مقدمة

تحتل دراسات المستقبَلات مكانة بارزة في عموم المجالات البحثية التخصصية، لاسيما تلك الدراسات التي تتخذ من المقاربة المنهجية العلمية، والموضوعية دربًا لها، يمثِّل سلوكه أولى حلقات النجاح في البحث العلمي الرصين القائم على استشراف احتمالات المستقبل.

إن الجهد العلمي العربي على صعيد استشراف المستقبل بدا متأخرًا وتراجع مبكرًا لذا استمر محدودًا، فضلًا عن أن كمًّا منه يتناول الماضي والحاضر أكثر من تناوله المستقبل. وإذا كانت الأسبقية في تناول موضوع دراسات المستقبَلات تُسجَّل للغرب، فإن ذلك لا يمنع المفكرين والباحثين العرب من الأخذ بها كذلك، والسعي لتناولها بحثيًّا ابتغاء لرصد معالم الزمن الآتي بعد الحال، في ظل استقراء متغيرات الماضي والحاضر سبيلًا لاستعلام المستقبل.

إن تأخرنا على صعيد دراسات المستقبلات لا يُردُّ إلى تأثير المدخلات أعلاه فقط وإنما إلى جميع تلك المدخلات التي أفضت مخرجاتها إلى غياب الرؤية العلمية عن كيفية صناعتنا لمستقبلنا على وفق مصالحنا العليا وإرادتنا الحرة. لذا، فإن تحرير رؤيتنا الثقافية للمستقبل من كوابحها المتعددة، ومن ثم التعامل مع المستقبل كما لو كان حاضرًا معنا، هو الذي يُفضي بنا إلى شراء الزمان واختزال الفجوة الحضارية القائمة بين حاضرنا الراهن باختلالاته الهيكلية المتعددة ومستقبلنا المنشود الذي يُؤَمِّن صناعة تاريخنا على وفق مصالحنا العليا. ولنتذكر أن المجد لا يُصنع بالتمني وإنما بالانحياز إلى المستقبل والعمل من أجله ونحن في الحاضر.

من هنا، تشكِّل دراسات المستقبل في البحث العلمي ضرورة ينبغي الأخذ بها في ظل انتهاج منظور استراتيجي واقتراب رشيد في التعامل مع القضايا العلمية المحورية والملحَّة في الحاضر والمستقبل، إضافة إلى الاهتمام البالغ بتخصصات المستقبلات علميًّا، والسعي إلى الارتقاء بها.

  1. الإجراءات المنهجية للدراسة

أ- إشكالية الدراسة  

إن ضآلة الاهتمام العربي بدراسات المستقبَلات، وخلو معظم الدراسات البحثية من الجانب الاستشرافي، يسجل ترهُّلًا كبيرًا في واقع البحوث العلمية، لاسيما تلك التي تُعَدُّ قاصرة إذا ما لامست الواقع دون التطلع لذلك المستقبل الآتي بلا شك، كون الحاضر ذاته ماضيًا يمضي، وكون المستقبل هو واقع آتٍ. إن الإشكالية الناجمة عما تقدَّم ستزداد، وبشكل مطَّرد، كلما أُهْمِل التوجه العربي العلمي المدعوم نحو الأخذ بدراسات المستقبلات مضمونًا وأداءً.

ومن رحم هذه الإشكالية يثار العديد من الأسئلة الفرعية التي ينبغي الإجابة عليها ضمن ثنايا هذه الدراسة، منها:

  • ما الذي يقصد بمفهوم المستقبَلات؟
  • كيف تطور التفكير العلمي في المستقبلات؟
  • ما الذي يقصد بمفهوم دراسات المستقبلات؟
  • ما غايات دراسات المستقبلات وآلياتها؟
  • ما خصائص دراسات المستقبلات؟
  • ما أهمية مقاربة بناء المشاهد؟
  • كيف أضحى التفكير العلمي العربي في المستقبلات ودراساتها؟

ب- فرضية الدراسة

ترتكز الدراسة على فرضية مفادها أن أهمية دراسات المستقبلات ومحوريتها في السعي لتطويع المستقبل في ضوء توظيف مُعطياته، أفضت إلى أن تتبوأ مكانة مهمة في المجتمعات المتقدمة، وكذلك السائرة في طريق النمو سبيلًا للارتقاء باستجابتها الحضارية إلى مستوى تحديات عالم يتغير بسرعة تأمينًا لمستقبل آمن وأفضل.

وخلافًا للدول التي تأخذ بالتفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية، فإن هذا التفكير وتطبيقاته العملية لا يحظى باهتمام رسمي ومجتمعي واسع في جل دول عالم الجنوب، ويُردُّ هذا الواقع إلى مدخلات ينبع جلها من التخلف الحضاري لتلك الدول وصعوبة تحررها من مخرجاته، لاسيما أن كُلْفَة هذا التحرر قد تضاعفت عبر الزمان، وهو الأمر الذي يجعل مستقبلها امتدادًا وبالضرورة لاتجاهات واقعها الراهن. وكجزء مهم، حضاريًّا وجيوستراتيجيًّا واقتصاديًّا، في عالم الجنوب، لا تتماهى أهمية الوطن العربي ونوعية انشغالنا، الرسمي والمجتمعي، بالتفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية؛ فمثل هذا التفكير استمر يتميز بمحدودية انتشاره أما تطبيقاته فقد كانت ضآلة الإنجاز نصيبها.

ج- أهمية الدراسة

تنبع أهمية الدراسة، من أهمية دراسات المستقبلات، كونها جزءًا مهمًّا وركنًا رئيسًا في أركان أية دراسة علمية، لاسيما وإن دراسات المستقبلات تساعد على نشر التفكير العلمي بالمستقبلات وتنمية ثقافة الانحياز لها، فضلًا عن بلورة رأي عام واعٍ بالتحديات التي تواجه المجتمعات وجدوى مواجهتها بكفاءة.

كما تتجسد أهمية دراسات المستقبلات، بكونها تؤجِّج الاستعداد المسبق، انطلاقًا من الحاضر، لما يُعَدُّ مجهولًا، سبيلًا لتطويعه عبر تهيئة الأسس الضرورية للوفاء بمتطلبات الارتقاء الحضاري، ومن بينها توفير قاعدة معرفية شاملة تساعد صناع القرار، وغيرهم، على الاختيار الرشيد للقرارات.

د- منهجية الدراسة

لا شك في أن تحديد المنهج هو من أولى متطلبات البحث العلمي، باعتباره الأسلوب أو الآلية التي يتم بموجبها معالجة الموضوع أو مشكلة البحث، عبر رصف مقتربات المشكلة بطريقة نظامية ومتدرجة تمهيدًا لحلها. اتساقًا مع ذلك، اعتمدت الدراسة المنهج الوصفي التحليلي للوقوف -وبمقاربة معمقة- على أهمية المستقبلات ومكانتها في البحوث العلمية الرصينة التي تتطلع برؤاها إلى القابل من الأيام استباقًا واستعدادًا لها.

  1. استشراف مكانة دراسة المستقبلات في البحوث العلمية العربية

في ضوء إشكالية الدراسة وفرضيتها الأساسية، سيحاول الباحثان الإجابة على الأسئلة المطروحة من خلال المحاور الآتية: مفهوم المستقبلات، وتطور التفكير العلمي في المستقبلات، ودراسات المستقبلات، وغايات دراسات المستقبلات وآلياتها، وخصائص دراسات المستقبلات، وأهمية المقاربة المنهجية في بناء المشاهد في دراسات المستقبلات، والتفكير العلمي العربي في المستقبلات ودراساتها.

1.2. مفهوم المستقبلات

يمثِّل التفكير في المستقبلات ظاهرة إنسانية تمتد جذورها التاريخية إلى ما قبل زمان اختراع الكتابة عام 3000ق.م. كما أنه ظاهرة لم تقتصر على حيز جغرافي دون سواه، وإنما بدأت واستمرت، أيضًا، عابرة للمكان (1).

تميزت ظاهرة التفكير الإنساني في المستقبلات، عبر الزمان، بخاصية التجدد؛ فتعاقب انتقال الإنسانية من واقع ما قبل الحضارة إلى واقع الحضارة بموجاتها الزراعية والصناعية والمعلوماتية، أفضى إلى أن تكون أنماط وآليات التفكير في المستقبلات انعكاسًا، في العموم، لنوعية الواقع الحضاري السائد في الزمان والمكان. وجرَّاء هذه العلاقة اقترن هذا التفكير بأربعة تحولات أساسية متلاحقة؛ فكان دينيًّا غيبيًّا أولًا، ثم توحيديًّا بالله سبحانه وتعالى لاحقًا، ثم أضحى فلسفيًّا، وبعد ذلك صار خيالًا علميًّا ليصبح علميًّا منذ منتصف القرن الماضي (2).

ولعل من حسنات القدر، أن البشر، مادة التغيير، هم صنَّاعه، والأوطان ساحة لبانوراما الأداء المتواتر الحلقات. كذلك، فإن المستقبلات صناعة بشرية تخترق حجب الغد بعقول وسواعد البشر (3). من هنا، فإن الاهتمام الإنساني بالمستقبلات لا يقف عند حد القناعة بقدرة الإنسان على استشرافه، وإنما يمتد إلى الاعتقاد بقدرته على صناعته، اتساقًا مع أفكاره وإرادته. ويحفل التاريخ بأمثلة على أشياء عُدَّت في وقتها مستحيلة ولكنها تحققت لاحقًا (4).

إن مفهوم المستقبل من الناحية اللغوية ابتداء يعني “الآتي بعد الحال”، أي إنه يمثِّل الحلقة الأخيرة في السلسلة الزمنية التي تبدأ بالماضي ويتوسَّطها الحاضر (5)؛ إذ إن المستقبلات تُعْنَى بالصورة التي تُرْسَم لفترة مقبلة في ضوء تفاعل مجموعة من المتغيرات الحاضرة التي قد تتداخل مع المعطيات السابقة لتشكل بذلك ملامح لتلك الصورة المرسومة مستقبلًا (6) لمواجهة ما يكتنف تلك الصورة من تحديات ومخاطر مستقبلية (7).

لقد أكد المستقبلي العربي الرائد، قسطنطين زريق، أن خاصيتين أساسيتين تزامنتا مع الإنسان عبر مراحل تطوره الحضاري، وتمتعتا بتأثير مهم في تحديد موقفه من المستقبل. أولهما خاصية التذكر، بمعنى التلفت إلى ما كان، أي إلى الماضي. وأما الثانية فهي خاصية التشوف، بمعنى التطلع إلى ما سيكون، أي إلى المستقبل، ورأى أن الأولى تجعل الإنسان محكومًا بالماضي، والثانية تفضي إلى أن يكون مُتَحَكِّمًا به (8).

أما من الناحية العلمية الاصطلاحية، فيُقصد بالمستقبلات تلك الدراسة التي تستهدف استعلام الزمن القادم عبر آليات معينة تعتمد الاستشراف العلمي المنظم، بغية رصد المشاهد المحتملة أو الممكنة أو المرغوب بها. من هنا، فإن دراسات المستقبلات تمثِّل عملية بحث علمي منظَّم في مجال ما تدرس ماضي الحاضر وحاضر الماضي، أملًا في رصد مستقبل الحاضر بعناية لتحديد آفاقه واتجاهاته، فضلًا عن عوامل التغيير فيه بشكل كلي (9).

2.2. تطور التفكير العلمي في المستقبلات

إن تراكم القناعة بجدوى الارتقاء بالاستجابة إلى مستوى التحديات الإنسانية أدى، ومنذ العقد الرابع من القرن الماضي تقريبًا، إلى أن يبدأ نمط من التفكير اتخذ من المقاربة المنهجية العلمية سبيلًا لاستشراف احتمالات المستقبلات استباقًا واستعدادًا للزمان القادم. ويسمى هذا التفكير بالتفكير العلمي. أما تطبيقاته فيُطلق عليها، في العموم، دراسات المستقبلات بمعنى استشرافها (10).

يعرف كيستون بيرجر (Gaston Berger) الاستشراف بالقول: “إن هدف الاستشراف ليس فقط النظر البعيد بل النظر بصورة واسعة والتحليل لجوهر الظواهر بالاستعانة بالخبراء واستعمال تقنيات وتحليل النظام”(11). وبذا، فإن الاستشراف المستقبلي هو “اجتهاد علمي منظَّم يرمي إلى صياغة مجموعة من التنبؤات المشروطة التي تشمل المعالم الرئيسة لأوضاع مجتمع ما أو مجموعة من المجتمعات عبر حقبة مقبلة تمتد قليلًا لأبعد من عشرين عامًا وتنطلق من بعض الافتراضات الخاصة حول الماضي والحاضر”(12).

وقد يتداخل مفهوم الاستشراف المستقبلي مع التنبؤ، والذي هو محاولة التوصل إلى تصور خصائص ظاهرة ما تتسم بقدر من الشمول عبر فترة زمنية لاحقة اعتمادًا على معطيات الواقع الحاضر الذي يصف خصائص الظاهرة. والتنبؤ أنواع كثيرة منها: الحدسي، والاستكشافي، والاستقرائي…إلخ (13).

وبهذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن التنبؤ والاستشراف مفهومان يلتقيان ضمنًا في نزوعهما العلمي نحو استكشاف ما قد يؤول إليه المستقبل، بيد أنهما يختلفان جذريًّا عن بعض. فإضافة إلى أن التنبؤ يعبِّر عن مقاربة منهجية كمية لدراسات المستقبلات، يفيد الاستشراف بمقاربة منهجية كمية وكيفية في آن للغرض ذاته. تتباين كذلك الأسئلة المطروحة من قبلهما وأجوبتهما؛ فبينما تتساءل دراسات التنبؤ مثلًا عن: كم سيكون عدد سكان الدولة (س) في الزمان (ص)؟ تتساءل دراسات الاستشراف مثلًا عن: كيف يحتمل أن تكون نوعية سكان هذه الدولة في الزمان ذاته؟

ويُعَدُّ معلومًا أن التساؤل الذي يبدأ بكلمة (كم) يفضي إلى إجابة تختلف عن ذاك الذي يبدأ بكلمة (كيف). فالأول ينتهي إلى تقديم إجابة شبه قاطعة، وتنتفي بالتالي عنها خصائص الشرطية والاحتمالية والعمومية. أما التساؤل الثاني الذي يبدأ بكلمة (كيف) فيُقدِّم إجابة مختلفة تتأسس على ذات الخصائص التي تفتقر إليها كل مقولة جازمة، وتفيد بالعلاقة الطردية بين معطيات (شروط) الحاضر واحتمالات المستقبلات (14).

وإزاء ذلك نجد أن دراسات المستقبلات هي عملية بحث علمي في مجال ما تبدأ من الماضي وتدرس الحاضر بعناية لتحديد آفاق واتجاهات المستقبل وعوامل التغيير فيه بشكل كلي وتوقع إمكان اختلاف هذه الرؤى مع ما قد يحدث بالفعل من المستقبلات (15). من هنا، فإن دراسات المستقبلات تستدعي من الباحث أن يكون على جانب كبير من الموضوعية والواقعية (16) إذا ما ابتغى الدقة في بحثه العلمي.

3.2. دراسات المستقبلات

تطور مفهوم المستقبلات، كما تطورت النظرة إليه، مع تطور الفكر البشري، من نظرة ترى المستقبلات “قدرًا محتومًا” رسمته وخطَّطت له قوى خارقة لا يمكن تجاوز تخطيطها بأي حال من الأحوال، ولا يملك الإنسان حيالها خيارات تُذكر، إلى نظرة تنطلق من مبدأ الصيرورة وقدرة الحياة على التجدُّد، وترى في المستقبلات بعدًا زمنيًّا يمكن التحكُّم في صورته. فنحن، كما قال العالم الفيزيائي والفيلسوف، إليا بريغوجين (IIya Prigogine): “لا نستطيع التكهن بالمستقبل، لكننا نستطيع صناعته”. وكذلك التمكن من إحدى المقاربات المستخدمة في دراسات المستقبلات أو مجموعة منها (17).

إن أية عودة للتاريخ تؤكد أن دراسات المستقبلات نشأت وترعرعت بصورة بطيئة التطور نسبيًّا بدءًا من نهايات القرن السابع عشر التي ابتدأت بكتابات المفكر الفرنسي، ماركيز دو كوندورسيه، (Marquis de Condorcet)، في كتابه “مخطط لصورة تاريخية لتقدم العقل البشري”، نُشِر في العام 1793، واستخدم فيه أسلوبين للمقاربة المنهجية في التنبؤ ما زالا يُستخدمان -على نطاق واسع- من قِبَل المستقبليين المعاصرين، وهما: التنبؤ الاستقرائي، والتنبؤ الشرطي، وقد تضمن الكتاب تنبؤات مذهلة تحققت فيما بعد لاسيما مواضيع: استقلال المستعمرات في العالم الجديد عن أوروبا، وزوال ظاهرة الرق، وغيرها من المسائل(18).

هكذا، تطورت دراسات المستقبلات إلى أن تمكن الإنسان لأول مرة في السبعينات من القرن العشرين بفضل تطور المعرفة العلمية وتقدم التكنولوجيا من وضع المستقبلات في إطار علمي دقيق. لكن الجدل ظل محتدمًا لا يستقر ولا يهدأ حول ماهية دراسات المستقبلات وتكييف طبيعتها، حيث توزعت الآراء على مروحة عريضة من التباينات بين من يراها “علمًا”، وآخر يصنفها “فنًّا”، وثالث يعتبرها في منطقة وسطى بين العلم والفن، أو “دراسة بينية” تتقاطع فيها التخصصات وتتعدد المعارف.

أولًا: على صعيد العلم، ثمة إجماع بين مؤرخي المستقبليات على أن هربرت جورج ويلز (Herbert George Wells)، أحد أشهر كتَّاب روايات الخيال العلمي، هو أول من نحت مصطلح “علم المستقبلات”، وقدَّم إضافات عميقة في تأصيل الاهتمام العلمي بدراسات المستقبلات، ودعا صراحة في محاضرة، ألقاها في 26 يناير/كانون الثاني 1902، بالمعهد الملكي البريطاني، إلى “علم المستقبلات”، وقام فيما بعد بتأصيل دعوته في مؤلفاته، مثل “تكوين الإنسان” الذي صدر عام 1902، و”اليوتوبيا الجديدة” في عام 1905، و”شكل الأشياء المستقبلية” في عام 1933، وجميعها تدور حول حياة وهموم الأجيال المقبلة(19).

وثمة اتفاق على أن أوسيب فلختهايم (Ossip Flechtheim) هو صاحب مصطلح “علم المستقبل (Futurology)، وقد ظهر المصطلح عام1943، مؤذنًا بميلاد علم جديد يبحث عن منطق المستقبلات بالطريقة ذاتها التي يبحث فيها علم التأريخ عن منطق الماضي (20). وقد أعاد فلختهايم في كتابه “التاريخ وعلم المستقبل”، الذي نشر في عام1965، استخدام هذا المصطلح، ودعا إلى تعليم هذا العلم في المدارس. ويميل فلختهايم إلى اعتبار “علم المستقبلات ” فرعًا من علم الاجتماع، وأقرب إلى علم الاجتماع التاريخي، رغم ما بينهما من اختلافات أساسية، فبينما يهتم الأخير بأحداث الماضي، يستشرف “علم المستقبلات” أحداث الزمن القادم باحثًا في احتمالات وقوعها (21).

ثانيًا: يرى الاتجاه الثاني في المستقبلات “فنًّا” وليس “علمًا” قائمًا بذاته، ومن أنصاره برتراند دي جوفنال (Bertrand de Jouvenal) الذي يؤكد في كتابه “فن التكهن” (The Art of Conjecture)، الذي صدر عام 1967، أن الدراسة العلمية للمستقبل هي “فن” من الفنون، ولا يمكن أن تكون علمًا، بل ويصادر دي جوفنال على ظهور علم المستقبلات. فالمستقبلات -حسب قوله- ليست علم اليقين، بل علم الاحتمالات، والمستقبلات ليست محددًّا يقينيًّا، فكيف تكون موضوع علم من العلوم؟!(22).

وفي معرض نقده لمقولة فلختهايم عن “علم المستقبل” عام 1973، يرى فريد بولاك (Fred Polak) في كتابه “تصورات المستقبل” أن المستقبل مجهول، فكيف نرسي علمًا على المجهول (23).

ووفق هذا الاتجاه، فإن تسمية علم المستقبلات هي تسمية مبالغ فيها، توشك أن توحي بأن المستقبلات تُدرَك بوضوح غايتها، وقادرة على بلوغ نتائج مضمونة حقًّا، وهو أمر مخالف للحقيقة. ولأنها أقرب إلى “الفن”، عندما تحاول وصف المستقبلات الممكنة، فإن الخيال ضروري في دراسات المستقبلات لاستنباط المتغيرات الكيفية التي لا تقبل القياس. فالعلمية والعقلانية لا تنفيان وجوب الاستعانة بكل ضروب الخيال. من هنا، فإن دراسات المستقبلات عند روبرت جنك (Robert Jungk) تحتاج إلى أفكار مجنونة، وإلى حرية الكرنفال، وإلى غير المسموح، وغير المرئي، وغير المعقول، وإلى التفكير فيما لا يجرؤ الآخرون على التفكير فيه (24).

ثالثًا: أما الاتجاه الثالث، فيرى في دراسات المستقبلات “الدراسات البينية” باعتبارها فرعًا جديدًا ناتجًا من حدوث تفاعل بين تخصص أو أكثر مترابطين أو غير مترابطين، وتتم عملية التفاعل من خلال برامج التعليم والبحث بهدف تكوين هذا التخصص.

وهنا، يؤكد المفكر المغربي مهدي المنجرة أن “الدراسة العلمية للمستقبل تسلك دومًا سبيلًا مفتوحًا يعتمد التفكير فيه على دراسة خيارات وبدائل، كما أنها شاملة، ومقاربتها المنهجية متعددة التخصصات”(25).

وفي رأي الآخرين، فإن دراسات المستقبلات نتاج للتفاعل بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وهي ليست علمًا، وإنما تبني رؤاها على العلوم المختلفة. إنها مجال بيني متداخل وعابر للتخصصات وتقنياته من كل المعارف والمناهج العلمية، وهو مفتوح على الإبداعات البشرية والابتكار.

وقد أكدت جمعية مستقبل العالم الأميركية أن دراسات المستقبلات أضحت من نمط الدراسات البينية (Interdisciplinary Studies)، كما أنها تستند إلى أربعة عناصر رئيسية، فهي(26):

أ- دراسات تركز على استخدام المقاربات المنهجية العلمية في دراسة الظواهر الخفية.

ب- تختلط بالعلم، وتتضمن المساهمات الفلسفية والفنية جنبًا إلى جنب مع الجهود العلمية.

ج- تتعامل مع مروحة واسعة من البدائل والخيارات الممكنة، وليس مع إسقاط مفردة محددة على المستقبلات.

د- دراسات تتناول المستقبلات في آجال زمنية تتراوح بين 5 سنوات و50سنة.

وعلى الرغم من غياب الإجماع على ماهية دراسات المستقبلات: أعلم هي أم فن أم دراسة بينية؟ فإنها تأخذ من كل ذلك بنصيب. لذلك، تظل مجالًا إنسانيًّا تتكامل فيه المعارف وتتعدَّد، هدفها تحليل وتقييم تطورات المستقبلات في حياة البشر بطريقة عقلانية وموضوعية تفسح مجالًا للخلق والإبداع الإنساني. كما أنها لا تصدر نبوءات، ولكنها اجتهاد علمي منظَّم يوظف المنطق والعقل والحدس والخيال في اكتشاف العلاقات المستقبلية بين الأشياء والنظم والأنساق الكلية والفرعية، مع الاستعداد لها ومحاولة التأثير فيها، فالمستقبلات ليست نهائية، ولكنها قيد التشكيل، وينبغي علينا تشكيلها.

من جانب آخر، لا تقدم دراسات المستقبلات مطلقًا صورة يقينية ومتكاملة للمستقبل، كما أنها لا تقدم مستقبلًا واحدًا، فالمستقبل متعدِّد وغير محدد، وهو مفتوح على تنوُّع كبير في المستقبلات الممكنة، أو المحتملة أو المرغوب بها (27).

وغني عن القول: إن هذه الدراسات، وإن كانت تتطلب بالضرورة قدرًا من الخيال والقدرة الذاتية على التصور المسبق لما هو غير موجود أو غير معروف الآن، إلا أن أنشطتها تختلف نوعيًّا عن الأنشطة التي تقع في حقل الخيال العلمي أو في ميدان التنجيم والرجم بالغيب. فما يُطلق عليه اليوم دراسات المستقبلات إنما يتمثَّل -على العموم- في دراسات جادة تقوم على مناهج بحث وأدوات درس وفحص مقننة أو شبه مقننة، وتحظى بقدر عال من الاحترام في الأوساط العلمية، وتنهض بها معاهد ومراكز بحثية وجمعيات علمية ذات سمعة راقية (28)، بل إن هذه الدراسات بلغت من النمو والرقي حدًّا يسمح بالحديث عن بروز مقاربات ومنهجيات اجتماعية جديدة هي المستقبليات. وعلى من يريد الخوض فيها أن يتخذ له ما يلزم من عدة وعتاد.

4.2. غايات دراسات المستقبلات وآلياتها

عندما سُئِلَ ألبرت أينشتاين (Albert Einstein) عن الغاية من اهتمامه بالمستقبلات، أجاب بكل بساطة قائلًا: إن السبب في ذلك هو لأننا ذاهبون إلى هناك (29). كما تنبع أهمية دراسات المستقبلات من أن العقل الإنساني ينشغل بطبيعته بالتفكير في الغد، كما أن حالات الغموض وغياب اليقين حول المستقبلات وما سيكون عليه مصير الإنسان والمجتمعات بشكل عام أصبحت قضية تحتل حيزًا كبيرًا من النقاش والاهتمام، كونها ترتبط بشكل وثيق بوعي الإنسان وإحساسه بالزمن في أبعاده الثلاثة “الماضي والحاضر والمستقبل”، وبرغبته في صياغة الغد والبحث عن رؤى واضحة حول الفرص المتاحة والتحديات القادمة مستقبلًا.

وبنفس الاتجاه، يذهب ألفن توفلر (Alvin Toffler)، في كتابه “خرائط المستقبل” إلى أن دراسات المستقبلات ضرورية على الدوام، لطالما كانت وراءها بواعث براغماتية (30). وربما مؤسسات الفكر التي تعنى بالشؤون المستقبلية ذات الطابع الاستراتيجي في الولايات المتحدة الأميركية هي خير دليل على حاجة الدولة الأميركية لدراسات المستقبلات بوصفها ضرورة مصلحية.

لقد بدأ حقل المستقبلات ودراساتها يتسع شيئًا فشيئًا، حتى خصص له ميدان أكاديمي لدى بعض المؤسسات الفكرية، والجامعات الرصينة، ضمن مشاهد الاستشراف العلمي؛ إذ لاقت الدراسات التي تعنى بالمستقبلات اهتمامًا من قبل مؤسسات حكومية، فضلًا عن دعم حكومي مباشر، في بعض الدول التي تتطلع إلى الأمام، مخصصة لها حيزًا في كل تفكير يخلق، أو يبتكر، كما هي الحال في مشاهد التخطيط المعتمدة من قبل مؤسسة راند الأميركية، منذ العام 1950، لرسم ملامح صور المستقبلات في بحوث التخطيط المستقبلي، التي بدأت ومنذ ذلك الحين تخصص حيزًا كبيرًا منها لدراسات المستقبلات، لما تفضي إليه من أهمية وعلى قدر كبير، في شتى المجالات(31).

لقد بات الاهتمام بدراسات المستقبلات من الضرورات التي لا غنى عنها للدول والمجتمعات والمؤسسات، ولم تعد ترفًا تأخذ به الدول أو تهجره، تستوي في ذلك الدول المتقدمة والنامية (32). وليس أدل على أهمية دراسات المستقبلات من ظهور أعداد كبيرة من العلماء والباحثين المشتغلين بدراسات المستقبلات في الجامعات ومراكز البحوث المختلفة، وظهور العديد من المراكز والهيئات العلمية والمعاهد المتخصصة في دراسات المستقبلات، وانتشارها عالميًّا؛ إذ تساعد دراسات المستقبلات على التخفيف من الأزمات عن طريق التنبؤ بها قبل وقوعها والتهيؤ لمواجهتها؛ الأمر الذي يؤدي إلى السبق والمبادأة للتعامل مع المشكلات قبل أن تصبح كوارث (33).

أما عن آليات دراسات المستقبلات فتتمثَّل في الاستشراف المستقبلي المبني على معطيات علمية؛ إذ لم تعد دراسات المستقبلات تعمد، كما كانت في بدايات تطورها، إلى التنبؤ بالمستقبلات، وإنما إلى استشراف ما يمكن، وما يحتمل، وما هو مرغوب به، أن تكون المستقبلات على وفق ما نقوم، أو لا نقوم، به، من أفعال في حاضر الزمان (34). وبذلك تتجسد آلية استشراف المستقبلات، عبر البحوث العلمية التي تتخذ من المقاربة المنهجية العلمية دربًا في استشرافها للمستقبل، لاسيما المقاربة المنهجية في بناء مشاهد المستقبلات، عبر معطيات، وآليات أكاديمية، تمهد الطريق لاستعلام الزمن القادم، أي مستقبل الحاضر.

5.2. خصائص دراسات المستقبلات

لما كانت الغاية من دراسات المستقبلات هي توفير إطار زمني طويل المدى لما قد نتخذه من قرارات اليوم، كنتيجة أو أمر تمليه سرعة التغير وتزايد التعقد وتنامي “غير اليقيني” في كل ما يحيط بنا، وذلك فضلًا عن اعتبارات تتصل بالتنمية والخروج من التخلف، فإن ثمة مجموعة من الخصائص أو أدوات المقاربة المنهجية المرغوب توافرها في الدراسات الاستشرافية الجيدة، بل باتت ضرورة. ومن أبرز هذه الخصائص (35):

أ- الشمول والنظرة الكلية للأمور: فليس من السهل الحديث عن دراسة مستقبلية لبلد ما مثلًا في غياب رؤية مستقبلية للأوضاع السياسية، وحالة العلم والتكنولوجيا، وأوضاع السكان والموارد والبيئة، والتغيرات في المحيط الإقليمي والوضع العالمي. ومن المهم أن تُدْرَس العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية… إلخ في تشابكها وتفاعلها مع بعضها البعض، حتى تتوافر رؤية شاملة ومتكاملة لمستقبل هذا الاقتصاد.

ب- مراعاة التعقد: أي تفادي الإفراط في التبسيط والتجريد للظواهر المدروسة، والتعمق في فهم ما يزخر به الواقع من علاقات وتشابكات، ولا يقين، ودينامية. وهو ما يتطلب النظر إلى الظاهرة المركبة في مجملها من خلال مقاربة منهجية عابرة للتخصصات؛ حيث لا يجدي “التفكيك” وفهم كيفية عمل كل جزء من أجزاء الظاهرة على حدة في الخروج بصورة صحيحة عن سلوك مثل هذه الظاهرة، حتى لو تضمن ذلك اللجوء إلى حقول معرفية متعددة.

ج- استحضار الماضي: واحدة من أهم أركان الدراسات المستقبلية هو استحضار الماضي، وعدم إهماله؛ ذلك أن الاستشراف العلمي المنظم، هو ذلك الجهد الذي يأخذ بنظر الاعتبار الأبعاد الاستراتيجية للزمن، وأولها ماضي الحاضر، وذلك للوقوف برؤية استدراكية معمقة على مجمل حيثيات الموضوع المراد استشرافه (36).

د- المزج بين الأساليب الكيفية والأساليب الكمية في العمل المستقبلي؛ حيث يندر أن تفي الأساليب الكيفية وحدها أو الأساليب الكمية وحدها بمتطلبات إنتاج دراسة مستقبلية جيدة. ومن جهة أخرى، ثبت أن تعدد الأساليب المستخدمة في دراسة ظاهرة ما والمزج بين نتائجها، كثيرًا ما يؤدى إلى نتيجة أفضل مما لو جرى الاعتماد على أسلوب واحد. وعمومًا يتيح المزج بين أساليب متعددة -كيفية وكمية- تجاوز قصور النظريات والنماذج التي تبنى عليها عن طريق اللجوء إلى أساليب كيفية لمحاكاة الواقع بتفاصيله وتعقيداته الكثيرة، وللتعرف على ردود الفعل المحتملة لبعض التصرفات من جانب الفاعلين في النسق محل الدراسة.

ه- الموضوعية العلمية: لما كانت المستقبلات تُدرس من خلال بدائل متنوعة، يمثِّل كل منها مشهدًا أو مسارًا مستقبليًّا يتوافق مثلًا مع رؤية أو مصالح هذه القوة الاجتماعية-السياسية أو تلك في المجتمع، فإن على دارس المستقبلات البديلة أن يتحلى بدرجة عالية من الحيادية والعلمية أولًا في التعرف على البدائل، وعدم استبعاد بدائل معينة لمجرد رفض الدارس لمنطلقاتها أو ادعاءاتها، وثانيًا في تحليل هذه الادعاءات، واستكشاف تداعياتها، وتقييم ما لها وما عليها وفق مجموعة معايير متفق عليها سلفًا. بمعنى آخر، توخي الدقة في إدراك الواقع، والسير برؤية تحليلية ميدانية، تقود إلى وضع رؤية مستقبلية لا تبتعد كثيرًا عن واقع المقومات المتاحة، والمعطيات الماثلة، كون الرؤية الواقعية للأمور خير مرتكز لمدى نجاح التخطيط المستقبلي من عدمه، في الارتقاء بالواقع الحضاري.

و- تكامل فريق الدراسة: ويعنى ذلك إنجاز دراسات المستقبلات عن طريق فريق عمل متفاهم ومتعاون ومتكامل، وهو ما يُفضي إلى إبداع جماعي؛ فذلك أمر تفرضه طبيعة دراسات المستقبلات التي تعتمد على معارف مستمدة من علوم متعددة، والتي تستوجب دمج هذه المعارف وفق منظور أو إطار عابر للتخصصات. كما أن الجماعية مفيدة للوصول إلى تصورات وتنظيرات وحلول جديدة للمشكلات، وذلك من خلال ما تتيحه من مواجهات بين المناهج والرؤى المختلفة لأعضاء فريق العمل.

ز- التعلم الذاتي والتصحيح المتتابع للتحليلات والنتائج: فدراسات المستقبلات لا تُنجَز دفعة واحدة، بل إنها عملية متعددة المراحل يتم فيها إنضاج التحليلات وتعميق الفهم وتدقيق النتائج من خلال دورات متتابعة للتعلم الذاتي والنقد الذاتي، وتلقِّي تصورات أطراف وقوى مختلفة وانتقاداتهم واقتراحاتهم، والتفاعل معها من خلال اللقاءات المباشرة والأدوات غير المباشرة لإشراك الناس في تصور وتصميم المستقبلات. وكلما تكررت عمليات التفاعل والنقد والتقييم والاستجابة لها بالتعديل والتطوير في التحليلات والنتائج، زادت فرص الخروج بدراسة مستقبلية راقية، لاسيما من زاوية ارتباطها بالواقع الاجتماعي، وزادت معها فرص تأثير الدراسة في الفعل الاجتماعي.

ح- تأجيج ثقافة المستقبل: لعل الخطوة الأخيرة من أدوات استشراف المستقبلات هنا، تتمثَّل في محاولة القائمين على تدعيم استشراف المستقبلات بنشر ثقافة الانحياز إليها مجتمعيًّا، مما يؤسس لدور كبير داعم لها، وفق أساليب متنوعة يتقدمها أسلوب العصف الذهني مستقبليًّا، وهو يتناول أي ظاهرة أو حادثة أو موقف معين تحليلًا أدائيًّا تكون الغاية منه الخروج بشيء يضفي على التراكم المعرفي لدراسات المستقبلات منجزًا جديدًا.

6.2. أهمية المقاربة المنهجية في بناء المشاهد في دراسات المستقبلات

لا شك أن دراسات المستقبلات ترتكن إلى مقاربة منهجية تضبط سير أدائها، وهي تبتغي استشراف ذلك المستقبل الذي تتطلع إليه، عبر عدة مقاربات منهجية حددتها المستقبلات ضمن معطياتها في إطار بناء المشاهد استشرافيًّا (37).

ويتفق الرأي على اقتران مفهوم استشراف المستقبلات ومفهوم المشهد بعلاقة طردية موجبة. ذلك لأن الأصل في كل استشراف مستقبلي أن ينتهي إلى بلورة مشاهد لمستقبل الموضوع الذي ينصرف إلى استقراء تطور اتجاهات واقعه في الزمان اللاحق (38).

وقد تعددت، لغويًّا، الاجتهادات بشأن مفهوم المشهد (39)، ومع ذلك نرى أن جوهره لا يخرج عن ذلك التصور والوصف المنطقي لمخرجات تلك المعطيات السائدة في الحاضر، التي تؤدي اتجاهاتها إلى بلورة وضع مستقبلي قد يكون إما ممكنًا، أو محتملًا، أو مرغوبًا فيه.

وبهذا المعنى، يراد للمشهد أن يكون، علميًّا، بمثابة الناتج النهائي لكل دراسة في المستقبلات سواء انطلقت هذه الدراسة من المقاربة المنهجية الكمية أو الكيفية أو منهما معًا(40).

تفيد مضامين دراسات المستقبلات أنها تأثرت باتجاهات المستقبليين. ولأن اتجاهاتهم هذه توزعت إما على التشاؤم، أو على التفاؤل، جاءت مشاهد دراساتهم انعكاسًا لها(41).

وهنا، نرى أن الاستشراف الموضوعي والمتكامل نسبيًّا لِمَشاهِد مُستقبَل موضوعٍ لا يمكن أن يتأسس إلا على رؤى متعددة الأبعاد. فالواقع السائد، في كل زمان ومكان، لا يُعبِّر عن معطيات أحادية المضمون، وإنما عن معطيات متحركة بعضها يشجع على التفاؤل، وبعضها الآخر يدفع إلى التشاؤم. لذا، فإن مثل هذا الاستشراف هو الذي يتخذ من هذه المعطيات بنوعيها منطلقًا له (42).

لقد نجم الأخذ بهذا التفكير عن تأثير مدخلات متعددة نبعت جلها من حقيقة أن العالم أضحى يتغير وبمعدل سرعة غير مسبوق، وأفرز بالتالي تحديات دفعت نوعيتها إلى ضرورة إعادة تشكيل العقل، وترشيد القرار والفعل، استباقًا واستعدادًا للمستقبل واستشراف مَشَاهده عبر مقاربات منهجية استطلاعية كمية وأخرى معيارية كيفية. وتندرج جل التطبيقات العملية لهذه المقاربات تحت تسمية منتشرة على نطاق واسع، هي دراسات المستقبلات، وتفيد هذه التسمية برؤية فلسفية مركبة.

فمن ناحية، يتفق المستقبليون على أن المستقبل يُعَدُّ البعد الأهم من أبعاد دورة الزمان، هذا ليس لأنه سيصبح، عند حلوله، حاضرًا، وإنما لأنه وحده الزمان، الذي يستطيع الإنسان التدخل الواعي والهادف في عملية تشكيله، هذا لأن الإنسان هو الكائن التاريخي الوحيد الذي يتوافر على قدرة تجاوز الزمان الذي مضى، والذي يمضي، والاستعداد للزمان الذي سيأتي. ومن هنا، تنتشر بين المستقبليين مقولة ذات دلالة مهمة، هي أن الإنسان -ولاسيما الذي استطاع حسم إشكالية التلفت/التشوف، أي إشكالية الماضي/الحاضر لصالح الانحياز، تفكيرًا وسلوكًا، إلى المستقبل- هو الذي يصنع المستقبل وليس المستقبل هو الذي يصنع الإنسان.

ومن ناحية ثانية، ينطوي الأخذ بتسمية دراسات المستقبلات على حالة الرفض لتلك الرؤية التي انتشرت في بداية الانشغال العلمي في المستقبل، وأفادت أن المستقبل ينشأ من الماضي ويكون، في الوقت ذاته، محكومًا به. ويعبِّر استخدام كلمة المستقبل، بصيغة المفرد، عن هذه الرؤية. وبالمقابل، ذهبت رؤية أخرى إلى تأكيد أن المستقبل لا يقبل الانغلاق على صورة واحدة وحتمية، وإنما يتميز بالانفتاح على العديد من الصور (بمعنى المشاهد) البديلة والقابلة للاستشراف. ومن هنا، جاء استخدام كلمة المستقبل بصيغ الجمع (مستقبلات). وتعد هذه الرؤية الأكثر انتشارًا بين المستقبليين حاليًّا (43).

ومن ثم تتجسد أهمية المشاهد التي تُرسَم لموضوع معين يراد البحث في مستقبله علميًّا، وفي إطار البحث العلمي الرصين، علمًا بأن المقاربة المنهجية في بناء المشاهد تتأسس على تحليل شامل لمجمل المعطيات الداخلية والخارجية التي تتعلق بالموضوع الذي يراد البحث فيه (44).

والجدير بالذكر، أن الفكرة المركزية للمشهد أنه يتأسس على سلسلة من الفرضيات الاحتمالية القائمـة علـى الفكـرة التاليـة: إذا -فـإن (Then-if)، بمعـــنى: إذا حـــدث (س) فـــإن النتيجـــة ســـتكون (ص)، أمـــا إذا حـــدث (أ) فـــإن النتيجـــة ســـتكون (ب)…إلخ (45). وبالتالي فالمشهد يسعى إلى استعراض كل الاحتمالات والعمل على استشراف ما سيترتب على كـل احتمـال، وتـتم عملية المشهد وفق الخطوات التالية (46):

أ- تحديد الظاهرة، موضوع الدراسة، وجمع المعلومات والحقائق والبيانات المرتبطة بها.

ب- تحديــد مختلــف مســارات تطــور الظــاهرة وذلــك بنــاءً علــى المعطيــات والحقــائق الــتي تم رصــدها في المرحلــة الأولى، حيث تُحَـدَّد المتغـيرات المختلفـة المـؤثرة في تطـور الظـاهرة وتُرَتَّـب وفقًـا لأهميتهـا إلى متغـيرات رئيسـية ومتغيرات ثانوية. هنا، يجب الأخذ بعين الاعتبار احتمال ظهور متغيرات استثنائية أو فجائية قـد يتوقـف عليهـا مسار تطور الظاهرة، ولذلك ففي هذه المرحلة يتم الفصل في اتجاه مسـار تطـور الظـاهرة في المسـتقبل (اتجـاه خطـي، اتجاه إصلاحي، اتجاه تحولي أو راديكالي).

ج- التداعيات: وتعني النتائج التفصيلية المفترض أنها ستترتب على كل خطوة مـن الخطـوات اسـتنادًا إلى قاعـدة (إذا – فإن)، كذلك ربط التداعيات المختلفة ببعضها البعض، حيث إن كل تداع سيترك آثاره علـى غـيره. ومـن هنا، لابد من إدراك تأثير التداعيات على بعضها في القطاعات المختلفة في المستقبلات.

إجمالًا، فإن المقاربة المنهجية في بناء المشاهد تجمع بين العلم والخيال في آن. ولنتذكر أن العلم عندما يتفاعل مع الخيال فإن محصلة تفاعلهما تفضي إلى تصور المستقبلات تصورًا إبداعيًّا مبتكرًا وشاملًا، فضلًا عن أن هذا التفاعل يشجع توكيد أهمية الأفكار الجديدة. ولنتذكر أيضًا أن دور هذه الأفكار في تحريك التاريخ باتجاه البناء والانجاز الحضاري كان، عبر الزمان، دورًا فاعلًا لا ينكر. كما تتجسد أهمية المقاربة المنهجية في بناء المشاهد في رصد تلك الاحتمالات الممكنة أو المحتملة أو المرغوب بها لواقع البحث العلمي الذي يراد تفحص ماضيه، وحاضره، أملًا في استعلام مستقبله.

7.2. التفكير العلمي العربي في المستقبلات ودراساتها

لا شك في أن الأسبقية في التفكير العلمي بالمستقبلات تسجل للغرب؛ إذ إن الدراسات الأولى لإرساء أسس المستقبلات وآليات استشرافه كانت في جلها غربية، وإن أضحت بعد ذلك عابرة للمكان. وكجزء من عالم صار، جرَّاء دينامية وتاريخية عملياته، أكثر صغرًا واقترابًا، تأثر عدد من المفكرين والمثقفين العرب بالتوجه العالمي نحو التفكير العلمي للمستقبل واستشرافه. ونرى أن ذلك ساعد عليه أمران مهمان:

أولهما: انتشار الوعي بأن الزمان يعبِّر عن دورة أبعاد متعاقبة وأن المستقبلات تُعَدُّ مآلها الأخير وبالتالي هو الأهم من الماضي والحاضر، لاسيما وأنه الزمان البكر الذي تستطيع الإرادة الإنسانية الحرة والواعية التدخل لصياغة حقائقه ابتداء من الحاضر. بيد أن هذه الأهمية لا تعني أن الماضي بحقائقه غير قابل التغيير، وأن الحاضر بمعطياته قابل التغيير، لا قيمة لهما (47)، بل إن قيمتهما تتحدد على وفق تأثيرهما، سلبًا أو إيجابًا، في نوعية موقفنا من بناء المستقبلات، هذا فضلًا عن أن أهميتهما تكمن في علاقتهما باستشراف مشاهد المستقبلات. فالمعرفة المكتسبة جرَّاء دراسة الماضي والحاضر تُعَدُّ أحد أهم المصادر التي تستند عليها دراسات المستقبلات.

ثانيهما: توافق الرأي على جدوى المشاركة في تلمس السبل التي تفضي إلى الحد من تفاقم الأزمة العربية الممتدة عبر الزمان وآثار مخرجاتها في دفع العرب إلى خارج التاريخ (48).

على أن المحاولات العربية الرائدة، سواء الفردية أو الجماعية، على صعيد استشراف المستقبل العربي خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي قد توقفت لاحقًا في العموم. ومع ذلك لا يلغي توقف استعدادنا لبناء مستقبلنا عبر الدراسة العلمية، استمرار صدور كتابات تحمل عناوينها كلمة المستقبلات. بيد أن هذا الإنتاج الذي تحدث عن الماضي أو الحاضر أكثر مما تكلم عن المستقبلات، كان بعيدًا عن الاستشراف العلمي لمشاهده (49). وقد تزامن ذلك مع كتابات عربية استمرت في الصدور وبمضامين مستقبلية، ولكن من دون أن تعلن عناوينها عن ذلك، وكأنها تخشى الاتهام باستشرافها للمستقبل (50).

وهنا نتساءل: أين يكمن السبب؟ هل في ماضوية الذهنية العربية، التي تجعل انحياز كثير منَّا إلى الماضي أعمق تجذرًا من انحيازنا إلى المستقبلات، أم في الاختلالات البنيوية لحاضرنا المعقد، أم في ندرة التشجيع الرسمي والمجتمعي لاستشراف المستقبلات علميًّا؟

وتُرَدُّ ضآلة الإنتاج العربي على صعيد دراسات المستقبلات إلى كوابح عربية عديدة عطَّلت من نهوضها وتوظيفها لصالح الارتقاء العربي، ومنها أولًا: أن جل الدول العربية لا تأخذ بهذه الدراسات كأساس مسبق لاتخاذ القرارات مثلما هي الحال مع العديد من الدول هنا وهناك. وثانيًا: قليلة هي الجامعات العربية، رغم كثرتها، التي جعلت موضوع المستقبل ضمن مناهجها ومقرراتها التدريسية، ناهيك عن عدم منح شهادات عليا في تخصصه. وثالثًا: محدودة جدًّا هي أيضًا المراكز الرصينة التي تتخذ من تسمية دراسة أو دراسات المستقبل عنوانًا رسميًّا لها، أو تجعل هذه التسمية ضمن عناوينها المتنوعة. فجل ما يتوافر من هذه المراكز، سواء في الدول العربية أو خارجها، لا علاقة له بالموضوع إلا من حيث العنوان ولا غير. ورابعًا: نادرة هي الدوريات العربية العلمية المحكمة والمتخصصة في نشر الدراسات والبحوث ذات العلاقة بالموضوع. وخامسًا: ضآلة النوافذ الإعلامية في وسائل الاتصال الجماهيري العربية التي تتولى الترويج لثقافة الانحياز إلى المستقبل. وأخيرًا: محدودية عدد أصحاب الاختصاص العلمي في دراسات المستقبلات من العرب (51).

وبرؤية موضوعية مجردة، نرى أن تأخرنا على صعيد الاستشراف العلمي للمستقبل لا يعود إلى أحد هذه الأسباب أو بعضها فقط، وإنما إلى جميعها وسواها. هذا على الرغم من أن هناك حاجة ماسَّة إلى الانحياز إلى المستقبل، فكرًا وسلوكًا (52). ولا يُرَدُّ ذلك إلى التحديات الخطيرة التي تواجه حاضرنا ومستقبلنا، وإلى حاجتنا للارتقاء الحضاري بواقعنا الراهن فحسب، وإنما لأن هذه الحاجة يسندها أساس ديني أيضًا؛ يقول الله تعالى: “فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ”(53) وقوله كذلك: “وَتِلْكَ الايام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس”(54). وبينما تنطوي الآية الأولى على تحذير من إهمال التفكير بالمستقبلات، تؤكد الثانية عدم ثبات الأمور على حالها.

وبصدد تناغم دعوة الدين الإسلامي إلى التفكير بالمستقبلات مع غايات استشرافه، تجدر الإشارة إلى أن دراسات المستقبلات، بمعنى استشرافها، لا تزعم أنها تريد التنبؤ بالمستقبلات، بدلالة العلم القاطع والمؤكد به. فإضافة إلى أن العلم بالمستقبل هو الأمر الذي تنفرد به الذات الإلهية، لم تَعُدْ دراسات المستقبلات تعمد، كما كانت في بدايات تطورها، إلى التنبؤ بالمستقبلات، وإنما إلى استشراف ما يمكن، وما يحتمل، وما هو مرغوب به من صور المستقبلات (55).

لذا، ينبغي توافر الرؤية العلمية لتطلعات المستقبلات في البحوث العربية؛ ذلك أن الانخراط في دراسات المستقبلات هو السبيل الوحيد الذي يفضي بنا إلى شراء الزمن لاختزال الفجوة العلمية بين واقع التردي وطموح الارتقاء، وهو ذاته الذي يسهم في تأمين تطويع المستقبل من قبلنا ذاتيًّا، بالعمل على استجلابه عبر صناعته. كما أن اعتماد البحوث العلمية العربية على المقاربة المنهجية لبناء مشاهد دراسات المستقبلات، ستفضي حتمًا إلى إحداث قفزة نوعية علمية في واقع البحوث العربية، كونها ستدخل في إطار البحوث الخلاقة القادرة على الإتيان بكل ما هو جديد، فضلًا عن أنها بذلك ستسهم في التحليل الموضوع العلمي بشكل شامل لدورة تعاقب الزمن، بدءًا من تعقب ماضي موضوع أو حدث ما، ودراسة حاضره، أملًا في تتبع مستقبله وتحديد آفاقه، وبرؤية علمية وموضوعية.

 

خاتمة

لقد انصرف هذا البحث إلى محاولة استشراف مكانة دراسات المستقبلات في البحوث العلمية العربية وفق مقاربة منهجية علمية تستخدم بكثافة في دراسات المستقبلات، التي أضحى الأخذ بها يشمل العالم كله تقريبًا، وهي مقاربة بناء المشاهد. وفي ضوء تطبيق للمنطق الذي تتأسس عليه هذه المقاربة المنهجية والآليات التي تستخدمها، عمدنا إلى استكشاف مدى انتشار ثقافة الانحياز إلى المستقبل في وطننا العربي، وكيفية العمل على تحقيق ذلك. وقد انتهى بنا هذا الاستكشاف إلى ضرورة الأخذ بالجانب المستقبلي في البحوث العلمية في الوطن العربي، كوننا نعيش عالم سباق الحداثة في ظل تسارع وقائعه وأدواره الزمنية؛ الأمر الذي يدفع في كل دراسة بحثية علمية إلى وضع رؤية مستقبلية لما سيؤول إليه مستقبل عنوان البحث العلمي ومادته، والذي يتراوح بين ما يُعَدُّ ممكنًا، أو محتملًا، أو مرغوبًا به.

لا شك أن الأخذ بالمستقبلات يُدلِّل على أهمية البحث العلمي، وشموليته في تقصي حقائق الفكرة، والبحث عن المآلات فيها، ذلك أن تتبع الفكرة ابتداء من نشأتها (الماضي)، ومرورًا بسير أدائها (الحاضر)، هو رصيد معرفي مهم ينبغي على الباحث أن يوظِّفه في بحثه العلمي ليخصص من خلاله حيزًا مكانيًّا في البحث لمستقبل ذات الفكرة، أي آفاقها كونها جزءًا مهمًّا لا يتجزأ من كلية أو شمولية جوانب البحث العلمي.

وبذلك، نجد من الضروري أن يتم دعم مقاربة بناء المشاهد العلمية في البحوث العلمية العربية، كما ينبغي أن تجد دراسات المستقبلات مكانة أو بيئة حاضنة لها في عالمنا العربي، لاسيما البيئة المؤسساتية المدعومة من قبل الحكومات، وعلى هيئة مؤسسات بحثية تعنى بالتفكير العلمي للمستقبل، لما لها من أهمية نافعة لرفد المسيرة العلمية للدولة والمجتمع معًا، بفكر يتطلع إلى الأمام، جاعلًا من الماضي والحاضر، أهم أدوات ذلك التطلع، وبرؤية علمية وموضوعية، فضلًا عن أدوات أخرى من قبيل الشمول والنظرة الكلية، والقراءة الجيدة للماضي باتجاهاته العامة السائدة، والمزج بين الأساليب الكيفية والأساليب الكمية في العمل المستقبلي، والفريق الجماعي.

كل ذلك من أجل العمل على نشر ثقافة المستقبلات في عالمنا العربي الذي بات أحوج ما يكون إلى هذه الجزئية المهمة في التخصصات الإنسانية والعلمية على حدٍّ سواء، لما لها من آثار مهمة تنعكس وبشكل إيجابي كبير برؤاها الفكرية على التخطيط الاستراتيجي الكفء، والذي يُفضي، لا محالة، إلى ذلك المستقبل المأمول أو الأكثر ارتقاءً من الواقع المتردي الذي لطالما لم يحتضن دراسات المستقبلات ضمن بيئة البحث العلمي العربي.

وثمة استنتاجات توصل إليها الباحثان، تمثِّل خلاصة علمية لمجمل البحث العلمي، يمكن إجمالها فيما يلي:

  1. أن الجهد العلمي العربي على صعيد استشراف المستقبلات بدأ متأخرًا وتراجع مبكرًا. لذا، استمر محدودًا، فضلًا عن أن كمًّا منه يتناول الماضي والحاضر أكثر من تناوله المستقبلات، وهو ما أحدث فجوة تتسع كلما تقدم الزمن إلى الأمام بين عالمنا العربي، وعالم الحداثة الغربي.
  2. تستدعي دراسات المستقبلات من الباحث أن يكون على جانب كبير من الموضوعية والواقعية في آن واحد، كونها عملية بحث علمي منظَّم، تعتمد الاستشراف العلمي المنظم، في مجال ما، تدرس ماضي الحاضر وحاضر الماضي، أملًا في رصد مستقبل الحاضر بعناية لتحديد آفاقه واتجاهاته، بناءً على معطيات ماثلة، ومتغيرات عديدة.
  3. بات الاهتمام بدراسات المستقبلات من الضرورات التي لا غنى عنها للدول والمجتمعات والمؤسسات، ولم تعد ترفًا تأخذ به الدول أو تهجره، تستوي في ذلك الدول المتقدمة والنامية، وليس أدل على أهمية دراسات المستقبلات من ظهور أعداد كبيرة من العلماء والباحثين المشتغلين بدراسات المستقبلات في الجامعات ومراكز البحوث المختلفة، وظهور العديد من المراكز والهيئات العلمية والمعاهد المتخصصة في دراسات المستقبلات، وانتشارها عالميًّا.
  4. تعتمد دراسات المستقبلات على أدوات عديدة تضفي عليها صفة الاستشراف العلمي المنظم، منها الشمول والنظرة الكلية، آخذة بنظر الاعتبار النظر إلى الماضي، وملامسة الواقع للتطلع إلى ذلك المستقبل المأمول، وعبر المزج بين الأساليب الكيفية والأساليب الكمية في العمل المستقبلي، ضمن فريق عمل جماعي متجانس ومنظم.
  5. إن تراكم القناعة بجدوى الارتقاء بالاستجابة إلى مستوى التحديات الإنسانية التي يواجهها عالمنا العربي، في ظل ندرة دراسات التخطيط المستقبلي، تدفع بنا إلى التنبيه بضرورة الأخذ بهذه الدراسة فكرًا وأداءً، والحاجة الملحَّة لدعمها على مستوى الحكومات العربية، كونها تساعد على التخفيف من الأزمات عن طريق التنبؤ بها قبل وقوعها والتهيؤ لمواجهتها؛ الأمر الذي يؤدي إلى السبق والمبادأة للتعامل مع المشكلات قبل أن تصبح كوارث حقيقية.
  6. ضرورة اعتماد البحوث العلمية العربية على مقاربة منهجية في بناء مشاهد المستقبلات علميًّا، أي تلك المشاهد المحتملة أو الممكنة، أو المرغوب بها، والتي ستُفضي حتمًا إلى إحداث قفزة نوعية علمية في واقع البحوث العربية، كونها ستدخل في إطار البحوث الخلاقة القادرة على الإتيان بكل ما هو جديد، ذلك أن الانخراط في دراسات المستقبلات هو السبيل الوحيد الذي يفضي بنا إلى شراء الزمن لاختزال الفجوة العلمية بين واقع التردي وطموح الارتقاء، وهو ذاته الذي يسهم في تأمين تطويع المستقبل من قبلنا ذاتيًّا، بالعمل على استجلابه عبر صناعته.

 

المراجع

(1) الرمضاني، مازن، “مستقبل العرب في عام 2020: ثلاثة مشاهد”، مجلة قضايا سياسية، (كلية العلوم السياسية، جامعة النهرين، العددان 30-31، 2012)، ص 19.

(2) المرجع السابق، ص 20-21.

(3) العمار، منعم، “في فلسفة التوجه نحو المستقبل: قراءة في دروبه”، افتتاحية مجلة قضايا سياسية، (كلية العلوم السياسية، جامعة النهرين، العددان 23-24، 2011)، ص أ.

(4) الرمضاني، “مستقبل العرب في عام 2020″، مرجع سابق، ص 20.

(5) عبد الحي، وليد، الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية، (الجزائر، دار شهاب للنشر والتوزيع، 1991)، ط 1، ص 8.

(6) الرمضاني، مازن، “الدراسات المستقبلية في الوطن العربي”، مجلة قضايا سياسية، (كلية العلوم السياسية، جامعة النهرين، العددان 3-4، 2000)، ص 10.

(7) عبد الحي، وليد، مدخل إلى الدراسات المستقبلية في العلوم السياسية، (المركز العلمي للدراسات السياسية، عمان، 2002)، ص 64.

(8) زريق، قسطنطين، نحن والمستقبل، (دار العلم للملايين، بيروت، 1977)، ص 18.

(9) القيسي، محمد وائل، مكانة العراق في الاستراتيجية الأميركية تجاه الخليج: دراسة مستقبلية، (مركز الجزيرة للدراسات، قطر، 2013)، ص 184.

(10) الرمضاني، “مستقبل العرب في عام 2020″، مرجع سابق، ص 20.

(11) نصار، علي، “مستقبل الوطن العربي: جولة في هموم الحاضر وتوقعات المستقبل”، مجلة المستقبل العربي، (العدد 89، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986)، ص 32.

(12) جبر، دينا محمد، البعد المستقبلي في التخطيط الاستراتيجي الإسرائيلي، (أطروحة دكتوراه، كلية العلوم السياسية في جامعة النهرين، 2006)، ص 13

(13) الرمضاني، “الدراسات المستقبلية في الوطن العربي”، مرجع سابق، ص 11.

(14)  الرمضاني، “مستقبل العرب في عام 2020″، مرجع سابق، ص 23.

(15) غريب، سمير، “ناقوس الخطر يدق: أين نحن من دراسات المستقبل؟”، مجلة العربي، (العدد 499، الكويت، يونيو/حزيران 2000)، ص 164.

(16) حسيب، خير الدين وآخرون، مستقبل الأمة العربية: التحديات والخيارات، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2002)، ص 462.

(17) بندي، جيري، وآخرون، مفاتيح القرن الحادي والعشرين، ترجمة حمادي الساحل، (المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة، تونس، 2003)، ص 13.

(18) منصور، محمد إبراهيم، “الدراسات المستقبلية: ماهيتها وأهمية توطينها عربيًّا”، ورقة علمية مقدمة إلى ورشة العمل حول الدراسات المستقبلية ضمن فعاليات منتدى الجزيرة السابع، (الدوحة، قطر، 16-18 مارس/آذار 2013).

(19) المرجع السابق.

(20) Heiko A. V. The Future of Logistics: Scenarios for 2025, (Germany, Springer, 2008), p. 1.

(21) Ibid.

(22) بندي، وآخرون، مفاتيح القرن الحادي والعشرين، مرجع سابق، ص 43.

(23) Polak, F. The Images of the Future, (Elsevier, Amsterdam; London and New York, 1973), p. 27.

(24) Jungk, R.; and Müllert, N. R., Futures Work Shops: How to Create Desirable Futures, (Institute for Social Inventions, London, 1989), p. 15.

(25) المنجرة، مهدي، محاضرة بعنوان “الدراسات المستقبلية”، 1993، يوتيوب، (تاريخ الدخول: 1 مارس/آذار 2019):

(26) زهران، جمال، المستقبلية في علم السياسة الحديث: اتجاهات حديثة في علم السياسة، (المجلس الأعلى للجامعات، اللجنة العلمية للعلوم السياسية والإدارة العامة، القاهرة، 1999)، ص 110.

(27) منصور، الدراسات المستقبلية، مرجع سابق، ص 13.

(28) من أشهر الجمعيات العلمية في هذا المجال جمعيتان: الأولى وهي World Future Society، التي تصدر مجلة The Futurist، ودورية Futures Research Quarterly، ودليلًا للمنظمات والدوريات في مجال البحوث المستقبلية: Futures Research Directory Organizations and Periodical، وكذلك دليلًا للأفراد المشتغلين بالدراسات المستقبلية Futures Research Directory: Individuals.

للمزيد، راجع موقع الجمعية على الإنترنت: www.wfs.org

أما الجمعية الثانية فهي: World Future Studies Federation ولها نشرة ربع سنوية بعنوان: Futures Bulletin وكذلك كتاب دوري بعنوان: World Future Studies Federation Newsletter وعنوان موقعها على الإنترنت هو:

HOME

(29) عبد الحي، وليد، مناهج الدراسات المستقبلية وتطبيقاتها في العالم العربي، (مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الإمارات، 2008)، ص 5.

(30) توفلر، ألفين، خرائط المستقبل، ترجمة أسعد صقر، (منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1987)، ص 227.

(31) Heiko, The Future of Logistics, op. cit, p. 1.

(32) عبد الحي، مدخل إلى الدراسات المستقبلية في العلوم السياسية، مرجع سابق، ص 64.

(33) انظر: عبد الحي، مناهج الدراسات المستقبلية وتطبيقاتها في العالم العربي، مرجع سابق، ص 6.

(34) الرمضاني، “مستقبل العرب في عام 2020″، مرجع سابق، ص 22.

(35) العيسوي، إبراهيم، “الدراسات المستقبلية ومشروع مصر 2020″، ورقة قُدِّمت إلى منتدى العالم الثالث الخاص بمستقبل مصر، (القاهرة، 2000)، ص 12-14.

(36) القيسي، مكانة العراق في الاستراتيجية الأميركية تجاه الخليج، مرجع سابق، ص 184.

(37) انظر: عبد الحي، مناهج الدراسات المستقبلية وتطبيقاتها في العالم العربي، ص 7.

(38) انظر: فليه، فاروق، الدراسات المستقبلية: منظور تربوي، (دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، عمان، 2003)، ص 59.

(39) كلمة المشهد هي الترجمة العربية لكلمة إنجليزية هي السيناريو (Scenario).

(40) الرمضاني، “مستقبل العرب في عام 2020″، مرجع سابق، ص 24.

(41) المرجع السابق.

(42) المرجع السابق.

(43) انظر: الرمضاني، مازن، “دراسات المستقبلات: رؤية في إشكاليات المفهوم ومقاربات التوظيف”، مجلة استشراف، (العدد 1، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، الدوحة، 2016)، ص 84.

(44) انظر: القيسي، مكانة العراق في الاستراتيجية الأميركية تجاه الخليج، مرجع سابق، ص 184.

(45) Mack, Timothy, “The Subtle Art of Scenario Building”, Futures Research Quarterly, (Vol. 17. No. 2, 2001), p. 98.

(46) عبد الحي، مدخل إلى تحليـل الدراسـات المسـتقبلية فـي العلـوم السياسـية، مرجع سابق، ص 119-120.

(47) الرمضاني، “مستقبل العرب في عام 2020″، مرجع سابق، ص 20-21.

(48) المرجع السابق.

(49) انظر: غريب، “ناقوس الخطر يدق”، مرجع سابق، ص 166.

(50) انظر: بشور، معن، وآخرون، الواقع العربي وتحديات قرن جديد، (مؤسسة عبد الحميد شومان، عمان، 1999)، ص 83.

(51) الرمضاني، مازن، “العرب والتفكير العلمي في المستقبل”، مجلة حصاد، (العدد 89، لندن، فبراير/شباط 2019)، ص 67.

(52) الرمضاني، الدراسات المستقبلية والوطن العربي، مرجع سابق، ص 12-19.

(53) سورة الأعراف، الآية 71.

(54) سورة آل عمران، الآية 140.

(55) الرمضاني، مستقبل العرب في عام 2020، مرجع سابق، ص 22.