ملخص:
تركز الدراسة على المقارنة بين محددات الهوية الوطنية في مناهج الدراسات الاجتماعية للمرحلة الابتدائية بدولة قطر، وقد تكوَّنت عينة البحث من مناهج الدراسات الاجتماعية للصف الأول حتى السادس الابتدائي للفصل الدراسي الأول للعامين الدراسيين 2018-2017 و2019-2018. وتفترض الدراسة أن تحدي الحصار ترك بصمته في المناهج الدراسية التي لم تكن منفصلة عمَّا كان يجري في المجتمع القطري من تغيرات مرتبطة بالحصار وتفاعلاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
كلمات مفتاحية: قطر، الحصار، الهوية الوطنية، مناهج الدراسات الاجتماعية، المناهج المدرسية، التعليم.
Abstract:
This study is a comparison of the determinants of national identity in Qatar in social studies textbooks in the primary stage during the period preceding and following the blockade. The study sample consists of social studies books for the first semester of grades 1 to 6 for the academic years 2017-2018 and 2018-2019. The study argues that the blockade has left its mark on school curriculum as well as Qatari society, economy and politics.
Keywords: Qatar, Blockade, National Identity, Social Studies, School Curriculum, Education.
مقدمة
يُعدُّ مفهوم الهوية الوطنية من أهم المفاهيم وأكثرها تحديًا لأي مجتمع، ويسعى القادة وصنَّاع القرار عبر المؤسسات التعليمية والدينية ووسائل الإعلام إلى تشكيل وتعزيز هذا المفهوم بين أفراد المجتمع من أجل خلق مجتمع متماسك منسجم وموحد. وتشكِّل محاولة الوصول إلى مجتمع منتمٍ لهوية وطنية واحدة ومستقرة مهمة صعبة لاسيما في دول الخليج العربي لما تواجهه من تحديات مختلفة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تأثير الدول الفاعلة في العالم والعولمة وتركُّز العمالة الوافدة والأزمات السياسية المتلاحقة التي تعصف بالمنطقة. وقد واجهت دولة قطر على وجه الخصوص أهم تحدٍّ في مطلع القرن الحادي والعشرين، والمتمثل في الحصار الذي فرضته أربع دول (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)، منها ثلاث دول أعضاء في مجلس التعاون الخليجي. وقد رافق الحصار سعي متواصل للنيل من استقرار الدولة والمجتمع في قطر، من خلال التركيز على التشكيك في العلاقة السياسية بين الأسرة الحاكمة ومكونات المجتمع القطري ومنها القبائل.
لقد فرضت تلك الحملات الإعلامية المختلفة مع بدء حصار قطر، في 5 يونيو/حزيران 2017، تحديًا للهوية الوطنية القطرية؛ حيث تبنَّت دول الحصار عددًا من السياسات والوسائل التي هدفت لخلق حالة تشكيك وعدم استقرار في المجتمع القطري، فعلى سبيل المثال وظَّفت حكومات دول الحصار وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض علماء الدين والشخصيات المؤثرة، من أجل تحريض القبائل القطرية وقلبها ضد الأسرة الحاكمة، في محاولة منها لكسر شوكة ووحدة المجتمع القطري، وتقويض روابط انتمائه وولائه لوطنه قطر إلا أن كل تلك الجهود باءت بالفشل.
وعلى الرغم من أن المجتمع القطري استطاع الصمود أمام تلك الحملات التي حاولت زعزعة الأمن والاستقرار في المجتمع، إلا أن دولة قطر وعبر المستويات الرسمية، قامت بجملة من الإجراءات والخطوات التي هدفت إلى الرد على تلك الحملات وذلك لتعزيز الهوية الوطنية. وقد كان أهم تلك الإجراءات العمل على تعزيز مفاهيم الهوية، لاسيما لدى الفئات العمرية الناشئة. وقد تبنَّت جميع مؤسسات ووزارات الدولة عددًا من السياسات والحملات الإعلامية التي هدفت إلى المحافظة على الهوية الوطنية وتعزيزها بين أفراد المجتمع ولاسيما فئة الشباب.
وانطلاقًا من دور الوزارات والمؤسسات بمسؤوليتها في التصدي للأزمة، قامت وزارة التعليم والتعليم العالي بعدد من الفعاليات والأنشطة الطلابية التي عززت قيم الهوية الوطنية لدى الطلاب في مواجهة الأزمة، كما قامت بتحديث مناهج الدراسات الاجتماعية لإيمانها بدورها الجوهري في غرس محددات ومفاهيم الهوية الوطنية وتعزيزها عند الطلبة.
تشكِّل مناهج الدراسات الاجتماعية الأداة الأساسية لنقل ثقافة المواطنة والانتماء الوطني للأجيال النشء، فمن أهداف مناهج الدراسات الاجتماعية في دولة قطر بناء شخصية وطنية متمسكة بهويتها العربية الإسلامية، وتعزيز روح الانتماء للوطن، وتعميق مفهوم الدفاع عنه والمشاركة الفعالة في تنميته. وانطلاقًا من الأهمية الكبيرة لمناهج الدراسات الاجتماعية في تعزيز الهوية الوطنية تنبثق أهمية هذه الدراسة التي تهدف إلى تحليل مفهوم الهوية الوطنية في مناهج الدراسات الاجتماعية في دولة قطر، ومقارنة كيفية تقديم تلك المفاهيم قبل أزمة الحصار وما بعدها.
تأتي أهمية هذه الدراسة من كونها الأولى من نوعها في دولة قطر، والتي تهدف إلى بيان تأثير أزمة الحصار على مناهج التعليم ودراسة مدى قدرة تلك المناهج على التكيُّف مع الأزمة للتصدي لتحديات الهوية الوطنية؛ حيث ركزت معظم الأدبيات التي تُعْنَى بمفاهيم الهوية الوطنية خلال أزمة الحصار على دراسة التحديات التي تواجه الهوية بشكل عام، ولكنها لم تدرس عوامل تشكيل هذه الهوية للوصول إلى المجتمع الموحد المتضامن والمستقر. ومن هنا، تزداد أهمية هذه الدراسة حيث تُشكِّل نقطة البدء في دراسة الهوية الوطنية في المناهج الدراسية لبقية المراحل المدرسية.
ثمة انطباع عام يقترب ليصبح متعارفًا عليه بأن الهوية الوطنية القطرية متأصلة بالهوية الخليجية بشكل كبير. وقد انعكس ذلك صراحةً في مناهج الدراسات الاجتماعية؛ حيث اقترنت الهوية الوطنية القطرية بمحددات الهوية الخليجية خلال العقود الماضية، إلا أن أزمة حصار قطر في العام 2017، الذي فُرض من ثلاث دول خليجية يُفترض أنها تشارك مع قطر في عضوية منظمة إقليمية هي مجلس التعاون الخليجي، كشفت غير ذلك؛ حيث واجهت قطر عددًا من الحملات المنظمة والموجهة لزعزعة وحدة المجتمع القطري والتشكيك في هويته الوطنية من خلال شنِّ حملات إعلامية لتزوير التاريخ القطري والتشكيك في قيم المواطنة لدى بعض القبائل القطرية.
لقد كانت الأزمة بمنزلة “نداء يقظة” للمجتمع القطري؛ حيث الاستشعار بأن مفردات تلك الهوية والتي كان عليها تعارف فطري أصبحت مهددة. وكردٍّ من الردود التي قامت بها مؤسسات الدولة في قطر، اتخذت وزارة التعليم والتعليم العالي عددًا من الإجراءات لتعزيز الهوية، ومنها تحديث مناهج الدراسات الاجتماعية التي تمثِّل الأداة الجوهرية لنقل ثقافة المواطنة والانتماء الوطني للأجيال النشء في الدولة. ومن هذا المنطلق، ترصد الدراسة عملية التحديث في مناهج الدراسات الاجتماعية الجديدة، ولاسيما ما يتعلق منها بمحددات الهوية الوطنية للطلبة، وانعكاس ذلك في المنهج المدرسي المُقدَّم للطلبة، خاصة في المراحل التعليمية الابتدائية.
وتحاول الدراسة التركيز على الأسئلة التالية:
– ما مدى توافر محددات الهوية الوطنية القطرية في مناهج الدراسات الاجتماعية قبل العام 2017 للمرحلة الابتدائية من الصف الأول حتى الصف السادس بدولة قطر؟
– ما مدى توافر محددات الهوية الوطنية القطرية في مناهج الدراسات الاجتماعية بعد العام 2017 للمرحلة الابتدائية من الصف الأول حتى الصف السادس بدولة قطر؟
– ما القضايا والمضامين المرتبطة بالهوية الوطنية والتي انعكست في مناهج الدراسات الاجتماعية الجديدة للعام الدراسي 2018-2019؟
- مقاربة تحليلية لمفهوم الهوية الوطنية
تزايدت الدراسات والأبحاث العلمية المهتمة بموضوع الهوية الوطنية بشكل عام منذ عقد السبعينات من القرن العشرين. وقد تعددت المدارس التي تناولت هذا المفهوم؛ حيث يعتبر مفهوم الهوية الحجر الأساس في الفكر الاجتماعي الحديث. وهناك انقسامات بين علماء الاجتماع/السوسيولوجيا وعلم الإنسان/الأنثروبولوجيا على تعريف الهوية فمنهم من ينظر إليها على أنها متغيرة بتغير العوامل الزمنية والإنسانية والمكانية ومنهم من يرى أن خصائصها تتسم بالثبات والسكون؛ حيث تستقل بها ذات الفرد عن الآخر وبتغير أو غياب تلك الخصائص تذوب الذات مع الآخر(1).
يأتي مصطلح الهوية في اللغة العربية بمعان عدة، فقد عرَّفها المعجم الوسيط فلسفيًّا بأنها حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه من غيره(2). وعرَّفها الجرجاني بـ”الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق”(3). في حين يُفصِّل علماء الاجتماع بين نوعين من الهويات، وهما: الهوية الجماعية والهوية الفردية (الشخصية)، وبالرغم من أنهما مترابطتان إلا أنه يمكن التمييز بينهما من خلال دراسة ماهية الشخص ذاته، وماهية الشخص بين أفراد مجتمعه(4). وقد تناولت النظريات الاجتماعية الكلاسيكية بعض المفاهيم التي توضح مفهوم الهوية الجماعية مثل: مفهوم الضمير الجمعي للعالم إميل دوركايم (Émile Durkheim)، ومفهوم الوعي الطبقي لكارل ماكس (Karl Marx). وقد بيَّنت تلك المفاهيم فكرة “نحن”، وتعبِّر عن التفاف أفراد حول جملة من القيم والمعايير المشتركة، وهو ما يكوِّن الهوية الاجتماعية(5). وقد عرَّف أليكس ميكشيللي (Alex Muccilli) الهوية الجماعية بأنها “منظومة من المعطيات المادية والمعنوية، التي تنطوي على نسق من عمليات التكامل المعرفية، ولا يمكن لهذه المنظومة أن تكون في حيز الوجود ما لم يكن هناك شيء ما يعطيها معناها ويتمثَّل ذلك في الإحساس الداخلي للأفراد بالهوية والانتماء لها”(6). ويرى فريدريك بارث (Fredrik Barth) أن الهوية وعاء يحوي جملة من الملامح والرموز مثل اللغة والتاريخ والثقافة والدين ومجموعة من القيم المشتركة التي تربط جماعة من الأشخاص من خلال تفاعلهم واتصالهم ببعضهم البعض باستخدام الوسائل المختلفة، وبذلك تستقل تلك الجماعة بخصائصهم وقيمهم المشتركة عن الآخرين(7). وتجدر الإشارة هنا إلى أن أدبيات البناء الاجتماعي تصنِّف الهوية الاجتماعية إلى عدة تصنيفات بناء على حقل دراستها ومركباتها، فتنبثق من الهوية الاجتماعية على سبيل المثال الهوية الوطنية والهوية العرقية والهوية الثقافية والهوية الوطنية(8).
وبناء على ما سبق، يمكننا القول بأن الهوية الوطنية هي بُعْد آخر لمفهوم الهوية الاجتماعية، وهي تعنى بالانتماء لإقليم جغرافي محدد -وطن-، وهنا يجادل مونتسيرات غيبرناو (Montserrat Guibernau) بأن مصطلح الهوية الوطنية هو مصطلح حديث أي إنه نتاج العصر الحديث، ويقدم خمسة أبعاد للهوية الوطنية: النفسية والثقافية والإقليمية والتاريخية والسياسية. وتشمل هذه الأبعاد الشعور بالانتماء إلى أمة ما، وعن طريق مجموعة مشتركة من القيم واللغة والمساحة الجغرافية السياسية والتاريخ المشترك(9).
ويجادل لوشيان باي (Lucian Pye) بأن الهوية الوطنية هي “العاطفة الوطنية والشعور الداخلي للجماعة بأنهم مرتبطون ومنتمون بعضهم لبعض برابط عام”(10). وقد عُرِّفت أيضًا بأنها شعور المواطنة، أي شعور المجتمع بالانتماء للوطن، وعليه يتمتع الفرد ومن يشاركه في هذا الانتماء الوطني بهوية اجتماعية وطنية واحدة تقدم لهم حقوقًا معينة وتحمِّلهم مسؤوليات محددة(11). إذن، المواطنة هي الثابت الجوهري للهوية الوطنية لأي مجتمع، أي إنها تجعل الأفراد يتجاوزون الهويات الفرعية كالهوية القبلية والمذهبية، فإذا لم يُحسِن النظام السياسي تعزيز قيم المواطنة كالانتماء وحب الوطن واحترام القانون فإن الغلبة تكون لقيم الهويات الفرعية، مما يشكِّل تهديدًا وزعزعةً للهوية الوطنية(12).
وعليه، فإن الهوية الوطنية هي مفهوم حديث مرتبط بفكرة الدولة القومية، والذي بدأ في أوروبا وانتشر في أنحاء مختلفة من العالم مع إضافة صبغة محلية لكل تجربة. وتنبثق أبعاد تلك الهوية الوطنية من روافد الهوية الاجتماعية آنفة الذكر ويضاف إليها قيم المواطنة مثل الولاء واحترام القانون. والهوية الوطنية هوية في حالة تَشَكُّل وهي في الغالب متفاعلة مع ما يواجهه المنتمون لتلك الهوية، أي إن الدولة تُشكِّلها وتُنْشِئُها في الأفراد، وهذا يعني أن الكيان السياسي لأية دولة لا يواجه إشكالية غرس أو تعزيز قيم المواطنة في مجتمع ما، إلا إذا كانت السلطة الحاكمة ذات هوية اجتماعية مغايرة للهوية الاجتماعية في المجتمع، ونقصد بذلك أن يكون النظام السياسي ذا بُعد ثقافي أو ديني أو تاريخي مغاير لمجتمعه مما يعرقل عملية إدماج الهوية الوطنية في الهوية الجماعية والذي يشترط وجود انتماء مشترك بين النظام السياسي والمجتمع(13).
وفي السياق القطري، وحتى الخليجي، فإن الاهتمام البحثي بمسألة الهوية الوطنية حديث إلى حدٍّ كبير، ولهذا مبرراته؛ حيث إن بناء الدولة في قطر وفق المفهوم الحديث للدولة يعود إلى العام 1971، أي بعد استكمال الانسحاب البريطاني من منطقة الخليج والذي كان قد بدأ في العام 1968، لكن هذا لا ينفي وجود محددات ثقافية وتاريخية ودينية وتراثية نقلتها الأجيال المختلفة التي عاشت على أرض قطر وعبرت حتى وصلت إلى الجيل الحالي(14). وعليه، فإن تلك المحددات للهوية الوطنية القطرية تمثِّل مجموعة متكاملة ومتداخلة من المحددات التي تحدد الاتجاه الجمعي الوطني للمجتمع وهي كالآتي:
أولًا: الدين
على الرغم من أن الاتجاهات العالمية المتزايدة في الحديث عن دور الدين في المجال العام (Public Sphere)، وعلاقته بالسياسة وإدارة المجتمع، إلا أنه ما زال في المجتمعات الإسلامية المختلفة يحضر في المجال العام وبدرجات متفاوتة ومستويات متباينة من التأثير، ولعل الهوية الوطنية التي تحرص كل دولة أو نظام سياسي على تشكيلها لما لذلك من أثر على استقرار المجتمع والدولة، تحتاج للبناء على ما هو موجود وما يشكِّل عامل توافق بين الناس. من هنا، يأتي دور الدين؛ حيث يمثِّل أساس التاريخ والثقافة واللغة، ويُقصَد بالدين ذلك النسق من الممارسات والمعتقدات التي تتصل بقدسية معينة في مجتمع معين(15).
ويعتبر الإسلام الركيزة الأساسية والصلة الأساسية بين كافة المجتمعات الإسلامية ويؤدي دورًا جوهريًّا في بناء الهوية لتلك المجتمعات؛ حيث يتضمن الثقافة واللغة ومنظومة القيم ويُعَدُّ الركيزة الأساسية التي ينشأ عليها الطفل ويكوِّن هويته(16). وتذهب القيم الإسلامية إلى أبعاد عميقة جدًّا، فهي لا تحدد العلاقة بين أفراد المجتمع من المسلمين فقط، بل تحدد أيضًا العلاقة بغير المسلمين وتنظِّم العلاقة فيما بينهم وعلاقتهم جميعًا بالوطن دون النظر إلى الخلفية الدينية.
وفي دولة قطر، فإن الإسلام هو الدين الرسمي في الدولة؛ حيث يهتم بجميع جوانب الحياة الفقهية والتشريعية والثقافية في المجتمع القطري، وهو منبع المبادئ العامة والمعالم الأساسية التي ترسم الغايات والمنطلقات للأفراد في المجتمع، كما يحدد الاتجاه الجمعي؛ حيث تُطبَّق تعاليم الدين الإسلامي وأحكامه في مناحي الحياة التربوية والتشريعية والحكومية، وتختزل في فكر وعقيدة وسلوك المجتمع كافة. وتتمحور الثقافة والعادات والتقاليد القطرية حول معايير الإسلام الثابتة(17). كما تحرص الدولة على الاهتمام بالعبادات والأخلاق الإسلامية ونشرها بين عموم المجتمع، كالعدل والإحسان والاحترام وغيرها من مكارم الأخلاق. وقد ذكر الدستور القطري في المادة رقم (18): “يقوم المجتمع القطري على دعامات العدل، والإحسان، والحرية، والمساواة، ومكارم الأخلاق”(18). وتبيِّن نتائج مسح الهوية الوطنية القطرية لعام 2018، الصادر عن معهد البحوث الاجتماعية والاقتصادية المسحية في جامعة قطر، أن %98 من عينة الدراسة يعتقدون بأن الدين الإسلامي محدد من محددات الهوية الوطنية القطرية(19).
ثانيًا: اللغة
تُعَدُّ العلاقة بين الهوية واللغة علاقة جدلية تفاعلية، وقد كثرت النقاشات في الأدبيات والأبحاث عن أهمية اللغة، فيعتبرها البعض محددًا أساسيًّا من محددات الهوية الوطنية، في حين يعتبرها البعض المحدد الأول الذي يشكِّل الهوية لأي مجتمع لكونها القوة الموحدة لأي مجتمع(20)؛ ذلك أن الهوية هي نتاج المعاني والقيم التي يُبيِّنها أفراد المجتمعات باستخدام اللغة، لذلك فهي الناطق الرسمي بلسان الهوية(21). ويمكن اعتبار اللغة الذاكرة الجمعية للمجتمع، وهي الحافظة لخلاصة تجربته التاريخية وحصيلته الثقافية(22). إن الإحساس المشترك برابط اللغة بين الأفراد هو ما يجسد هويات المجتمعات، لذلك فإن اللغة ليست وسيلة اتصال فقط، وإنما هي نمط حياة مشتركة بين أفراد أمة ما، لذلك تمثِّل العنصر الوحيد القادر على حفظ ونقل وتفسير تاريخ وتراث وثقافة المجتمع وهي تجسد خصائصه التي يتميز بها عن باقي المجتمعات(23).
وتعتبر اللغة العربية ركنًا أساسيًّا في بنيان الهوية لأي مجتمع عربي، فهي متجذرة في الدين الإسلامي(24)، ويعزز من ذلك أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، والمجتمع القطري ليس استثناءً، فما ينطبق على كثير من المجتمعات العربية ينطبق على الواقع القطري؛ حيث تُعَدُّ العربية اللغة الرئيسة للتعليم وللممارسات الرسمية في جميع الدوائر والمؤسسات الحكومية. وقد أكد الدستور القطري على ذلك واعتبر اللغة العربية مكونًا من مكونات الهوية القطرية؛ فقد نصت المادة رقم (1) من الباب الأول في الدستور القطري على أن: “قطر دولة عربية ذات سيادة مستقلة؛ دينها الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي لتشريعاتها، ونظامها ديمقراطي، ولغتها الرسمية هي اللغة العربية”(25). وقد أكدت نتائج مسح الهوية الوطنية على أن اللغة العربية محدد جوهري من محددات الهوية الوطنية القطرية، فقد أظهرت نتائج استبيان مسح الهوية الوطنية القطرية لعام 2018، الصادر عن معهد البحوث الاجتماعية والاقتصادية المسحية في جامعة قطر، أن 87.4% من المواطنين يعتقدون بأن اللغة العربية مرتبطة ارتباطًا شديدًا بمفهوم الهوية الوطنية لديهم(26). وبناء على ما سبق، يمكن الإقرار بأهمية اللغة ليس باعتبارها أداة ناقلة للهوية الوطنية فحسب بل لكونها جزءًا من ماهية هذه الهوية، وغياب اللغة يُفْقِد الهوية مكانتها بين أفراد المجتمع، لذا يقوم هذا البحث بدراسة مدى تضمين المناهج لمحدد اللغة العربية عن طريق حساب تكرار المضمون المتعلق بالانتماء العربي والاعتزاز باللغة العربية.
ثالثًا: الثقافة والتراث
تُعَدُّ الثقافة والتراث من أهم محددات الهوية الوطنية لأي مجتمع؛ فمفهوم الهوية يعبِّر عن مفهوم الذاتية الثقافية أو “الأنا”، أي إنها العناصر الثقافية العامة لأي مجتمع، سواء أكانت عناصر مادية أو غير مادية أو تراثية أو معاصرة(27). ويُقصد بالثقافة مجموع ما توصل إليه المجتمع من إنتاج قديم ومعاصر من فكر، أما التراث فهو مجموع ما تركه الأقدمون أو الأجيال السابقة من معارف وأنظمة وأزياء وفولكلور وفنون وعادات وتقاليد وقيم. ويعتقد بعض المفكرين أن الأمة التي تكون بلا ثقافة ولا تراث هي أمة بلا هوية(28). إن الثقافة والتراث ليسا مجرد سمات يولد بها الفرد، بل هي مجموعة من التجارب داخل مجتمعه الواحد، وبذلك تصبح شائعة في حياة الأفراد وتسهم في بناء شعورهم بالهوية الوطنية؛ حيث تؤدي عوامل مثل اللهجة والأنشطة والأزياء والطعام المحلي والفنون دورًا في تكوين هوية وطنية مميزة يمكن للأفراد التعرف عليها والتميز بها(29). من هنا، فإن عناصر الثقافة والتراث هي ما يجعل مجتمعًا ما متباينًا عن الآخر؛ حيث يختزل هذا المحدد -بكل محتوياته المادية والرمزية- الظروف التاريخية والاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية لمجتمع ما والتي تعطي له خصوصيته المميزة من غيره(30).
وفي الحالة القطرية، فإن الثقافة والتراث لا يمكن فصلهما كمكونات مهمة في تشكيل الهوية الوطنية في قطر، فالهوية الوطنية هي الشعور بالانتماء والتعلق الجماعي بالدولة وعاداتها وتقاليدها ولغتها وتاريخها ونظامها السياسي، ومن خلال الثقافة والتراث يتم تعزيز الهوية الوطنية للفرد وزيادة إحساسه بالانتماء والتضامن مع مجموعة داخل منطقة جغرافية معينة(31)، ويزداد الخطاب الوطني القطري الذي يدعو إلى ضرورة تعزيز الهوية الوطنية من أجل ضمان التماسك الوطني، وقد نص الدستور القطري في المادة رقم (24) على أن الدولة “ترعى العلوم والآداب والفنون والتراث الثقافي الوطني، وتحافظ عليها وتساعد على نشرها، وتشجع البحث العلمي”(32). وقد ركزت الحكومة القطرية على إنشاء العديد من المشاريع التي تسلط الضوء على عناصر التراث والثقافة القطرية، ومنها على سبيل المثال: المتحف الوطني الجديد والحي الثقافي (كتارا) والمركز الثقافي للطفولة ومركز قطر للتراث والهوية(33). وقد أكدت نتائج مسح الهوية الوطنية توافق آراء المجتمع القطري مع ذلك؛ حيث بلغت نسبة العينة التي تعتقد بأن العادات والتقاليد جزء من هويتهم الوطنية %63، وهي نسبة مرتفعة(34). من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة لمحتوى مناهج الدراسات الاجتماعية، ولاسيما حضور عناصر الثقافة والتراث المتمثلة في العادات والتقاليد مثل الزي التقليدي والأكلات الشعبية، والأنشطة التقليدية كالغوص للبحث عن اللؤلؤ وصناعة السفن والمواقع التاريخية كقلعة الزبارة، وأخيرًا الفنون بأنواعها كالموسيقى والأغاني والفن المعماري.
رابعًا: قيم المواطنة
تُعرَّف المواطنة في اللغة بأنها “موطن الإنسان ومكانه، فالمواطن حسب هذا التعريف هو الإنسان الذي يستقر في بقعة جغرافية معينة وينتسب إليها”. أما اصطلاحًا فتعني “أن يعرف كل فرد في المجتمع حقوقه وواجباته، وتتميز بولاء المواطن لوطنه وخدمته والتضحية من أجله في أوقات السلم والحرب، والتعاون مع المواطنين الآخرين في الوطن لتحقيق الأهداف التي يسعون لها”(35). ومن هنا، يتضح أن الحقوق والواجبات من أهم قيم المواطنة في مجتمع ما. وتتجسد قيم المواطنة أيضًا في منظومة المبادئ والاتجاهات التي تؤثر على شخصية الفرد فتجعله مواطنًا صالحًا(36).ومن القيم الجوهرية للمواطنة حب الوطن، ونعني بذلك البعد الوجـداني الذي يدل على التمسك بالوطن والاعتزاز به(37).
وقد أكدت دولة قطر على أهمية الحقوق والواجبات؛ حيث ذكر الدستور القطري في مادته رقم:(34) “المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات العامة”، كما ذكرت المادة رقم(35) : “الناس متساوون أمام القانون. لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس، أو الأصل، أو اللغة، أو الدين”(38). إن مثل تلك القيم تُعزِّز الانتماء لدى المواطنين وتُوحِّد صفوفهم، وترتبط قيم المواطنة أيضًا بيوم الاستقلال؛ حيث تحيي الدولة ذكرى تأسيس قطر من قبل الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني بتاريخ 18 ديسمبر/كانون الأول، ويرمز اليوم الوطني لدى المواطنين إلى الوحدة الوطنية والانتماء والفخر وحب الوطن(39).
خامسًا: التاريخ
للتاريخ دور كبير في تشكيل الهوية الوطنية، فهو تلك السلسلة الطويلة من الأحداث والتفاعلات الطويلة والعديدة والمتشابكة والتي حدثت لجماعة معينة، وأعطتها ثقافة وعادات وتقاليد وولَّدت لديها مصالح وأهدافًا مشتركة، وهي التي تخلق الشعور القومي الموحد(40). كما أن للتاريخ وظيفة أساسية تتمثَّل في تغذية الأبعاد الأساسية للهوية، أي إنه يستحضر الأصول والآباء المؤسسين، ويُعزِّز الانتماءات كما أنه يشكِّل الذاكرة الجماعية التي تميز مجتمعًا من آخر، وتكمن وظيفة التاريخ الاجتماعية في العودة للماضي من أجل البحث في الجذور التي تساعد على تحديد المعالم الكبرى للهوية الوطنية لمجتمع ما(41). إن المجتمعات تحافظ على تاريخها لضمان ذاتها ولزرع بذور للاستمرار؛ لأن الشعور بالاستمرارية أمر بالغ الأهمية في زمن التغيرات والتحولات السريعة، فيصبح البحث عن التاريخ حاجة روحية ضرورية لأفراد المجتمع.
ويحفل تاريخ دولة قطر بالعديد من الأحداث والتفاعلات التي تشكِّل هويته الوطنية، والتي ترتبط ارتباطًا مباشرة بالأسرة الحاكمة مما يجعلها جزءًا لا يتجزأ من هذا التاريخ. فعلى سبيل المثال عَكَس النشيد الوطني القطري ملامح القوة والشجاعة والتآزر للمجتمع القطري خلال معركة الوجبة، عام 1893، وتبيَّن من خلال هذه المعركة دور الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني في حماية قطر. كما أصبح الاحتفال باليوم الوطني فرصة للقطريين لتكريم تاريخهم والاحتفاء بتولي الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني مقاليد الحكم في عام 1878، وهو ما يرمز إلى استقلال قطر(42). إن مثل هذه الأحداث والتفاعلات التاريخية تُعَدُّ المرجع الأساسي لتكوين الهوية الوطنية القطرية، وقد أكد %80 من القطريين في استبيان الهوية الوطنية على أن التاريخ مكوِّن أساسي للهوية الوطنية القطرية. وفي هذه الدراسة، يقوم الباحثان بمعرفة مدى تضمين مناهج الدراسات الاجتماعية لمحدد التاريخ والذي يشمل: المعارك الفاصلة كمعركة الوجبة والأسرة الحاكمة والحضور البريطاني والعثماني واستقلال دولة قطر واليوم الوطني والعلم.
- دور مناهج الدراسات الاجتماعية في تعزيز الهوية الوطنية
إن للمناهج التعليمية دورًا أساسيًّا في تعزيز الهوية الوطنية لمواجهة أي تحديات تواجهها، ولا يمكن تحقيق ذلك التعزيز إلا من خلال وضع استراتيجية تعليمية شاملة وواضحة تعمل على غرس مرتكزات الهوية الوطنية في نفس الطلبة. ويرى محمود الضبع في دراسته بعنوان “المناهج التعليمية، صناعتها وتقويمها” أن المناهج الدراسية لم تعد وسيلة لنقل المعارف والمعلومات فقط بل هي حلقة وصل بين التراث والهوية من جهة، والصراع بين الحاضر المحلي والعالمي من جهة أخرى. وعليه، فقد أصبحت المناهج الدراسية جميعها ومناهج الدراسات الاجتماعية على وجه الخصوص من أهم الوسائل لغرس الهوية الوطنية لدى المتعلمين(43).
ويجادل محمود محمد الرنتيسي وآخرون (2011)، بأن الدراسات الاجتماعية تلعب دورًا أساسيًّا في تنمية قيم المواطنة؛ حيث تحتوي على معلومات عن النظم السياسية والحقوق والواجبات، كما تركز على قيم الولاء والانتماء وحب الوطن والتعاون والعدالة الاجتماعية. إضافة إلى ذلك، فمناهج الدراسات الاجتماعية التي تركز على التاريخ والجغرافيا والأنظمة السياسية والاقتصادية تساعد في تعزيز الهوية الوطنية لدى الطلبة. وقد قام الباحثون بتقييم محتوى مناهج التربية المدنية للصفوف من السابع حتى التاسع في دولة فلسطين، كما تم استخدام المنهج الوصفي إضافة إلى تحليل المحتوى وتوصلت الدراسة إلى انخفاض تضمين قيم المواطنة وعدم التوازن في توزيعها في تلك المناهج(44).
وأشار كيم هيو يونغ (Hyo-jeong Kim) إلى خصائص الهوية الوطنية في مناهج الدراسات الاجتماعية في كوريا؛ حيث استخدمت الدراسة المنهج الوصفي لبحث عيِّنة من المناهج المختارة، وقد خلص الباحث إلى عدة نتائج، أهمها: تراجع استخدام مصطلح الهوية الوطنية في المناهج، كما تم الاستعاضة عنه بمعايير تعمل على غرس حب الوطن والولاء، وأكدت النتائج على ضرورة تضمين المناهج لمحددات الهوية الوطنية، والتركيز على الجانب الأخلاقي والقيمي منها باعتبار ذلك جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية الكورية يجب المحافظة عليه وتعزيزه لدى الطلبة(45).
وهدفت دراسة سحر رشدان (2010) إلى التعرف على مطالب الانتماء الوطني الواجب تضمينها في مناهج التربية الاجتماعيـة للمرحلة الابتدائية، واستخدمت الدراسة المنهج الوصفي واستعانت بأداة تحليل تتكوَّن من قائمة بمطالب الولاء الوطني الواجب توافرها في مناهج الدراسات الاجتماعية، وتوصلت إلى جملة من النتائج أهمها: تدني نسبة تضمين المعايير المرتبطة بالولاء الوطني في مناهج التربية الاجتماعية، وأوصت الدراسة بضرورة تضمين القيم المختلفة للولاء الوطني في مناهج الدراسات الاجتماعية بصورة متكاملة ومتوازية(46).
وسعت دراسة محمد العبيداني وأحمد الربعاني (2009) إلى التعرف على مدى تضمين سمات الهوية الوطنية في مناهج الدراسات الاجتماعية من الصف الخامس حتى الصف الثاني عشر بسلطنة عمان، وقد استخدمت الدراسة المنهج الوصفي كما اعتمدت على بطاقة التحليل التي أعدها الباحثان وقد تكونت من 53 سمة موزعة على عدد من المجالات المختلفة، وهي: الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية والاقتصادية والبيئية. وقد كشفت الدراسة عن عدد من النتائج، أهمها: تفاوت نسب تضمين سمات الهوية الوطنية في المناهج، ووجود تفاوت في توزيع المجالات الرئيسة لكل صف. وأوصت الدراسة بضرورة تعزيز أهمية التضحية من أجل الوطن وضرورة تضمين الزي الرسمي التقليدي باعتباره رمزًا خاصًّا بالسلطنة(47).
تشير مثل هذه الدراسات إلى أهمية مناهج الدراسات الاجتماعية في تعزيز القيم والمفاهيم لدى الطلبة؛ حيث إنها تُسهم في عملية التنشئة الاجتماعية للطلبة لاسيما تلك التنشئة المتعلقة بمفهوم الهوية الوطنية. ولعل هذه الدراسة تأتي امتدادًا لتلك الدراسات؛ لأنها تتميز بتركيزها على محددات الهوية الوطنية في مناهج الدراسات الاجتماعية للمرحلة الابتدائية في دولة قطر، وهي الدراسة الأولى من نوعها في دولة قطر.
أ- حالة قطر
لقد قامت وزارة التعليم والتعليم العالي بعدد من الإصلاحات التعليمية بهدف تحقيق متطلبات ركيزة التنمية البشرية الواردة في رؤية قطر 2030، والتي تهدف للارتقاء بمستوى مخرجات التعليم في الدولة إلى مستوى الأنظمة التعليمية العالمية لتلبية حاجات المجتمع القطري، مع التأكيد على أهمية غرس روح الانتماء والمواطنة وترسيخ قيم وعادات المجتمع القطري والمحافظة على تراثه(48). وقد تناولت الإصلاحات التعليمية محورين أساسين، هما: تحسين الشؤون الإدارية، وتطوير المناهج التعليمية بما يتناسب مع تطلعات الرؤية وتحدياتها. وقد عمدت وزارة التعليم في دولة قطر إلى تحسين مناهج الدراسات الاجتماعية لكونها من أهم الميادين في مناهج التعليم حول العالم. وقد مرَّت إصلاحات المناهج في دولة قطر بعدد من المراحل كان آخرها اعتماد “الإطار العام للمنهج التعليمي الوطني لدولة قطر” لعام 2016. وعليه، قامت الأقسام المسؤولة عن كل منهج بتنقيح محتوى المناهج القديمة وإعداد وثائق جديدة خاصة بها. وقد قام القسم المسؤول عن مناهج الدراسات الاجتماعية بإعداد “وثيقة الدراسات الاجتماعية في دولة قطر”، وبعد ذلك تم إصدار مناهج الدراسات الاجتماعية والتي تقرر تدريسها للعام الدراسي 2017- 2018. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المناهج تم العمل عليها واعتمادها وطباعتها بداية العام 2017 أي قبل الأزمة، والتي يشار إليها في هذه الدراسة بـ”مناهج ما قبل الأزمة”(49).
وعندما فُرض الحصار، في 5 يونيو/حزيران 2017، أخذت وزارة التربية والتعليم على عاتقها تحديث مناهج الدراسات الاجتماعية بما يتناسب مع التغيرات التي فرضتها الأزمة وتحدياتها. وعليه، تم تنقيح المناهج المقررة قبل الأزمة من قِبَل لجنة وطنية تتكوَّن من عدد من الباحثين والأكاديميين القطريين وعدد من الخبرات الخارجية من أجل الخروج بمناهج جديدة توافق الاتجاهات العالمية لتعليم الدراسات الاجتماعية وتتصدى للتحديات التي فرضتها الأزمة. وقد احتوى مضمون المناهج الجديدة التي تم اعتمادها في العام الدراسي 2018-2019، ويشار إليها في هذه الدراسة بمناهج ما بعد الأزمة، على عدد من المصادر الوطنية، منها: الدستور القطري وخطابات أمير دولة قطر والنشرات الدورية للديوان الأميري. علاوة على ذلك، أسهمت عيِّنة مختارة من المجتمع القطري في تقييم وتنقيح المناهج قبل إصدارها واعتمادها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عمليات طباعة المناهج الجديدة تمت عن طريق شركة وطنية محلية أيضًا على عكس مناهج ما قبل أزمة الحصار، والتي كانت تُطبع في مطابع بدولة الإمارات العربية المتحدة(50). وأكد رئيس قسم الدراسات الاجتماعية بوزارة التعليم والتعليم العالي بدولة قطر أن الوزارة سعت لتمكين المواطن القطري بتعليمه الجاد لأن يكون مواطنًا فاعلًا، يسعى لتحقيق آمال الدولة وتطلعاتها؛ حيث وظَّفت المناهج الجديدة مهارات التحليل النقدي والبحث واستخدام التكنولوجيا. كما عكست المناهج الجديدة معايير مطورة ومتميزة، ومنها: السياقات المعرفية التي تعكس الإطار العام للمنهج التعليمي في الدولة وما يتضمنه من كفايات وغايات، ومفاهيم مستدامة؛ حيث وظَّفت المناهج كلمات وعبارات واسعة الوصف ترتبط بمجالات الدراسة المختلفة وهو ما يضمن استقرار وثبات معايير التعلم ومخرجاته(51).
ب- منهجية الدراسة وطبيعة العينة
اعتمدت الدراسة منهجين لمقاربة محددات الهوية الوطنية وأبعادها في مناهج الدراسات الاجتماعية للمرحلة الابتدائية في دولة قطر:
أولًا: المنهج الوصفي التحليلي للخروج بمحددات واضحة للهوية الوطنية القطرية من خلال تحليل الدراسات السابقة ونتائج بيانات مسح الهوية الوطنية في قطر الصادر عن معهد البحوث الاجتماعية والاقتصادية المسحية في جامعة قطر.
ثانيًا: منهج تحليل المضمون وهو أسلوب يعتمد على تحديد أهداف التحليل ووحدة التحليل للتوصل إلى شيوع ظاهرة أو فكرة أو مفهوم ما. ويقصد بتحليل المحتوى في هذه الدراسة الوصف الكمي لوحدات الموضوع لبيان مدى تضمين محددات الهوية الوطنية في مناهج الدراسات الاجتماعية في المناهج كما حُدِّدَت في أداة التحليل التي أعدها الباحثان.
وركزت الدراسة بالاستناد إلى هذين المنهجين على تحليل المناهج المدرسية في الدراسات الاجتماعية للعامين الدراسيين 2017- 2018، و2018- 2019 لجميع المراحل الدراسية الابتدائية بدولة قطر. وقد تكوَّنت العينة من مناهج الدراسات الاجتماعية للعامين الدراسيين المذكورين سابقًا للفصل الأول فقط للمرحلة الابتدائية من الصف الأول حتى الصف السادس، وقد بلغ عددها 12 كتابًا، وجرى اختيار هذه المرحلة لأهميتها البالغة؛ حيث تؤثر في تكوين شخصية الطالب الأساسية واتجاهاته ومعتقداته. وقد اقتصر تحليل المحتوى على المحددات الوارد ذكرها في أداة التحليل، وكذلك تحليل محتوى المناهج (الموضوعات) بالتركيز على الكلمات والصور والرموز المرتبطة بالأفكار الأساسية التي تعكسها المناهج فيما يتعلق بمحددات الهوية الوطنية.
ج- أداة التحليل
لتصميم أداة تحليل محتوى مناهج الدراسات الاجتماعية جرى الاطلاع على الأدبيات والدراسات السابقة ذات الصلة بكيفية بناء وصياغة محددات الهوية الوطنية وكذلك الاطلاع على وثيقة مناهج الدراسات الاجتماعية بدولة قطر للتعرف على أهدافها ومحتواها، كما استعانت الدراسة بأبعاد الهوية الوطنية في نتائج بيانات مسح الهوية الوطنية في قطر الصادر عن معهد البحوث الاجتماعية والاقتصادية المسحية في جامعة قطر، وعليه تم تحديد محددات الهوية الوطنية الواجب تناولها في مناهج الدراسات الاجتماعية بدولة قطر كما هي موضحة في الجدول رقم (1).
الجدول رقم (1) يوضح محددات الهوية الوطنية القطرية في أداة التحليل
م | محددات الهوية الوطنية | العناصر المكونة لها |
1 | الثقافة والتراث | 1- الأنشطة التقليدية والمواقع التراثية 2- العادات والتقاليد 3- الفنون بأنواعها |
2 | التاريخ القطري | 1- الأسرة الحاكمة 2- المعارك الفاصلة 3- الحضور البريطاني والعثماني 4- استقلال دولة قطر 5- اليوم الوطني والعلم |
3 | اللغة العربية | الإشارة إلى اللغة العربية والانتماء العربي |
4
| الدين الإسلامي | 1- العبادات 2- مكارم الأخلاق |
5 | المواطنة | 1- الحقوق والواجبات 2- حب الوطن والاعتزاز به 3- الانتماء والولاء للوطن 4- الوحدة الوطنية 5- احترام القانون |
لقد تم التأكد من ثبات أداة التحليل باستخدام طريقة الثبات عبر الزمن، وتم تحليل كتاب الدراسات الاجتماعية للصف الثالث لعام 2018- 2019 من خلال حساب عدد مرات تكرار الكلمة أو الصور أو الرمز الذي يتوافق مع عناصر أداة التحليل، ثم أعيد التحليل مرة أخرى بعد ثلاثة أسابيع، وبلغت نسبة الاتفاق بين التحليلين %90، وهي نسبة عالية. ولحساب الثبات استُخدمت معادلة كوبر (Cooper) وهي كالآتي: نسبة الثبات= ]عدد مرات الاتفاق/ (عدد مرات الاتفاق+ عدد مرات الاختلاف)[
أما فيما يتعلق بتحليل محتوى مناهج عينة الدراسة فقد جرى استخدام أسلوب التكرارات لحساب تكرار العناصر الوارد ذكرها في أداة التحليل.
- التحليل والنتائج
أولًا: الإجابة على السؤالين الأول والثاني للدراسة
- ما محددات الهوية الوطنية القطرية التي تم تضمينها في مناهج الدراسات الاجتماعية بعد العام 2017 للمرحلة الابتدائية من الصف الأول حتى الصف السادس في دولة قطر؟
- ما محددات الهوية الوطنية القطرية التي تم تضمينها في مناهج الدراسات الاجتماعية قبل العام 2017 للمرحلة الابتدائية من الصف الأول حتى الصف السادس في دولة قطر؟
جرى تحليل محتوى مناهج الدراسات الاجتماعية للصفوف من الأول حتى السادس الابتدائي وفقًا لأداة التحليل المعدَّة لذلك والمشار إليها سابقًا، ثم جرى حساب تكرارات عناصر الهوية الوطنية في المناهج كما يبيِّن الجدول رقم (2).
الجدول رقم (2) يبرز التكرارات لمحددات الهوية الوطنية في مناهج الدراسات الاجتماعية للمرحلة الابتدائية في دولة قطر
م | محددات الهوية الوطنية | مجموع تكرارات محددات الهوية الوطنية في مناهج الدراسات الاجتماعية من الصف الأول إلى الصف السادس | |
مناهج عام 2017- 2018 | مناهج عام 2018- 2019 | ||
1 | الدين الإسلامي | 321 | 190 |
2 | اللغة العربية | 39 | 12 |
3 | التاريخ القطري | 115 | 202 |
4 | الثقافة والتراث | 425 | 622 |
5 | قيم المواطنة | 198 | 270 |
أ- محدد الثقافة والتراث
الشكل رقم (1) يبرز توزيع نسب محددات الثقافة والتراث
تكررت عناصر محدد الثقافة والتراث في المناهج ما قبل أزمة الحصار (425) مرة، وكانت أغلب التكرارات تركز على عناصر العادات والتقاليد؛ إذ مثَّلت %72 من نسب التضمين، وبلغت نسبة الأنشطة التقليدية والمواقع الأثرية %26، والجدير بالذكر أنها تكررت في مناهج الصف الأول والثاني والثالث فقط. أما بالنسبة لعنصر الفنون فقد كانت نسبته %2 فقط وكانت في كتاب الصف الثاني.
وفي المقابل، نلاحظ ارتفاع تضمين عناصر هذا المحدد في المناهج بعد أزمة الحصار؛ حيث تكررت عناصره (622) مرة، ويبيِّن الرسم البياني رقم (1) أن %85 من التكرارات كانت تركز على عنصر العادات والتقاليد، ويمكن تفسير ارتفاع هذه النسبة بتكرار وحدة “عاداتي وتقاليدي” في كل المناهج، والتي احتوت على العديد من الكلمات والصور المعبرة عنها. بينما يمكن ملاحظة الانخفاض في تضمين عنصري الأنشطة التقليدية والفنون؛ حيث بلغت نسبة التضمين %10 و%5 وقد تم عرضها في أربعة مناهج فقط وهي مناهج الصف الأول والثاني والثالث والرابع.
ب- محدد الدين
الشكل رقم (2) يوضح توزيع نسب محدد الدين
|
تكررت مفردات محدد الدين في مناهج ما قبل أزمة الحصار (321) مرة، وقد ركزت معظم التكرارات على القيم الأخلاقية الإسلامية؛ حيث بلغت نسبة تضمينها %57، في حين بلغت نسبة عنصر العبادات %43، وقد اقتصر تكرار عنصر العبادات على كتابي الصف الأول والثاني فقط.
ونلاحظ تراجع تضمين محدد الدين في مناهج ما بعد أزمة الحصار؛ حيث تكررت عناصره (190) مرة، وقد كانت النسبة الكبرى لعنصر الآداب ومكارم الأخلاق؛ إذ بلغت %72. وفي المقابل، تراجعت نسبة تضمين عنصر العبادات؛ إذ بلغت %28 فقط، ويمكن تفسير ذلك بأن تضمين عنصر العبادات اقتصر على مناهج الصف الأول والثاني والثالث، وذلك لأن وثيقة المناهج الجديدة آنفة الذكر تركت التركيز على عنصر العبادات لمناهج التربية الإسلامية.
ج- قيم المواطنة
الشكل رقم (3) يظهر توزيع نسب محددات المواطنة
تكررت المفردات المرتبطة بالمواطنة في المناهج ما قبل أزمة الحصار (198) مرة؛ حيث نلاحظ ارتفاع تضمين عنصر الحقوق والواجبات؛ إذ بلغت نسبته %46، وقد ورد في مناهج الصف الأول حتى الصف الرابع. وبلغت نسبة عنصر حب الوطن والاعتزاز به %25 في حين بلغت نسبة تضمين عنصري، احترام القانون والولاء والانتماء للوطن، %15 و%14 على التوالي، والجدير بالذكر هنا أن جميع المناهج خلت من تضمين عنصر الوحدة الوطنية.
في المقابل، نلاحظ الارتفاع الملحوظ لعناصر المواطنة في المناهج بعد أزمة الحصار؛ حيث تكررت (270) مرة، وقد تم التركيز على عنصر الحقوق والواجبات وبلغت نسبته%47 ، وبلغت نسب تضمين عنصري، حب الوطن والولاء والانتماء، %20 و %17على التوالي. ونلاحظ هنا انخفاض تضمين عنصر احترام القانون عمَّا كان عليه في مناهج ما قبل الحصار؛ إذ بلغت نسبته %12 فقط، إلا أنه ورد في جميع مناهج المراحل اللاحقة. وأخيرًا، بلغت نسبة عنصر الوحدة الوطنية 4%. وبشكل عام، فإن قيم المواطنة تم تناولها والتركيز عليها باستخدام الكلمات والصور، وقد تكررت مفرداتها في جميع المناهج خلافًا للمناهج القديمة التي سلَّطت الضوء عليها فقط في مناهج الصف الأول والثاني والثالث.
د- التاريخ القطري
الشكل رقم (4) يبرز محددات التاريخ القطري
تكررت مفردات محدد التاريخ (115) مرة في المناهج ما قبل الأزمة، وقد كان لكتاب الصف الثالث النصيب الأكبر من هذه التكرارات؛ حيث ركز الكتاب في وحدته الأولى “أسرة آل ثاني” على أفراد الأسرة الحاكمة جميعهم وهو ما يفسر ارتفاع نسبة تضمين هذا العنصر؛ إذ بلغت %53، في حين بلغت نسبة عنصر الاستقلال والعلم %41. ويمكن تفسير هذا الارتفاع بتضمين الكلمات والصور المعبِّرة عن هذا العنصر في مناهج الصف الأول حتى الرابع. في حين نلاحظ انخفاض تضمين عنصرَي، المعارك الفاصلة والحضور البريطاني والعثماني؛ إذ بلغت نسبة التضمين %3 لكل منهما، والجدير بالذكر هنا أن عنصر المعارك الفاصلة تطرَّق فقط لمعركة الوجبة؛ حيث ذُكِر بشكل مبسط في كتاب الصف الثالث فقط، ولم تُذْكَر أي أحداث تاريخية أخرى في بقية المناهج، كما تم التطرق بشكل مبسط جدًّا للحضور البريطاني والعثماني في كتاب الصف الثالث في وحدة “أسرة آل ثاني”، ولم تُذْكَر أي تفاصيل أخرى في أي كتاب آخر. في المقابل، نلاحظ زيادة تضمين محدد التاريخ في المناهج بعد الأزمة؛ إذ تكررت عناصره (202) مرة، ونلاحظ هنا أيضًا ارتفاع تضمين عنصر الأسرة الحاكمة؛ إذ بلغت نسبته %42، كما ارتفعت نسبة تضمين عنصر يوم الاستقلال والعلم؛ إذ بلغت %32، وقد تقاربت نسب تضمين كلٍّ من عنصري، الحضور البريطاني والعثماني وعنصر المعارك الفاصلة؛ إذ بلغت النسب %15 و%11 على التوالي.
ه- محدد اللغة
تكررت مفردات محدد اللغة في المناهج ما قبل الأزمة (39) مرة، ونلاحظ في المقابل تراجع تضمين عناصر محدد اللغة في المناهج بعد الأزمة؛ إذ تكررت عناصره (12) مرة فقط. ويعود هذا الأمر في الغالب إلى اهتمام مناهج اللغة العربية بهذا الموضوع وتركيزها عليه. إضافة إلى شمول اللغة بمحدد الثقافة والتراث الذي تشكِّل اللغة الوعاء الحاضن لكل ذلك.
ثانيًا: قضايا ومضامين بارزة في مناهج ما بعد الحصار
بناء على ما تقدم، وبالنظر إلى مضمون مناهج الدراسات الاجتماعية بعد أزمة الحصار، فقد قدمت تعريفًا واضحًا لمفهوم الهوية الوطنية بصورة مباشرة تسهِّل على الطالب استيعابه وفهمه؛ حيث تناولت مناهج الصف الرابع مفهوم “الهوية الوطنية القطرية” صراحة، وتم تعريفها بأنها “الخصائص والسمات التي يتميز بها الشعب القطري عن الشعوب الأخرى، وتظهر روح الانتماء لدى أبناء الوطن”، وأضافت أن مكونات الهوية الوطنية، وهي: “الوحدة الجغرافية، والتاريخ المشترك، والعادات والتقاليد، والدين واللغة، والمستقبل المشترك والحقوق والواجبات والعلم الوطني”(52). في حين افتقدت المناهج ما قبل أزمة الحصار إلى تقديم مفهوم للهوية الوطنية القطرية واكتفت بالإشارة إلى مفهوم الهوية العربية الإسلامية فقط في كتاب الصف السادس، والذي عرفها بـ”مجموعة الصفات والسلوكيات التي يكتسبها الفرد من خلال ثقافة مجتمعه ودينه وتاريخه، ومن عادات وتقاليد أمته، والتي تجعل له خصوصية تميِّزه عن غيره”(53).
لقد استطاعت المناهج الجديدة أن تربط محددات الهوية الوطنية في أداة التحليل مباشرة بالهوية الوطنية القطرية، فعلى سبيل المثال ذكر كتاب الصف الثالث “أتمسك بكل عادات وتقاليد بلادي فهي تعبِّر عن هويتي وشخصيتي الوطنية”(54). وذكر كتاب الصف السادس “تتعدد المؤسسات المهتمة بالثقافة في دولة قطر وتتنوع أعمالها، لكنها تصب جميعها في خدمة الثقافة الوطنية والحفاظ على التراث وتعزيز الهوية”(55)، وأن “ممارسة مظاهر الانتماء والولاء في المجتمع تعزز الهوية الوطنية لدى الأفراد”(56).
أما على صعيد الانتماء للهويات الكبرى كالهوية الخليجية والهوية العربية والإسلامية، فقد أشارت المناهج ما قبل أزمة الحصار مرارًا وتكرارًا إلى انتماء المواطن القطري إلى الهوية الخليجية والعربية، فقد ذُكر على سبيل المثال في كتاب الصف الرابع “أمجادنا ليست قطرية فحسب، فنحن جزء من شبة الجزيرة العربية والوطن الإسلامي الكبير”(57). في المقابل، فإن المناهج بعد أزمة الحصار لم تذكر انتماء المواطن القطري للهوية الخليجية، واكتفت بذكر انتمائه للهوية العربية الإسلامية: “الدين هو الإسلام واللغة هي لغة القرآن، وكلاهما روابط يشترك فيهما أبناء المجتمع القطري، وتوحد صفوفهم، وتجعلهم جزءًا لا يتجزأ من العالم الإسلامي والعربي”(58).
كما اهتمت المناهج الجديدة بمفهوم الوحدة الوطنية وركزت على أهميته، وعززت قيمته من خلال تكراره نصًّا وصورة؛ مما يساعد على تشكيل صورة ذهنية قوية وراسخة للوحدة الوطنية في ذهن الطلبة مما يجعلهم أقل عرضة للتأثر بمحاولة تفكيك وحدتهم الوطنية مستقبلًا. وأشارت مناهج الدراسات الاجتماعية بعد أزمة الحصار بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى الوحدة الوطنية، ورمزت إليها في بعض المواضع بـ”اللحمة الوطنية”، فعلى سبيل المثال نجد صور استقبال أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، من قبل الشعب القطري، بعد مشاركته في الدورة 72 للأمم المتحدة، وخطابه هناك لاسيما تناوله لمسألة الحصار واعتزازه بالشعب القطري والمقيمين، نجد هذه الصورة في كتاب الصف الأول مع عبارة “كل قطر تستقبل تميم المجد”(59)؛ حيث تستخدم الصورة مفردة “شعب قطر”، وتُظْهِر حشدًا من المواطنين والمقيمين جنبًا إلى جنب وهم في حالة تفاعل ويهتفون. وجاء في كتاب الصف الرابع “سكان دولة قطر (مواطنين ومقيمين)”(60) بجانب إحدى الصور التي يظهر فيها عدد من المواطنين والمقيمين، حيث يحمل أحد المقيمين علم قطر. كما أكدت المناهج على أهمية الوحدة الوطنية وقت الأزمات، فذكر كتاب الصف الرابع في درس معركة الوجبة، 1893، “أهمية اتحاد القبائل القطرية في مواجهة الأزمات”(61).
وعكست مناهج ما بعد الأزمة بصورة جلية إنجازات دولة قطر، لاسيما الإنجازات التي حققتها بعد الحصار، لما لها من أثر نفسي إيجابي على نفوس الطلبة؛ حيث يساعد عرض تلك الإنجازات الموثقة بالصور على تعزيز أهمية العمل والإنجاز، كما يعزز حب الوطن والافتخار به في نفوسهم؛ لأن الطالب سيستشعر قدرة وهِمَّة بلاده ليس فقط على تخطي الأزمات بل على تحقيق المزيد من النجاحات في خضم تداعياتها على المستويين المحلي والعالمي. وقد سلَّطت المناهج الجديدة الضوء على الإنجازات القطرية بمختلف المجالات السياسية والاقتصادية مركزة على دور شعب قطر في تحقيق تلك الإنجازات، ففي كتاب الصف الأول تمت الإشارة إلى مشروع ميناء حمد البحري ومطار حمد الدولي ومترو أنفاق قطر “الريل” وعرض عدد من المنشآت الرياضية الضخمة التي تم بناؤها، والتطرق لبعض الإنجازات العمرانية والتعليمية والثقافية والطبية وغيرها(62).
تم التركيز على المقيمين في مناهج ما بعد أزمة الحصار؛ وهو الأمر الذي لم يكن عليه في مناهج ما قبل الأزمة؛ حيث اقتصر ذكر المقيمين سابقًا على كونهم مكونًا من مكونات المجتمع القطري، إلا أن المناهج الجديدة سلَّطت الضوء على مفهوم “الاعتزاز بالمقيمين” في مواضيع مختلفة. وجاء في كتاب الصف الثالث “المقيمون في بلادي أحترمهم وأقدِّرهم وأتعاون معهم، فهم يشاركون في بناء وطني ونهضته”(63). وذكر الكتاب نفسه “عثمان جاري، وهو مقيم في بلادي من دولة السودان، أنا أحترمه وأعامله معاملة حسنة”(64)، كما ترافقت مع الجملة رسمة تعبِّر عن ذلك الاعتزاز. وقد تم استخدام الصور؛ حيث ظهر المواطن القطري بلباسه التقليدي بجانب المقيم السوداني بلباسه التقليدي، وهي إشارة واضحة إلى التنوع في قطر وأن هذا التنوع إيجابي ويُغني المجتمع القطري.
خاتمة
لا شك أن المناهج الدراسية التي وُضعت بعد الحصار الذي فُرض على قطر كانت متأثرة بتداعيات الأزمة وما أحدثه الحصار من صدمة على مستويات عديدة. لذا، فإن أحد ميادين مواجهته كان التعليم وبشكل خاص المناهج الدراسية. ولا شك أن صفة الاستعجال التي تم خلالها إنجاز تلك المناهج لأمرٌ جدير بالانتباه له وقدرته على تغطية القضايا التي أشارت لها هذه الدراسة.
لقد ظهر جليًّا في المناهج الدراسية ما بعد الحصار، وتحديدًا في المرحلة التعليمية موضوع الدراسة، التركيز على مفهوم الوحدة الوطنية واللُّحمة الوطنية، وكذلك الربط المحكم بين مكوِّن اللغة والثقافة وربطهما بالهوية القطرية، وفي سياق تسليط الضوء على مفردات الهوية كان التركيز جليًّا على الصور والرسوم التي غالبًا ما تترك بصمة في أذهان المتعلمين حيث إن الصورة في هذه المرحلة التعليمية تُعَدُّ أداةً بالغة الأهمية في توضيح الفكرة وتعميق فهمها. وفي إطار التركيز على موضوع الوحدة الوطنية/اللحمة الوطنية تمَّ تناول دور المقيمين؛ الأمر الذي كان يعني التركيز على فكرة التنوع من جهة وكذلك فكرة تحصين الجبهة الداخلية.
ويحضر التاريخ بشكل أقوى في مناهج ما بعد الحصار، والتركيز على البُعد المحلي المرتبط بالتاريخ، وهذا بالضرورة فيه تذكير بتحديات مرَّت على القطريين وتشكِّل جزءًا مهمًّا من الذاكرة الجمعية للمجتمع، من هنا يأتي ذكر الإنجليز والعثمانيين ومعركة الوجبة، 1893، التي تشكِّل مفردة في مفردات اللُّحمة الداخلية في مواجهة الأخطار الخارجية.
إن حضور كل هذه القضايا وغيرها لا يعني أن المناهج قادرة على تحقيق جميع الأهداف المتوقعة منها؛ ذلك أن هناك دورًا لوسائل الإعلام المختلفة وكذلك الأسرة في إنجاز تلك الأهداف. يضاف إلى ذلك دور العاملين في قطاع التعليم ولاسيما المعلمون، والقدرة على تقديم هذا المحتوى الذي تقدمه المناهج بالكيفية التي تمكِّن الطلبة من فهمه وأن ينعكس في حياتهم اليومية. هذا الأمر يستدعي مراجعات مستمرة للمحتوى وكذلك التيقن من أن القائمين على تقديم هذا المحتوى مدربون بشكل كاف للتفاعل مع هذا المحتوى وتقديمه بشكل مشوق.
المراجع
(1) علي الفتلاوي، “مقاربة الهوية سوسيولوجيًّا”، مجلة المنتدى الجامعي (كلية الآداب بني وليد، ليبيا، العدد 4، 2012)، ص .149
(2) إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية (دمشق، دار الفكر، 2016)، ص .998
(3) علي بن محمد الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، (بيروت، دار المناهج العلمية، 1983)، ص .257
(4) الفتلاوي، مقاربة الهوية سوسيولوجيًّا، مرجع سابق، ص .148
(5) Karen A. Cerulo, “Identity Construction: New Issues, New Directions,” Annual Review of Sociology, Vol. 23, (1997): 386.
(6) أليكس ميكشيللي، الهوية، ترجمة علي وطفة (دمشق، دار الوسيم للخدمات الطباعية، 1993)، ص .129
(7) Fredric Barth, Ethnic Group Boundaries: The Social Organization of Cultural Difference (Long Grave Illinois: Waveland Press, 1998), p. 14.
(8) Cerulo, Identity Construction, 389-391.
(9) Shaikha Al-Thani, “Globalization and National Identity in Qatar: Dose Exposure to Globalization Lead to Changes,” in National Identity Across Different Generations of Qatar Citizens? (Qatar, Qatar University, 2017), 14.
(10) الفتلاوي، مقاربة الهوية سوسيولوجيًّا، مرجع سابق، ص 138.
(11) أحمد بعلبكي وآخرون، الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة مناهج المستقبل العربي -68، 2013)، ص .299
(12) المرجع السابق، ص .299
(13) الفتلاوي، مقاربة الهوية سوسيولوجيًّا، مرجع سابق، ص .156
(14) Al-Thani, “Globalization and National Identity in Qatar,” 17.
(15) عبد الله الخريجي، علم الاجتماع الديني، ط 2 (جدة، دار رامتان، 1990)، ص 103.
(16) المرجع السابق، ص .103
(17) Al-Thani, “Globalization and National Identity in Qatar,” 17.
(18) الدستور، موقع الديوان الأميري، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 1 مارس/آذار 2020): shorturl.at/lpvz7.
(19) National Identity Survey 2018 [dataset]. Doha, Qatar: Social and Economic Survey Research Institute (SESRI, http://sesri.qu.edu.qa/) [distributor]. December 17, 2018. “accessed June 30, 2020”. shorturl.at/diDMT.
(20) بعلبكي وآخرون، الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، مرجع سابق، ص 299.
(21) لطيفة النجار وآخرون، اللغة والهوية في الوطن العربي: إشكاليات تاريخية وثقافية وسياسية، ط 1 (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، (2013، ص 80.
(22) بعلبكي وآخرون، الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، مرجع سابق، ص .268
(23) النجار وآخرون، اللغة والهوية في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 129.
(24) المرجع السابق، ص .84
(25) الدستور، موقع الديوان الأميري، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 1 مارس/آذار 2020): shorturl.at/lpvz7.
(26) National Identity Survey 2018 [dataset]. Doha, Qatar: Social and Economic Survey Research Institute (SESRI, http://sesri.qu.edu.qa/) [distributor]. December 17, 2018. “accessed June 30, 2020”. shorturl.at/diDMT.
(27) الفتلاوي، مقاربة الهوية سوسيولوجيًّا، مرجع سابق، ص .140
(28) بعلبكي وآخرون، الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، مرجع سابق، ص .377
(29) Al-Thani, “Globalization and National Identity in Qatar,” 18.
(30) الفتلاوي، مقاربة الهوية سوسيولوجيًّا، مرجع سابق، ص .140
(31) Al-Thani, “Globalization and National Identity in Qatar,” p. 17.
(32) الدستور، موقع الديوان الأميري، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 1 مارس/آذار 2020): shorturl.at/lpvz7.
(33) Al-Thani, “Globalization and National Identity in Qatar,” 17.
(34) National Identity Survey 2018 [dataset]. Doha, Qatar: Social and Economic Survey Research Institute (SESRI, http://sesri.qu.edu.qa/) [distributor]. December 17, 2018. “accessed June 30, 2020”. shorturl.at/diDMT.
(35) أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، (بيروت، مناهج لبنان، 1982)، ص 42.
(36) عايدة أبو غريب، “تطوير مناهج التعليم لتنمية المواطنة في الألفية الثالثة لدى الطلبة بالمرحلة الثانوية”، (الجمعية التربوية للدراسات الاجتماعية، مصر، المجلد 1، (2008، ص 24.
(37) المرجع السابق، ص 26.
(38) الدستور، موقع الديوان الأميري، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 1 مارس/آذار 2020): shorturl.at/lpvz7.
(39) Al-Thani, “Globalization and National Identity in Qatar,” 27.
(40) بعلبكي وآخرون، الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، مرجع سابق، ص .377
(41) علي موريف، الهوية الوطنية من خلال المعرفة التاريخية المدرسية، المجلة الدولية التربوية المتخصصة (المجلد 3، العدد 11، 2014)، ص 183.
(42) بثينة الجناحي، تشكيل الهوية الوطنية في قطر الحديثة: منظور جديد، (قطر، دار روزا للنشر، 2017)، ص 68.
(43) محمود الضبع، المناهج التعليمية: صناعتها وتقويمها، (القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 2006)، ص 20-25.
(44) محمود محمد الرنتيسي وآخرون، تقييم محتوى مناهج التربية المدنية للصفوف السابع والثامن والتاسع الأساسي في ضوء قيم المواطنة، (غزة، الجامعة الإسلامية، 2011)، ص 164-188.
(45) Kim Hyo-jeong, “National identity in Korean curriculum,” Canadian Social Studies 38, (2004): 3.
(46) سحر رشدان، “تصور مقترح لمناهج الدراسات الاجتماعية بالمرحلة الابتدائية في ضوء مطالب الولاء الوطني”، مجلة الجمعية التربوية للدراسات الاجتماعية (كلية التربية جامعة حلوان، مصر، 2010)، ص 123-161.
(47) محمد العبيداني، وأحمد الربعاني، مدى تضمين سمات الهوية الوطنية في مناهج الدراسات الاجتماعية للصفوف من 5-12 بسلطنة عمان (عُمان، جامعة السلطان قابوس، 2009)، ص 1-3.
(48) الأمانة العامة للتخطيط التنموي، “رؤية قطر الوطنية 2030″، (قطر، الأمانة العامة للتخطيط التنموي، 2008)، ص 13.
(49) مقابلة مع الأستاذة أفراح الرياشي، رئيس قسم الدراسات الاجتماعية بوزارة التعليم والتعليم العال