ملخص:

تبحث هذه الدراسة في اتجاهات السياسة الإيرانية تجاه العراق وتركز على التحولات التي اتسمت بها العلاقات بين البلدين في ضوء التطورات والأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، كما تستجلي الدراسة التخوفات الجيوسياسية الإيرانية القائمة على هاجس تطويقها في الفضاءات الجغرافية القريبة بما فيها الفضاء العراقي، وسعيها لتوظيف موقع العراق الجيوسياسي لدرء مخاطر الضغوطات الخارجية التي تمارسها القوى الفاعلة في المنطقة. وقسمت الدراسة إلى ثلاثة مباحث: يقدم الأول إعادة صياغة معطيات الجغرافيا مسوِّغًا للسردية التاريخية الإيرانية وتخيلاتها. ويعرض الثاني تشكيل معادلة المجالات الإيرانية الإقليمية كتطويع لحدود مسالكها الجغرافية. ويتناول الثالث دلائل معضلة التحركات الإيرانية تجاه العراق وإرهاصاتها الإستراتيجية. كما تناقش الدراسة أبرز التحديات التي تواجه إيران في الحيز المكاني العراقي الذي أصبح ميدانًا للتنافس والصراع الإقليمي والدولي.

كلمات مفتاحية: إيران، العراق، الجيوسياسية، الولايات المتحدة، الشرق الأوسط.

Abstract:

This study examines the trends of Iranian policy towards Iraq and focuses on the transformations that characterised relations between the two countries in light of developments taking place in the Middle East. The study also explores Iran’s geopolitical apprehension based on the fear of being enclosed in its geographic vicinity, which includes Iraq, and Iran’s pursuit of employing Iraq’s geostrategic location to ward off the dangers of external pressures exerted by active powers in the region. The study was divided into three sections: the first presents a reformulation of geographic data as a formulation of the Iranian historical narrative and its imagination. The second presents the formation of the equation of Iran’s regional spheres as an adaptation of the boundaries of its geographical paths. The third deals with the indicators of the dilemma of Iranian movement towards Iraq and its strategic implications. Moreover, the study also discusses the most important challenges facing Iran in the Iraqi space, which has become a field for regional and international competition and conflict.

Keywords: Iran, Iraq, geopolitics, United States, Middle East.

مقدمة

ارتبطت التصورات الإيرانية في تحركاتها تجاه العراق وصناعة قراراتها حوله، بنمط رؤية القيادة الإيرانية لطبيعة التحولات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، واعتمدت في حساباتها الإستراتيجية على رؤى وسياسات تتمازج فيها موروثات ثقافية وحضارية وتاريخية مشتركة مع دول الإقليم.

تنبع التوجهات الإيرانية من تخوفات جيوسياسية تفرض عليها المزيد من التحديات والمخاطر والضغوط الإقليمية، خصوصًا تلك القائمة على هاجس تطويقها في المجالات المكانية في الجوار الجغرافي المباشر والتي يشكِّل العراق أحد أهم محاورها الحيوية.

وينطلق الاندفاع الإيراني نحو التمدد في الساحات الجغرافية من اعتبارات جيوسياسية ترتبط بطموحات إيرانية لإعادة أحياء وتنشيط دورها الإقليمي من خلال البوابة العراقية، وتوظيفه أداةً لضمان أهدافها في ضبط إيقاع مجالاتها الحيوية في المنطقة، وتمنع خسارته لصالح أطراف إقليمية أو دولية تحمل ذات الأهداف الجيوسياسية، ولذلك تحاول من خلال هواجسها الإستراتيجية الظهور بصورة الأكثر فرضًا للنفوذ في المجال العراقي في سياق تطلعاتها الإقليمية.

في هذا السياق، قامت إيران بتنسيق تحركاتها الداخلية في العراق بالمشاركة مع حلفائها من القوى المحلية بما يتواءم مع مقاصدها وقدراتها لتأمين مصالحها وأولوياتها الإستراتيجية، ومن بين ذلك القدرة على درء المخاطر الخارجية وزيادة فعالية الردع في مواجهة التحديات والتهديدات الإقليمية، إلى جانب تأكيد محورتيها في كافة المعادلات الإقليمية في الشرق الأوسط.

لذلك، يمثل العراق أفضلية جيوسياسية بالغة الأهمية بالنسبة للأمن القومي الإيراني، ومرتكزًا لسياساتها الإقليمية، ومن بين مرتكزاته رفع تكلفة أي جهد تقوم به دول أخرى لمزاحمة إيران على النفوذ داخل العراق.

أهمية البحث ومشكلته

تكمن أهمية هذا البحث في فهم المعطيات الكامنة وراء التحركات الإيرانية تجاه العراق خصوصًا ورؤيتها له منصة ذات قيمة جيوسياسية تحقق مصالحها وتعزيز نطاق مساحات نفوذها في منطقة الشرق الأوسط.

ويمكن صياغة مشكلة الدراسة كالتالي: ترتكز الإستراتيجية الإيرانية تجاه العراق على توفير الوسائل والأدوات المختلفة، لضمان التأثير في البنية السياسية العراقية، فضلًا عن تطوير مجالات نشاطها وتعزيز قدراتها ضمن الجغرافيا العراقية، واعتمادها منطلقًا للتأثير في حدود منطقة الشرق الأوسط.

أما فرضية الدراسة فمفادها: أن المقاربة الإستراتيجية الإيرانية تعتمد في تطوير علاقاتها مع العراق على محوريته الجيوسياسية في المنطقة، فضلًا عن سعيها توظيف أهميته الجغرافية والسياسية والاقتصادية وسيلة لردع التحديات الإستراتيجية التي تستهدف فاعلية سلوكها الإقليمي ومصالحها القومية.

ويسعى البحث لاختبار هذه الفرضية من خلال ثلاثة مباحث، يشمل المبحث الأول: إعادة صياغة معطيات الجغرافيا مسوِّغًا للسردية التاريخية الإيرانية وتخيلاتها. أما المبحث الثاني فيركز على: تشكيل معادلة المجالات الإيرانية الإقليمية تطويعًا لحدود مسالكها الجغرافية. في حين يتناول المبحث الثالث: ملامح معضلة التحركات الإيرانية تجاه العراق وإرهاصاتها الإستراتيجية.

 

المبحث الأول

إعادة صياغة معطيات الجغرافية مسوِّغًا للسردية التاريخية الإيرانية وتخيلاتها

شهد العقد الأخير من القرن العشرين تصاعدًا في الاهتمام بالجغرافيا التي استدعتها دلالية تسارع حركية الفواعل في النظام الدولي، والتي أفضت إلى تصدر التحولات في جغرافيا العالم وصعود “جغرافيا الاتصال” و”الأقاليم البينية” في بنائها ورواجها موجة الاهتمام في أوجها من حركة النشر في ميادين العلاقات الدولية التي أضحت تمتد إلى صدور الكثير من الدراسات والكتب عن مسارات تلك التحولات التي يشهدها العالم((1. إن لموقع الدولة في إقليمها الجغرافي سلطة ذات تأثير في صوغ سلوكها وعلاقاتها مع القوى الخارجية، فهناك دول مغلقة لا حدود لها على بحر ودول جزيرة ودول لها حدود برية وبحرية، وتستدعي معضلة الأمن والتنمية من كل هذه الدول الاهتداء بسياسات تتأثر بموقعها في الحيز المكاني الذي توجد فيه الدولة في إقليمها الجيوسياسي(2).

وسعى ماكندر Mackinder)) لتمثيل فهم تطورات السياسة الدولية، وتحديدها وتفسيرها والتكهن بها من منظور جغرافي(3): “إذ كان يرمي إلى حثِّ رجال الدولة وصنَّاع القرار على إدراك تأثيرات المعطيات الجغرافية والطبيعية في الدولة بوصفها عضوًا كائنًا، وفي صوغ سياستها الخارجية وإستراتيجيتها، وأن الخصائص الجغرافية ذات دور في صناعة التاريخ، لذلك اقترح مقاربة “جيوتاريخية”، فالأمم تأتي وتزول وتنهض وتنحسر، والنظم لا تستقر على حال، إلا الجغرافيا، على الرغم من التأثيرات الإيجابية والسلبية للتطورات السياسية والاقتصادية والتقنية”. وكان يقينه واضحًا بأن الجغرافيا هي خلية التاريخ الإنساني نفسه((4، فيما يرى كابلان Kaplan)): أن “المسائل السياسية تعتمد على التحقيق” في الجغرافيا السياسية التي تعتمد وتقوم على الجغرافيا الطبيعية، مثلما هي تابعة لها”(5).

وبناء على ذلك، تؤدي البيئة الجيوسياسية للدولة دورًا مهمًّا في تحديد ورسم أدائها الإستراتيجي تجاه جوارها الجغرافي، وهذا التأثير دفع الكثير من دعاة المدرسة الجيوسياسية للنظر إلى العلاقات الدولية على أنها انعكاس للفوارق الجغرافية بين الدول، إلى جانب ذلك قد يكون تأثير موقعها عكسيًّا عندما تستشعر الدولة حالة من الضعف بواقعها، وبجوارها دولة قوية مما يجعلها في ضمن مجالات حدود مطامع هذه الدولة وتأثيرها، بما يدفعها إلى تبني سلوك خارجي يتمثل في التحالف مع دولة أخرى لتحقيق التوزان أو التزام الحياد سواء فرض هذا الحياد عليها أو اختارته هي لنفسها لحماية أمنها القومي(6).

وتكتسب بعض الدول فاعليتها من الفضاءات الأكثر هشاشة في المنطقة لحماية مصالحها الحيوية وأمنها القومي، وربما تعمد إلى تغيير إستراتيجياتها عبر وقائع على الأرض، توفر فرصًا لاختراق تلك الفضاءات.

لقد عززت التصورات المكانية بناء العمق الإستراتيجي للدول لتتجاوز بأبعادها الجيوسياسية محورها الجغرافي القريب، وتشكِّل سياستها خارج المجال الجغرافي المحيط(7).

إن قوة الموقع الجيوسياسي للدولة يمكن أن تكون متعلقة بمرحلة تاريخية معينة، لكنها يمكن أن تتطور وتتغير من خلال التحولات في تلك الرقعة الجغرافية. يمكن لممارسات تتعلق بالتعاون والمساعدة التسويق من ناحية الدول لمشاريع تعود بالفائدة على مصالحها الوطنية، بعبارة أخرى تقوم صناعة الخرائط بمعناها الجغرافي بصياغة الظروف الممكنة التي تدرك من خلالها الأطراف الفاعلة كلًّا من الفضاء المكاني والإقليم والسيادة السياسية، فبوسع إنتاج التقنيات الجديدة واستخدامها أن يعززا من ظهور طرائق جديدة للتفكير حول الفضاء المكاني(8).

وتأتي العلاقة بين الجغرافيا والدول تجسيدًا لمركزية الجبر الجغرافي، أي بمعنى استيراد حقيقة رافقت انعكاسات الجغرافية على الحركة البشرية في المجتمعات قديمًا، في وسط الأنظمة الإقليمية والقوى الدولية، إلى جانب الحتمية التاريخية والاجتماعية، أصبحت تؤثر في إستراتيجيات الدول.

إن البيئة الجغرافية تؤثر في حياة الدول والشعوب وتفرض نفسها على طبيعة البنية الأساسية وعلى توجهات سلوك الدولة في علاقاتها الخارجية، لذا نجد علماء الاجتماع يعزون اختلاف التقاليد والأفكار ونظم الحكم والسياسة إلى اختلاف الأقاليم (صحراء، سهل، جبل)، كما أن التوزيع غير العادل للموارد الطبيعية والاختلافات البيئية والمناخية يؤثر في قوة الدولة، وهكذا تؤثر الجغرافيا التي تملكها الدولة كأحد المعطيات الثابتة تأثيرًا مباشرًا على البناء الدفاعي والتكوين الصناعي للدول، لاسيما أن العمق الجغرافي يكشف عن الاستمرارية المكانية للدولة أو المجتمع محل الدراسة، ويقدم توصيفًا للمساحة الإستراتيجية التي يجري عليها التأثير المتبادل(9).

توجد إيران ضمن فضاء إقليمي صعب ومتوتر، وهي تسعى لإثبات ذاتها ولعب دور مؤثر في بيئتها الجيوسياسية، لكن عناصر الكبح الإقليمية تركت انطباعًا لدى صانع القرار الإيراني نحو إعادة تعريف الإستراتيجية القومية والمصالح في المجالات الحيوية في منطقة الشرق الأوسط لتتناسب مع أهميتها المكانية(10).

لقد طغت السياقات الجغرافية بشكل واضح على السلوك الإيراني في الإقليم، فمن ناحية هناك فضاء تاريخي مقترن بقيم رسمتها الحضارة الإيرانية(11)، وما أسهمت به في الحضارة الإسلامية، وقد أثَّر ذلك في الفكر الإستراتيجي الإيراني وفي تسويغ مجمل السلوك السياسي تجاه دول الإقليم المحيطة. وقد استخدمت الخلفية التاريخية في محاولة إيران بناء صورة تقوم على (ثقافة المقاومة) التي صنعتها لنفسها وأحاطت بها تحركاتها الإقليمية، ضمن محاولة إبطاء انحسارها وتراجعها في ظل التحولات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط(12).

تعتمد إيران على عوامل تحفيز لسياساتها الإقليمية ترتبط بامتلاكها كتلة بشرية ضخمة وموقعًا جغرافيًّا وامتدادًا تاريخيًّا وتأثيرًا معنويًّا متواصلًا مع الجوار الجغرافي(13)؛ مما يُكسبها وضع الدولة المركزية في المنطقة على حدِّ تعبير (كابلان)، وهو يشير إلى أنه من المرجح أن الشرق الأوسط الكبير وأوراسيا سوف يتأثران بشدة بالتطور السياسي الداخلي في إيران سواء أكان ذلك للأفضل أو الأسوأ “فالطبيعية الجيوسياسية لإيران تمنحها المقدرة على التأثير خصوصًا من حيث إطلالتها الجغرافية على منطقة الشرق الأوسط عامة وأيضًا منطقة آسيا الوسطى”(14). ولذا، ترى إيران في تنميتها المستدامة واستقرارها طريقة أساسية للحفاظ على توازنها الإقليمي إلى جانب مواصلة المشاركة النشطة في الشؤون الإقليمية للحفاظ على موقعها في الشرق الأوسط، ومساندة القوى الحليفة لها في لبنان والعراق وأفغانستان واليمن(15).

المبحث الثاني

تشكيل معادلة المجالات الإيرانية الإقليمية تطويعًا لحدود مسالكها الجغرافية

 

تعتبر إيران أن تحركاتها الجيوسياسية تجاه دول الجوار الجغرافي، ومنها العراق، يتطلب بناء إستراتيجيات جديدة تؤدي إلى تثبيت الدور السياسي والأمني والاقتصادي لإيران في المنطقة، ويزيد من أهميتها الإستراتيجية على مستوى النظام العالمي(16).

ورغم الاهتمام الإيراني بالجوار الجغرافي، إلا أنها آثرت الاهتمام بأقاليم التأثير والتأثر التي اجتذبت القوى الدولية والإقليمية للتنافس على فضاءاتها في منطقة الشرق الأوسط(17). في هذا الصدد، يرى شاليان (Chaliand): “أن مناطق التوسع كما المناطق التي تشكِّل تهديدًا أمنيًّا هي مناطق محددة بشكل مسبق على خرائط الكرة الأرضية”، مضيفًا: “أن الجيوسياسية تقدم خريطة جغرافية للعلاقات الدبلوماسية-الإستراتيجية إضافة إلى تحليل جغرافي اقتصادي للموارد، كما يقدم تأويلات لأوضاع دبلوماسية تبعًا لنمط العيش وطبيعة الوسط الجغرافي، فضلًا عن تبيان التناقضات بين من يعيش حيلة حضرية ومن يعتمد في حياته على الترحال، وبين من يعيش على اليابسة ومن يحيا في بيئة بحرية”(18).

ومن هنا تدرك إيران أن ديناميكيات التحولات الإقليمية الحالية تستلزم منها الاعتماد على مقاربة تجديد لإيجاد إستراتيجيات معدلة في قيمتها وأهدافها تقوم على إستراتيجية “إيران قوية من الداخل”، وأساس هذه الإستراتيجية الجديدة هو تطوير أسس القوة الداخلية الإيرانية من خلال تنويع وتقوية الاقتصاد، والترابط مع البيئة المحيطة من جهة، واستغلال النقاط الجيوسياسية لزيادة قوة إيران ودورها الإستراتيجي في التصدي للتهديدات الأمنية المباشرة المتعلقة بمكافحة الإرهاب، ونمو التطرف في محيطها، وهذا له أهمية كبيرة لمسايرة الجهات الفاعلة الإقليمية في ظل التطورات الراهنة(19).

وتعطي هذه التطورات حافزًا رئيسًا للتفضيلات الإيرانية وأولوياتها الجيوسياسية في المنطقة، بارتكازها على إعادة التمركز الجيوسياسي، ولعل هذا ما يجعل للشراكة مع العراق أهمية كبيرة لأمن إيران، وتعزيز دورها في الشرق الأوسط وفي العالم.

ويمتلك العراق مكانة مركزية في المنطقة، كونه يضم عددًا من الطوائف والقوميات(20)، كما يحتفظ العراق بموقع إستراتيجي يربط آسيا بأوروبا، ويربط تركيا مع شبه الجزيرة العربية ودول الخليج ويربط إيران بدول الخليج، وإيران مع بلاد الشام اقتصاديًّا، كما أن العراق واحد من أغنى الدول بموارده الطبيعية والبشرية؛ إذ جعلت من مزاياه الجغرافية وموقعه الإستراتيجي عقدة نقل عالمية، ويقدر العديد من المنظرين الاقتصاديين أنه إذا أصبح العراق مستقرًّا، فسيكون تحوله للاستثمارات الاقتصادية العالمية(21).

وتسعى إيران إلى تبني إستراتيجية وقائية من خلال تعميق مستويات اندماجها الإقليمي في دوائر دول الجوار المتاخمة، وتجلَّت بالعراق كوسيلة لتدعيم وجودها الإستراتيجي كاشفة عن تصوراتها في إقامة علاقات إستراتيجية معه بما يوفر لها فرصة في التمدد الإقليمي، وفي إبراز قوتها ونفوذها ولتعيد تأكيد فاعليتها السياسية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط.

ومن هذا المنطلق، تنظر إيران لموقع العراق الجيوسياسي ومكانته في جغرافيا الفضاءات الحيوية أداة للانفتاح على الإقليم، وتتعامل مع الملف العراقي من زاوية إستراتيجية أساسية في سياستها الخارجية لأسباب عدة لها علاقة بمعادلة توزع القوى والصراع في المنطقة والحفاظ على أمنها واستقرارها وترسيخ وجودها الجيوسياسي في الإقليم، وبعد التطورات التي حصلت في المنطقة، منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 وما بعدها، أصبح الملف العراقي جزءًا أساسيًّا من الإستراتيجية الخارجية التي تتبنَّاها إيران، والتي تهدف من خلالها إلى امتلاك جميع مقومات القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتقنية، التي تسمح لها بحماية مصالحها الإستراتيجية الكبرى(22).

وتتخلص أبرز الأهداف الإيرانية من مقاربتها الإستراتيجية تجاه العراق بالآتي:

أولًا: تحقيق الاستقرار السياسي داخل إيران: تسعى إيران من خلال سياستها الخارجية لتجميع الأوراق الإقليمية للضغط للحصول على اعتراف دولي وإقليمي بالتأثير الذي تمثله، وذلك من خلال تحقيق الحصانة في مواجهة الولايات المتحدة وجعل المواجهة معها ضمن حدود الاستمرار وليس الاختراق والإطاحة بالنظام السياسي، ويمثل العراق ركنًا بارزًا ضمن هذه الإستراتيجية، لاسيما أنه ساحة تماسٍّ مباشر مع الولايات المتحدة، ومنطقة نفوذ توفر أوراق ضغط على الدول التي يمكن أن تؤثر في الوضع الإيراني الداخلي.

ثانيًا: ضمان أمنها وسلامة أراضي إيران: يوفر العراق حاجز صدٍّ مهم لإيران، فضلًا عن أنه يمكن أن يكون نقطة دفاع متقدمة في حال أي تماس عسكري يهدد سلامة الأراضي الإيرانية.

ثالثًا: تكريس الدور الإقليمي لإيران: يوفر العراق منصة جوهرية لتوسيع الدور الإقليمي لإيران، سواء بسبب أهميته في المنطقة، أو كونه منصة تضم حلفاء أساسيين لإيران، وفي كل الأحوال تقوم إيران بتبني كل ما يلزم من أدوات القوة الإقليمية في العراق التي تؤمِّن لها القدرة والنفوذ للتأثير على جميع مجريات الوضع الإقليمي(23).

وهكذا، بدأت إيران تنظر إلى العراق على أنه طوق نجاة وشريان حياة ورئة اقتصادية لمجابهة الضغوطات والالتفاف على العقوبات من خلال احتواء العراق وتحويله إلى بوابة مركزية لتصدير النفط الإيراني إلى العالم الخارجي. بالإضافة إلى ذلك، تتبنى إيران سياسة الاحتواء تجاه العراق من خلال تكثيف علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية بالعراق للحيلولة دون نجاح الضغوط الأميركية على الحكومة العراقية للالتزام بالعقوبات ضد إيران، ولضمان استمرارية العراق بيئة مواتية للتدخلات الإيرانية بوصفها ساحة نفوذ إستراتيجية(24).

وتهتم إيران بأن يبقى العراق موحدًا ومستقرًّا مع تأثير مميز لها في البنية السياسية العراقية، ومن البديهي أن تتهيأ إيران لسد الفراغ الإستراتيجي ومحاولة استخدام البوابة العراقية الصديقة لتعزيز نفوذها ليس في منطقة الخليج العربي فقط وإنما في المشرق العربي أيضًا، كما يهم إيران أن تتأكد من أن العراق -في الحد الأدنى- لن يتخذ في المستقبل أي سياسات معادية لها، وفي الحد الأقصى، تريده أن يكون جزءًا من التحالف الإستراتيجي معها. وبين هذين الحدين (الأدنى والأقصى) تسعى طهران لتثبيت وتفعيل نفوذها في الداخل العراقي بما يجعلها جزءًا من معادلة أساسية لا يمكن تخطيها عند تقرير أي شأن عراقي أو أي شأن إقليمي من البوابة العراقية(25).

ولابد من الإشارة هنا إلى أن أزمات العراق تتمحور حول قضية مركزية هي ضعف الدولة، وعدم قدرتها على القيام بواجباتها الأساسية، في مقابل صعود وتنامي القوى المحلية الموازية المرتبطة غالبًا بقوى إقليمية، وظاهر هذه القوى أنها جزء من النظام السياسي والأمني، لكن بنياتها قامت على أساس استلاب إمكانات الدولة لصالح تعزيز قوتها ونفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي، سواء في إطار التشاحن والتنافس والصراع عبر الطوائف والأعراق، أو ضمن المكون الطائفي أو العِرقي الواحد(26).

من هذه المنطلقات والمؤشرات التي تمارسها إيران للحفاظ على مرتكزاتها الأساسية في صوغ سياستها وإستراتيجيتها نحو العراق، فإنها تسعى إلى تعزيز هذا الدور من خلال توظيف شكل من أشكال التكامل التنظيمي يتخذ نمطًا مميزًا من التحالفات الإستراتيجية مع فواعل من غير الدول في العراق تُكسبها أوراقًا تفاوضية إضافية ومنفِّذة لتوجهاتها على إدامة موقفها لأداء دور بارز في تفاعلاتها الإقليمية، ويستند هذا التوظيف إلى ثلاثة معطيات أساسية(27):

1- التكامل الأيديولوجي والترابط الفكري العقيدي والذي لا يرتبط فقط بالعقيدة الفكرية للنظام، إنما يشمل الدوافع المصلحية المتجانسة لاسيما العوامل الثورية القائمة على أساس التحرر من (الاستكبار العالمي).

2- ارتباط الهيكل التنظيمي للفاعلين خارج الدولة أو المجموعات المسلحة، بالفاعل الإقليمي، لاسيما في مجال التوجيه والأهداف المحورية.

3- أدوار الفاعل من غير الدول ضمن المجال الوطني؛ حيث إن دوره في تقدير السياسات

الوطنية يسهم بشكل كبير في التأثير على مكانة إيران ضمن المجال الحيوي لها.

ولا تأتي الإستراتيجية الإيرانية في العراق محكومة بتطوراته الداخلية، والصراعات بين مختلف القوى السياسية العراقية فقط، بل تأتي أيضًا تبعًا لنفوذ وحضور القوى الدولية واللاعبين الإقليميين الآخرين، ولعل ذلك يقف بصورة أساسية عاملًا محوريًّا في صياغة إستراتيجية سياسية أمنية إيرانية تجاه العراق، تحرص على دعم حلفائها في المؤسسة السياسية العراقية، وتعزيز حضورهم الفاعل الذي تكرس بعد الغزو الأميركي عام 2003، والاستفادة من ذلك على الصعيد الإقليمي لتحقيق مصالحها وأهدافها وفق تصورها(28).

ولهذا، يبدو أن إيران تنظر إلى العراق من الناحية السياسية والإستراتيجية نظرة ذات بُعدين تنصبُّ أساسًا على الآثار الناجمة عن النفوذ الناشئ، والبُعد الأول: هناك إمكانية لإخراج العراق من الناحية الإستراتيجية والتعريف التقليدي من كونه قوة لتحقيق التعادل مع القوى الإقليمية، إلى قوة مساندة لإيران في تعاملاتها الإقليمية؛ ما يخلق البيئة المحفزة لمنحها الفرصة لتعيد تعريف الدور الإقليمي لنفسها وللقوى الأخرى من خلال إعادة توزيع القوى بصورة تضمن لإيران وجودها لاعبًا وقوة إقليمية مؤثرة. الثاني: شكَّل العراق على الدوام منافسًا إقليميًّا وإستراتيجيًّا لإيران، ومع حقيقة أن حالة الضعف التي يشهدها العراق اليوم يمكن أن تكون مؤقتة، فإنه يمكن أن يعود ليمثل تحديًا لإيران مستقبلًا، وهو ما يجعل التجاذب الإستراتيجي مع إيران حول بعض القضايا الجوهرية، والموقع الجيوسياسي الذي منحه ميزة جغرافية، إضافة إلى البنية النظامية والاقتصادية وعوامل أخرى، تتيح ممارسة العراق تأثيرًا ممكنًا في المعادلات الإقليمية والإستراتيجية، أهم تحدٍّ أمني يواجه إيران وفقًا لمرتكزاتها التقليدية(29).

ومن هنا، تحاول إيران زيادة مقدراتها للمواجهة والدفاع خارج حدودها في مناطق جيوسياسية تشكِّل امتدادًا حيويًّا لعمقها الإستراتيجي في المنطقة من جهة، ومن ناحية أخرى لكونها تؤمن ايمانًا راسخًا بأن دورها وأنشطتها المتداخلة في الشأن العراقي، هو نقل ما تعتقده دفاعًا عن النفس إلى أراضي منافسيها، بشعار مواجهة أعدائها على أراضي حلفائها بدلًا من مواجهتهم على أرضها اعتمادًا على مبدأ: أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم(30).

وعلى سبيل المثال، وجدت إيران في بعض الفصائل المسلحة التي أضحت عنصرًا فاعلًا في الساحة العراقية مطمحًا لتعزيز نفوذها وتحقيق الأمن لها كما أنها تنفذ سياستها المتعلقة بالمنطقة. ولذا سعت إلى توظيف هذه الفصائل في الدخول في صراعات مع الأعداء دون استخدام مؤسستها العسكرية بشكل مباشر، بجانب رغبتها في الاستمرار في نهج القتال بالمناطق الرمادية وعلى الأخص صراعها مع الولايات المتحدة أو السعودية، أو أية دولة أخرى تتعارض مصالحها مع المصالح الإيرانية. لذلك استخدمت بعض حلفائها من الفصائل المسلحة في حروب بالوكالة في سوريا والتعرض للسفارة البحرينية في العراق، وبالتالي تكفل لها تلك الفواعل الوجود في المجالات الحيوية عبر صيغ وأدوات متباينة(31).

وفي ضوء ما تقدم، يتبين لنا أن مساعي إيران في توسعه وتكثيف تحركاتها في الفضاءات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط عامة والعراق خاصة، محكومة بمجموعة من المحركات والمؤشرات من حيث المضمون، تتمظهر في إطار مقاربة جيوسياسية معروفة بمضمونها في منع الانفلات في الأوضاع والأزمات في جوارها الجغرافي المباشر الذي قد يتطور ليمس فضاء  بيئتها الداخلية، وبالتالي تدفعها المراجعات في مجال إستراتيجيتها في الغايات والأهداف إلى الاعتماد على ما تتمتع به من عوامل ورؤية تتلاءم وتوجهاتها الإجرائية في تحقيق تقدم ملموس للحفاظ على مكانتها وتدعيم دورها الإقليمي.

المبحث الثالث

ملامح معضلة التحركات الإيرانية تجاه العراق وإرهاصاتها الإستراتيجية

مهدت التعديلات والتحولات في موازين القوة دوليًّا وإقليميًّا لمحاولات إرساء تموضعات جديدة داخل الفضاء الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط، وأسهمت بشكل غير مسبوق في زيادة فرص ونفوذ الدول الإقليمية بأشكال متفاوتة، بالاتكاء على تمتلكه من المقومات والإرادة؛ الأمر الذي جعلها ترسم أطر التفاعل الإقليمي بشكل قوي(32).

أدى ذلك إلى تصاعد حدة السباق والتنافس سياسيًّا على الأدوار والنفوذ في جغرافية المنطقة وأضحت المناورة السياسية ومحاولة تكوين التحالفات والتكتلات إحدى السمات البارزة التي تسيطر على عملية تشكل السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط، وكانت بشكل عام مقيدة ضمن إطار السياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية الغنية في هذه المنطقة، في تعبير عن “الفضاءات المعرَّفة جغرافيًّا”، وهو ما سيؤدي إلى توسع نطاق هذا البعد الجغرافي من المنظور الإيراني ويؤدي إلى تفاقم الصراع في ساحات الفضاء الإقليمي(33). لقد أنتجت مدخلات البيئة الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط وتطوراتها المتعاقبة مجموعة من التحديات الجيوسياسية لإيران، لاسيما مع اتساع حدة التنافس الإقليمي والدولي في العراق بما يحمله في طياته من عناصر لاحتواء إيران ونفوذها. وفي هذا السياق، ظهرت التحركات الأميركية والسعودية والتركية في الساحة العراقية لتمثل أهم المهددات للمصالح الإيرانية في العراق(34).

إن التحدي الجوهري الذي يواجه إيران على الصعيد الإقليمي هو نمط الصراع مع قوى منافسة؛ مما يعيق قدراتها عن إدامة التمدد واتساع النفوذ الإقليمي، بل إن هذا الأخير بات يأخذ في التراجع في منطقة الشرق الأوسط، في مقابل فئات من الخصوم أو المنافسين، يمكن تحديدهم بشكل عام في دول عربية أبرزها السعودية، إلى جانب تركيا وإسرائيل، فضلًا عن الولايات المتحدة، وهي القوة الدولية العظمى التي تخوض منافسة مع إيران على مستوى الإقليم وعلى صعد مختلفة. وتنخرط جميع هذه الدول لأسباب قد تكون مختلفة لكل منها في مواجهة جيوسياسية مع إيران، يمكن أن نجد تجلياتها في دول مثل اليمن وسوريا والعراق ولبنان(35).

وعلى هذا النحو، فتركيا على سبيل المثال لا الحصر تشكل واقعيًّا قوة إقليمية منافسة لإيران على الساحة العراقية وقادرة على فرض تأثيراتها على الجغرافية العراقية وفق جميع المؤشرات؛ مما يجعلها الأكثر تأهيلًا وقدرة على التنافس الإقليمي مع إيران، وما يرجح ذلك مقارنة مقومات هاتين القوتين حيث تتميز تركيا بانتمائها إلى مناطق جغرافية متنوعة، وهو ما يجعها دولة ذات مزايا إقليمية متعددة جغرافيًّا، تمنحها قدرة إدامة التوسع المكاني وتجسيداتها الآخذة بالتصاعد(36).

ولهذا، يتبين لنا أن عوامل الجغرافية حفزت تركيا على ترسيم مجالات نفوذها الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، حيث أصبحت تمس تأثيراتها مجريات الأحداث وتطوراتها الإقليمية في المنطقة، خصوصًا في ظل مزاحمتها لإيران في نطاقات جوارها الجغرافية التي تعتبرها الأخيرة مجالًا حيويًّا مهمًّا لها ومنها العراق، وبالنتيجة من شأن هذا الأمر أن يزيد السلوكيات والأدوار للفعل الإستراتيجي المحتمل للخصم على الساحة السياسية العراقية.

وفي ذات الإطار، تشير الدلائل المرتبطة بالفعالية السعودية في توجهات سياساتها تجاه العراق أنها تحاول احتواء النفوذ الإيراني في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية في العراق وتوسيع حضورها من خلال إقامة علاقات وثيقة مع الحكومة العراقية بما يعزز من وضعها الإقليمي وتأثيرها السياسي. وبالتالي، تواجه إيران مشهدًا أكثر تعقيدًا في العراق يتحدى نفوذها ومصالحها الإستراتيجية(37).

ويعد العراق منطقة تصادم وتقاطع للمصالح السعودية والتركية والإيرانية، فهو بالنسبة لتركيا يشكِّل عمقًا إستراتيجيًّا وامتدادًا حيويًّا فرضته الجغرافيا من جهة، والضرورة الأمنية من جهة ثانية، بينما يشكِّل للسعودية منطقة العمق العربي والامتداد الحضاري، وأي خسارة أو تهاون قد تؤدي إلى خسارة هذا العمق وبالمقابل زيادة نفوذ إيران وتركيا. بمعنى آخر، فإن العراق يمثل منطقة الصد أو الجدار العازل جغرافيًّا وأمنيًّا بين تركيا والسعودية من جهة وبين إيران والدول العربية من جهة، فعمق الدفاع العربي تجاه الشمال والجنوب والشرق هو العراق(38).

ولا يفوتنا أن ننوه إلى أن التحولات المستمرة في الساحة السياسية العراقية تفرض بدورها تحديات إضافية على إيران، باتت بسببها تتحول من دولة فاعلة في مجالاتها الحيوية إلى دولة تستخدم أوراق الضغط للحفاظ على ما لديها من مناطق نفوذ، لاسيما في العراق؛ حيث باتت معرضة لأن تفقد مكانة الأفضلية التي تمتعت بها على الساحة العراقية مقارنة بدول الشرق الأوسط الأخرى.

لقد سرى في العراق منذ حكومة رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي (2014-2018)، نهج سياسي أكثر توازنًا في العلاقات الخارجية، ترافق مع تطور في المزاج الشعبي باتجاه بناء دولة مدنية والانفتاح على دول الإقليم لاسيما العربية منها، كما رافق ذلك، زيادة فاعلية الدور الخارجي، العربي والأميركي، على تطويع إيران وتحجيم نفوذها في منطقة الشرق الأوسط عامة وإضعاف قدرتها على المناورة حول مكانتها في الساحة العراقية(39).

لقد تبدَّى توجه العراق لإيجاد معادلة جديدة يستخدم وسائلها في سياسته الخارجية، في انفتاحه على العمق العربي من خلال صيغ التعاون مع دول عربية عدة ممثلة بكل من مصر، والأردن، ودول مجلس التعاون الخليجي، وعلى صعد مختلفة تشكِّل بحد ذاتها مسارًا مغايرًا لعلاقاته الإقليمية. ويمثل هذا التطور في السياسة الخارجية العراقية إعادة تعريف لمصالحه الوطنية، من خلال التفاعل مع الشركاء الإقليميين، وتحويل الموقع الجيوسياسي للعراق إلى مصدر قوة ونفوذ، بعد ما كان لسنوات عديدة ميدانًا للاستحواذ والصراع.

لقد رجحت كفة العلاقات العراقية-الإيرانية مقابل العلاقات العربية-العراقية، لسنوات كثيرة بعد العام 2003، حتى صارت إيران الدولة الإقليمية الأكثر تأثيرًا وفاعلية في الساحة العراقية، على المستوى السياسي والاقتصادي وحتى الأمني(40)، لكن من الواضح أن هناك متغيرات مستمرة بالتفاعل تتمثل بمشروع “المشرق الجديد” (New Levant) بوصفه هدفًا باتجاه “إعادة التوازن” في مجال علاقات العراق الإقليمية ينهي استغلال الدول الأخرى له وتحقيق الفوائد على حسابه(41).

وعلى المستوى الإجرائي، يسهم مشروع المشرق الجديد(42)، بتشكيل الخريطة الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط بوجود العراق الذي يمتلك مزايا إستراتيجية مهمة، في أي تفاهم أو اتفاق مع محيطة الجغرافي المباشر في تقليص النفوذ الإيراني داخل الساحة العراقية، ويدفع بالعراق إلى جواره الجغرافي القريب.

ويمثل المشروع محاولة مشتركة بين أطرافه الثلاثة (العراق، ومصر، والأردن) نحو توحيد الرؤى والمواقف إزاء الصراعات والتحديات السياسية الإقليمية ومواجهة هذه التحديات، كونه يربط المشرق العربي بشمال إفريقيا. أضف إلى ذلك أنه يؤدي إلى اكتشاف مساحات جديدة من التعاون والمصالح المشتركة من خلال تأكيد الالتزامات وتعزيز العلاقة بينهم، وإيجاد معادلة سياسية جديدة في المنطقة، عبر توظيف إمكانيات الدول الثلاث من أجل تغيير المعادلة الإقليمية لصالحه(43).

ومن جانبها، فإن الولايات المتحدة تستمر طرفًا رئيسيًّا في أغلب التفاعلات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، لتكون مستعدة دائمًا وقادرة على التدخل لحماية المصالح الأميركية خصوصًا في حماية أمن إسرائيل، وإمدادات النفط، وضمان الاستقرار الإقليمي، وحماية الحلفاء والشركاء من الاعتداءات الخارجية في نطاق المجالات المكانية المختلفة في المنطقة(44).

ولهذا، يبدو أن هذه الترتيبات الأميركية مستمرة تجاه منطقة الشرق الأوسط ولم يطرأ عليها تغيرات جوهرية بعد إعلان (واشنطن) إضافة أهداف ومصالح جديدة لاستجلاب المنفعة والتفوق العالمي في ظل ما سُمي بـ”إستراتيجية التوجه شرقًا”، فمؤداها بالطبع، لا يعني مطلقًا إلغاء ما سبق على نحو ما، وإنما إعادة ترتيب الأولويات في ميدان منطقة الشرق الأوسط وفقًا للإستراتيجية الأميركية، وإعطاء الأولوية للدبلوماسية وإقامة التحالفات والشراكات الدولية وذلك بمنظور عملي واقعي(45).

وتبرز هنا إستراتيجية الضغوط المصحوبة بالعقوبات بوصفها أحد أسس الاحتواء التي تعتمدها الولايات المتحدة كعقيدة مركزية في سلوكها الإستراتيجي؛ حيث تتواصل الضغوط الأميركية المفروضة على إيران التي تهدف في المقام الأول إلى تصحيح سلوكها في ساحات الجذب الجيوسياسية المحورية في منطقة الشرق الأوسط وتعديل مجال النفوذ الذي تتحكم فيه في الجوار الإقليمي، وما سيترتب على ذلك من مقاصد.

وتهدف هذه الضغوط إلى تحصيل المناعة على نحو تلقائي من خلال إعادة تقييم الخيارات الإستراتيجية التي تتحرك بموجبها إيران تجاه البيئة المحيطة بها، وخصوصًا ما يتعلق بنفوذها الإقليمي في المجالات الحيوية، سواء في العراق وسوريا ولبنان وغيرها من الفضاءات المكانية(46).

وهكذا، بدأت إيران تدرك تأثير الإشكاليات في سلوكها الإقليمي، وهذا ما دلَّ عليه فرض العقوبات عليها من قبل الولايات المتحدة كمنهج تتبناه في إطار إستراتيجية قديمة تسلكها، بتوظيف العقوبات كسياسة رادعة للحد من تطوير إيران لشراكتها الإقليمية، فضلًا عن تقويض فاعليتها في المنطقة.

 

خاتمة

مما تقدم، يتبين لنا أن مرتكزات التحركات الإيرانية تجاه العراق تخضع لاعتبارات رؤية إستراتيجية في إعادة إنتاج نفسها بوصفها قوة إقليمية قادرة على الهيمنة على التفاعلات في المنطقة، خصوصًا تجاه التحولات الجيوسياسية التي تشهدها بيئة منطقة الشرق الأوسط.

وعلى نحو متزامن تسعى إيران إلى استثمار عدد من الديناميات في تعزيز أدوات التأثير الإيراني على الساحة السياسية العراقية بما تمتلكه من معطيات وآليات تنفيذها، ترتكز على خبرتها التاريخية النابعة من الصلات الحضارية والثقافية والتاريخية، تسوغ تطلعاتها الجيوسياسية حيال العراق، وعلى نحو تبرز من خلاله أنماط جديدة من الممارسة تحمل في جوهرها أبعادًا أمنية وسياسية واقتصادية وجيوسياسية.

لقد بات واضحًا أن صانع القرار الايراني يسعى إلى الحفاظ على فرصه الإستراتيجية في العراق من خلال محاولة احتواء تهديدات إقليمية مباشرة، وتخفيف حدة التوتر في المناطق المجاورة، بما يحقق لها التأسيس لعلاقة متوازنة في معادلة التفاعلات الإقليمية مع كافة الأطراف في المنطقة.

فضلًا عن ذلك، تحاول إيران مواجهة أي فرص لتطويقها جغرافيًّا والتعامل مع التحديات التي يفرضها منافسوها في الشرق الأوسط، فضلا ًعن التطورات الجديدة التي تشهدها الساحة العراقية، مما سيترتب على ذلك زيادة الأعباء والضغوط على تحركاتها ومحاصرتها داخل المجالات الجغرافية الحيوية.

 

 

المراجع

(1) فراس عباس هاشم، “الأبعاد الجيوسياسية للإستراتيجية الروسية تجاه منطقة آسيا الوسطى”، مركز الجزيرة للدراسات، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2022، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2022)، https://studies.aljazeera.net/ar/article/5474.

(2) كاظم هاشم نعمة، نظرية الهيمنة الأمريكية على اليابسة: من يسيطر على اليابسة يتحكم بالعالم، (عمان: دار آمنة للنشر والتوزيع 2020)، ص71.

(3) Stephan Klingebiel, Heiner Janus,”Global challenges and development cooperation: How the relationship is changing”, 10 / 12 / 2021 , https://revistaidees.cat/en/global-challenges-and-development-cooperation-how-the-relationship-is-changing/

(4) كاظم هاشم نعمة، “المحور الجيوبوليتيكي العربي-الإسلامي وعملية هيكلة النظام الدولي: نحو مقاربة جديدة”، مجلة سياسات عربية، العدد (43)، (2020)، ص8.

(5) كاظم هاشم نعمة، “المحور الجيوبوليتيكي العربي-الإسلامي…، مصدر سابق، ص8.

(6) فراس عباس هاشم، الإرادات المتصادمة: إستراتيجيات المواجهة الأمريكية-الإيرانية في حلبات الاحتكاك الجيوسياسية، (القاهرة: دار الفجر للنشر والتوزيع، 2020)، ص44.

(7) فراس عباس هاشم، “دلالات المقاربة الواقعية لإعادة تشكيل التصورات الجيوبوليتيكية الإيرانية تجاه التموضعات الإقليمية”، مجلة حمورابي للدراسات، العدد (39)، (2021)، ص9.

(8) جوردن برانش، الدولة الخرائطية: الخرائط والإقليم وجذور السيادة، ترجمة: جلال عز الدين، وعاطف معتمد، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر،2017)، ص60.

(9) زياد خلف عبد الله، “السياسة الخارجية الأردنية: دراسة في المحددات الجيوسياسية”، مجلة آداب الفراهيدي، العدد (28)، (2017)، ص 153.

(10) كيهان بزركان، “إستراتيجية إيران الخارجية تجاه توازن القوى الإقليمية”، ترجمة: خالد حفظي التميمي، مركز الدراسات الإستراتيجية، 18 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، http://kerbalacss.uokerbala.edu.iq/wp/blog/2019/04/18

(11) “Persia Ancient Iran and the Classical World”, Getty Center Museum, August 8, 2022, https://www.getty.edu/art/exhibitions/persia

(12) سماح عبد الصبور عبد الحي، القوة الذكية في السياسة الخارجية: دراسة في أدوات السياسة الخارجية الإيرانية تجاه لبنان (2005-2013)، (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 2014)، ص91.

(13) المصدر نفسه، ص95.

(14) علي فارس حميد، “المجال الحيوي وحدود الفعل والتأثير في الأداء الإستراتيجي الإيراني (دراسة تحليلية)”، المجلة العراقية للعلوم السياسية، العدد (6)، (2022)، ص49.

 (15) كيهان بزركان، مصدر سابق.

(16) Amin Al Mansouri,” The Neighborhood Effect on Iran’s Intra-Industrial Trade (An Econometric Spatial Panel Approach)”, January 2020, https://ier.ut.ac.ir/article_74473.html

(17) فراس عباس هاشم، علي حسين حميد، ارتدادات الجيوبوليتيكيا: الدلالات النظرية الموجهة لمسارات التأثير الإيراني في الشرق الأوسط، (القاهرة: المكتب العربي للمعارف، 2020)، ص291.

(18) فراس عباس هاشم، دلالات المقاربة الواقعية لإعادة تشكيل التصورات الجيوبوليتيكية الإيرانية…، مصدر سابق، ص9.

(19) كيهان بزركان، مصدر سابق.

(20) أحمد عدنان الميالي، “التطورات الجيوسياسية في المنطقة وانعكاساتها على العراق”، مركز المستقبل للدراسات الإستراتيجية، 19 مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، https://www.mcsr.net/news671

(21) المصدر نفسه.

(22) حيدر علي حسين، العراق ودول الجوار.. أهداف ومصالح، مجلة مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية، العدد (33)، (2011)، ص13.

(23) المصدر نفسه، ص13.

(24) تقرير الحالة الإيرانية (يناير/كانون الثاني-فبراير/شباط 2019)، (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 2019)، ص32.

(25) حيدر علي حسين، مصدر سابق، ص14.

(26) عز الدين عبد المولى، لقاء مكي وآخرون، 2020 عام الأزمات، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2021)، ص103.

(27) فراس عباس هاشم، مصدر سابق، ص47.

(28) فاطمة الصمادي، “العراق في الإستراتيجية الإيرانية: تنامي هاجس الأمن وتراجع الفرص”، مركز الجزيرة للدراسات، 10 يوليو/تموز 2014، (تاريخ الدخول: 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)،

https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2014/07/201471019162545.html

 (29) فاطمة الصمادي، مصدر سابق.

(30) يونس مؤيد يونس، الفاعل الإقليمي وتأثيره في السياسة الخارجية العراقية: إيران أنموذجًا، مجلة قضايا سياسية، العدد (68)، (2022)، ص233.

(31) المصدر نفسه، ص237.

 (32) منير موسى أبو رحمة، آسيــــة قـــــوراري، “موقف إيران كقوة تعديلية في ميزان القوى الجديد في الشرق الأوسط”، مجلة الدراسات الإيرانية، العدد (11)، (2020)، ص35.

(33) المصدر نفسه، ص35.

(34) Hamidreza Azizi, Challenges to Iran’s Role in Iraq in the Post-Soleimani Era,German Institute for International and Security Affairs, 22.07.2021, https://www.swp-berlin.org/en/publication/challenges-to-irans-role-in-iraq-in-the-post-soleimani-era

(35) فراس عباس هاشم، “دلالات المقاربة الواقعية لإعادة تشكيل التصورات الجيوبوليتيكية الإيرانية…”، مصدر سابق، ص1.

(36) منير موسى أبو رحمة، آسيــــة قـــــوراري، مصدر سابق، ص39.

(37) Hamidreza Azizi, op.cit.

(38) سهاد إسماعيل خليل، “التفاعلات الإقليمية وأثرها في الاندفاع الإستراتيجي للعراق (دراسة تحليلية في منطقة التفاعل التركي السعودي)”، المجلة العراقية للعلوم السياسية، العدد (6)، 2022، ص89.

(39) التقرير الإستراتيجي السنوي 2021، (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 2022)، ص 128.

(40) مثنى العبيدي، “إعادة التوازن: الدوافع الاقتصادية والسياسية لمشروع “المشرق الجديد””، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 13 يوليو/تموز 2021، (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، https://futureuae.com/cart/Mainpage/Item/6431

(41) المصدر نفسه.

(42) Yesar Al-Maleki ,”The promise and the pitfalls of Iraq’s tripartite New Mashreq”, Middle East Institute, June 29, 2021, https://www.mei.edu/publications/promise-and-pitfalls-iraqs-tripartite-new-mashreq

(43) مثنى العبيدي، مصدر سابق.

(44) علي الدين هلال، “هل تغير واشنطن إستراتيجيتها لدعم حلفائها في المنطقة؟”، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 14 فبراير/شباط 2022، (تاريخ الدخول: 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/7080

(45) المصدر نفسه.

(46) علي فارس الشمري، “الولايات المتحدة ونفوذ إيران الإقليمي: فاعلية السياسات ومستويات التأثير”، مجلة الدراسات الإيرانية، العدد (12)، (2020)، ص88