع من جديد. يقول بعضهم: إن انتشار الخطاب المتشدد غير المتسامح مع الآخر منطقي بحكم الضرورة، ويبررون استخدام العنف بأنه “وسيلة نبيلة” لتحقيق هدف نبيل. وتنمُّ هذه الرؤية عن مدى تعلقهم وارتباطهم النفسي والذهني برؤى أو عدسات التفكير لديهم. ولا تخلو الكتابات الغربية من صورة نمطية تظهر العرب ميَّالين إلى العنف. فلماذا يلجأ العرب إلى لغة السلاح كخيار أولي لإقصاء الآخر؟

يلوِّح عدد من الكتاب الغربيين بوجود علاقة ترابط عضوي بين الإسلام والثقافة العربية وأعمال العنف في فترات متلاحقة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وحرب العراق، وانتفاضات عام 2011. لقد مررتُ بجميع أنواع التفسيرات وسوء الفهم. في مقال تم نشره عام 2017 بعنوان مثير “هل العرب عنيفون لكونهم متدينين، أم هم متدينون لأنهم أقل ميلًا نحو العنف؟”، كتب هانتر ماتس (Hunter Maats) يقول: “تكمن عبقرية الدين في قدرتها على تجاوز القبلية؛ إذ إنها تعمم مجموعة من القيم الرئيسية على مستوى العالم وبهذا تصل إلى خلق وحدة أعظم. والسؤال: من سيتمسك بالدين بشكل أكبر؟ الإجابة هي أولئك الذين يعتدُّون بفرقتهم بشكل عميق، ولديهم إرث من تسوية مشاكلهم واختلافاتهم من خلال القتل خارج النظام القانوني”(14).

بعيدًا عن الصور النمطية في فهم العنف السياسي في الواقع العربي المعاصر، تظل معضلة الدينية في منحاها الإقصائي وهندسة الهويات المحلية جزءًا من المعادلة الصعبة في البحث عن الحد الأدنى من التعايش أو التوافق تحت مظلة التعددية السياسية والثقافية العربية في القرن الحادي والعشرين. ومما يزيد في هذه المعادلة الصعبة الوجه الجديد للدولة العميقة وكيف تسعى النخبة السياسية والعسكرية والمالية لمواصلة احتكار القوة والموارد واستدامة نفوذها في المجتمع.

 

توحش السلطة: هيمنة العنف داخل المجال السياسي العربي

تشهد أغلب الدول العربية معركتين متوازيتين ومُمَجَّدَتيْن للغاية بين معسكرين يقاتلان من أجل الوجود داخل البلد الواحد: الأولى يشنُّها المتطرفون والجهاديون والمؤمنون بقوة السيف والمتفجرات يدوية الصنع، وهم يتوقعون “مباركة إلهية” تشملهم في تحقيق حلمهم باستعادة ما يعتبرونه “عصرًا ذهبيًّا” للإسلام، في إشارة إلى فترة نزول الرسالة على النبي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وفترة خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. في المقابل، تجيِّش أغلب الحكومات العربية دوائرها وتزيد في ميزانية قطاعاتها الأمنية والاستخباراتية ضمن حرب مضادة تحت تبريرات دواعي الأمن القومي. وتميل في أغلب الأحيان إلى توشيتها بقداسة مدنية تستمدها من رواج خطاب “مكافحة الإرهاب” وغلبة النسق الأمني على الحياة العامة في دول العالم. وتوظف بعض الدول مثل مصر وسوريا والإمارات وتونس والمغرب ذلك الخطاب في ممارسات قد تنتهك حقوق الإنسان وبقية الحريات العامة وكأنها تستلهم من “اللياقة السياسية” (political correctness) الغربية خاصة في الولايات المتحدة التي تضع مكافحة الإرهاب ضمن أولويات أمنها القومي.

تنتعش هذه النزعة نحو توظيف خطاب مكافحة الإرهاب في الدول العربية التي تحاول الحد من انتشار الخطاب الديني في المجل العام. ويبرز مثال عبد الفتاح السيسي بعد الانقلاب العسكري، في 3 يوليو/تموز 2013، على أول رئيس منتخب، في بلورة نظام أمني صارم والتماهي مع الخطاب الأميركي حول مكافحة الإرهاب. وعلى هذا المنوال، يغذِّي هذا المنحى السياسي نزعة ميكيافيلية جديدة لدى الحكومات العربية في العمل بمبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، وتخوين وشيطنة ونزع الإنسانية عن خصومهم باستخدام وصف “الإرهابيين” أو “عملاء لقوى أجنبية”. مثال ذلك ما فعله نظام بشار الأسد في دمشق بخصومه من المعارضين والمهجَّرين من خلال تصنيفهم بهذه الطريقة ووصمهم بأوصاف سلبية، وكذا استخدام عبد الفتاح السيسي شعارات حماية الأمن القومي والقضاء على الخلايا الإرهابية في سيناء، في حملته الانتخابية الثانية، في شهر مارس/آذار عام 2018.

أصبحت جل الحكومات العربية تتخلى أكثر فأكثر عن حسِّها الأخلاقي في ممارساتها السياسية بإسكات الأصوات الداعية للتنوير والاعتدال؛ فلم تعد تكترث بالانتقادات المحتملة أو تلقِّي اللوم من الحكومات الغربية، خاصة الولايات المتحدة والتي كانت سياستها الخارجية، قبل حقبة دونالد ترامب، مُشْبَعَة بخطاب حماية حقوق الإنسان ونشر الحريات في الدول الاستبدادية في الشرق الأوسط وغيره. ونتج عن هذا الوضع ظهور مخالب الدولة العميقة وبشكل فجٍّ، وسادت ظاهرة عنف التفاعل السياسي وتوحش السلطة في المنطقة العربية، فيما تخفت هذه الأخيرة، خلف مصطلح (الواقعية السياسية) كمرادف مهذب لغياب الأخلاقية السياسية، ويلخص أحد المحللين ذلك قائلًا: إن “التهديدات الوجودية التي تتصورها الأنظمة العربية ضد استمرار الوضع القائم في الشرق الأوسط كانت على رأس السياسة الداخلية والخارجية. وترافق مع الحملة ضد الإسلاميين تراجع انتصارات الربيع العربي بدافع الخوف من تأثير مفعول قطع الدومينو للتحولات الديمقراطية سواء كانت ثورية أو إصلاحية”(15).

في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2018، تمَّت تصفية الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، جسديًّا بعد دخوله القنصلية السعودية في إسطنبول عقابًا له على انتقاده للسياسات الجديدة لحكومة بلاده تحت إمرة ولي العهد، محمد بن سلمان. كان جمال مثقفًا معتدلًا يدعو للتفكير النقدي وحرية التعبير. كتبَ، في 31 أكتوبر/تشرين الأول عام 2017، “يحق للأمير محمد بن سلمان أن يطارد المتطرفين، ولكنه يطارد الأشخاص الخطأ. عشرات من المفكرين السعوديين والدعاة والصحفيين ونجوم مواقع التواصل الاجتماعي تم اعتقالهم في الشهرين الماضيين، وغالبيتهم في أسوأ أحوالهم يعتبرون نقَّادًا لطيفين للحكومة.. كيف يمكننا أن نصبح أكثر اعتدالًا ووسطية في الوقت الذي يتم التسامح فيه مع هذه الرؤى المتطرفة؟ كيف يمكننا التقدم كشعب وأولئك الذين يقدمون آراء ومعارضة بنَّاءة (وأحيانًا طريفة) يُرمى بهم خلف القضبان؟”(16).

يمكن تعقب روافد هذه الميكيافيلية العربية الجديدة إلى قمة الرياض، في 20 و21 مايو/أيار 2017، والتي جمعت دونالد ترامب بخمسين من زعماء العالم العربي والإسلامي. وخلال يومين من المباحثات، تم تعزيز مركزية الحرب على الإرهاب في العلاقات الدولية المعاصرة؛ فأصبح القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” والجماعات المتطرفة الأخرى في المنطقة أولى الأولويات لاستراتيجية ترامب في الشرق الأوسط. ونتيجة لهذا، ارتفعت وتيرة اتكال كثير من الحكومات العربية على خطاب الحرب على الإرهاب وتوظيفه في دواعي حماية السيادة الوطنية والأمن القومي.

في المقابل، اتسع الشرخ بين المجتمع والدولة مع فشل أغلب الحكومات العربية في تطبيق سياسات تحقيق التنمية والرفاهية للمواطنين. ويظل معدل البطالة في المنطقة مرتفعًا بتراوحه ما بين 15 إلى 20 في المئة. وتتنكر أغلب الحكومات العربية لمسؤوليتها بتجاهلها للحاجات البشرية الأساسية لمجتمعاتها التي يمثِّل الشباب فيها أغلبية السكان. فقد انتشر الضجر المجتمعي بشكل عميق في قلوب وعقول الغالبية من الشباب العربي. وتشير إحصائية حديثة إلى أن 69% من الشباب المغربي مثلًا حريصون على الهجرة بحثًا عن فرص أفضل للعيش في دول أخرى. وقد يفقد عدد من هؤلاء المهاجرين حياتهم في ما يُسمَّى بـ”قوارب الموت” وهم يحاولون العبور إلى سواحل دول جنوب أوروبا.

يوضح المنظِّر العربي-الأميركي في تسوية النزاعات، إدوارد عازر، كيف أن “الصراعات الاجتماعية الممتدة” (Protracted social conflicts) تحدث حين تُحرم المجتمعات من حقوقها الأساسية على أساس الهوية الطائفية أو العرقية. وهذا الحرمان هو نتيجة لسلسلة سببية معقدة تنطوي على دور الدولة ونمط العلاقات الدولية. بالإضافة إلى ظروف أولية تسهم في نشوب تلك الصراعات مثل ترِكة الاستعمار، والوضع التاريخي المحلي، وتعدد طبيعة الطوائف في المجتمع(17). وقد أدى تزامن فشل الحكومات في تطبيق سياسات كفيلة بالتنمية وتكريسها سياسة القوة والعنف السياسي إلى تحولات في التماسك الاجتماعي للمجتمعات العربية ذات الطوائف المتعددة. ويزداد حاليًّا التفكك النفسي والاجتماعي بين الحكومات وشعوبها خاصة فئات الشباب. ويعزو إدوارد عازر ذلك إلى “تفرد طائفة واحدة من الشعب بالحكم أو احتكار السلطة بين مجموعة قليلة من الطوائف التي لا تراعي أو تلتفت لحاجات الطوائف الأخرى من المجتمع”(18). وعلى هذا المنوال، تتحول الحروب الأهلية إلى صراعات اجتماعية ممتدة إلى جانب تداعيات أخرى.

نتيجة لهذه العناصر، ثمة أكثر من بلد عربي، مثل: مصر وسوريا وليبيا يعاني حروبًا متوازية بسبب تداعيات ذلك الشرخ المتنامي في العلاقة بين المجتمع والدولة. وهذا الوضع ينال من قدرة الحكومات في التعامل مع التحديات الداخلية. وكما يقول عازر، فإن من شأن خطوات الصراع الاجتماعي الممتد “أن تشوِّه وتبطِّئ العمليات الفعالة لمؤسسات الدولة. فهي تعزز وتقوي التشاؤم بين شرائح المجتمع، كما تفسد القادة وتوقف البحث عن حلول للسلام. لقد لاحظنا كيف أن المجتمعات التي تعاني صراعات اجتماعية ممتدة تجد صعوبة في البدء للبحث عن حلول لمشاكلها ومظالمها(19).

نكوص الهويات الفرعية العربية

في عام 2006، نشر أحد الباحثين ورقة تحت عنوان “من أنا؟ أزمة الهوية في الشرق الأوسط” أوضح فيها كيف كان يتعيَّن على كل دولة “أن تبلور هوية ليست بالضيقة ولا الطائفية، بل هوية محلية ترتبط بالتراب الوطني وتنطوي على الخصوصيات والفروق لدى مختلف المواطنين. ينبغي على كل دولة أن تقرَّ بالحاجة لتطوير هوية وطنية شاملة لكل الفئات الاجتماعية”(20) في إشارة إلى ما بعد الحقبة الاستعمارية. ومنذ الثمانينات من القرن الماضي، دار سجال محتدم حول وجود أزمة هوية في البلدان العربية قبل أن تكتشفها بحلول حقبة العولمة. وإذا انتقلنا إلى القرن العشرين، يطرح المحلل الألماني، ستيفان بوخن (Stephen Buchen)، بعض الأسئلة المستفزة: “هل تنجو الهوية العربية؟ وماذا عن مصير الثقافة العربية؟ وبالنظر إلى التراجع الذي نشهده على المستوى السياسي والاجتماعي، أصبح سؤال الهوية العربية على المحك. قد تنتهي الحرب الأهلية وتتحقق بعدها الطموحات السياسية في العدالة والحرية ولو على المستوى النظري. ولكن هل أصبح الشعور بالإحباط من الواقع عميقًا جدًّا، ليمنع من تركيبة جديدة مرضية للمجتمع العربي؟”(21).

تنطلق هذه الأسئلة التأملية من رؤية سليمة لدعوتها إلى تقييم التحول العام للمجتمعات العربية. ويبدو أن هناك أزمة معقدة في تطور الهويات الوطنية والدفع باتجاه هويات فرعية في المنطقة العربية تحت تأثير شتى النزعات الوهابية والسلفية والإخوانية والعلمانية والحداثية وما بينها من أطياف مختلفة. يشرح المؤرخ بيتر ديمانت (Peter Demant) في كتابه بعنوان “الإسلام والإسلاموية: معضلة العالم الإسلامي” كيف أن الأصولية الإسلامية في منحاها البورياتني (التطهيري) انتشرت في المنطقة؛ فهو يقول: “تسهِّل الآليات النفسية التحول إلى الإسلاموية. فالأفراد يبحثون عن بوصلة أيديولوجية، لكن ليس في عزلة عن دوافع أخرى. وتثير هزيمة الأيديولوجيات المنافسة السُّعار النفسي والاجتماعي لأولئك الذين يرغبون في اعتناق بدائل مهملة كالماركسية والليبرالية. وتفقد الثروات المادية بريقها في أعين بعض الفئات التي تميل نحو التفاني في الله. فتعود الإسلاموية إلى قيم الشرف والطاعة والتضامن والمساعدات المتبادلة التي كانت ما قبل المرحلة المادية والرأسمالية، وتعزِّز النزعة البوريتانية الإسلاموية الدفاعات الأيديولوجية ضد الإغراءات المتساهلة لدى الغرب”(22).

لقد فقدت محاولات تركيب هوية عربية قومية متكاملة مثل الناصرية والبعثية زخمها بسبب أن السياسات المحلية عززت الاعتداد بنرجسية الفروقات الضئيلة. وتعود فكرة هذه النرجسية إلى أعمال الطبيب النفسي، سيجموند فرويد (Sigmund Freud)، وعالم الأنثربولوجيا، إرنست كراولي (Ernest Crawley)، في مطلع القرن العشرين. فعلى سبيل المثال، لم يعد العراقيون يتعاملون مع بعضهم البعض على أنهم عراقيون، وإنما كسُنَّة وشيعة وأكراد وأيزيديين وطوائف أخرى صغيرة. ينطبق الأمر ذاته على الفلسطينيين بانقسامهم بين فتحاويين وحمساويين. وفي مصر انقسم المصريون إلى إخوانيين وعلمانيين. في الوقت ذاته، تتسلل هذه الانقسامات إلى نقاشات النخبة والمهاجرين من أصول مغربية وجزائرية في أوروبا. وثمة نقاش محتدم وغير محسوم في المغرب حول الأصول الأنثروبولوجية للهوية المغربية، هل هي عربية، أم أمازيغية إذا ما اعتبرنا أن وجود قبائل الأمازيغ في شمال إفريقيا سابق لقدوم أول مبعوث مسلم وهو عقبة بن نافع في فترة خلافة عمر بن الخطاب في عام 644م.

باختصار، أدى انهيار الهوية العربية إلى ثنائيات “نحنُ” و”هم”، ويبدو أن لهذا التحول الداخلي في الهوية العربية المفترضة ارتباطًا بمناحي فشل متعددة. لقد نشر عالم النفس الاجتماعي ومؤسس مركز دراسات العقل والتفاعل البشري في جامعة فرجينيا، فاميك فولكان (Vamik Volkan)، عدة كتابات عن كسوف الهوية القومية في فترات الأزمات والحروب، وركز في إحدى محاضراته بعنوان “هوية المجموعات الكبرى، وانحسار المجموعات، والعنف الهائل” على المجموعات القومية والعرقية الكبرى والمجموعات الدينية ودور القادة. وضرب المثال التالي في تخيله وجود “قطعة قماش تمتدُّ من العمود لتغطي مجموعة الأفراد وتشكِّل خيمة ضخمة. قطعة القماش هذه تمثِّل هوية المجموعة الكبيرة”(23). ويخلص فولكان إلى أن “الجماعات التي تستند أساسًا إلى العرق والقومية أو نشاطات المجموعات الدينية تتمركز حول صيانة اندماج هوية المجموعات الكبيرة، ويمثِّل التفاعل بين القادة ومؤيديهم واحدًا من عناصر هذا المسعى”(24).

لم يكن الانقسام في الهوية العربية ظاهرة جديدة في السنوات الأخيرة. في تأبيني لرحيل الفيلسوف المغربي، محمد عابد الجابري، في شهر مايو/أيار 2010، كتبتُ مقالة قصيرة تحت هذا العنوان “المسلمون، والإسلاميون، والإسلاميات: معضلة تأويل المقدس” أَقتبس منها هذه العبارة: “بالإضافة إلى الصراعات سواء بين الدول أو داخل الدولة ذاتها من المغرب إلى إندونيسيا، تنجرف غالبية الدول الإسلامية نحو الصراع الأعظم في القرن الحادي والعشرين: بين الأقليات الإسلاموية والأغلبيات الإسلامية حول تحديد أفضل مسار للحكم. ومن منظور موازٍ، تواجه المجتمعات الغربية صعوبة في التمييز بين ملايين المسلمين الأوروبيين والمسلمين الأميركيين تحت أوصاف نمطية رائجة، مثل: “معتدل” و”مسلح” و”متطرف” و”راديكالي” و”إرهابي””.

تكمن المفارقة في أن المقاربة السلفية التي كانت مهيمنة على خطاب حركة النهضة العربية في بداية القرن العشرين، عادت بشكل أقوى بعد قرن من الزمان كقوة راديكالية واستقطابية على هدي تأويلات بعيدة عن النصوص الدينية. ووفقًا لما خلص إليه الجابري، يجد هذا التطرف تبرير وجوده في الفوارق الاقتصادية، وغياب الديمقراطية، وغيرها من الأمور. وجادل أيضًا بأن العقل العربي فشل في الوصول إلى تحقيق “ثورة علمية” بسبب تشبعه بمقولات التأويل الديني؛ فأخذت الفجوة تتزايد بين الإسلامويين كحماة للتراث بمحاولتهم رسم خط مستقيم بين الحاضر وعصر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، والمسلمين كمستوردين للنموذج الغربي للتحديث على اختلاف أنواعه.

منذ قرار الإسلاميين المشاركة كمرشحين في الانتخابات في العقدين الأخيرين في مصر مثلًا على أساس مبدأ “النقاء” أو الطُّهر السياسي، حاولت النخب الإسلامية نشر شعور بروح جماعية جديدة تدور حول مفهوم الأمة الاستثنائية، بينما أخذت تُطوِّر سرديات خاصة للأخلاق والعدالة والعلاقة الطبيعية بين المسجد والدولة مقابل الآخرين الذين تعتبرهم مسلمين أقل إخلاصًا أو تمسكًا بالإسلام. وتداخل خطاب النضال الإسلاموي مع القومي بغية إيجاد ثقافة مناهضة للاستعمار من قبل الإخوان المسلمين في مصر منذ عام 1928 وحلفائهم عبر الوطن العربي وجنوب آسيا. وتحول الاعتداد بالفوارق إلى إشكالية في الهوية السياسية للمسلمين. وبالتالي، أخذت فكرة فرويد حول نرجسية الاختلافات الضئيلة أبعد مدى ممكن في البحث عن الهوية الذاتية وسط جميع المسلمين من شتى التيارات. فأصبحت غالبيتهم تصلي في مساجد خاصة بالسُّنَّة وأخرى للشيعة، ويرسلون أبناءهم إلى مدارس منفصلة، بل ويدفنون موتاهم في مقابر تقتصر على أبناء طائفتهم. على هذا المنوال، جلبت هذه النزعات إلى الواجهة بعض سياسات الهوية المجزَّأة والماضوية والحصرية، والتي تنطوي في أفضل الأحوال على تمييز نفسي ضد من يوصفون بأنهم مختلفون عنهم.

ونتيجة لهذا التحول الهوياتي، حاولت بعض الحكومات ذات المرجعية السُّنِّية احتواء ما أصبحت تُسمِّيه “الخطر الشيعي”. وانتقلت هذه الظاهرة إلى عدة دول سُنِّيَّة كالمغرب واليمن وباكستان. ويرتبط هذا الصراع الإسلاموي-الإسلامي أيضًا بديناميات الهويات الوطنية الفاشلة في 57 دولة إسلامية، ويفسح المجال للعمل الجماعي لمن يشيرون إلى أنفسهم بـ”نحن” الجماعية ويمكنهم بالتالي القيام بأمور معينة بتبرير أنهم يمثلون الإسلام “الصحيح”. لكن السؤال يظل: هل تلخص هذه الثنائية البسيطة من “الإسلامويين” و”المسلمين” ديناميات الصراع؟

يقول الجابري: إن صرامة الفروق بين هذين الجانبين صاغت موقفًا ثالثًا للتسوية. ويختلف هؤلاء التَّوفيقيون فيما بينهم، ويتحولون إلى “سلفيين بميول ليبرالية، أو ليبراليين بتصورات سلفية، أو ماركسيين عربًا، أو ليبراليين قوميين، ومزيجًا آخر معقَّدًا من الاختلافات. وباختصار، يجسد هذا الصراع فشل التنوير في العالم الإسلامي وكذلك التحديث غير الكامل للمؤسسات الإسلامية”(25). وأدى هذا الخليط من الصراع العظيم ونكوص الهويات إلى دفع المجتمعات العربية إلى حقبة جديدة من الطائفية.

 

العصر الجديد للطائفية العربية

أصبح تأثير الطائفية العميقة جليًّا في مختلف الخطابات السياسية في أنحاء المنطقة العربية. وتؤكد أستاذة علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، ريما ماجد، “أن الطائفية واقع، وأنها ليست أسطورة ولا وهمًا. فهي واقعية بآثارها ومظاهرها في حياتنا اليومية”(26) وتشير إلى أن “صناعة الطوائف، كتجمعات سياسية هي نتيجة في الغالب للطائفية أو السياسة الطائفية وليست سببًا لها”(27)، غير أن عددًا من الباحثين مثل والي نصر وجينيف عبدو يتوقعون أن الصراع السُّنِّي-الشيعي هو الذي سيحدد مستقبل المنطقة.

تجسد الطائفية واحدة من عدة تحديات في وجه التقدم نحو عصر الحداثة العربية؛ فالأعوام التي أعقبت الانتفاضات العربية أصبحت مبعث خيبة الأمل بالنسبة للرأي العام العربي؛ مما دفع البعض لاستبدال عبارة الشتاء العربي بالربيع العربي. ما زال هناك العديد من الصعوبات التي تلوح في الأفق للتغيير العربي وهناك عدة أسئلة تظل عالقة في الأفق: هل ستؤدي هذه الانتفاضات إلى إضفاء الطابع المؤسسي على الحريات السياسية العربية، وإرساء سياسات عامة قابلة للمحاسبة والشفافية، وترشيد المجال العام في ظل قوى التغيير المتصاعدة من أسفل إلى أعلى إزاء تراجع سياسة القوة والقيادة التقليدية؟ ما آفاق الحداثة والديمقراطية، ومدى فعالية المؤسسات والمجتمعات العربية في السنوات المقبلة؟ في الوقت ذاته، لم تتأقلم فكرة العلاقة بين الدين والدولة بعد نقلها إلى المجال العربي في القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين “مع تلاؤم الواقع الفكري والحضاري العربي لكي يكون معبِّرًا حقًّا عن تطلعات ذلك الواقع، وليس عن تطلعات الواقع الأوروبي الذي تم نقله منه”(28).

خاتمة

يظل التحدي الرئيسي حاليًّا في كيفية تنظيم العرب العلاقة بين الدين والدولة، ومن يفترض أن يكون الوصي على ذلك المسار. هناك سجال بشأن ما يعنيه الإسلاميون بتفسيرهم المبدئي بأن الإسلام دين ودولة. وهنا يبرز السؤال: هل الانتفاضات استجابة رُشدية (من ابن رشد) للتخلف من خلال العلاقة التاريخية والحضارية مع فلاسفة عصر التنوير الأوروبيين أمثال إيمانويل كانط؟ وهل هم مدفوعون لطلب حداثة عربية مستنيرة في نمط مماثل للثورة الفرنسية عام 1789 الذي تم تعزيزه بقيم التنوير أم أنهم سيرفضون مثل هذا الإسقاط، ويعرِّفون “تنويرهم” من خلال دمج الإيمان والعقل والشريعة والديمقراطية والمسجد والدولة؟

إن فلسفة التنوير ترتكز على مبدأ ترشيد العلاقة بين الدولة والدين، وتدعو إلى فصلهما عن بعض، ويجادل كانط بأن “درجة أكبر من الحرية المدنية تبدو مفيدة للحرية الروحية للشعب. ومع ذلك، فإن أولاهما تنشئ حدودًا صارمة للأخرى. وفي المقابل، توفر درجة أقل من الحرية المدنية مساحة كافية للجميع لتوسيع قدراتهم بشكل كامل”(29). وعلى أية حال، لا ترسم الرؤية الكانطيَّة ولا الرشديَّة خطوطًا واضحة لهذا الفصل الذي يظل ضبابيًّا تمامًا في جميع عمليات إعادة تنظيم المجتمعات المستندة إلى عصر التنوير”.

ويبرز بعض العلماء هذا الانتقال، أو سلسلة التحولات، ضمن التحديث “من اقتصادات الكفاف البدائية إلى الاقتصادات الصناعية كثيفة التكنولوجيا؛ ومن الخضوع للثقافات السياسية التي تنفتح على فكرة المشاركة، ومن الأنظمة المغلقة إلى الأنظمة المفتوحة الموجهة نحو الإنجاز؛ ومن القرابات الممتدة إلى وحدات القرابة الضيقة، ومن الدين إلى الأيديولوجيات العلمانية. وما إلى ذلك”(30). ومن ثم، يحتاج المرء لقفزة في الخيال التاريخي لاستحضار فيلسوف من القرن الثامن عشر مثل كانط للتفكير في واقع المجتمعات العربية في القرن الحادي والعشرين، ومشاركته في المناقشات العامة الحالية في المنطقة من المغرب إلى العراق؛ وكذلك بين المغتربين في القارات البعيدة التي تدور حول الحرية وحقوق الإنسان والفرص الاقتصادية المتساوية، والدعوة لتكريس التفكير النقدي. يبرز كانط كفيلسوف للحرية وهو القائل: إن “إمكانية تحقيق الحرية هي قضية سياسية بامتياز”(31).

هناك أيضًا صراع عربي مع مسألة “التحرر من/والتحرر إلى” والتي تنطوي على بعض التحديات. فكيف يمكن للعرب أن يتحولوا من الحرية الوصفية التي فقدوها في ظل أنظمتهم المنتهية ولايتها، إلى الحرية التقييمية في ظل حكومات ما بعد الانتفاضات؟ بعد تجربة التجاذبات، يتردد معظم العرب أمام الجزء الثاني من الإطار الثنائي للحرية المقصودة: الحرية إلى [الحرية الإيجابية] بعد الدفع من أجل حريتهم من [الحرية السلبية]. ويبدو أن سفينة حقبة ما بعد الانتفاضات ستبحر حسب التوجهات المختلفة لربابين السياسيين الجدد نحو مجموعة متنوعة من الأصوليات، أو الاستبدادات الجديدة، أو الحداثات إما على أمل أو مقاومة نظرية الديمقراطية العربية. كما ستواجه تحدي تقدير الفترة الزمنية قبل أن يستقر التغيير الحقيقي على هياكل سليمة وقيادات مستنيرة وتفاعل إيجابي بين المطالب من أسفل إلى أعلى والتوقعات والسياسات والقدرات من الأعلى إلى الأسفل في المنطقة. وسوف يتشكل مستقبل المجتمعات العربية بنتيجة ما يمكن تسميته جدلية جديدة بين الدين الإسلامي والديمقراطية. كما أن التبسيط المفرط في التلويح بمواجهة واحدة بين الإسلاموية والعلمانية يؤدي إلى تجاهل الاختلافات الدقيقة بين أصناف التيارات المحافظة أو التقليدية في الخطاب الإسلامي، وكذلك مسألة الحداثة ضمن حجج الرؤى المضادة. ومع ذلك، فإن غير الإسلاميين يظلون مسلمين محافظين على وجهة نظرهم الإسلامية السائدة عن الحرية والمجتمع والدولة بذهن متفتح للتحول الحضاري للحداثة العالمية.

المراجع

(1) Berlin, Isaac, “Two Concepts of Liberty” In Isaiah Berlin, Four Essays on Liberty, (Oxford University Press, 1969)

(2) “Remarks by President Trump to the 73rd Session of the United Nations General Assembly, New York, NY”, The White House, 25 September 2018, (Visited on 25 September 2018):

https://bit.ly/2ON6kJy

(3) Mitleton-Kelly, Eve, Ten Principles of Complexity and Enabling Infrastructures. Complex Systems and Evolutionary Perspectives on Organisations: The Application of Complexity theory to Organisations, (Elsevier, 2003).

(4) Isaksen, Joachim Vogt, “The Sociological Imagination: Thinking Outside the Box”, Popular Social Science, 19 April 2013, (Visited on 25 September 2018):

 https://bit.ly/1lVRqeM

(5) Mills, C. W. The Sociological Imagination, (Oxford University Press, Oxford, 1959), p. 5-7.

(6) “Fragile States Index, 2018”, (Visited on 25 September 2018):

http://fundforpeace.org/fsi/data/

(7) Holdcroft, Barbara, “What is Religiosity?”, Catholic Education: A Journal of Inquiry and Practice, 10 (1), September 2006, p. 89–103.

(8) Lenski, G. The Religious factor, (Doubleday, Garden City, NY, 1963).

(9) Charles, G., Rodney, S. Religion and Society in Tension, (Rand McNally College Publishing Company, 1965).

(10) Chaves, Mark, “SSSR Presidential Address Rain Dances in the Dry Season: Overcoming the Religious Congruence Fallacy”, Journal for the Scientific Study of Religion, 49 (1), March 2010, p. 1–14

(11) “A Global Statistical Analysis on the Empirical Link between Peace and Religion”, The Institute for Economics and Peace, June 2015, (Visited on 26 September 2018):

https://bit.ly/2khOCBE

(12) Glock, C. Y., Stark, R. Religion and society in tension, (Rand McNally, San Francisco,1965), p. 20

(13) Abdo, Geneive, “Egypt: The Religious Root of Conflicts in the Middle East”, Pulitzer Center, 5 February 2017, (Visited on 26 September 2018):

 https://bit.ly/2REmXMX

(14) Maats, Hunter, “Are the Arabs violent because they’re religious or religious so they’re less violent?” 24 February 2017, (Visited on 26 September 2018):

 https://bit.ly/2HmR3zS

(15) Moussalli, M. S. “Realpolitik: A Polished Name for Political Immorality”, 21 August 2014, (Visited on 26 September 2018):

 https://bit.ly/2FBkpZr

(16) Khashoggi, Jamal, “Read Jamal Khashoggi’s columns for The Washington Post”, the Washington Post, 6 October 2018, (Visited on 6 October 2018):

https://wapo.st/2FJO0iO

 (17) Azar, E. The Management of Protracted Social Conflict: Theory & Cases, (Aldershot, Dartmouth, 1990), p. 12.

(18) Ibid, p. 7

(19) Ibid, p. 16.

(20) Kumaraswamy, P. R. “Who Am I? The Identity Crisis in the Middle East”, Middle East Review of International Affairs, Vol. 10, No. 1, March 2006.

(21) Buchen, Stefan, “What is left of the Arabs?”, Qantara.de, 24 May 2017, (Visited on 6 October 2018):

https://bit.ly/2RVNuVj

(22) Demant, Peter. R, “Islam vs. Islamism: The Dilemma of the Muslim World”, (Praeger, 2006).

(23) Volkan, Vamik, “Large-Group Identity, Large-Group Regression and Massive Violence”, 2 July 2005, (Visited on 6 October 2018):

https://bit.ly/2CwtH5e

(24) Ibid.

(25) Cherkaoui, Mohammed, “Muslims’, ‘Islamists’, and ‘Islamics’: The Dilemma of ‘Sacred’ Interpretation”, Confrontations, 21 May 2010, (Visited on 6 October 2018):

https://bit.ly/2S0pSPi

 (26) Majed, Rima, “In the Arab world, sectarianism is real, sects are not”, Aljazeera, 16 October 2016, (Visited on 6 October 2018):

https://bit.ly/2W87MKH

(27) Rima Majed, “In the Arab world, sectarianism is real, sects are not”, Aljazeera, 16 October 2016, (Visited on 6 October 2018):

 https://bit.ly/2W87MKH

(28) Al-Jabri, Mohammed Abed, “Democracy, Human Rights and Law in Islamic Thought”, (I. B. Tauris Publishers, 2009), p. 32.

(29) Kant, Immanuel, “An Answer to The Question: What is Enlightenment?”, (1784), (Visited on 6 October 2018):

 https://bit.ly/2p004oM

(30) Tipps, C. Dean, “Modernization Theory and the Comparative Study of Societies: A Critical Perspective”, Comparative Studies in Society and History, Vol. 15, No. 2, (March, 1973), p. 199-226

(31) Ellis, Elizabeth, Kant’s Political Theory: Interpretations and Applications, (The Pennsylvania State University Press, 2012), p. 6.