الكتاب: مهندسو الفوضى

العنوان الأصلي: Les ingénieurs du chaos

المؤلف: جيوليانو دا إمبولي  Giuliano da Empoli

منشورات جان كلود لاتي JC Lattès. باريس. 2019

ملخص:

يرصد كتاب “مهندسو الفوضى” (Les ingénieurs du chaos)، للباحث والكاتب الإيطالي- السويسري جيوليانو دا إمبولي، Giuliano da Empoli صعود التيارات الشعبوية وزعاماتها من خلال تسليط الضوء على المطبخ الخلفي الذي يتم فيه رسم معالم الشخصية القيادية وتخطيط تحركاتها من جهة، وتوجيه الرأي العام وتهيئته للتفاعل مع خطاب تهييجي من جيل جديد، من جهة أخرى.

الكتاب بهذا المعنى غوص في دهاليز صناعة هذا الزحف الشعبوي الجديد الذي لا يتردد البعض في اعتباره استئنافا، ولو بصيغ أخرى، لمراحل سياسية سابقة أثمرت التيارات اليمينية الفاشية والنازية التي دفعت بأوروبا والعالم إلى حرائق حرب عالمية مدمرة.
_______________
*نزار الفراوي، صحافي، باحث في العلاقات الدولية

Nizar Lafraoui, Journalist, researcher in international relations.

يقودنا المؤلف، بأسلوب يجمع بين التقريرية البحثية والنفحة السردية الوصفية، الى التعرف على

فاعلين سياسيين جدد. ليسوا منظرين إيديولوجيين محترفين، بل هم مهندسون بالفعل، من خريجي الشعب العلمية والتقنية ذات الصلة بعالم الفيزياء والرياضيات، من البارعين في توظيف الأنترنيت للدعاية السياسية واستغلال منصات التواصل الاجتماعي لتوجيه الرأي العام وجس اتجاهاته وتخصيب مشاعره السلبية تجاه النخب التقليدية. إنهم جامعيون متخصصون يضعون خبرتهم العلمية في قاعدة مشروع يعبد طريق السياسي إلى صعود مدارج الهرم بناء على خطاب شعبوي فائق النجاعة، ووفق رؤية تحول اللعبة السياسية إلى (فرجة) جاذبة للجمهور.

كلمات مفتاحية:

أنظمة سياسية- شعبوية- إنترنيت- هندسة معلوماتية – يمين متشدد – رأي عام – أزمة الديمقراطية

Abstract

The book “The Architects of Chaos” (Les ingénieurs du chaos), by the Italian-Swiss researcher and writer Giuliano da Empoli, deals with the rise of populist currents and their leaders by highlighting the underside of the planning process of the leadership managment, and influencing public opinion.

The book suggests an attempt to understand the secrets of the suc-cess of the new populist wave, which some consider as a resumption, of previous political phases of fascist and Nazi right-wing currents that pushed Europe and the world into devastating world war.

The author leads us, in a manner that combines research reporting with descriptive narrative flair, to identify new political actors. They are not professional ideological theorists, but rather engineers, graduates of scientific and technical disciplines related to the world of physics and mathematics, who are skilled in using the Internet for political propaganda and exploiting social media platforms to guide public opinion, probe its trends, and inflame negative feelings towards tradi-tional elites. They are specialized university students who bring their scientific expertise to push the leader to the ascent of power pyramid, using a populist discourse, and according to a vision that transforms the political game into an attractive show for the public.

Key Words

political systems- populism- internet- Informatics engineering- extreme right- public opinion- democracy crisis.

مدخل

يخيم خوف عارم على قطاعات عريضة من النخب السياسية والثقافية التي تحمل رؤية معينة عن الديمقراطية بمختلف أبعادها وقيمها المتوارثة عن الحرية ودور الدولة والتعددية الثقافية والعلاقة مع الآخر وطبيعة السياسات الاقتصادية ومكانة الإعلام والرأي العام وغيرها؛ ذلك أن التيارات الشعبوية التي تلتهم مساحات متنامية من مربعات السلطة في العديد من الدول بأوروبا وأميركا تنذر بمآلات مجهولة للنظام السياسي في هذه الأصقاع، مع انعكاسات أكيدة على المجتمع الدولي، والعلاقات الدولية ككل.

في كتاب “مهندسو الفوضى” (Les ingénieurs du chaos)، الصادر في طبعته الأولى سنة 2019، عن منشورات جان كلود لاتي JC Lattès  بباريس، يتوغل الباحث والكاتب الإيطالي-السويسري، جيوليانو دا إمبولي Giuliano da Empoli، في دهاليز صناعة هذا
الزحف الشعبوي الجديد الذي لا يتردد البعض في اعتباره استئنافًا، ولو بصيغ أخرى، لمراحل سياسية سابقة أثمرت التيارات اليمينية الفاشية والنازية التي دفعت بأوروبا والعالم إلى حرائق حرب عالمية مدمرة.

ترامب، بولسونارو، جونسون، أوربان، سالفيني…أسماء ونماذج لمنظور جديد لممارسة السياسة وأدوات جديدة لحسم المعارك الانتخابية وآليات مغايرة لنسج العلاقة مع الرأي العام، ومنظور جديد لأولويات الحكم وقيمه السياسية والاقتصادية والثقافية. لكن خلف هذه الزعامات، “مهندسون” يراهنون على التكنولوجيات الوسائطية الجديدة لربح حروب الرأي العام والترويج للشعارات الراديكالية الواعدة بالتغيير والحل السحري للأزمات الاقتصادية والاجتماعية لمرحلة ما بعد الرفاه في الديمقراطيات.

سياقات ذاتية وموضوعية

لا ينطوي عنوان الكتاب على وصف مجازي لهذه العقول التي تخطط ليوميات الزعامات الشعبوية الجديدة وتحركاتها وخطاباتها وصولًا إلى أدق تعبيراتها الجسدية. إنهم ليسوا منظِّرين أيديولوجيين محترفين، بل مهندسين بالفعل، من خريجي الشعب العلمية والتقنية ذات الصلة بعالم الفيزياء والرياضيات، من البارعين في توظيف الإنترنت للدعاية السياسية واستغلال منصات التواصل الاجتماعي لتوجيه الرأي العام وجس اتجاهاته وتخصيب مشاعره السلبية تجاه النخب التقليدية. إنهم جامعيون متخصصون يضعون خبرتهم العلمية في قاعدة مشروع يعبِّد طريق السياسي إلى صعود مدارج الهرم بناء على خطاب شعبوي فائق النجاعة، ووفق رؤية تحول اللعبة السياسية إلى فرجة جاذبة للجمهور.

ومن هنا يمكن أن نفهم اختيار الكاتب لمقدمته، حين يعود إلى الوراء مراهنًا على تشبيه فلسفي يبدو فيه الكرنفال محاكاة للعبة السياسة. فمن شرفة الشقة التي أقام بها الأديب الألماني، غوته، في العاصمة الإيطالية، روما، سنة 1787، يبدو مشهد رجال ونساء يتبادلون الأدوار، مواقف وتصرفات ضد المعتاد والمألوف، فوضى إرادية حيث كل شيء مباح، مزيج من الاحتفالية والصخب الذي يصل إلى العنف. يتأرجح الكرنفال بين التمثيل والحقيقة: حقيقة الطبائع البشرية حين تتاح للعامة الإطاحة بالنظم والقواعد السارية بشكل رمزي[i].

هذا البعد الخطر، الانقلابي، هو ما حمل على إلغاء هذه الاحتفاليات في روما، خصوصًا عقب الثورة الفرنسية، كي لا يتحول التمثيل إلى فعل حقيقي، ثم عاد الكرنفال بقوة إلى المشهد السياسي الذي بات يفرز قيادات مغمورة خارج الصف، شبه مقنعة. إنه الكرنفال الذي أنتج في إيطاليا انتصارات حركة 5 نجوم والعصبة وتعيين رجل مثل جيوسيبي كونتي رئيسًا للحكومة، في يونيو/حزيران 2018 (إلى غاية 2021). ولعلها اللحظة التي استفزت الكاتب وهو يتأمل بلاده في قبضة الشعبوية بذاكرتها الأليمة.

يتحدث الكتاب عن مشهد كرنفالي ينتج شخصيات تقول الشيء ونقيضه في غضون ساعات، تدلي بمعلومات ومعلومات زائفة طول الوقت. الكذب لا يطيح بها بل قد يقويها ويدمر خصومها. يستحضر ظاهرة ماتيو سالفيني، وزير الداخلية الإيطالي، المتشدد الذي ينشر تغريدات يومية تلهب الخوف والكراهية ضد السود والمهاجرين، خصوصًا منهم المسلمين.

إيطاليا مهد الشعبوية لكنها ليست استثناء، بل نموذجًا في طور التناسل عبر جغرافيات العالم الغربي بوجه خاص. هناك موجة عارمة تتحول معها نقائص السياسيين إلى نقاط قوة. الجهل وعدم الخبرة يتجاوران خلف الاندفاعية والدعائية التي تستثمر مشاعر الغضب والإحباط تجاه النخب التقليدية التي توصم بالفساد والفشل[ii].

تقوم الشعبوية على مركزية فكرة “الشعب”، تعمل على تصويره كتلة موحدة ومنسجمة، تلتهم الاختلافات الهامشية، تحتكر الحديث باسمه، وتعلي جدارًا بينه وبين النخب التقليدية، تخدم مصلحتها فكرة المجموعة الواحدة المستهدفة من الداخل والخارج. الشعبوية تستهدف عزل الشعب عن النخب التقليدية، وإعلاء جدار بينهما. توظف جهاز إدانة متواصلة للنخب الحاكمة، وترفع شعار الدفاع عن هوية وطنية مهددة، ومناهضة القوى الأجنبية الدخيلة التي تهدد هذه الهوية[iii].

تقارب الشعبوية العالم المعقد بأفكار تبسيطية: تبني تقاطبًا بين الخير والشر، الواقع والزيف، من يكذب ومن يقول الحقيقة. تستغل تباعدًا حقيقيًّا بين الجماهير والنخب؛ تحمِّل هذه النخب مسؤولية هشاشة النظام أمام الهجرة والتعددية الثقافية والرأسمالية المالية ووحش العولمة[iv].

لقد وصف آلان تورين الشعبوية بأنها المرض الطفولي للديمقراطية والحال أنه اليوم مرض شيخوختها. والأدهى أن النخب التقليدية تحاول كبح منحنى تراجعها بمزاحمة الشعبوية في تبني بعض أفكارها، على غرار ما يقوم به اليسار في تبني منظور كبح حركة المهاجرين. يراهنون على التشابه لكسر مسار اتساع قاعدة الشعبويين في الأوساط الاجتماعية المختلفة.

على خلاف الأيديولوجيات السياسية التي عرفها التاريخ منذ قرون، ليست هناك نظرية مستقلة للشعبوية. إنها بالأساس خطاب، أسلوب يتعالى على الاصطفافات السياسية التقليدية. لذلك قد يلتقي فيها اليساري واليميني.

تُعرف الشعبوية أكثر كخطاب يستهدف ضرب الخصوم في غياب تعريف موحد ومتكامل. إنها بالتالي رد فعل أكثر منها نظامًا مكتفيًا بذاته؛ خطاب قد يشترك فيه اليمين واليسار. تنتعش الشعبوية في أوقات الأزمة والانتقالات الكبرى والمخاضات التاريخية الفارقة. كذلك مثلًا شأن حركة ألمانيا البديلة التي توسعت عقب أزمة اللاجئين والسياسة المتعاطفة للمستشارة السابقة، أنغيلا ميركل، باستقبال مئات آلاف من الفارين من حرب سوريا، خصوصًا عام 2015.

في الحقيقة، ليست الظاهرة بجديدة، فمنذ الثمانينات برز زعماء يتباهون بجهلهم، وبأنهم رجال عاديون من صفوف الجماهير، على غرار رونالد ريغان. وهذا التعريف نفسه يصبح جزءًا من الخطاب الديماغوجي الذي يسعى إلى كسر المسافة مع المستهدَف بالخطاب، الناخب المحتمل. فالقائد الشعبوي لا يمثل الشعب، بل يجسده. إن مفارقة الشعبوية أنها فعل وحركة تتبلور من داخل الديمقراطية، تحتاج مؤسسات الديمقراطية ومساطرها وقواعدها، لالتهام الديمقراطية وتحويلها لشيء مختلف دون تحطيم واجهتها.

تقوم الشعبوية على إنكار وجود أسباب موضوعية للتراجع الاقتصادي والأزمات الاجتماعية والسياسية التي تعيشها الديمقراطيات. بالنسبة لها، ظواهر التغير المناخي وغلاء الطاقة وندرة المواد الأساسية كلها مجرد مؤامرات محبوكة. صناعة العدو مكون أساسي في الخطاب: ضد المهاجرين، ضد المؤسسات الدولية، ضد الإسلام، ضد مركبات البحث العلمي، ضد الإعلام التقليدي المتآمر.

تعيش الشعبوية في وهم ماض تتم أسطرته، عبر تخصيب التاريخ الزاهر من جهة، والتاريخ السلبي الذي يضع الآخرين موضع الاتهام والعداء، من جهة أخرى. ترفع شعار حرب صليبية لاستعادة سنوات المجد والنقاء الوطني، العرقي أحيانًا، وترميم السيادة المخترقة وتحصين الحدود، وترسيم التميز الوطني عن الآخرين[v].

في عالم ترامب وبوريس جونسون وبولسونارو وأوربان، تتخذ المواقف الحدية والمعلومات المضلِّلة وتيرة يومية بحيث يحتجب الحدث خلف لاحقه فلا يظل وقت للتمحيص والتقييم والربط بين الأشياء. لا مفر من الانخراط التام في الموجة. المشهد السياسي فرجة لكن خلفها يكمن مهندسون من الخبراء والباحثين في البيانات الضخمة Big Data، يرشدون محترفي السياسة إلى سبل كسب معارك الرأي العام وتفكيك معسكرات الخصوم وفتح قنوات استهداف الناخبين عبر كل الوسائط التكنولوجية المتاحة. الكتاب يحكي قصة هؤلاء الذين لا يظهرون أمام الكاميرا، بل ينهمكون في إعداد وجبات المطبخ السري للزعماء الجدد الذين يختطفون السياسة رهينة في قبضة الشعبوية الجديدة.

إن هوية الكاتب وتجربته تضيء أهمية الكتاب وميزاته، وربما نقائصه أيضًا؛ فجيوليانو دا إمبولي باحث في العلوم السياسية، يدير مركزًا للتفكير في ميلانو “فولتا”، ويزاول التدريس في معهد العلوم السياسية بباريس. غير أنه لا يقارب المشهد السياسي بمسافة مطلقة مزعومة للباحث، بل يحمل ذاكرة وخبرة الممارسة، بل القرب من مراكز صناعة القرار في إيطاليا، من تجربته نائبًا لعمدة فلورنسا في الشؤون الثقافية إلى مستشار سياسي للوزير الأول الإيطالي، ماتيو رينزي (من فبراير/شباط 2014 إلى ديسمبر/كانون الأول 2016)، الذي كان يرأس الحزب الديمقراطي، وأدار البلاد بتحالف ضم أحزابًا من اليسار والوسط.

إن الانتماء المعلن لهذه الشجرة السياسية، وإن كان الكاتب قد أوقف التزامه بالعمل الحزبي المباشر وتفرغ للبحث والتدريس، لا يعيب مقاربةً من نوعِ ما يقترحه الكتاب، الذي يبقى رؤية سجالية تعبر عن مرجعيات صاحبها، والزوايا التي يختارها لتفكيك أعطاب الزمن السياسي الراهن في الديمقراطيات الغربية.

إن الترحيب الواسع بالكتاب الذي تُرجم إلى 12 لغة يوضح الحاجة التي يستشعرها المتابعون للأوضاع السياسية، في سعيهم إلى تبديد حيرة القراءة والفهم أمام تحولات سياسية بنيوية تلقي بغيوم من الشك والاضطراب على المستقبل.

بانوراما لمهندسي الحملات الشعبوية

في إيطاليا، هي قصة خبير في التسويق الإلكتروني فهم منذ بداية الألفية أن الإنترنت سيُحدث ثورة في السياسة. جيان روبيرتو كاساليجو Gianroberto Casaleggio سينجح في “استقطاب” فنان كوميدي هو بيب كريو Beppe Grillo  ليصبح واجهته لحركة 5 نجوم.

لا يركز الكاتب على إيطاليا كنموذج لانتعاش الشعبوية فقط لأنها بلده الأصلي، بل أيضًا لأن إيطاليا تُعتبر، حتى في نظر ستيف بانون أحد كبار مهندسي الشعبوية الأميركية، تجربة نموذجية لصعود الحركة الشعبوية ينبغي استلهامه وتعميمه؛ حيث فهم الشعبويون من اليمين واليسار الحاجة إلى التكتل ضد النخبة السياسية التقليدية. والجديد اللافت في إيطاليا أن رجال التقنية أخذوا المبادرة وباتوا يختارون السياسيين المؤهلين لتطبيق برنامجهم الشعبوي، الحالة التي يجسدها كاساليجيو مع كريو.

بدأ اللقاء بين بيب كريو وجيان روبيرتو كاساليجيو بحديث عن دور الإنترنت في تغيير العالم. كان لقاء بين وحش الخشبة المعتاد على مواجهة الجمهور عبر الإضحاك من جهة والعقل البارد ذي الرؤية البعيدة المسلح بخبرة في التسويق الرقمي.

ينقل الكاتب عن كاساليجيو الذي توفي مبكرًا في ذروة المسار قوله الكاشف لمركز الثقل في المشروع السياسي الشعبوي: “لا تهمني السياسة.. يهمني الرأي العام”5. كان الرجلان ينطلقان من يقين بأن الإنترنت سيقلب وجه السياسة ببروز حركة تقودها تفضيلات الناخبين/المستهلكين. الهدف إذن هو تصميم “منتج” يستجيب لطلب الجمهور. كان السياسي إذن في حاجة إلى فنان يصنع (الفرجة) لتوليد الحرارة والحماس في العملية التواصلية.

تتم صياغة الخطاب السياسي في مكاتب الشركة التي يديرها كاساليجيو عبر فرز الانشغالات المعبَّر عنها يوميًّا من قبل الجمهور على مختلف الشبكات الاجتماعية. يجري تصوير البلاد على أنها أسيرة عصابة من السياسيين الفاسدين وأن الحلول بسيطة وفورية وجذرية. عملية المشاركة والارتقاء في السلم الحزبي مختلفة عن المسارات التقليدية البطيئة في الأحزاب اليسارية واليمينية معًا. ثمة مرونة تسمح بالسرعة أمام الوجوه الفعالة والحركية[vi].

في 2007، تم تحويل التعبئة الرقمية إلى حركة جماهيرية تملأ الساحات. التنظيم يبدو مفتوحًا لكنه في الواقع شديد التمركز ينبني على الانخراط الكامل دون نقد أو تمحيص. التواصل عمودي مع المركز. يتم اختيار وجوه جديدة من الناجحين على صفحات التواصل الاجتماعي لتولي مراكز قيادية، بلا مراعاة لكفاءات معينة وخبرات سياسية. يتم الاعتماد على مجموعة من المواقع والقنوات الإلكترونية لتشكيل الفقاعات الإعلامية المصاحبة. إنها صناعة تكنو-سياسية حقيقية قائمة على معالجة وتوزيع المعلومات والمعلومات الزائفة. لقد نجحت الحركة في تحقيق أول انتصار في انتخابات 2013 بنجاح 163 برلمانيًّا. رفع كريو حينها شعار “الزحف على روما”. وقد تعرضت الحركة لتحد كبير مع وفاة كاساليجيو سنة 2016، لكن الخطوات التي تحققت على الأرض كانت عملاقة، بعدما بدأت من الصفر.

في بريطانيا، هي أيضًا قصة دومينيك كامينغز Dominic Cummings مدير حملة البريكست Vote to leave من أجل مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي (2015-2016) ومستشار رئيس الوزراء، بوريس جونسون (2019-2020).

ينقل الكاتب عنه قوله: “إن أردتم تحقيق تقدم في السياسة، فإن نصيحتي أن توظفوا فيزيائيين، لا خبراء في التواصل”. إنها قولة مقتضبة تلخص العهد التكنولوجي الجديد للفعل السياسي. في تعامله مع شركة كندية مرتبطة بمؤسسة (كامبريدج أناليتيكا) التي قدمت خدماتها لدونالد ترامب، كان مطلبه “ساعدوني على أن أصل بدقة إلى هدفي..أخبروني أي باب أطرقه، لمن أوجه رسائل إلكترونية وخطابات على الشبكات الاجتماعية، وبأية مضامين”. من تجربته يوجه وصية “أبوية” لساسة المستقبل: “إن كنت شابًّا، ذكيًّا، مهتمًّا بالسياسة، فكِّر جيدًا قبل أن تدرس العلوم السياسية في الجامعة. الأجدر أن تدرس الرياضيات أو الفيزياء…”[vii].

منطلق رهانات كامينغز أنه لأول مرة في التاريخ باتت السلوكات البشرية تنتج سيلًا جارفًا من المعطيات القابلة للقياس والملاحظة والتحليل. بفضل الإنترنت والشبكات الاجتماعية، “كل آرائنا ومشاعرنا باتت قابلة للقياس”. تطبيقًا لذلك في حملة البريكست، يقول: إنه “على مدى عشرة أسابيع من الحملة الرسمية، أنتجنا حوالي مليار رسالة رقمية مشخصنة، خصوصًا عبر فيسبوك، مع وتيرة متسارعة خلال الأيام الأخيرة قبل التصويت”. على هذه الجبهة، كان دور العلماء حاسمًا.

في الولايات المتحدة: هي قصة ستيف بانون Steve Bannon، قائد جوقة الشعبوية الأميركية الذي حمل ترامب إلى النصر، وحلم بتكوين أممية شعبوية تناهض ما يسميه نخب دافوس وأنصار العمل المتعدد الأطراف. قدم بانون إسهامًا نشطًا في الارتقاء بترامب إلى البيت الأبيض إثر انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2016. بعدها باتت خدماته تُطلب خارج الحدود حيث يعلِّم القادة أساليب وطرق حسم المعارك الانتخابية باستخدام كل شيء مباح في السياسة: الحقائق والأكاذيب. هكذا حلَّت تعليماته في إيطاليا ليسير عليها ماتيو سالفيني ولويجي دي مايو، وألهمت صناع حملة البريكست وغيرها.

بإطلاق مؤسسة كامبريدج أناليتيكا، أصبح ستيف بانون المخطط الإستراتيجي لحملة ترامب. كبر حلمه ليتطلع إلى بناء قاعدة عالمية للحركة الشعبوية. لقد فهم ذلك بعد حضوره تجمعًا حزبيًّا لمارين لوبين، زعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا.

في الولايات المتحدة، وبينما كانت البلاد تحتفل بانتخاب أول رئيس أسود، يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2008، كانت المعطيات على غوغل تكشف عن مخزون إستراتيجي تحتي مغاير التوجه. كانت أرقام البحث على غوغل بعبارة “أول زنجي” بحمولتها اليمينية العنصرية أكبر من عبارات “أول أسود”. بالتزامن مع ذلك، حققت الشبكة الاجتماعية العنصرية Stormfront ذروة في الانخراط والتوسع على مستوى استقطاب المتعاطفين والناشطين اليمينيين. هذا الانبعاث في الغضب العرقي كان ينتظر مستثمرًا من نوع خاص: ترامب، الذي خاطب جمهوره قائلًا: “دعوني أكن حامل لواء غضبكم”. فبالنسبة لمهندسي الفوضى، وروادهم من قبيل بانون، “تتمخض الشعبوية عن اتحاذ الغضب بالخوارزميات”[viii]. لقد بدأ بالتشكيك في شهادة ميلاد أوباما وروَّج لنظرية المؤامرة التي تقف وراء انتخابه.

في هذا السياق، كان بانون يتعاون مع بريتبارت Breitbart في مناهضة المجمع الإعلامي الديمقراطي كخصم عنيد للتيار اليميني المتشدد. بعد وفاة مفاجئة لبريتبارت، واصل بانون المعركة بمفرده. برز في عالم الأعمال واللعب الإلكترونية وتعاون مع ميلو بانوبولوس، وهو مثلي نيويوركي مناهض للمهاجرين والمسلمين.

ومن مفارقات اللعبة الشعبوية أن انتقادات الاعلام التقليدي لترامب لم تنل منه بل زادت من شعبيته وجعلته بالفعل رجل الهامش ضد سطوة “المؤسسة” Establishment. وقد تنبه ترامب ومهندسوه إلى نجاعة صناعة الاستفزاز لأن الهدف هو إثارة الانتباه قبل المضمون. فكان العمل على الارتجال والاستفزاز خارج الأساليب المنمقة، بما يعطي شعورًا بالقوة في زمن الخوف، حسب رجال البديل اليميني مثل بانون وبانومولوس.

في المجر، هي قصة آرثر فنكلشتاين، arthur finkelstein، مستشار رئيس الحكومة، فيكتور أوربان، والذي يرى كخلاصة لجولاته عبر العالم أن “الآخرين هم السبب. المهاجرون يأخذون عملنا، يغيرون نمط حياتنا (السويد، أميركا، فرنسا، فنلندا…)”. يكثر الطلب إذن على حكومات وزعامات قوية قادرة على مواجهة التهديد. الرهان هو تغذية مخزون الغضب بأخبار ومعلومات ساخنة تُذكي المشاعر التي تنشد التغيير الجذري.

في المجر، اعتبر فيكتور أوربان أن الهجرة أمر سيء بالنسبة لأوروبا، لا يحمل إلا الفوضى والخطر على الشعوب. قال: “طالما ظللت وزيرًا أول، لن نسمح بأن تتحول المجر إلى وجهة للمهاجرين. لا نريد أي أقلية بتراث ثقافي مختلف بيننا”[ix].  لقد صرح بذلك في وقت مبكر لم تكن الهجرة قد دخلت حينها إلى قائمة انشغالات المجريين، حسب الاستطلاعات، لكنه كان يستبق اتجاهات عقارب الساعة ويهيئ الأجواء لخطاب شعبوي فعال.

كان فنكلشتاين مناضلًا شابًّا في الجناح المتشدد للجمهوريين، ولعب دورًا في حملة الانتخابات التمهيدية التي ارتقت بريغان حاكم كاليفورنيا لأول مرة على الساحة الوطنية، ليصبح بعد 4 سنوات أحد مستشاريه السياسيين بالبيت الأبيض. عُرف مبكرًا باستخدام مناهج الاستهداف الديمغرافي من خلال استطلاعات وتحليلات تكون قاعدة لبلورة خطابات دقيقة الاستهداف للشرائح المختلفة.

كوَّن الرجل أجيالًا من الناشطين في الحملات التي توجت بوش وترامب. في التسعينات، بدأ تصدير مهاراته إلى الخارج. سيجعل من نتنياهو حصانًا رابحًا. يبدأ العمل من المظهر الجسدي. لقد صبغ شعره بالرمادي كي يبدو أكثر وقارًا. انكب على تدمير الخصم من خلال شعار “بيريز يريد تقسيم القدس”. يصوره واحدًا من الليبراليين الضعاف، المتواطئين مع العرب. نجح نتنياهو وواصل على نهج فنكلشتاين ليقدم نفسه بشعارات “نحن ضد الآخرين”، “الشعب يواجه أعداءه”، “من ليس معنا فليس يهوديًّا”.

تنامى الطلب على خدمات فنكلشتاين في دول التشيك والنمسا وأوكرانيا وأذربيجان. كان القاسم المشترك تصميم حملات عنيفة تخصب السلبي وتوظف الأخبار الزائفة لدحر الخصوم. سنة 2009، حط الرحال في المجر حيث وجد زبونه الرئيس: فيكتور أوربان الذي يتبنى فكرة كارل شميت: “السياسة تتمثل في تشخيص العدو”. والعدو الذي وجده أوربان وفنكلشتاين هو أوروبا الموحدة بمؤسساتها الفوقية التي تنصاع لها سيادة الدول الأعضاء، فتفرض على البلاد قواعد متعالية ضد مصلحتها. يعني ذلك إذكاء النزعة القومية المتشددة من خلال حملة ضد النخبة الحاكمة آنذاك “التابعة لتكنوقراطيي بروكسل” (الاتحاد الأوروبي) على حدِّ قوله. الشعار هو “المجر ليست مستعمَرة” (بفتح الميم).

في ربيع 2010، يفوز أوربان بوضوح بعد أن حصد 57.2 في المئة من الأصوات. بدأت سياسات أوربان على الأرض تتجسد في مركزية متشددة وإعلام تحت المراقبة وحركة تأميمات. فاز مجددًا في 2014 بحصوله على 90 في المئة من مقاعد البرلمان. بعد سلسلة من الفضائح والإخفاقات، انخفضت أسهم أوربان، فاهتدى الثنائي الشيطاني أوربان/فنكلشتاين إلى صناعة عدو جديد: الإسلام مجسدًا في المهاجرين رغم عددهم المحدود.

يوضح فنكلشتاين فكرته في تصميم الخطاب السياسي التعبوي قائلًا: “السياسي الجيد هو من يقول لكم أشياء حقيقية قبل أن يبادركم بأمور مغلوطة، فهكذا سيصدقون كل ما يروي من حقائق وأكاذيب”[x]. بدأ تجسيد ذلك بحملة ممنهجة لشيطنة المهاجرين بوصفهم تهديدًا للانسجام الاجتماعي وسارقين لفرص عمل المواطنين، وجاءت النتيجة ارتفاعًا صاروخيًّا في أسهم أوربان بعد تشديد محاصرة المهاجرين في تنقلاتهم رغم أنهم لا ينشدون البقاء بالمجر بل العبور إلى دول أوروبا الغربية، وخصوصًا ألمانيا. صدرت تعليمات للتليفزيون بعدم استخدام لفظ “لاجئ” وعدم تصوير الأطفال للحيلولة دون التعاطف معهم.

رهانات العملية التواصلية الشعبوية

هؤلاء هم مهندسو الفوضى الذين يكشف الكتاب مطبخهم السري، مرجعياتهم وأساليب عملهم التي ترسم خريطة جديدة للمشهد السياسي في العالم الغربي. إنهم المهندسون السياسيون الذين يصممون بروباغاندا لعصر الشبكات الاجتماعية، ويغيرون بالتالي طبيعة اللعبة الديمقراطية، غير معنيين بالنقاش، بل بالانخراط الجماعي الأهوج في مشروع يحمل شعارات راديكالية، تحلق عبر خوارزميات الوسائط التواصلية لتقوم بدورها التعبوي الكاسح، متلاعبة بأوتار الجمهور، رغباته ومخاوفه. لا يتجهون إلى الوسط بل إلى الجماعات الهامشية، يخصِّبون الغضب والإحباط، في أفق تحويله إلى طاقة للهدم وإعادة البناء. لا يكترثون للحواجز الأيديولوجية بل يقفزون عليها ليرسموا مشهدًا يتجاوز الانشطار التقليدي بين اليسار واليمين، في اتجاه انشطار رئيسي بين الشعب والنخب التقليدية بيسارييها ويمينييها. يفجرون الانقسام التقليدي من أجل استقطاب أوسع للغاضبين من كل الاتجاهات.

يعتمد هؤلاء المهندسون على المشاعر السلبية، من خلال الأخبار الزائفة ونظريات المؤامرة. يوظفون الخطاب الساخر لأنه يفتت السلطة الاعتبارية. إنه خطاب مختلف عن العقلانية الخطابية المتزنة والمهيكلة. ذلك جزء من مشهد كرنفالي حيث لغة الجسد والصور تتصدر النصوص والأفكار وجاذبية السرد تتقدم على دقة الوقائع المقدمة للجمهور. الأكاذيب سلاح فعال لأنه يلتقط المخاوف والرغبات ويدغدغها.

لا تكفي إدانة الموجة الشعبوية للانتصار عليها. يتغذى الكرنفال السياسي الحالي على معطيين لا يمكن القفز عليهما: الغضب العارم في الأوساط الشعبية على خلفية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والآلة التواصلية النفاثة التي صُمِّمت في الأصل لتحقيق غايات ترويجية تجارية، قبل أن تصبح في يد السياسيين أداة فتاكة لأولئك الذين يريدون زراعة الفوضى.

إن جانبًا كبيرًا من التاريخ السياسي يتعلق بآليات تدبير الغضب وتأطيره. والمشكلة اليوم بعد استنفاد الدور الذي لعبته أحزاب اليسار هو غياب بدائل سياسية ناجعة للقيام بهذه الوظيفة. فالناخبون يعاقبون الزعامات والأحزاب التقليدية بالالتفاف خلف تنظيمات متطرفة، خوفًا من رهانات مجتمع متعدد الأطراف. هناك بالطبع واقع مادي يستند عليه القادة الشعبويون، لكنه غير كاف لتبرير هذه الظواهر، فليس الفقراء مثلًا هم غالبية مساندي ترامب.

ليست النخب وحدها التي تغيرت، بل الشعوب أيضًا. فكرة الانتظار والزمن تغيرت. التكنولوجيا الحديثة وفرت الاستجابة اللحظية عبر مختلف تطبيقات الهواتف والشاشات. في السياسة أيضًا يطلب الناس إجابات فورية. لا يمكن فهم هذه التحولات دون استحضار الأبعاد النفسية للتكنولوجيا التواصلية التي تخصب لدى المستهلك نوازع الشك والنقص. الشعبوي يقنع الغاضب بأنه يفهم غضبه ويتفهمه.

يستحضر دا إمبولي دراسة لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا كشفت أن معلومة زائفة لها 70 في المئة من الحظ لاحتمال تقاسمها عبر الإنترنت، لأنها أكثر إثارة من الواقع نفسه. يقول الباحثون: إن الحقيقة تأخذ 6 مرات زمن المعلومة الزائفة للوصول إلى 1500 شخص. كأن في الأمر تكريسًا لمقولة مارك توين: “يمكن لكذبة أن تقوم بدورة حول العالم في الوقت الذي تكون فيه الحقيقة بصدد انتعال حذائها”[xi].

كل الدراسات تبين أن فضاءات الشبكات الاجتماعية تسهم في تخصيب الصدام والغضب، ليصبح أحيانًا عامل إذكاء للعنف، المادي أو الرمزي، أو هما معًا. لا أدلَّ على ذلك من دور التواصل الاجتماعي في التحريض على أقلية الروهينغيا في ميانمار. كشفت الدراسات أيضًا عن تلازم بين التواصل الشبكي وتصاعد الكراهية ضد اللاجئين في ألمانيا. لقد عملت حملة الحزب اليميني المتطرف (ألمانيا البديلة) AFD على أن تكون الروابط الأولى التي تظهر على الإنترنت عند نقر اسم ميركل هي تلك المتعلقة بمقالات ومواقف تدين هذه الأخيرة بالخيانة على خلفية مواقفها المرحبة باللاجئين والمهاجرين. في البرازيل، عملت حملة بولسونارو على الالتفاف على القيود التي يفرضها فيسبوك على الخطاب السياسي باقتناء آلاف الأرقام الهاتفية لإمطار مستخدمي واتساب بالأخبار الزائفة.

يمكن مماثلة ظهور البيانات الخاصة باختراع المجهر. في الماضي، وعلى أساس استطلاعات عامة، كان رجال السياسة يستهدفون شرائح واسعة ديمغرافية أو مهنية، بشكل تقريبي: الشباب، النساء، موظفو القطاع العام…اليوم، مع عمل الفيزيائيين يمكن تقريبًا التوجه إلى كل ناخب وفق مصطلحات ومضامين دقيقة، بتواصل أكثر نجاعة وعقلانية.

التشخيص.. في انتظار الحلول

يستثمر جيوليانو دا إمبولي انتماءه المزدوج إلى الإبداع الأدبي من جهة والبحث في العلوم السياسية من جهة ثانية، حيث يمزج موهبته السردية في رسم الشخصيات الفاعلة التي اختارها نماذج معبِّرة عن حقائق المشهد السياسي في الديمقراطيات الغربية والنزول بالتجريد البحثي التقريري إلى رؤية أكثر قربًا وحيوية من واقع يصنعه في النهاية أفراد بسمات شكلية ومعنوية، مع مهارة التحليل السياسي والربط المنطقي بين السياقات والتطورات على صعيد الساحات السياسية موضوع الكتاب.

إنه يحمل الأدب إلى مدار الكتابة السياسية كما فعل عكسيًّا حين جعل لعبة السياسة موضوعًا لروايته “ساحر الكرملين” التي فاز عنها بجائزة الأكاديمية الفرنسية لعام 2022، وترشحت لجائزة الغونكور، والتي تغوص في عوالم صناعة القرار السري خلف أسوار القصر الرئاسي في موسكو.

يتميز الكتاب بأسلوبه السردي المبسط والمشوق. لا يعني ذلك ضحالة في العرض والتحليل، بل يتكئ على إلمام جيد بالمرجعيات النظرية للعلوم السياسية، لكنه يراهن أساسًا على فعل استقصائي تركيبي لوصف وترتيب الموضوع وتتبع نماذجه عبر جغرافيات متعددة من أجل الخروج بتعميمات تحليلية لظاهرة صعود الشعبوية في سياق الأزمة المعلنة للديمقراطيات الغربية.

من خلال جولة بانورامية واسعة التمثيل للشعبوية الجديدة في صناعتها لتغيرات الخريطة السياسية، يقود الكتاب إلى الخروج باستنتاجات تدق ناقوس الخطر بخصوص مستقبل الديمقراطيات، ومعها مستقبل العالم، ومآلات العلاقات الدولية والتوازنات الجيوسياسية وصولًا إلى إشكالية الأمن السلم واستقرار المجتمعات. من إيطاليا، إلى الولايات المتحدة مرورًا بالمجر وبريطانيا وصولًا إلى البرازيل، يحمل الكتاب على الاقتناع بوجود موجة في ذروة الاكتساح، تفيد المؤشرات بأن أمامها مجالات عذراء أبعد للتمدد، على غرار بلدان الشمال الأوروبي وبلدان أخرى في غرب أوروبا من قبيل فرنسا وألمانيا وهولندا…

التهديد أخطر من الداخل. لا تتأتَّى مشاعر الريبة والارتباك في الديمقراطيات الغربية حصرًا من القوى الدولية الصاعدة التي تقترح أنظمة حكامة مختلفة، تُصنَّف في العقل الغربي على أنها سلطوية. يكمن الخطر أيضًا وأساسًا في انبثاق ديناميات سياسية مفترسة تضع أساسيات العملية الديمقراطية وقيم الاجتماع السياسي وقواعد اللعبة الانتخابية وآليات التواصل بين النخب والجماهير موضع تساؤل ونفي وتجاوز.

ثمة شعور حقيقي في أوساط العامة والنخب الفكرية بأن الشيخوخة الديمغرافية ليست إلا وجهًا من شيخوخة نظامية ومؤسساتية تكتب عناوين الوهن الذي تواجهه الديمقراطيات الغربية تجاه تحديات اجتماعية واقتصادية وثقافية من جيل جديد. لكن الخطر هو أن هذه الشيخوخة تغدو وقودًا سريع الاشتعال بالنسبة لنخب جديدة من خارج الصندوق، تعيد إلى الأذهان تجارب ما قبل الحرب العالمية الثانية بتياراتها اليمينية الشعبوية التي أودت بأوروبا إلى طريق الاحتراق.

يفقد الناس صبر التغيير، يملون الانتظار في عالم سريع التقلب، يغرقون في الإحباط ويركبون طريق الغضب والاستياء تجاه نخب فاشلة فقدت القدرة على ابتكار الحلول للمآزق الاجتماعية والاقتصادية لعالم الحداثة وما بعدها. تظهر زعامات وتنظيمات جديدة متحفزة لالتقاط اللحظة الذهنية والنفسية الجماعية لصناعة كتل انتخابية ناقمة جاهزة للإطاحة بالحاضر من أجل مستقبل موعود ترسمه شعارات تبسيطية وتعميمية للاستهلاك الواسع. يسهل بلورة خطاب نفاذ يقنع الفرد بأن الآخر هو السبب في الأزمة. يغدو المهاجر في هذا الخطاب سبب فقدان العمل وفقدان الشعور بالأمن، والآليات الدولية متعددة الأطراف شبحًا يلتهم سيادة الدولة ويرضخها لبيروقراطية خارجية، والنخب التقليدية التي تتداول الحكم عبارة عن جزء من مؤامرات ضد الحرية والرخاء الوطني. ينبغي حينئذ بناء نظام سياسي جديد يعيد زمام المبادرة إلى الشعب. إنها الشعبوية الزاحفة التي توشك أن تتمدد بمفعول دومينو عبر جغرافيات العالم الغربي، في أوروبا وأميركا بوجه خاص، مع أن الدينامية ملحوظة على نطاق دولي أشمل، في مواجهة إخفاقات وعود العولمة وإخفاقات مسارات التنمية في الجنوب.

لئن كان هذا هو السياق السياسي والنفسي لهذا المخاض، فإن الموجة الشعبوية الصاعدة تشترك في الرهان على حصان رابح شديد الاختراق، يتمثل في وسائط التواصل الجديدة والتكنولوجيا الشبكية التي حولت اختيارات الناخبين إلى خارطة مكشوفة من المؤشرات والخطابات تتلقفها الجيوش الإلكترونية لزعامات الشعبوية لتصبح معطيات انتخابية حاسمة تفسر إلى حدٍّ بعيد مسلسل الانتصارات التي حملت وجوهًا من الشعبوية اليمينية الجديدة إلى سدة الزعامة في العديد من دول أوروبا وأميركا.

إن كتاب “مهندسو الفوضى” مسودة للفهم، وصفة لتوسيع مجال النظر نحو تشابه الديناميات المتمردة على السياسة بالمعنى المعتاد في الديمقراطيات الغربية. إنه كتاب بمجهود تركيبي محمود يضع تطورات سياسية في مجموعة بلدان ضمن أفق تحليلي متناغم. لا يزعم جيوليانو دا إمبولي تفكيك الأسباب البنيوية لهذا الانزياح الانتخابي نحو الخيارات القصية التي تجسدها التيارات الشعبوية، المتغذية على هوامش اليمين واليسار وشرائح العازفين عن المشاركة، الحائرين في الاختيار، الساخطين على الجميع.

لا يقدم تفسيرًا للأزمة البنيوية، بل يقودنا إلى قراءة تجلياتها وأدوات اشتغالها، من خلال تسليط الضوء على محركي الدمى في خلفية المنصة، ومخططي مسيرات الشعبوية نحو قلب السلطة في المطبخ السري.

المراجع

1. Giuliano Da Empoli Les ingénieurs du chaos. Ed J-C Lattès. Mars 2019. 203 pages. P 12
2. Idem P 18
3. Christian Godin : qu’est-ce que le populisme ? Cités 2012/1 (n° 49), pages 11 à 25. P 16
4. Idem p 20
5. Jacques Neirynck : Pourquoi le populisme ? Le Temps. 6 juillet 2022. https://blogs.letemps.ch/jacques-neirynck/2022/07/06/pourquoi-le-populisme/

6. Idem p 45
7. Idem p 153
8. Idem p 93
9. Idem p 128
10. Idem p 139
11. Idem 82