ملخص: يستعرض هذا التقرير خلاصة الآراء والأفكار التي تداولها الباحثون والخبراء في جلسات مؤتمر بحثي نظَّمه مركز الجزيرة للدراسات ومركز دراسات الخليج التابع لجامعة قطر، يومي 19 و20 يناير/كانون الثاني 2020، عن معضلة الأمن في منطقة الخليج، وقد سعوا للإجابة عن الأسئلة التالية: ما المقصود بالأمن الخليجي المشترك؟ ولماذا فشلت دول الخليج في تحقيقه؟ وما تداعيات ذلك؟ وكيف يمكن تجاوز التحديات التي تعترضه؟
كلمات مفتاحية: الأمن الخليجي، العدو، الاستقرار، التسلُّح، النظام الدولي، الحوار.
Abstract: This report summarises the opinions and ideas exchanged by researchers and experts at a conference organised by Al Jazeera Centre for Studies and the Gulf Studies Center at Qatar University on 19 and 20 January 2020. Considering security in the Gulf region, conference participants attempted to answer the following questions: What is meant by common Gulf security? Why have Gulf States failed to achieve it and what are the consequences? And how can the challenges facing it be overcome?
Keywords: Gulf security, Enemy, Armament, International Order, Dialogue.
مقدمة
الحديث عن معضلة الأمن في منطقة الخليج العربي ليس بالجديد؛ فمنذ أن حصلت أغلب دول هذه المنطقة على استقلالها أوائل السبعينات من القرن العشرين وهي تبحث عن هذه السلعة الغالية المسماة “الأمن”. وقد اشتدت الحاجة إليها في أعقاب نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية، عام 1979، ورفعها شعارات تصدير الثورة، والموت لأميركا، ونصرة المستضعفين..، كما باتت ضرورة ملحَّة حينما اندلعت الحرب العراقية-الإيرانية وامتدت على مدى ثماني سنوات (1980-1988)، وما تخللها مما اشتهرت تسميته آنذاك بحرب الناقلات، وما كادت هذه الحرب تضع أوزارها ويتعافى الخليج نسبيًّا حتى حدث الزلزال السياسي الكبير والمتمثل في غزو العراق جارته الكويت، عام 1990، فتأكد وجود معضلة أمنية خليجية، لم تجد طريقها للحل. ثم حدث بعد ذلك ما هو معروف؛ إذ تحرَّرت الكويت لكن لم تكد تمر عشرة أعوام ونيِّف حتى سقط العراق نفسه محتلًّا من قبل القوات الأميركية في العام 2003، واندلعت على إثر ذلك حركة مقاومة، انخرطت فيها فصائل وتيارات عدة، كان من بينها تنظيم القاعدة الذي انبثق منه تنظيم “الدولة الإسلامية”… والخليج في كل ذلك يعاني شظايا هذه الحرب وتداعياتها على كافة الأصعدة؛ السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
واليوم، وفي منتصف العام 2019 تحديدًا كادت تندلع حرب بين الولايات المتحدة وإيران، بعد أن أسقط الحرس الثوري الإيراني طائرة استطلاع أميركية مسيَّرة، فاتخذ الرئيس دونالد ترامب قرارًا بالرد العسكري لكنه ألغاه -بحسب وسائل الإعلام الأميركية- قبل عشر دقائق من تنفيذه، وعقَّب على ذلك في أحد تصريحاته بالقول: إنه كان سيرد عسكريًّا لو أوقع الهجوم الإيراني ضحايا أميركيين. وليس مستبعدًا في سياق التوتر الحالي بالمنطقة أن تتكرر هذه الحادثة مجددًا، وقد تُخلِّف في المرة القادمة ضحايا من الجانبين، فتضطر قيادة البلدين إلى القيام بأعمال عسكرية حرصت على تفاديها.
ثم وقفت المنطقة على شفا حرب أخرى حينما أقدمت القوات الأميركية أوائل يناير/كانون الثاني 2020 على اغتيال قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، ومعه نائب قائد هيئة الحشد الشعبي بالعراق، أبو مهدي المهندس. فإذا استصحبنا ذلك مع ما تعرضت له نهاية العام الفائت ناقلات النفط بميناء الفجيرة الإماراتي من عمليات تخريبية، وتكثيف الحوثيين هجماتهم على المنشآت النفطية السعودية، لعلمنا أن هذه المنطقة لم تعرف استقرارًا أمنيًّا رغم ما يربطها بالقوى الكبرى من معاهدات واتفاقات أمنية ودفاعية، ورغم المليارات التي تنفقها على التسلُّح، لكن كل ذلك فشل في تحقيق الأمن والاستقرار لدول الخليج ولا تزال معضلة الأمن بالنسبة لها هاجسًا يؤرِّقها.
فما توصيف المشكلة التي نحن بصدد تحديدها؛ مشكلة الأمن في دول الخليج؟ وما أسبابها؟ ولماذا استمرت دون حل طيلة هذه العقود؟ وأين تكمن العلَّة في المحاولات التي سبقت لتكوين مظلة أمنية خليجية مشتركة؟ وهل من مقاربات جديدة لهذه المشكلة تُخرج الجميع؛ دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، من المقاربات الصفرية التي ينتهجونها بحثًا عن أمنهم؟
هذه الأسئلة كانت محاور النقاشات التي دارت على مدى يومين في جلسات مؤتمر بحثي بعنوان “نحو نظام أمني خليجي جديد: الخروج من المقاربات الصفرية”، نظَّمه مركز الجزيرة للدراسات ومركز دراسات الخليج التابع لجامعة قطر، في العاصمة القطرية، الدوحة، يومي 19و20 يناير/كانون الثاني 2020، بمشاركة نخبة من الباحثين والأكاديميين والخبراء المعنيين بأمن الخليج، من دول مجلس التعاون الخليجي وإيران والعراق والولايات المتحدة الأميركية وبعض البلدان العربية والأجنبية الأخرى.
ونورد فيما يلي نبذة عن أهم الأفكار والآراء التي تداولها المشاركون في هذا المؤتمر، دون نسبتها إلى أحد بعينه، على قاعدة “تشاتام هاوس”.
- مفهوم الأمن الخليجي والحاجة إلى توسعته
الناظر في أغلب الدراسات التي أُجريت على مسألة الأمن الخليجي من خارج المنطقة يجد أنها توقفت عند العامل الخارجي وأولته أهمية كبرى، لدرجة تكاد تجعل منه العامل الوحيد في وجود أو غياب الأمن الخليجي، وكان المبرر الأبرز الذي استندت إليه هذه الدراسات هو أن منطقة الخليج تتمتع بثروات كبيرة من النفط والغاز، وأنها تحتل موقعًا استراتيجيًّا مهمًّا على طرق الملاحة والمواصلات الرئيسة في العالم.
ورغم صحة هذا الطرح في عمومه إلَّا أن معضلة الأمن في منطقة الخليج لا تعود إلى هذا السبب وحده، وإنما إلى جملة من الأسباب والعوامل؛ الداخلية والخارجية، الآنية والتاريخية. أسباب وعوامل معقدة متداخلة، كلٌّ منها سبب ونتيجة في آن معًا.
لكن يجمل بنا في البداية، وقبل استعراض هذه الأسباب، تعريف الأمن الذي نحن بصدد الحديث عنه.
نقصد بالأمن الخليجي تلك المنظومة الأمنية الجماعية المشتركة المفترض أن تشمل دول مجلس التعاون الخليجي الست فضلًا عن جاراتها المعنيات مباشرة بهذا الأمن وهي إيران والعراق واليمن. أي بعبارة أخرى: إننا نعني الخليج بمعناه الجيوسياسي الواسع.
كما نعني بالأمن أيضًا، الأمن بمفهومه الشامل الذي لا يقتصر على الأمن السياسي والعسكري كما يتبادر إلى الذهن، وكما هو متداول في أغلب الكتابات التي تناولت هذا الموضوع، وإنما ننظر إلى المشكلة الأمنية نظرة شمولية ليدخل فيها الأمن الاجتماعي والغذائي والمائي والسيبراني. فهذا هو مفهوم الأمن الذي نقصد والذي تداوله المشاركون في هذا المؤتمر.
- تحديات إنشاء نظام أمني خليجي مشترك
وفي هذا السياق، فإن الملاحظ أن معضلة الأمن الخليجي تأتي نتيجة عديد الأسباب والعوامل، أبرزها:
أ- عدم تحديد العدو
من البدهيات المفترض التعامل معها بالنسبة لواضعي السياسات الأمنية أن يحددوا بدقة من هو العدو، أي ما هو مصدر التهديد ومكمن الخطر، حتى يضعوا الخطط والبرامج الكفيلة بردعه والتعامل معه في حال نشوب صراع أو اندلعت حرب، لكن دول الخليج، سواء دول مجلس التعاون أو إيران والعراق، لم تتفق فيما بينها على هذا العدو؛ هل هو الولايات المتحدة الأميركية، أو إسرائيل، أو الإرهاب العابر للحدود؟
ليس هذا فحسب، بل إنها، وفيما بينها لم تعد تنظر إلى بعضها البعض على أنها دول آمنة الجوار، فالسعودية تعتبر إيران عدوًّا، والعكس صحيح، بينما لا تعتبرها دول مثل قطر وسلطنة عمان، على سبيل المثال، كذلك. وإسرائيل تُعتبر في عين إيران عدوًّا بينما في أعين الكثير من دول الخليج التي تهرول نحو التطبيع معها ليست كذلك.
أضف إلى ذلك النظرة إلى تركيا؛ فالإمارات على سبيل المثال تعتبرها عدوًّا لكون نظام الحكم فيها ذا خلفية إسلامية، وقد كثر الحديث عن وقوف الإمارات خلف المحاولة الإنقلابية الفاشلة التي جرت ضد الرئيس أردوغان، في 15 يوليو/تموز 2016، رغم نفي أبو ظبي ذلك.
ثم ازداد تحديد العدو صعوبة حينما فوجئ العالم العربي ودول الخليج تحديدًا بالبلد العربي “الشقيق” العراق يقرر حلَّ خلافه مع الكويت بالطريقة العسكرية، فغزاها واحتل أرضها. وقِسْ على ذلك المحاولات التي لم تتوقف للتدخل في شؤون الدول الأعضاء في نفس المنظومة الخليجية، سواء بالتجسس، كما أُعلن في سلطنة عمان عن ضبط خلية تجسس تابعة للإمارات، أو بالعمل على إسقاط نظام حكم دولة جارة، كما جرت المحاولة ضد قطر في 5 يونيو/حزيران 2017، وحينما فشلت عسكريًّا فرضت الدول الضالعة في تلك المحاولة (السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر) حصارًا دبلوماسيًّا واقتصاديًّا على قطر.
إزاء هذا الذي يجري على أرض الواقع بات من الصعب على دول الخليج أن تحدد العدو من الصديق، ومن ثمَّ أصبح من العسير على من يفكرون في وضع منظومة أمنية خليجية مشتركة تضم بين جنباتها إيران والعراق واليمن أن ينجزوا ذلك.
ب- هشاشة الاستقرار السياسي
من التحديات الأخرى التي تقف عائقًا أمام دول الخليج لوضع منظومة أمنية دفاعية مشتركة، كونها دولًا غير مستقرة سياسيًّا، فإيران والعراق -كما أسلفنا القول- كان بينهما منذ العام 1980 حرب وعداء حالا دون وصولهما إلى حالة من الاستقرار السياسي تدفع صنَّاع القرار إلى التفكير في بلورة رؤية أمنية مشتركة. ودول مجلس التعاون الخليجي ما فتئت تشعر بتهديد لمنظومتها السياسية إزاء الأفكار السياسية الوافدة من الجوار؛ فالمد القومي الناصري على سبيل المثال خلال حقبتي الخمسينات والستينات مثَّل لكثير منها تهديدًا سياسيًّا. وكذلك كانت الحال بالنسبة للمد الثوري الإسلامي المتمثل في الثورة الإسلامية الإيرانية. فإذا أُضيف إلى هذا وذاك أن تلك الدول نفسها ليس فيها تداول على السلطة، ولا نظم ديمقراطية يشارك الشعب في رسم القرارات واتخاذ القرارات وتوجيه السياسات وبخاصة في قضاياه المصيرية، علمنا أنها دول تعاني هشاشة سياسية لا تتمكن في ظلها من بناء منظومة أمنية مشتركة، ذلك لأن أول عوامل الأمن، وهو الأمن الذاتي وتماسك الجبهة الداخلية، غير متوفر.
ج- ضعف الكفاءة العسكرية
رغم صفقات السلاح الضخمة التي تتعاقد عليها دول الخليج، والأموال الطائلة التي أنفقتها على تخزين أحدث أنواع الأسلحة، فإن شراء السلاح في حد ذاته لم يوفر الأمن لدول الخليج، ولن يوفره مستقبلًا. ذلك لأن المشكلة ليست في وجود السلاح، وإنما في الإرادة والقدرة على استخدامه، وهما العاملان غير المتوفريْن بالقدر الكافي لدى دول الخليج العربي. ولعل هذا ما يفسر النفقات المتزايدة في ميزانيات التسلح وفي الوقت نفسه استمرار التهديدات الأمنية والبحث عن شراء “سلعة الأمن” من الخارج، عبر استقدام القوى الكبرى لتحقيق ذلك.
وقد حاولت دول مجلس التعاون الخليجي تكوين جيش خليجي، ومنظومة صواريخ خليجية موحدة، وقيادة عسكرية موحدة، سواء فيما سُمِّي بقوات درع الجزيرة أو غيرها، لكن ذلك كله لم يُكلَّل بالنجاح، فلا هذه الدول حققت عامل الردع في مواجهتها -مثلًا- مع إيران، ولا هي حمت نفسها من اعتداءات الفاعلين غير الدوليين (الميليشيات)، كما هي الحال بالنسبة للحوثيين وعملياتهم ضد المملكة العربية السعودية على سبيل المثال.
فدون امتلاك القدرة على استخدام السلاح، ودون العمل على تصنيعه وليس فقط شرائه، وما لم تتوافر الإرادة السياسية لاستخدامه، فضلًا عمَّا سبق قوله بخصوص تحديد العدو ومصادر التهديد والخطر، فإن التوصل إلى مقاربة أمنية خليجية جماعية مشتركة ستظل مسألة بعيدة المنال.
د- المهددات الأمنية غير التقليدية
جرت العادة على التفكير في المعضلة الأمنية من منظور عسكري دفاعي، بينما المشكلة في الحقيقة أبعد من ذلك بكثير، فمسألة شح المياه الصالحة للشرب على سبيل المثال في دول الخليج مسألة أمن قومي ومع ذلك لم تؤخذ بالجدية اللازمة والتي تتناسب وتهديدها الوجودي لساكني الخليج. وتزداد هذه المشكلة إلحاحًا إذا علمنا أن نسبة الملوحة في مياه الخليج تزداد عامًا بعد عام، وهو ما سيجعل دول المنطقة يأتي عليها وقت لا تستطيع توفير مياه الشرب عبر محطات تحلية المياه، لأنها لن تكون قادرة على العمل آنذاك.
أضف إلى ذلك المهددات الأخرى، مثل الجماعات الإرهابية العابرة للحدود مثل القاعدة وتنظيم الدولة وأمثالهما. فضلًا عن عمليات القرصنة والهجمات الإلكترونية التي أضحت سلاحًا تستخدمه الدول بعضها ضد بعض، وهو ما حدا بدولة مثل الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، لأن تغير من تشكيلة مجلس الأمن القومي لديها لتضيف إليه عضوًا متخصصًا في الأمن السيبراني، بينما دول الخليج لم تأخذ هذا الأمر -إلا مؤخرًا وبعد اختراق وكالة الأنباء القطرية صيف العام 2017- بعين الاعتبار.
وفضلًا عن هذا وذاك، فثمة مهدد أمني داخلي يواجه المنظومة الخليجية يتمثَّل في ما يمكن تسميته بذوبان الهوية الوطنية، نتيجة العمالة الوافدة بثقافاتها ولغاتها، والعولمة بأفكارها وتياراتها ومذاهبها، والانفتاح المتسارع على التكنولوجيا والمعلومات، وتغيير أنماط القيم وعادات الاستهلاك بعد ارتفاع أسعار النفط في النصف الثاني من السبعينات.. كل ذلك أثَّر سلبًا على الهوية الوطنية لدول الخليج ومثَّلَ تهديدًا إضافيًّا لأمنها الداخلي وبنيتها المجتمعية.
- أثر تغيُّر النظام الدولي على أمن الخليج
تلك كانت أبرز التحديات الداخلية التي تواجه دول الخليج بمفهومها الجيوسياسي الواسع، لكن ثمَّة عامل آخر شديد الأهمية يؤثر سلبًا في ديناميات الأمن الإقليمي وينعكس بؤرًا للأزمات والصراعات هنا وهناك، ويتمثَّل في هذه المرحلة التي يعيشها العالم منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار سور برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي نهاية الثمانينات وأوائل التسعينات. فمنذ تلك الساعة والنظام الدولي المعهود لم يعد كما كان. لم يعد في العالم معسكران، شرقي وغربي، يدور في فَلَكهما عديد دول العالم، ويلعبان دور ضابط الإيقاع بالنسبة للقوى الإقليمية الصاعدة. فبزوال الاتحاد السوفيتي أصبحت الولايات المتحدة قطبًا دوليًّا وحيدًا مهيمنًا؛ ما دفع دولًا أخرى تُصنَّف ضمن القوى الصاعدة لأن تلعب دورًا في النظام الدولي الجديد الآخذ في التشكُّل. من هذه الدول: الصين وروسيا كلاعبين كبيرين، ثم بعدهما تأتي إيران وتركيا وإسرائيل والهند والبرازيل (حتى وقت قريب). وبالطبع، فإن مصالح هذه الدول تتقاطع وتتضارب في غير مكان من العالم وفي غير ملف. وقد انعكس ذلك توترًا في إقليم الشرق الأوسط لا يهدأ، وصراعات وحروب ونيران لم تجد من يطفئها في ليبيا واليمن وسوريا وأفغانستان، وبدرجات أقل في العراق ولبنان والبحرين.
وقد ازداد هامش المناورة لدول القوى الصاعدة في النظام الدولي مستغلةً هذه السيولة التي يشهدها، وقد رأينا بعض هذه الدول تعيد اصطفافها وتحالفاتها، ولاحظنا في المقابل تراجعًا لقدرة القوى التقليدية التي كان مسيطرة عالميًّا على ردع التحرکات المناوئة لها.
وبالنسبة لإقليم الشرق الأوسط تحديدًا، فإن الأمر ازداد سوءًا حينما غيَّرت الولايات المتحدة الأميركية أولوياتها الاستراتيجية فانتقل مركز اهتمامها من الشرق الأوسط لمواجهة الصين وروسيا، وهو ما ترك فراغًا استراتيجيًّا في هذا الإقليم، حاولت عديد القوى المحلية سدَّه على طريقتها الخاصة.
وقد أدى تراجع الأهمية الاستراتيجية لإقليم الشرق الأوسط في السياسة الأميركية إلى شعور متزايد لدى دول الخليج العربي، التي كانت تعتمد في أمنها على واشنطن، بأن الأخيرة لم تعد جادة في تلبية المتطلبات الأمنية للعواصم الخليجية، ولعل الاتفاق النووي الأميركي-الإيراني في عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، كان المؤشر الأبرز على ذلك. فضلًا عن عدم تحرك الولايات المتحدة لحماية منشآت النفط السعودية في بقيق وهجرة خُرَيص حينما استُهدفتا بعمليات تخريبية مؤثرة وموجعة منتصف سبتمبر/أيلول 2019. وهو ما وضع علامة استفهام كبيرة على التزام الولايات المتحدة بأمن الخليج وضرورة اختبار هذه الفرضية مجددًا.
فإذا وضعنا ذلك جنبًا إلى جنب التوترات الأمنية المتصاعدة، خاصة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران منذ تولي الرئيس، دونالد ترامب، الرئاسة، في يناير/كانون الثاني 2017، وما شهدته سنوات ولاياته من تصعيد ضد طهران، اتخذ أشكالًا سياسية ودبلوماسية واقتصادية وأمنية متعددة، مثل التخلي عن الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية، والعزلة السياسية والدبلوماسية، واستهداف القادة البارزين كقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، علمنا أن الأمن في منطقة الخليج لن يتحسن ما لم ينتهِ الصراع الأميركي-الإيراني، والسعودي-الإيراني، وأن الأفكار المتداولة لبلورة مقاربة أمنية خليجية جديدة مشتركة يكتنفها عديد الصعوبات والتحديات التي من غير الوارد حلها على الأقل خلال المديين، القريب والمتوسط.
ورغم ذلك كله، فقد يكون مناسبًا، على الأقل من منظور بحثي، في مؤتمر يجمع خبراء ومتخصصين كالمؤتمر الذي نتحدث عن أبرز أطروحاته ومداولاته، طرح السؤال التالي: هل دول مجلس التعاون الخليجي علی استعداد لتعاون إقليمي ينأی بها عن المواجهات المحتملة في المستقبل بين الولايات المتحدة وإيران، ويحدُّ من خطر المواجهات في الخليج ومضيق هرمز وبحر عُمَان؟
من الواضح، كما سبق القول، أن ذلك صعب المنال، وذلك لعاملين مهمين: الأول: أن العقلية الخليجية التي تفكر في المسألة الأمنية لا تستطيع أن تتخلص من إلحاح الضغوط الأمنية الراهنة وليست المستقبلية؛ والوضع الأمني الحالي هو ما سبق تبيانه، ورصد تداعايته، على مستوى العلاقات الخليجية-الخليجية، وعلى مستوى البؤر الصراعية المتفجرة في ليبيا وسوريا واليمن. فمن المستبعد إذن أن يفكر صنَّاع القرار في دول الخليج ويتجهون نحو بلورة رؤية أمنية خليجية مشتركة تتجاوز ما هو واقع وماثل أمام ناظريهم، لتخطط لمستقبل لا يعرفون ملامحه بعد.
والثاني: يأتي من غياب القيم الخليجية المشتركة؛ تلك القيم الضرورية لبناء أي نظام أمني إقليمي يتعامل مع التهديدات المتُفَق على توصيفها وتحديد مصدرها. فالتهديدات الإقليمية لهذه الدول لا تبدو مشترکة؛ بل نجدها في كثير من الأحيان متضاربة وما تعتبره دولة مصدرًا للخطر تعتبره أخرى ملاذًا للأمن. فالإدراکات والمدركات الأمنية لدول المنطقة تختلف، وكان من تداعيات ذلك أنها هي ذاتها قد باتت تُشکِّلُ تهديدًا يزجُّ دول المنطقة في مواجهات سواء مع بعضها البعض أو مع دول من خارج الإقليم، مما لا يخدم مصالحها ومصالح شعوبها.
نتيجة لذلك كله، فإن هذه الموانع تقلِّل من احتمالات تغيير الرؤی الاستراتيجية، وهي الخطوة الأولى الضرورية لتحقيق مقاربة أمنية خليجية جماعية جديدة مشتركة، وتعرقل أي جهد لصياغة هذه المقاربة مستقبلًا.
- متطلبات المقاربة الأمنية الخليجية المنشودة
بينما يتصاعد التوتر نتیجة مجابهات إقليمية-دولية في منطقة الخليج، لا تبدو في الوقت الراهن التربة مهيأة للوصول إلى رؤية أمنية مشتركة، وذلك لاتساع مساحات الخلاف في الوقت الراهن والذي سبق الحديث عنه بالتفصيل. ومع ذلك، فإن الأمر بحاجة إلى أربعة مقومات رئيسة لتحقيق هذه الرؤية مستقبلًا:
أولًا: الحوار؛ إذ لا يمکن تحقيق توافق في الرؤی الأمنية يتحدد بموجبها مصدر التهديد ومكمن الخطر وتعريف العدو، دون حوار مباشر بين دول المنطقة؛ حوار لا يوضع لبدئه شروط مسبقة حتى لا يوأد قبل ولادته.
ثانيًا: إدراك الهموم الأمنية للآخر، فمن المهم ألَّا تفكر دول مجلس التعاون الخليجي في أمنها فقط وتنسى المتطلبات الأمنية للأطراف الأخرى، وبخاصة الطرف الإيراني على الشاطئ الآخر للخليج الفاصل بينهما. فالأمن يشغل جميع دول المنطقة، والمهم إدراك وفهم كيف يفكر الآخر، والعمل علی أن لا تضع دول المنطقة نفسها في محور التهديدات الأمنية المرئية لدی جاراتها.
ثالثًا: عدم الإقصاء؛ إذ ليس من الوارد إقامة نظام إقليمي يحقق الأمن لدول المنطقة على المدى الطويل دون إشراك الدول المعنية جميعها، ودون إقصاء لبعضها، ذلك لأنه، وبمجرد قيام أي تكتل أمني بإقصاء الدول المعنية فسوف يستدعي ذلك بالضرورة إقامة تكتل أمني مضاد، لأن الدول المقصية ستعتبر نفسها في هذه الحالة مستهدفة بمثل هذا التكتل، وهذا ما يجعل من إشراك إيران والعراق في بلورة رؤية أمنية جماعية مشتركة مسألة ضرورية إن أُريد لأية مقاربة أمنية خليجية جديدة في المستقبل أن تنجح.
رابعًا: الابتعاد عن الأجندة الأجنبية، حيث إن استقلالية الإرادة والقرار والانطلاق في السياسات من المصالح الحقيقية للدول والشعوب الخليجية، وليس خدمةً لأجندات قوى أجنبية؛ يمكنها أن تساعد في بلورة الرؤية الأمنية الجماعية المشتركة المنشودة.
وبشکل عام، يمکن الخروج من دائرة المعضلة الأمنية المزمنة والاتجاه نحو نظام أمني خليجي شامل، إذا تمَّ اختيار طريق من اثنين: إبقاء الوضع على ما هو عليه من توترات أمنية يمكن أن تجرَّ المنطقة إلى حرب شاملة، أو التفكير في حلول جذرية مهما كانت العقبات والتحديات.