يسلِّط كتاب: “وجهات نظر الإسلام السياسي المعاصر في العلاقات الدولية: أصوات سائدة في العالم العربي من السنة والشيعة”، لمؤلِّفه سامي بارودي، الضوء على الرؤى المعاصرة التي يمثِّلها ستة علماء من شيوخ الإسلام السياسي المعتدل حول العلاقات الدولية. ويعرض بشكل عام لوجهات نظر هؤلاء الشيوخ، ودورهم في إعادة بوصلة العلاقات الدولية في تعاطيها مع الإسلام السياسي ظاهرةً عربية إسلامية خالصة، مدفوعًا جزئيًّا بالرغبة في تحديد الطرق المتعددة التي يؤثر بها الدين في السياسة المعاصرة والواقع الاجتماعي في العالم العربي. ومن الواضح أن تثبيت هذه الأطروحة في المجال العام العربي قد يخفف من وطأة الإسلام السياسي الراديكالي الذي تم الترويج له في الدوائر المعرفية الغربية باعتباره الوجه الوحيد والأوحد للإسلام، وهو الأمر الذي فنَّده الكتاب بالكثير من التحليل والتفسير.
كلمات مفتاحية: الإسلام السياسي، السنة، الشيعة، العلاقات الدولية، الإسلام المعتدل، الإسلام المتطرف.
Contemporary Islamist Perspectives on International Relations: Mainstream Voices from the Sunni and Shii Arab World by Sami Baroudi highlights the contemporary visions represented by six scholars of moderate political Islam of international relations. It also presents the views of these scholars and their role in resetting the compass of international relations in dealing with political Islam as a purely Arab Islamic phenomenon, driven partially by the desire to identify the multiple ways in which religion influences contemporary politics and social reality in the Arab world. It is therefore clear that the consolidation of this thesis in the Arab public sphere would mitigate the impact of radical political Islam that was promoted in Western circles of knowledge as the only face of Islam, which the book refutes using a great deal of analysis and interpretations.
Keywords: Political Islam, Sunni, Shiite, International Relations, Moderate Islam, Radical Islam.
مقدمة
يمثِّل كتاب “وجهات نظر الإسلام السياسي المعاصر في العلاقات الدولية: أصوات سائدة في العالم العربي من السنة والشيعة”، للباحث والأكاديمي اللبناني، سامي بارودي، تجربة بحثية خاصة تقوم على مغامرة الكتابة في “التخوم المعرفية” من خلال التنقيب في أكثر من حقل معرفي والبحث في نقاط التماثل والتناظر بين هذه الحقول.
ورغم القيمة المعرفية لهذه العينة من التجارب البحثية، فإنها تبقى تجربة محفوفة بالمخاطر، لاسيما إذا كان الأمر يتعلق بحقلي الدين والسياسة، لأن الخوض فيهما من شأنه أن يقذف بالباحث والدارس في ردهات النوازع غير الموضوعية التي تجد الكثير من مظانها في التفسير والتأويل.
ومن هذا المنظور، فإن كتاب سامي بارودي يقدم نفسه للقارئ بحثًا في نقاط التماس والتعالق بين حقلين معرفيين، هما: الإسلام السياسي، ونظريات العلاقات الدولية؛ إذ يحيل الأول على ظاهرة عربية إسلامية حديثة تعود منطلقاتها النظرية والحركية لثلاثينات القرن الماضي، لكنها شهدت على مدى العقود التسعة الماضية تحولات جذرية من حيث حمولتها الفكرية والسياسية وتمظهر هذه الحمولة على سطح الواقع. في حين أن حقل السياسة هو حقل نظري بامتياز يبحث في دور الدولة في علاقتها بمؤسساتها وأجهزتها مع العالم الخارجي ممثلًا في المجتمع أو الأفراد أو الدول.
وفي الوقت الذي نسجل فيه أن هذا العمل البحثي يندرج في المقام الأول ضمن المجال الواسع للإسلام السياسي، إلا أنه جاء محملًا بهاجس “البحث عن حضور ظاهرة الإسلام السياسي في العلاقات الدولية ومدى مساهمة هذه الأخيرة في إظهار فائدة المجال المفاهيمي لهذه الظاهرة عند الباحثين والمفكرين الغربيين”(1).
وفي الوقت الذي سعى فيه العديد من الدراسات والأطاريح الأكاديمية في الغرب، وحتى في العالم العربي، إلى التأكيد على أن الإسلام السياسي مرتبط بظاهرة أشمل هي الغلو في التدين، وهذا ما ظهر في تجربة تنظيم القاعدة و”الدولة الإسلامية في العراق والشام”، فإن الأطروحة المركزية للكتاب ترى النقيض من هذا الأمر من خلال الدفع بأن “ظاهرة الإسلام السياسي في أصولها التاريخية وتمظهراتها المعرفية ظاهرة سياسية معتدلة ووسطية وليست بالضرورة عُنفيَّة، وهي أبعد من أن تؤطر في حركات سياسية بعينها”(2).
والحال أن هذا الاجتهاد النظري لصاحب الأطروحة يضع في الاعتبار كون غالبية الدراسات الغربية، وحتى بعض الدراسات العربية، تؤكد أن “الإسلام السياسي الراديكالي يمثِّل الوجه الشائه للإسلام السياسي”، لكن صاحب الكتاب يناقض هذا المنظور بالقول: إن التركيز على الإسلام الراديكالي ممثلًا في الجماعات الإسلامية والحركات العُنفيَّة من قبيل القاعدة وتنظيم الدولة، أو دراسة الأفكار السياسية لرموز الإسلام السياسي، مثل: أبو محمد المقدسي، وأيمن الظواهري، أو سيد قطب، يعتبر إجحافًا في حق الإسلام السياسي وإقصاءً للتيار الإسلامي السياسي المعتدل.
وبذلك جاء الكتاب في إطار محاولة معرفية لسد هذه الفجوة عبر فحص نظري وتحليلي للإسلام السياسي المعتدل، ودراسة الأبعاد الفكرية والسياسية والمجتمعية لعدد من المفكرين الإصلاحيين المعتدلين ومدى حضور أفكارهم وتصوراتهم ضمن حقل العلاقات الدولية. وبذلك أخد كتاب سامي بارودي شكل “قراءة توثيقية وتحليلية لخطابات ستة شيوخ وعلماء دين معاصرين من العالم العربي السني والشيعي خلال القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، ودورهم في صياغة رؤية قديمة جديدة للعلاقات الدولية في العالم العربي والإسلامي وعلاقته بالغرب”(3)
عبر مقدمة وسبعة فصول وخاتمة، يُقدِّم الأكاديمي سامي بارودي، أستاذ علم السياسة والقضايا الدولية في الجامعة اللبنانية، منظوره الخاص لتيار الإسلام السياسي المعتدل ومدى مساهمة ستة من علماء وشيوخ هذا التيار في صياغة منظور جديد في حقل العلاقات الدولية. فهو لا ينتقد الظاهرة ولا يتعامل معها باعتبارها ظاهرة مهيمنة، بقدر ما يعتبرها تيارًا داخل الإسلام، وهذا ما أكده في أكثر من موقع في الكتاب من خلال التنصيص على “أن الإسلام أوسع بكثير من الإسلام السياسي بجميع تفريعاته وتصنيفاته”(4).
ولذلك، نجد المؤلِّف يقول منذ الصفحات الأولى للكتاب: “إن قراءتي لخطابات شيوخ وعلماء تيار الإسلام السياسي المعتدل الستة تهدف إلى التعرف على العناصر الرئيسية لهذا المنظور الإصلاحي السائد في العلاقات الدولية، وذلك من خلال تتبُّع أصول هذا المنظور وإلقاء الضوء على تطوره على مدى ثلاثة أجيال من الشيوخ والعلماء. كما أنني أضع الخطابات المدروسة حول العلاقات الدولية في فكرهم والسياسات التاريخية وتوضيح الاختلافات الرئيسية بين المنظور السائد والمنظور الراديكالي، بحجة أن الإسلام السياسي يشمل كلا المعسكرين، أي الإسلام الراديكالي أو المتطرف، والإسلام المعتدل أو الإصلاحي”(5).
ومن هذا المنظور يعرض الكتاب بالدراسة والتحليل لست شخصيات علمية أو مدارس علمية من السنة والشيعة: أربعة منهم درسوا بجامعة الأزهر وأصبحوا معبِّرين عن مؤسسة الأزهر، وهم: الشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد البهي، والشيخ يوسف القرضاوي، والخامس هو الشيخ وهبة الزحيلي من سوريا، أما السادس فهو الشيخ محمد حسين فضل الله، عالم الشيعة الذي تلقى تعليمه الديني في الحوزة الشيعية بالنجف.
ويُرجع صاحب الكتاب اختياره لهؤلاء العلماء الستة بعينهم إلى أنهم لم يحظوا بالاهتمام المطلوب في الدارسة الغربية الأكاديمية للإسلام السياسي، كما أنهم يقدمون آراء مختلفة لدور الإسلام في السياسة، وأن وجهات نظرهم بشأن العلاقات الدولية أكثر دقة وتطورًا من تلك الخاصة بالإسلاميين الراديكاليين؛ مما يوفر فهمًا أوسع لتنوع الإسلام السياسي ووجهات نظرهم حول العلاقات الدولية، وخاصة فيما يتعلق بالنزاعات المسلحة والعلاقات مع غير المسلمين.
- متغيرات الإسلام السياسي وسؤال التحيز المعرفي
تذهب بعض الدارسات الغربية المؤطَّرة بمنظور خلافي وعدائي تجاه الإسلام، وأخرى عربية تحذو حذوها لكن بصورة محتشمة، إلى خلق حالة من التماهي المقصود بين الإسلام والإسلام السياسي أو “الظاهرة الإسلاموية” أو “الأصولية الإسلامية”، وكلها مفاهيم وتعابير تصبُّ في ذات الخانة العدائية.
وقد عرض سامي بارودي لمجموعة من الباحثين الغربيين الذين تناولوا هذه القضية، من أمثال جون إسبوزيتو (John Esposito) وأندرو مارش (Andrew March) بمن فيهم محمد أيوب وبسام طيبي.
ورغم أن المفكر الأميركي، جون إسبوزيتو، تناول هذا الجدل الدائر بين الحكومات وصانعي السياسات والخبراء حول ما إذا كانت ظاهرة الإسلام السياسي متعددة الأوجه ومتنوعة أم أنها تختزل فكرًا وممارسات عُنفيَّة يجب قمعها باستمرار أو القضاء عليها، فمن الواضح -بحسب الكتاب- أن إسبوزيتو يميل إلى المنظور الأول، حينما يشير إلى وجود جماعات وتجارب إسلامية يعبِّر نشاطها السياسي والحركي عن مرونة الإسلام، والإسلام السياسي على وجه الخصوص.
وخلافًا لهذا المنظور، يُقدِّم الكتاب جملة من الدراسات التي تختزل الإسلام السياسي في أبعاده المتطرفة، ومثال ذلك ما وجده لدى الباحث محمد أيوب، الذي يقر في دراسته المعنونة بـ”الأوجه المتعددة للإسلام السياسي”، لكنه يخلص في النهاية إلى أن هذه الأوجه تتقاطع في “أن هذه الظاهرة تمثِّل شكلًا من أشكال استغلال الإسلام من قبل الأفراد والجماعات والمنظمات”. وهنا، يتحول الإسلام السياسي إلى أيديولوجيا تعكس موقفًا نقديًّا مسبقًا تجاه الإسلام. في حين أن مصطلح “استغلال” يعني أن الإسلاميين يوظفون بشكل إستراتيجي مفاهيم إسلامية لمنفعة سياسية خاصة بهم دون غيرهم.
والحال أن هذه الرؤية بحسب الكتاب تكاد تكون الأكثر حضورًا وهيمنة لدى عدد كبير من الباحثين والأكاديميين الغربيين في حين أن أهدافها المضمرة تتمثَّل في كونها “تنظر للإسلام نسقًا دينيًّا وكأنه لا يتوفر على منظور معرفي بشأن كيفية تنظيم السياسة والمجتمع في العالم الإسلامي المعاصر”(6).
ومن هذه الزاوية يبرز مجموع القضايا المرتبطة بالقوالب النمطية وإثارة الخوف التي تهيمن على النقاشات الغربية السائدة حول الإسلام والإسلام السياسي في الشرق الأوسط. وهنا، يصبح الإسلام من المنظور الغربي نظيرًا للإسلاموية التي لا تعبِّر بالضرورة عن الإسلام بقدر ما تعبِّر عن مجموعات مغلقة من المفاهيم والمعتقدات، متجذرة بعمق في نفوسهم وفي صميم عمليات تفكيرهم.
وفي مقابل هذا المنظور الجاهز والنمطي، يذهب بارودي إلى أن الإسلام السياسي في أبعاده المعتدلة والوسطية يمثِّل حقلًا واسعًا ومتنوعًا وغير متسق داخليًّا.. وقد يتم النظر إليه هنا على أنه مجموعة من وجهات النظر المتنافسة في كثير من الأحيان حول السياسة والدولة التي يحملها الأفراد أو الجماعات المستنيرة، والتي تشمل المصادر مرتبة تنازليًّا من حيث الأهمية: القرآن، والسنة النبوية، وأقوال وممارسات الخلفاء الأربعة الأوائل، وآراء الكلاسيكية، وما بعد الكلاسيكية انتهاء بالفقهاء والعلماء في العصر الحديث. وهنا نلتقي بالعشرات من المفكرين والحركات الذين يعتمدون على هذه المصادر الأربعة للتعبير عن مواقف متباينة تمامًا في مجالات السياسة والعلاقات الاجتماعية والعلاقات الدولية(7).
وبهذا المعنى يكون “الإسلام السياسي المعتدل هو ذلك المجال الفكري والحركي الذي نشأ عن تقاطع السياسة والدين، وخاصة في البلدان ذات الأغلبية المسلمة. وهذا البناء الواسع للإسلام السياسي ينبع من فهم واسع بنفس القدر للإسلام نفسه مع شرطية الانفتاح على القبول والرفض”، وتحقُّق هذا الشرط، بنظر صاحب الكتاب، قد يكون مفيدًا لتقديم سردية جديدة للإسلام السياسي ودوره في صياغة علاقات دولية جديدة بين العالمين، العربي الإسلامي والعالم الغربي.
ورغم التباين داخل التيار الرئيسي للإسلاميين المعتدلين واختلافاتهم، فإنهم يشتركون في رؤية متفاعلة للعلاقات الدولية، تقوم حسب صاحب الكتاب على السمات التالية:
– أولًا: يفترض أن السلام بدلًا من الحرب هو القاعدة، أو المبدأ التوجيهي، في العلاقات الدولية، وبشكل أكثر تحديدًا في العلاقات مع غير المسلمين.
– ثانيًا: تشجيع الحوار والتعاون مع الدول غير الإسلامية طالما أن التفاعلات الناتجة مفيدة للطرفين ولا تتضمن أشكالًا للسيطرة على المسلمين.
– ثالثًا: يُرفض رفضًا قاطعًا استخدام العنف لفرض الإسلام على غير المسلمين.
– رابعًا: يعرض الجهاد في سياق الدفاع عن أراضي المسلمين وحياتهم وحرياتهم، ولاسيما حرية الممارسة والدعوة.
– خامسًا: يدعو إلى اتباع نهج سلمي وتدريجي لتحقيق الوحدة الإسلامية التي لا يجب أن تتخذ شكل الخلافة.
- جدل الإصلاح والاعتدال والوسطية
تكاد تكون مفاهيم الاعتدال والإصلاح والوسطية حاضرة في جميع فصول الكتاب إن بصورة صريحة وعلنية أو بصورة مضمرة. ومن هذا الحضور الطاغي يتولد لدى قارئ الكتاب أن “مشكلة الإسلام السياسي في العلاقات الدولية هي مشكلة مفاهيم وما يترتب عليها من أنماط فكرية وممارسات يومية. فكما أن الإسلام السياسي الراديكالي المتطرف مرتبط بجهاز مفاهيمي من قبيل العنف والجهاد والأعمال الانتحارية، فإن التيار السائد في الإسلام السياسي المعتدل يجد أبعاده المفاهيمية في السُّنَّة والجماعة والإصلاح والاعتدال والوسطية.
الإصلاح
يحيل مفهوم الإصلاح، أو المنظور الفكري الإصلاحي، على الرغبة والقابلية للانفتاح على التغيير، وهو اعتقاد مرغوب فيه ولا مفر منه. والشيوخ الستة الذين تم اعتمادهم في الكتاب ينظرون للإسلام باعتباره دينًا ديناميكيًّا قادرًا على التجديد الذاتي في ظل التغيرات في المجالات المادية والسياسية والاجتماعية الاقتصادية والفكرية. وعلى عكس المفكرين السلفيين، فإن الإصلاحيين لا يعتبرون التجديد الديني بدعة سيئة، ولكن حاجة ملحَّة لضمان بقاء الإسلام في صميم حياة المجتمعات الإسلامية. ومن ذلك قول الشيخ يوسف القرضاوي، الذي يستشهد مرارًا وتكرارًا بالحديث النبوي: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها”. ولم يقف سامي بارودي عند هذا الحد بل ذهب أبعد من ذلك ليؤكد أن روح الإصلاح والتجديد تعود لفكر الجيل المؤسس للإصلاحيين المعتدلين، خاصة محمد عبده الذي ظل يروج ضمنًا لمجموعة متنوعة جديدة من التفسيرات التي تقوم على تحدي التقليد، سواء بالمعنى القانوني التقني لرفض اتباع مذهب واحد أو في المعنى الأكثر عمومية لرفض التقيد بالتقاليد السابقة.
ولا شك أن الإصلاحيين يقرون بأن الإسلام يقوم على أساس ثابت أركانه أن الله واحد، وأن محمدًا رسول الله، والقرآن هو كلمة الله، والمسلمون يشكِّلون أمة واحدة، يجمعها مشترك العقيدة (عقيدة التوحيد) والعبادات المعلومة من الدين بالضرورة، مثل الصلاة والصوم والزكاة.
الاعتدال
من الواضح أن الاعتدال مصطلح نسبي، وقد يُفهم بشكل أفضل في سياق نقيضه وهو مفهوم التطرف. وعلى الرغم من التنوع داخل كل فئة من الإسلاميين، فإنه من المنطقي التمييز بينهم بناءً على مدى اعتدال أو تطرف مواقفهم. ومفهوم “معتدل” قد يعني في المقام الأول تجنب المواقف المتطرفة دون التخلي عن المعتقدات الأساسية، كما يدل على تفضيل التغيير التدريجي والسلمي على التغيير الجذري والعنيف.
الوسطية
أما مفهوم الوسطية، الذي يستخدم على نطاق واسع ويهيمن في الكتاب، فيقوم على تبني موقف الوسط وما يقتضيه الأمر من تجنب التشديد (الإفراط) والتفريط (التراخي) في تفسير الإسلام.
وبالنسبة للعلماء الذين يشملهم هذا العمل، يُنظر إلى الإسلام نفسه على أنه دين الوسطية، وغالبًا ما يُصوَّر المسلمون على أنهم شعب وسطي (أمة وسط). وقد ناقش صاحب الكتاب مفهوم الوسطية وخصَّص له فصلًا كاملًا من خلال تجربة الشيخ يوسف القرضاوي الذي رفع لواء الوسطية والاعتدال سواء في الفتوى أو في الدعوة، وكان شعاره هو “إن الذي أومن به وأدعو إليه وأدافع عنه هو المنهج الوسط للأمة الوسط”، وهو الذي قال أيضًا: “أما منهجي في الحياة فإنما هو المنهج الوسط”. وهناك ثلاثة عوامل نحتت وسطية العلامة القرضاوي نحتًا؛ منها ما هو فطري، ومنها ما هو قدري، ومنها ما هو مكتسب.
وللتدليل على مرونة هذه المفاهيم الثلاثة (الإصلاح، الاعتدال، الوسطية) الموجهة للإسلام السياسي المعتدل في مقابل أفكار وطروحات الإسلام الراديكالي، يشرح صاحب الكتاب أن السمة الغالبة للإسلاميين المتطرفين تتحدد في كونهم يشككون في شرعية الأنظمة القائمة على أساس أنهم غير إسلاميين. وعلى نفس القدر من الأهمية، فإنهم يؤيدون استخدام العنف لإحداث تغيير في النظام وإقامة دول إسلامية مبنية على الشريعة.
علاوة على ذلك، يتبنى الإسلاميون المتطرفون نظرة توسعية للجهاد، وينظرون إلى الجهاد باعتباره الفريضة الغائبة أو الواجب المنسي في كثير من الأحيان لجميع المسلمين القادرين، والوسيلة الرئيسية لتحقيق مجموعة واسعة من الأهداف، بما في ذلك نشر الرسالة الإسلامية وإقامة الدولة الشرعية.
ومن هذا المنظور المقارن يخلص صاحب الكتاب إلى أن الاختلافات في مجال العلاقات الدولية بين الإسلاميين المعتدلين والراديكاليين، تتحدد في كون الإسلاميين المعتدلين واثقين من قدرة المجتمعات الإسلامية على التكيف مع الحقائق الدولية السائدة، ولا ينظرون للعلاقات الدولية باعتبارها لعبة صفرية ولكنهم يسعون إلى التعايش السلمي والحوار والتعاون مع غير المسلمين، طالما أن هذه العلاقات تنشأ من مواقع القوة، ولا تعتدي على استقلال وسيادة المجتمعات الإسلامية، وخاصة حقهم في تطبيق الشريعة والعمل مع بعضهم البعض في السعي لتحقيق وحدة سياسية واقتصادية وثقافية أكبر تتماشى مع المبادئ الإسلامية كما نصت عليها الشريعة الإسلامية.
- بين القرضاوي وفضل الله
وللتدليل على أطروحة الكتاب من خلال النماذج الستة، سيتم الاقتصار في هذه القراءة على تجربة الشيخين يوسف القرضاوي ومحمد حسين فضل الله باعتبارهما نموذجين للإسلام السياسي المعتدل وإن كانا يفترقان في نقاط أولية.
فالشيخان معًا ينتميان حسب تصنيف الدراسة إلى الجيل الثالث. وقد أظهرا من خلال عملهما أنهما سعيا إلى إضفاء الطابع المؤسسي على الإسلام السياسي. وكلاهما أيضًا كان ينظر إلى نفسه على أنه جزء من مجتمع علماء الدين الذي يجب أن يتجاوز حدود الجنسية والطائفة إلى جانب أخذ عظيم الاعتزاز بالانتماء إلى مؤسستي الأزهر والحوزة. وكلاهما أيضًا تجنب العلاقات الرسمية مع الحركات السياسية التي تربطهم بها صلات أيديولوجية لا يمكن إنكارها (الإخوان المسلمون وحزب الله، على التوالي). فهذه الانتماءات الرسمية لو تحققت كانت ستقوض مكانتهما كعلماء مستقلين، فضلًا عن دورهم في المؤسسات الدينية التي يعتزون بها: الأزهر والحوزة.
ويمكن إرجاع هذا الالتزام بالمؤسسات عند الشيخين بشكل أوسع إلى الشكل المؤسسي للإسلام عند الجيل الأول من العلماء الوسطيين، مثل محمد عبده ورشيد رضا، الذين كانوا يدعون إلى الإسلام السياسي مؤسسةً دينيةً مهمتها إعادة تفسير الشريعة وإلزام جميع المسلمين بتفسير موحد وحديث واحد لنواميسها.
وهنا يتضح جليًّا كيف أن الالتزام بالمؤسسات الدينية والإسلام المؤسسي أو المنظم هو واحد من عدة خطوط فاصلة تفصل بين الإسلاميين الإصلاحيين المعتدلين والإسلاميين الراديكاليين. فالالتزام الديني بالمؤسسات والشكل المؤسسي للإسلام يمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب الالتزام بالإصلاح وإعادة النظر في جوانب معينة من الشريعة الإسلامية.
وقد خصَّص صاحب الكتاب الفصول الخامس والسادس والسابع لاجتهادات القرضاوي وفضل الله. لا شك أن الشيخ القرضاوي هو أشهر الإسلاميين المعاصرين في مصر والعالم الإسلامي بسبب انتشار مؤلفاته وكتاباته والاستخدام الفعال لوسائل الإعلام والإنترنت لنقل صورة عادلة ورسالة متسقة تؤكد وسطية الإسلام وملاءمته لمعالجة جميع المشاكل السياسية والاجتماعية التي تواجه الأمة الإسلامية.
ولأن القرضاوي حظي باهتمام عدد كبير من الأكاديميين، لم يخضع خطابه حول العلاقات الدولية لقراءة شاملة ونقدية. فالعودة السريعة لأعماله المنشورة خاصة “فقه الوسطية” و”العلاقات مع الغرب” و”الجهاد”، تبرز الكثير من أفكار الشيخ في العلاقات الدولية المعاصرة، ولاسيما تأكيده على مركزية السلام والحوار في العلاقات مع العالم غير الإسلامي، والأغراض الدفاعية للجهاد، والرفض القاطع للعنف وسيلة لدفع الأجندة الإسلامية محليًّا، بالإضافة إلى تحقيق الهدف المنشود لجميع الإسلاميين، ألا وهو الوحدة الإسلامية.
أما السيد فضل الله، الذي مثَّل الصوت الوحيد من الجزء الشيعي من العالم العربي، فوجهات نظره حول العلاقات الدولية أكثر راديكالية من تلك الموجودة عند نظرائه السنَّة، وهو يعكس في العمق الخطاب الثوري للجمهورية الإسلامية الإيرانية. ومع ذلك، فإن القراءة الدقيقة لخطابه في العلاقات الدولية تكشف عن العديد من أوجه التشابه مع الخطابات الموجودة عند نظرائه السنة الرئيسيين، ولاسيما البهي والقرضاوي.
ويشترك القرضاوي وفضل الله في قراءة واقعية إلى حدٍّ كبير للعلاقات الدولية تحكمها وجهة نظر معيارية وأخلاقية وقانونية، وضمنها يكون الاهتمام الشديد منصبًّا على التأمل والتنظير حول الحقائق الدولية السائدة، وخاصة الصراع العربي-الإسرائيلي، وعلاقات العالم الإسلامي مع الغرب غير المسلم، وتداعيات نهاية الحرب الباردة وظهور الهيمنة الأميركية. وفي ظل خطر المبالغة في تقدير القضية، يحتل “الآخر”، خاصة الغرب، مكانة أكثر بروزًا في خطابات الشيوخ والعلماء الذين ينتمون إلى الجيل الثالث. فالشيخان، القرضاوي وفضل الله، ومعهما باقي أعضاء الجيل الثالث منخرطون مع الغرب بطرق متعددة ومعقدة ومتضاربة في كثير من الأحيان. فمن الواضح أنهم يسعون إلى فهم الغرب، وإن لم يكن بشروطه الخاصة، فضلًا عن الحوار والتعاون معه، بينما يحذران ويكافحان في الوقت نفسه الانتهاكات السياسية والاقتصادية والثقافية الواقعة على المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. وأهم ما يميز القرضاوي وفضل الله -بحسب مؤلِّف الكتاب- هو قربهما من آراء المدرسة الواقعية الغربية في العلاقات الدولية. كما أنهما قريبان من النهج الليبرالي الدولي الغربي تجاه العلاقات الدولية.
خاتمة
لا شك أن كتاب “وجهات نظر الإسلام السياسي المعاصر في العلاقات الدولية: أصوات سائدة في العالم العربي من السنة والشيعة”، للباحث والأكاديمي اللبناني، سامي بارودي، يمثِّل محاولة اجتهادية شخصية في التجربة المعرفية والسياسية لستة من الشيوخ وعلماء السنة والشيعة وموقعهم ضمن الخطاب العام للعلاقات الدولية.
ولأن سامي براوي اختار التركيز والتفصيل في عمل كل شيخ على حدة وجميعهم مستوفون لشروط الكفاية الشرعية وهي التي تؤطر رؤيتهم الشرعية والسياسية، فإن القراءة جاءت مختلفة في المنطلقات والنتائج وجاءت مستوفية لشروط الكفاية التفسيرية لظاهرة الإسلام السياسي المعتدلة.
كما أن الكتاب شكَّل مرة أخرى محطة مهمة لرد الاعتبار للشيوخ الستة ومحاولة تقديمهم للقارئ الغربي والعربي باعتبارهم ممثلين لمؤسسة الأزهر والنجف كمؤسسات دينية قادرة على إنتاج تجارب ورموز أكثر تمثيلية للإسلام السياسي في تجلياته المعتدلة والقريبة من أصول الإسلام.
المراجع
(1) Sami E. Baroudi, Contemporary Political Islam Perspectives on International Relations: Mainstream Voices from the Sunni and Shii Arab World, 1st edition (New York: PETER LANG, 2022), 12.
(2) Ibid, 21.
(3) Ibid, 24.
(4) Ibid, 21.
(5) Ibid, 36.
(6) Ibid, 44-45.
(7) Ibid, 66.