ملخص
تتناول الدراسة العلاقة بين منظمة الأمم المتحدة منذ تأسيسها والمنظمات الإقليمية. فقد نصَّ الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة على ضرورة التعاون مع المنظمات الإقليمية لتسوية النزاعات المحلية. إلا أن العلاقة بين الطرفين لم تخلُ من فترات التنافس والصراع على النفوذ. تركز الدراسة على التطورات والتحديات العالمية الحديثة في التعاون الإقليمي، مثل: الإرهاب، والهجرة، والتغير المناخي، والمخدرات، والأوبئة، والأزمات الإنسانية، التي تتطلب تعزيز التنسيق بين المستويات الدولية والإقليمية. وأظهرت تجارب عملية أن التعاون يمكن أن يكون فعالًا رغم وجود تحديات في توزيع المسؤوليات والاحتفاظ باستقلالية المنظمات الإقليمية. كما تتناول الدراسة مفهوم الإقليمية وتطورها في الفكر الدولي، فهو لا يقتصر على العوامل الجغرافية فقط، بل يشمل أيضًا الروابط الثقافية والتاريخية والمصالح السياسية والاقتصادية المشتركة بين الدول. وتصنف الدراسة المنظمات الإقليمية وفقًا لأغراضها العملية، سواء أكانت دفاعية أم اقتصادية أم سياسية، مع تسليط الضوء على التداخل بين المجالات والتحديات التي تواجهها نتيجة الاختلاف في الأجندات الوطنية والتفاوت الاقتصادي بين الدول الأعضاء. وتتطرق إلى أبرز التحديات التي تعوق فاعلية المنظمات الإقليمية، مثل ضعف الالتزام السياسي، والتدخلات الخارجية، والبيروقراطية الإدارية، وعدم استدامة التمويل، وغياب التنسيق الكافي. وتبين الدراسة أهمية تعزيز التنسيق الداخلي والتعاون مع الأمم المتحدة لتحقيق استجابة أكثر فاعلية للتحديات الإقليمية.
وأخيرًا، تناقش الدراسة مستقبل المنظمات الإقليمية وعلاقتها بالأمم المتحدة، وضرورة تطوير شراكات إستراتيجية وآليات تنسيق مؤسسية تضمن توازنًا بين الاستفادة من الدعم الأممي والحفاظ على استقلالية القرارات الإقليمية. وترى الدراسة أن نجاح هذه المنظمات يعتمد على قدرتها على التكيف مع التحولات الدولية وتعزيز قدراتها المؤسسية والتكنولوجية؛ مما يسهم في بناء نظام دولي أكثر عدالة واستدامة.
كلمات مفتاحية: الأمم المتحدة، المنظمات الإقليمية، التعاون الدولي، التحديات الإقليمية، استقلالية القرارات.
Abstract
The study examines the relationship between the United Nations, since its establishment, and regional organisations. Chapter VIII of the UN Charter stipulates the need for cooperation with regional organisations in settling local disputes. However, the relationship between the two parties has not been free from periods of competition and struggles for influence.
The study focuses on recent global developments and challenges in regional cooperation, such as terrorism, migration, climate change, drugs, pandemics and humanitarian crises, which require the strengthening of coordination between international and regional levels. Practical experiences have shown that cooperation can be effective despite challenges related to the distribution of responsibilities and the preservation of the independence of regional organisations.
The study also addresses the concept of regionalism and its evolution in international thought, noting that it is not limited to geographical factors, but also includes cultural and historical ties, as well as shared political and economic interests among states. It classifies regional organisations according to their practical purposes – whether defensive, economic or political – while highlighting overlaps between domains and the challenges they face as a result of divergent national agendas and economic disparities among member states.
Furthermore, the study explores the key challenges that hinder the effectiveness of regional organisations, such as weak political commitment, external interventions, administrative bureaucracy, lack of sustainable funding and insufficient coordination. It highlights the importance of strengthening internal coordination and cooperation with the United Nations.
Finally, the study discusses the future of regional organisations and their relationship with the United Nations, stressing the need to develop strategic partnerships and institutional coordination mechanisms that ensure a balance between benefiting from UN support and maintaining the independence of regional decisions. It concludes that the success of these organisations depends on their ability to adapt to international transformations and strengthen their institutional and technological capacities, thereby contributing to the construction of a more just and sustainable international order, and enabling a more effective response to regional challenges.
Keywords: United Nations, regional organisations, international cooperation, regional challenges, decision-making autonomy.
مقدمة
تعود فكرة التعاون بين منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية إلى عام 1945؛ حيث طُرحت هذه المسألة في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي أُعلن فيه عن تأسيس منظمة الأمم المتحدة لإحلال السلم والأمن الدوليين بعد الحرب العالمية الثانية(1)، فأصبح هذا التعاون مقياسًا مرجعيًّا لعمل هذه المنظمة، كما جاء في الفصل الثامن من ميثاقها والعديد من قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن(2). وتمتلك كل من الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية قدرات وإمكانيات في مجالات متعددة يمكن، إن نُظمت بطريقة جيدة، أن تسهم في الحد من نشوب النزاعات المسلحة. وثمة أمثلة عديدة على هذا التعاون، مثل دور الاتحاد الإفريقي في بعثات حفظ السلام في الصومال والسودان، ودور منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في محاولة دعم الاستقرار في البلقان، رغم الإخفاقات المختلفة. ولم تكن العلاقة بين الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية علاقة تعاون سلس دائمًا، بل شهدت تنافسًا وصراعًا على النفوذ أيضًا؛ ما يثير تساؤلًا جوهريًّا حول طبيعة هذه العلاقة وحدودها. وقد نشأت هذه العلاقة من حاجة النظام الدولي إلى إيجاد توازن بين الإطار العالمي الذي توفره الأمم المتحدة، والقدرات المحلية للمنظمات الإقليمية التي تمتلك فهمًا أعمق للسياقات الثقافية والسياسية والأمنية في مناطقها(3).
تهدف الدراسة إلى بحث التحديات التي تواجه المنظمات الإقليمية ومستقبلها في ظل المتغيرات العالمية، مع التركيز على علاقتها بالأمم المتحدة. وتسلط الضوء على العقبات الرئيسية التي تعوق فاعلية هذه المنظمات، مثل ضعف الالتزام السياسي للدول الأعضاء، والتفاوت الاقتصادي، والتدخلات الخارجية، والنزاعات الإقليمية، والتحديات البيروقراطية الإدارية وضعف التنسيق بين المنظمات المختلفة. وتناقش الدراسة مستقبل المنظمات الإقليمية في ظل تزايد الأزمات العالمية، وكيفية تعزيز فاعليتها من خلال تحقيق استقلالية أكبر عن القوى الدولية، وتطوير آليات تمويل مستدامة، وتحسين آليات الحوكمة والرقابة. كما تستكشف دور التكنولوجيا والحوكمة الرقمية في تعزيز كفاءة العمل الإقليمي وتقليل الاعتماد على الأمم المتحدة. وتطرح تساؤلات حول مدى فاعلية التعاون بين المنظمات الإقليمية والمؤسسات الدولية، وما إذا كان هذا التعاون يمثل فرصةً لتعزيز التنمية والاستقرار أم قيدًا يحدُّ من استقلالية القرارات الإقليمية. وتخلص إلى أن مستقبل هذه المنظمات يعتمد على مدى قدرتها على تحقيق توازن بين التعاون الدولي والحفاظ على استقلالية سياساتها، من خلال تبني إستراتيجيات متطورة تعزز من تكاملها الاقتصادي والسياسي، وتساعدها على مواجهة التحديات العالمية بفاعلية أكبر.
أولًا: التطورات الحديثة في التعاون الإقليمي
شهد التعاون الإقليمي تطورات ملحوظة، خاصة في إطار العلاقة بين الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية. فقد أفرزت التحديات العالمية المتزايدة، مثل ما يسمى الإرهاب، والهجرة، والتغير المناخي، والأزمات الإنسانية، حاجة ملحَّة إلى تعزيز التنسيق لضمان استجابة أكثر فاعلية ومرونة. وأدت المنظمات الإقليمية دورًا محوريًّا في مواجهة الأزمات الإنسانية الكبرى(4)؛ فعلى سبيل المثال، شهدت أزمة اللاجئين السوريين منذ عام 2011 تعاونًا وثيقًا بين الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في تقديم المساعدات الإنسانية، وفي إطار جهود إقليمية ودولية لاحتواء تداعيات الأزمة وتنسيق استجابة متعددة المستويات(5). كما أدى الاتحاد الأوروبي دورًا فاعلًا في استيعاب بعض هؤلاء اللاجئين وتوفير الدعم اللازم لهم من خلال مبادرات تمويلية وبرامج استقبال، مع أن جزءًا كبيرًا من هذه المساعدات كان يُوجَّه إلى الدول المستضيفة عبر مشاريع وبرامج تنعكس في النهاية في شكل تكاليف مرتبطة بتسليم المساعدات نفسها. لكن لا تزال هناك تحديات تتعلق بتوزيع المسؤوليات وتنسيق الأدوار بين المنظمات الدولية والإقليمية؛ مما يُبرز الحاجة إلى بناء آليات أكثر كفاءة تضمن توزيعًا عادلًا للعبء، وتحقق توازنًا بين تقديم الدعم الإنساني المباشر وتعزيز قدرات الدول المستضيفة على المدى البعيد(6). من جهة أخرى، تزايد التعاون الدولي في مواجهة الجماعات المسلحة، لاسيما في منطقة الساحل الإفريقي؛ حيث عملت الأمم المتحدة مع مجموعة دول الساحل الخمس لتعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب. وأسهم هذا التنسيق في تطوير إستراتيجيات أمنية إقليمية أكثر تكاملًا لمواجهة التهديدات المستمرة(7).
ينظِّم الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة العلاقة بينها والمنظمات الإقليمية؛ حيث تنص المادة 52 على أن: “أعضاء الأمم المتحدة الداخلين في مثل هذه التنظيمات أو الذين تتألَّف منهم تلك الوكالات، يبذلون كل جهدهم لتدبير الحل السلمي للمنازعات المحلية عن طريق هذه التنظيمات الإقليمية”(8). وتنص المادة 53 على أن مجلس الأمن يمكنه استخدام ترتيبات إقليمية في تنفيذ قراراته. غير أن العلاقة القانونية بين الطرفين لا تخلو من التحديات؛ إذ إن بعض المنظمات الإقليمية تسعى إلى توسيع نطاق تأثيرها على حساب الأمم المتحدة(9)، مثل تدخل منظمة حلف شمال الأطلسي “الناتو” في ليبيا، عام 2011، دون تفويض مباشر من الأمم المتحدة(10).
ظهرت منظمات إقليمية عديدة تهدف إلى تعزيز التعاون، مثل جامعة الدول العربية، التي سبقت تأسيس الأمم المتحدة، حيث أصبح ميثاقها نافذ المفعول في11 مايو/أيار 1945(11)، ونَصَّ بوضوح على مبدأ عدم اللجوء إلى القوة لحل النزاعات والخلافات بين الدول الأعضاء، وأن مفهوم القوة يشمل فرض القيود الاقتصادية أو حشد الجيوش على الحدود كوسائل ضغط غير مقبولة بين الدول الأعضاء(12). وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تأسست، في 16 أبريل/نيسان 1948، بهدف دعم التعاون الاقتصادي بين الدول الأوروبية وإعادة الإعمار بعد الحرب، ومنظمة الدول الأميركية، التي تأسست في30 أبريل/نيسان 1948، ويُنظر إليها على أنها أداة للنفوذ الأميركي في المنطقة(13). وتأسس حلف الناتو عام1949 كتحالف دفاعي يهدف إلى مواجهة التوسع السوفيتي، وأدى دورًا محوريًّا في تشكيل النظام الأمني العالمي؛ مما جعله أحد أبرز التحالفات العسكرية في التاريخ الحديث(14).
تُظهر هذه التطورات كيف أن فكرة التنظيم الإقليمي لم تكن مجرد استجابة للحرب العالمية الثانية، بل جاءت جزءًا من التحولات السياسية والاقتصادية والأمنية التي فرضت نفسها على العالم؛ ما أدى إلى نشوء منظمات إقليمية شكلت جزءًا أساسيًّا من النظام الدولي القائم اليوم(15).
ثانيًا: مفهوم الإقليمية وتطورها في الفكر الدولي
عندما طُرحت فكرة “المنظمة الإقليمية”، دار جدل واسع في مؤتمر سان فرانسيسكو، 1945، حول مفهوم الإقليمية ومعايير تحديدها. وانقسمت الآراء إلى اتجاهين؛ إذ رأى الأول أن الرابطة الإقليمية تستند إلى الجغرافيا، بحيث تصبح المنظمة الدولية “إقليمية” عندما تضم في عضويتها دولًا متجاورة جغرافيًّا. وذهب الثاني إلى توسيع نطاق التعريف، للتأكيد على أن الإقليمية لا تقتصر على البعد الجغرافي فحسب، بل تشمل أيضًا عوامل أخرى تعزز من مدلولها الحقيقي(16). ورغم أن التجاور الجغرافي يُعد عنصرًا مهمًّا في تكوين المنظمات الإقليمية، فإنه ليس العامل الوحيد، حيث تتطلب هذه الرابطة توافر روابط ثقافية وتاريخية مشتركة بين الدول المجاورة؛ مما يمنحها دافعًا واضحًا لتشكيل منظمة دولية إقليمية تعكس مصالحها المشتركة(17).
غير أن هذا التفسير للإقليمية واجه تحديات؛ إذ رأى بعضهم أن الجوار الجغرافي والروابط الثقافية والتاريخية ليست كافية لتعريف الإقليمية في الإطار التنظيمي الدولي. فمثلًا، تجاور إيران الدول العربية وترتبط بثقافة عربية-فارسية وتستخدم الأبجدية العربية، وهي دولة إسلامية، لكنها ليست جزءًا من جامعة الدول العربية(18)، وينطبق الأمر ذاته على تركيا. كما أن تشاد، التي تقع بين ليبيا والسودان وتعد اللغة العربية إحدى لغاتها الرسمية، لم تصبح جزءًا من هذا التكتل. بهذا، فإن الاعتماد على الجوار الجغرافي والروابط الثقافية وحدها لا يمثل معيارًا كافيًا لتعريف الإقليمية في سياق المنظمات الدولية(19).
في محاولة للخروج من هذا الجدل خلال مؤتمر سان فرانسيسكو، جرى اقتراح تعريف للإقليمية باعتبارها هيئات دائمةً تضم دولًا في منطقة جغرافية محددة، تجمع بينها روابط الجوار الجغرافي والمصالح المشتركة والتقارب الثقافي واللغوي والتاريخي والديني، وتعمل معًا لحل النزاعات التي قد تنشأ بينها؛ مما يسهم في حفظ الأمن والسلم الإقليمي وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية(20). غير أن هذا التعريف لم يحظَ بقبول اللجنة المكلفة بصياغة الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة، إذ اعتُبر غير كافٍ لتغطية جميع الأشكال التنظيمية التي قد تنشأ في المستقبل بين الدول. ونتيجة لذلك، سعت اللجنة إلى توسيع المفهوم ليشمل كل التنظيمات التي تجمع بين الدول وفقًا لمصالح خاصة، سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو أمنية، أو أيديولوجية.
من هذا المنطلق، يرى بعض الباحثين أن الإقليمية لا ينبغي أن تُفهم باعتبارها مجرد انعكاس للجغرافيا أو الثقافة، بل بوصفها تعبيرًا عن واقع سياسي تفرضه التطورات الدولية(21)، فالمنظمات الإقليمية لا تنشأ بالضرورة بسبب التقارب الجغرافي أو الثقافي، وإنما لتحقيق مصالح مشتركة بين أعضائها في التعاون الدولي. فقد تلتقي المصالح السياسية والاقتصادية بين دول متباعدة جغرافيًّا ولا تنتمي إلى نفس الدائرة الثقافية أو الحضارية، إلا أنها تتحد في إطار منظمة إقليمية تخدم مصالحها، مثل منظمة “بريكس” (BRICS) التي تأسست عام 2009، وتضم دولًا من مناطق مختلفة مثل البرازيل، وجنوب إفريقيا، والصين، وروسيا. كما أن منظمة شنغهاي للتعاون التي أُنشئت عام 2001 منظمةً سياسية واقتصادية وأمنية، تضم دولًا غير متجاورة جغرافيًّا، ولا ترتبط بروابط ثقافية أو دينية أو لغوية مشتركة، ومع ذلك تُعد منظمة إقليمية وفق التصنيف الدولي(22).
بناءً عليه، فإن المنظمات الدولية الإقليمية يمكن تصنيفها باعتبارها كيانات نشأت نتيجة لمزيج من العوامل الجغرافية والتاريخية والثقافية والمصلحية؛ مما يجعلها أكثر تنوعًا. أما المنظمات الدولية التي لا تتوافر لها مثل هذه المقومات، فلا يمكن تصنيفها منظماتٍ إقليمية، بل يتم إدراجها ضمن فئات أخرى مثل منظمة العمل الدولية أو منظمة التجارة العالمية؛ حيث إن عضويتها مفتوحة لأي دولة ترغب في الانضمام إليها دون التقيد بعوامل الجوار أو التقارب الثقافي.
لقد فرضت فكرة “الإقليمية” نفسها في مواجهة مفهوم “العالمية”، الذي بدا بعد الحرب العالمية الثانية أقرب إلى المثالية منه إلى الواقعية. فقد رأى أنصار الإقليمية أن حل المشكلات الإقليمية وتعزيز التعاون بين الدول المتجاورة والمرتبطة تاريخيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، سيكون أكثر سرعة وفاعلية مقارنة بالجهود العالمية، شريطة توافر الإرادة السياسية لدى الدول الأعضاء(23)، مثل تدخل جامعة الدول العربية في أزمة الكويت، عام 1962، حيث أرسلت قوات عسكرية من مصر والسعودية لحماية الكويت من التهديد العراقي. في المقابل، يرى دعاة العالمية أن الإقليمية قد تعرقل الجهود المبذولة لحل القضايا الدولية التي تتطلب تعاونًا واسع النطاق، مثل قضايا التنمية، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والتغير المناخي، والإرهاب الدولي، وهي قضايا لا يمكن للمنظمات الإقليمية منفردة التعامل معها بفاعلية(24).
رغم هذا الجدل، لا يمكن اعتبار الإقليمية والعالمية مفهومين متعارضين بالضرورة، بل يمكن تحقيق تكامل بينهما لمعالجة القضايا الدولية والإقليمية بطرق أكثر كفاءة، وهو ما انعكس في ميثاق الأمم المتحدة، الذي يشجع على حل النزاعات بالوسائل الإقليمية، حيث نص الفصل الثامن، المادة 52، على أن الدول الأعضاء في المنظمات الإقليمية يجب أن تبذل جهودها لتسوية النزاعات المحلية عبر هذه التنظيمات. كما أكدت المادة 33 من الفصل السادس ضرورة اللجوء إلى وسائل سلمية والاستفادة من التنظيمات الإقليمية في حل النزاعات.
تأخذ الترتيبات الإقليمية أشكالًا متعددة، فقد تكون تحالفات سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو ثقافية، كما هي الحال مع مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي تأسس لتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي بين دول المنطقة، أو منظمة شنغهاي، للتعاون التي أنشئت لتعزيز الأمن والاستقرار في آسيا الوسطى. ورغم تعدد أشكال الإقليمية، فقد رفض مؤتمر سان فرانسيسكو، عام 1945، محاولة وضع تعريف قانوني دقيق لها، نظرًا إلى تعقيدها وتشعبها؛ حيث أكد باحثون أن الإقليمية كظاهرة تنظيمية يجب أن تُفهم في سياق تطور النظام الدولي(25). وعلى الرغم من أن الإقليمية تعرضت لانتقادات، فإنها أثبتت أنها أداة فعالة في تحقيق الاستقرار الإقليمي، خاصة في ظل تعقيدات النظام الدولي وتعدد الأزمات العابرة للحدود. في النهاية، لا يمكن حصر الإقليمية في إطار واحد، بل يجب التعامل معها بوصفها إطارًا ديناميكيًّا يتكيف مع المتغيرات الدولية، ويعكس توازن المصالح بين الدول الأعضاء في المنظمات الإقليمية(26).
ثالثًا: تصنيف المنظمات الإقليمية
تُصنَّف المنظمات الإقليمية إلى ثلاثة تصنيفات رئيسية وفقًا للأغراض العملية التي تخدمها، وهي: الترتيبات الدفاعية، والترتيبات الاقتصادية والتقنية، والترتيبات التي توفر إطارًا تنظيميًّا لمناقشة القضايا السياسية العامة. وتعد العلاقة بين هذه المجالات مترابطة ومتداخلة، كما هي الحال في جامعة الدول العربية، ومنظمة الدول الأميركية، وحلف الناتو، والاتحاد الإفريقي. وتعكس هذه التداخلات طبيعة المصالح المتغيرة لأعضاء المنظمات، والتي تتكيف بمرور الزمن؛ ما يؤثر في أهدافها وأنشطتها(27).
وغالبًا ما تكون العوامل التي تجمع مجموعة من الدول في رابطة إقليمية واحدة معقدة، حيث تختلف الدوافع والأهداف من دولة إلى أخرى؛ مما يؤثر في اتخاذ القرارات السياسية داخل المنظمات الإقليمية. على سبيل المثال، عند تأسيس جامعة الدول العربية، لم تكن جميع الدول المؤسسة متوافقة تمامًا فيما بينها، فقد شهدت العلاقات بين المملكة العربية السعودية والنظامين الملكيين الهاشميين في العراق والأردن توترات، ولم يكن لبنان على وفاق مع سوريا، بينما شهدت العلاقات بين مصر واليمن خلافات متعددة. كما أن العناصر الموحدة التي قد تجمع بين الدول في مرحلة معينة قد لا تكون فعالة بالقدر ذاته في ظروف مختلفة(28).
وقد تدرك الدول المتجاورة أن تعزيز مصالحها يقتضي التعاون المشترك، كما كانت الحال عند تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في عام 1981. وقد تؤدي المصالح المتضاربة بين الدول المتجاورة إلى نزاعات بدلًا من التعاون؛ ما يجعل التقارب الجغرافي عاملًا مزدوج التأثير؛ حيث يمكن أن يكون دافعًا للوحدة أو سببًا للخلافات الإقليمية، خصوصًا عندما تغيب القواسم المشتركة أو تبرز الانقسامات السياسية والدينية(29).
ويمكن أن تهيئ العوامل العرقية والثقافية والتاريخية والدينية المشتركة الظروف لانضمام بعض الدول إلى روابط إقليمية، لاسيما عندما ترتبط هذه الروابط بقضايا سياسية دولية مهمة، مثل القضية الفلسطينية، التي كانت من الأسباب الأساسية وراء تأسيس جامعة الدول العربية. ومع ذلك، فإن هذه العوامل وحدها قد لا تكون كافية لضمان تماسك المنظمة الإقليمية، فعلى الرغم من اشتراك الدول الأعضاء في الجامعة باللغة العربية والدين الإسلامي والتاريخ المشترك، فإن الخلافات السياسية بين الدول أدَّت في كثير من الأحيان إلى انقسامات أثَّرت في فاعلية الجامعة(30).
وقد يصبح الأمن دافعًا رئيسيًّا لإنشاء التعاون الإقليمي، وكان ذلك واضحًا في الأميركيتين ومنطقة شمال الأطلسي وأوروبا والمحيط الهادئ. فقد ظهر مفهوم التضامن القاري (Continental Solidarity) في الأميركيتين، للتركيز على الدفاع عن منطقة نصف الكرة الأرضية الغربي ضد التهديدات النازية في ثلاثينات القرن العشرين. كما جرى تبني حلف ريو (Rio Treaty) للمساعدة المتبادلة عام 1947، ليحل محل المشاعر العابرة للأميركيتين (Pan-American Sentiment) التي كانت قائمة على مشاعر بحتة دون ترتيبات مؤسسية قوية. كما كانت الدوافع الأمنية ذاتها وراء تأسيس حلف بروكسل (Brussels Treaty) للوحدة الغربية، وحلف الناتو، وميثاق (ANZUS) في المحيط الهادئ(31).
وأسهمت العوامل الاقتصادية والتقنية في دفع الدول نحو تأسيس منظمات إقليمية. فقد أدرك بعضها أن التعاون الاقتصادي يمكن أن يعزز مستويات المعيشة، ويضمن الرفاهية الاقتصادية، ويحافظ على تجارة دولية مزدهرة. لهذا السبب، تأسست منظمات مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، عام 1961، واتحاد المدفوعات الأوروبي، عام 1950، الذي تحول لاحقًا إلى الاتفاقية النقدية الأوروبية، فضلًا عن العديد من المنظمات الإقليمية الأخرى(32).
وفي هذا السياق، أدَّت الأمم المتحدة دورًا بارزًا في تعزيز التعاون الإقليمي لحل المشكلات التقنية؛ حيث أنشأت خمس لجان إقليمية تابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، تشمل اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (ESCWA)، واللجنة الاقتصادية لغرب أوروبا، واللجنة الاقتصادية لإفريقيا، واللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لآسيا والمحيط الهادئ(33). وكانت الولايات المتحدة مقتنعة بأن أوروبا الغربية لن تتمكن من حل مشكلاتها الاقتصادية والسياسية بعد الحرب العالمية الثانية إلا من خلال التكامل الاقتصادي، وهو ما دفعها إلى تشجيع الحكومات على اتخاذ خطوات إضافية نحو الوحدة الإقليمية(34).
وتؤدي العوامل السياسية دورًا حاسمًا في تشكيل المبادرات الإقليمية؛ حيث تسعى الدول إلى تحقيق نوع من توازن القوى داخل المنطقة. فعند تأسيس جامعة الدول العربية، كان الهدف الأساسي هو مواجهة التهديدات الصهيونية في فلسطين، ورغم اختلاف القوى العسكرية بين الدول الأعضاء، فإن التعاون المشترك عزَّز من تأثيرها في الساحة السياسية الدولية. وبالمثل، سعت بعض دول أميركا اللاتينية إلى استخدام منظمة الدول الأميركية وسيلة لتعزيز موقفها في مواجهة الولايات المتحدة(35).
مع ذلك، فإن نجاح أية مبادرة إقليمية يعتمد على مدى تحقيق المصالح المشتركة بين الدول الأعضاء. فقد أكد الجنرال دوايت أيزنهاور، عندما كان قائدًا لقوات الناتو في أوروبا، أن التعاون الاقتصادي والسياسي لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود مبدأ وهدف أساسي مشترك يوافق عليه الجميع. ويُظهر التاريخ أن الاتفاقيات الإقليمية التي تركز على التعاون في المجالات الاقتصادية والتقنية والدفاعية غالبًا ما تحقق نجاحًا أكبر من تلك التي تركز على القضايا السياسية العامة؛ حيث إن الحاجات الاقتصادية الملحَّة والأمن المشترك تدفع الدول إلى التعاون، بينما تعوق الخلافات السياسية القوية إنشاء وكالات سياسية إقليمية فعالة(36).
إن التنافس السياسي داخل المناطق الإقليمية يؤثر بشكل مباشر في استقرار المنظمات الإقليمية. ففي جامعة الدول العربية، لم تتمكن أية دولة من فرض هيمنة واضحة على بقية الأعضاء. ورغم أن مصر كانت تُعد الدولة الأكثر تأثيرًا، فإن التنافس بين الأعضاء أدى إلى ظهور انقسامات داخل المنظمة. في المقابل، في أميركا اللاتينية، كان هناك قلق مستمر من هيمنة الولايات المتحدة؛ ما أثَّر في مستوى التعاون داخل منظمة الدول الأميركية(37).
ويُظهر تحليل التنظيم الإقليمي أن نجاح أي مبادرة يعتمد على وجود توازن بين احترام السيادة الوطنية وتعزيز التعاون الإقليمي. فقد أثبتت التجربة أن الترتيبات الإقليمية الناجحة هي تلك التي توفر آليات مرنة للتعاون، تستجيب للتغيرات السياسية والاقتصادية، وتعزز المصالح المشتركة بين الدول الأعضاء. كما أن الترتيبات الإقليمية ليست بديلًا من المنظمات الدولية، بل يمكن أن تكون مكملة لها، بما يحقق استقرار النظام الدولي وتعزيز التنمية المشتركة.
رابعًا: تحديات المنظمات الإقليمية في ظل المتغيرات العالمية
ثمة عدد من التحديات التي تواجه المنظمات الإقليمية وأدوارها في ظل المتغيرات العالمية؛ ما قد يضعف فاعليتها، ومن أهمها:
- ضعف الالتزام السياسي وتباين الأجندات الوطنية
يُعدُّ ضعف الالتزام السياسي من أبرز التحديات التي تعيق فاعلية المنظمات الإقليمية؛ حيث تتباين أولويات الدول الأعضاء تبعًا لمصالحها الوطنية وظروفها الداخلية. ففي كثير من الحالات، تُفضِّل بعض الدول التركيز على أجنداتها الداخلية بدلًا من الالتزام بالقرارات الإقليمية؛ مما يُضعف التعاون المشترك ويقلِّل من قدرة المنظمة على تحقيق أهدافها. كما أن غياب الإرادة السياسية الجماعية يؤدي إلى ضعف تنفيذ الاتفاقيات الإقليمية؛ ما يجعلها مجرد نصوص غير قابلة للتطبيق الفعلي(38).
وقد تؤدي التغيرات السياسية داخل الدول الأعضاء، مثل الانقلابات أو الانتخابات، إلى إعادة النظر في الالتزامات الإقليمية. فقد تجد بعض الدول نفسها مضطرة إلى إعادة تقييم موقفها من المنظمة بناءً على متغيرات داخلية(39). كما أن بعض الدول تنظر إلى المنظمات الإقليمية على أنها أدوات لتحقيق نفوذها الإقليمي بدلًا من كونها إطارًا حقيقيًّا للتعاون المشترك. ويؤدي هذا إلى محاولات بعض الحكومات فرض أجنداتها على المنظمة؛ ما يخلق حالة من التنافس الداخلي، ويُضعف من استقلاليتها، ويجعلها أقل فاعلية في التعامل مع القضايا الإقليمية المهمة(40).
- التفاوت الاقتصادي
يُعدُّ التفاوت الاقتصادي بين الدول الأعضاء من أبرز العقبات أمام تحقيق تكامل اقتصادي إقليمي فعَّال؛ حيث تتمتع بعض الدول بموارد اقتصادية هائلة، في حين تعاني دول أخرى أزمات مالية مزمنة؛ ما يؤدي إلى صعوبة تنفيذ سياسات اقتصادية موحدة، حيث تجد الدول ذات الاقتصادات الضعيفة نفسها غير قادرة على الالتزام بالمشاريع التنموية المشتركة، فتُخلق فجوة في مستوى التنمية بين الدول الأعضاء(41).
ويجعل ضعف الهياكل الاقتصادية بعض الدول أكثر عرضة للصدمات المالية العالمية؛ ما يؤثر سلبيًّا في استقرار التعاون الاقتصادي الإقليمي. فالدول التي تعاني معدلات ديون مرتفعة أو انخفاضًا في الاستثمارات الأجنبية غالبًا ما تواجه صعوبات في الالتزام بالمساهمات المالية المطلوبة لدعم مشاريع المنظمات الإقليمية(42).
ويزيد غياب سياسات تنموية إقليمية شاملة من اتساع الفجوة الاقتصادية بين الدول الأعضاء. فبدلًا من تعزيز التكامل الاقتصادي، قد تؤدي هذه الفجوة إلى تعزيز التنافس السلبي بينها؛ مما يُضعف قدرة المنظمة على تحقيق أهدافها، لاسيما في مجالات مثل التجارة البينية والتنمية المستدامة.
- التدخلات الخارجية والضغوط الدولية
يعاني العديد من المنظمات الإقليمية من تدخلات خارجية تهدف إلى التأثير في قراراتها بما يخدم مصالح قوى دولية معينة، كالعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على بعض الدول؛ ما يؤثر بدوره في المنظمة الإقليمية. فعلى سبيل المثال، أوجدت العقوبات المفروضة على فنزويلا إطارًا شاملًا من عقوبات تشمل النفط، والأفراد، والتجارة الثانوية. واستجابة للقرارات الأميركية، استجاب الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة للعقوبات بهدف الضغط السياسي ودعم الانتقال الديمقراطي فيها أو في غيرها من دول أميركا اللاتينية. وهذا يؤثر بالضرورة في دور منظمة الدول الأميركية. وفي السياق نفسه، أثَّرت العقوبات التي فُرضت على ليبيا في الفترة 1992-2011، والعراق في الفترة 1990-2003، وسوريا 2011-2025، في جامعة الدول العربية، فقد استجابت مثلًا وعلَّقت عضوية سوريا، في عام 2011، وفرضت بعض القيود، لكنها لم تكن ملزمة لكل الدول الأعضاء. ومَرَّ السودان بمراحل متغيرة، من عقوبات صارمة ثم رفعها ثم العودة إليها بعد تجدد الصراع. وأثَّرت هذه العقوبات في الاقتصاد السوداني، وبخاصة القطاع المصرفي والاستثمار الأجنبي. كل هذه العقوبات تؤثر حتمًا في العلاقة مع الجامعة.
وغالبًا ما تستخدم القوى الكبرى الأدوات الاقتصادية مثل المساعدات أو القروض المشروطة للتأثير في سياسات بعض الدول الأعضاء؛ مما يجعل هذه الدول أكثر استجابة للمصالح الخارجية بدلًا من المصالح الإقليمية المشتركة(43). إلى جانب ذلك، فإن بعض المنظمات الإقليمية تواجه ضغوطًا دبلوماسية من قوى عالمية تسعى إلى توجيه مسار قراراتها، خاصة في القضايا ذات البعد الإستراتيجي مثل الطاقة والتجارة الإقليمية. ويمكن أن تؤدي هذه الضغوط إلى شلل في اتخاذ القرارات داخل المنظمة؛ حيث يصبح من الصعب التوصل إلى توافق إقليمي بشأن القضايا الحساسة(44).
كما أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على بعض الدول الأعضاء قد تؤدي إلى تقييد قدرتها على المشاركة الفعالة في الأنشطة الإقليمية. فالدول التي تخضع لعقوبات دولية تواجه صعوبات في تمويل مشاريع المنظمة أو المشاركة في المبادرات المشتركة؛ ما يقلِّل من كفاءة المنظمة في تحقيق أهدافها.
- ضعف البنية المؤسسية والبيروقراطية الإدارية
يواجه العديد من المنظمات الإقليمية تحديات مرتبطة بضعف البنية المؤسسية؛ حيث تعاني نقصًا في الهياكل التنظيمية الفعالة والمرنة التي تمكِّنها من اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة. ويعود ذلك إلى غياب إستراتيجيات واضحة لتوزيع الأدوار والمسؤوليات داخل المؤسسات الإقليمية؛ ما يؤدي إلى غياب المساءلة وتأخير تنفيذ البرامج والمبادرات المشتركة. كما أن الاعتماد على أساليب إدارية تقليدية غير متكيفة مع المتغيرات الحديثة يجعل المنظمة أقل قدرة على مواجهة الأزمات والتحديات الإقليمية بكفاءة(45).
ويعاني العديد من المنظمات الإقليمية بيروقراطية إدارية مفرطة؛ حيث تفرض الإجراءات المطولة والقيود التنظيمية الصارمة عوائق أمام اتخاذ قرارات سريعة وفعالة. فمثلًا، تتطلب بعض المنظمات موافقات متعددة من عدة جهات قبل تنفيذ أي مشروع؛ ما يؤدي إلى تباطؤ العمليات وتأخير المبادرات المهمة. كما أن اعتماد آلية الإجماع في اتخاذ القرارات يزيد من تعقيد الأمور؛ حيث يمكن لأي دولة عضو أن تعطل قرارات مهمة بسبب خلافات سياسية أو مصالح وطنية(46).
إن ضعف آليات الرقابة والمتابعة داخل المنظمات الإقليمية يؤدي إلى تفاوت في تنفيذ الاتفاقيات بين الدول الأعضاء. فبعض الدول تمتثل بشكل كامل للقرارات الإقليمية، بينما تتجاهل دول أخرى التزاماتها دون التعرض لعواقب واضحة. يقلِّل هذا الافتقار إلى آليات رقابية فعَّالة من مصداقية المنظمة ويجعل تنفيذ سياساتها عرضة للتعثر والتأخير؛ مما يضعف من قدرتها على تحقيق أهدافها الإستراتيجية على المدى الطويل(47).
- نقص التمويل وعدم استدامته
يعتمد معظم المنظمات الإقليمية على مساهمات الدول الأعضاء مصدرًا رئيسيًّا لتمويل أنشطتها وبرامجها، إلا أن هذه المساهمات غالبًا ما تكون غير منتظمة وتعتمد على الظروف الاقتصادية والسياسية لكل دولة. في بعض الأحيان، تتأخر الدول في سداد التزاماتها المالية؛ ما يضع المنظمة في أزمة تمويلية تؤثر سلبيًّا في تنفيذ المشاريع المقررة. كما أن عدم وجود موارد تمويلية بديلة يجعل المنظمة عرضة للتأثر بأي تقلبات مالية تواجهها الدول الأعضاء؛ ما يقلِّل من قدرتها على تحقيق استدامة مالية طويلة الأجل(48).
ويواجه بعض المنظمات الإقليمية تحديًا كبيرًا في تأمين مصادر تمويل بديلة، مثل الاستثمارات الإقليمية أو الشراكات مع القطاع الخاص. فالاعتماد الكلي على التمويل الحكومي يجعل المنظمة محدودة في قدرتها على التوسع والابتكار في برامجها. كما أن بعض المنظمات قد تواجه تحديات تتعلق بتوزيع الموارد بين الدول الأعضاء؛ حيث قد تهيمن بعض الدول القوية اقتصاديًّا على توجيه أوجه الصرف؛ ما يخلق حالة من التفاوت والتمييز بين الدول الأضعف اقتصاديًّا(49).
ويُعدُّ غياب التخطيط المالي بعيد المدى من المشكلات الأساسية التي تؤثر في استدامة المنظمات الإقليمية. فبدلًا من وضع خطط تمويلية طويلة الأمد، تعتمد بعض المنظمات على موازنات سنوية غير مستقرة؛ ما يجعل من الصعب تنفيذ مشاريع طويلة المدى تحتاج إلى استثمارات متواصلة. وبسبب ذلك، قد تتعطل المشاريع الإقليمية بسبب نقص الموارد، أو قد تضطر المنظمة إلى تخفيض طموحاتها بسبب غياب الدعم المالي الكافي(50).
- ضعف التنسيق بين المنظمات الإقليمية المختلفة
يوجد العديد من المنظمات الإقليمية التي تعمل في المجالات نفسها أو تغطي المناطق الجغرافية ذاتها، إلا أن التنسيق بينها غالبًا ما يكون محدودًا أو غير فعال. ويؤدي ضعف التنسيق إلى ازدواجية الجهود بين المنظمات المختلفة؛ حيث تعمل كل منظمة على تنفيذ برامج متشابهة دون وجود تكامل حقيقي بينها، كما يؤدي إلى هدر الموارد المالية والبشرية؛ حيث يتم إنفاق أموال طائلة على مشاريع متكررة دون تحقيق نتائج ملموسة(51).
ويؤدي تضارب السياسات بين المنظمات الإقليمية المختلفة إلى تقويض فاعلية العمل الإقليمي؛ ففي بعض الحالات، تعتمد منظمة إقليمية معينة سياسة اقتصادية أو تجارية تتعارض مع سياسات منظمة إقليمية أخرى تعمل في المنطقة نفسها؛ ما يخلق حالة من التنافس السلبي بدلًا من التعاون. على سبيل المثال، قد تعمل منظمة على تعزيز التجارة البينية بين الدول الأعضاء، بينما تفرض منظمة أخرى قيودًا تنظيمية تحد من حرية حركة السلع والخدمات؛ مما يقلِّل من فاعلية التكامل الإقليمي(52).
إن غياب آليات تنسيق رسمية بين المنظمات الإقليمية المختلفة يجعل من الصعب تحقيق توافق إستراتيجي حول القضايا الكبرى التي تواجه المنطقة. فبدلًا من تطوير إستراتيجيات مشتركة لمواجهة التحديات الإقليمية مثل الأزمات الاقتصادية أو الأوبئة أو التغيرات المناخية، تعمل كل منظمة على حدة وفق رؤيتها الخاصة؛ ما يقلِّل من قدرتها على تحقيق تأثير إقليمي شامل. ولتعزيز فاعلية العمل الإقليمي، يجب على المنظمات الإقليمية العمل على تطوير آليات تنسيق قوية، مثل إنشاء مجالس مشتركة أو عقد اجتماعات دورية لضمان تحقيق تكامل حقيقي بين جهودها المختلفة(53).
- هيمنة دولة كبيرة في المنظمة الإقليمية
يوجد في بعض المنظمات الإقليمية تحدي يتمثل في هيمنة دولة قوية أو كبيرة على سائر المنظمة وأعضائها. ففي منظمة الاتحاد الإفريقي تهيمن عدة دول مثل جنوب إفريقيا، والجزائر، ونيجيريا، وإثيوبيا، على قرارات الاتحاد. وينعكس هذا التأثير على العلاقات بين دول المنظمة وقراراتها في أي شأن من شؤونها. فعلى سبيل المثال، أدَّت قضية “البوليساريو-الصحراء الغربية” إلى خلافات بين الدول الأعضاء في مجال التعاون على جميع الصعد. كما كان لقرار الاتحاد الإفريقي بقبول عضوية إسرائيل عضوًا مراقبًا تداعيات؛ ففي22 يوليو/تموز2021، منح رئيس مفوضية الاتحاد، موسى فكي محمد، إسرائيلَ صفة مراقب، بمبادرة منفردة من المفوضية دون استشارة واسعة للدول الأعضاء؛ ما أثار اعتراضات من دول عربية وإفريقية مثل الجزائر وجنوب إفريقيا، معتبرين أنه “تجاوز إجرائي وسياسي خطير”(54). وإذا نظرنا إلى جامعة الدول العربية، نرى مدى تأثير مصر والسعودية، والعراق سابقًا؛ حيث استطاع العراق بنفوذه السياسي إقناع المجلس الأعلى للجامعة المنعقد في بغداد، عام 1978، بتعليق عضوية مصر نظرًا إلى زيارة الرئيس أنور السادات للكيان الإسرائيلي، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1977، ومن ثَمَّ توقيعه اتفاقيات كامب ديفيد لاحقًا، والتي تعد خروجًا عن الإجماع العربي واتفاقية الدفاع العربي المشترك، فنتج من ذلك نقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس.
وقامت جامعة الدول العربية في عام 1990، باستدعاء قوات أجنبية لإخراج العراق من الكويت عن طريق عملية التصويت على قرار الجامعة، بينما ينص ميثاقها على أن تكون القرارات بالإجماع بموجب المادة السابعة وتكون ملزمة لجميع الدول الأعضاء، وما يقرره المجلس بالأكثرية يكون ملزمًا لمن يقبله(55).
خامسًا: مستقبل المنظمات الإقليمية في ظل علاقتها بالأمم المتحدة
تشكِّل الأمم المتحدة المظلة الدولية الأكبر التي تجمع الدول تحت نظام عالمي يهدف إلى تحقيق السلم والأمن والاستقرار والتنمية المستدامة، بينما تعمل المنظمات الإقليمية على تحقيق هذه الأهداف ضمن نطاقها الجغرافي المحدد. ومع تزايد التحديات العالمية، أصبحت مسألة التعاون بين الطرفين ملحَّة لضمان تكامل الجهود وتعزيز فاعلية الحلول الإقليمية للمشكلات الدولية. وفي هذا السياق، ثمة العديد من المسائل التي تحتاج إلى أخذها في الاعتبار في علاقة الطرفين، منها:
- تعزيز التكامل
يمكن تحقيق التكامل بين المنظمات الإقليمية والأمم المتحدة من خلال تطوير شراكات إستراتيجية تعزز من قدرة المنظمات الإقليمية على الاستفادة من الموارد والخبرات التي توفرها الأمم المتحدة، سواء في مجالات التنمية، وحفظ السلام، أو مواجهة الأزمات الإنسانية(56). ويمكن أن يعزز تبني آليات تنسيق مؤسسية من فاعلية العمل المشترك. فعلى سبيل المثال، يمكن تعزيز التنسيق بين مجلس الأمن والمنظمات الإقليمية المعنية بحل النزاعات لضمان تدخل أكثر فاعلية في الأزمات الإقليمية. كما أن إشراك المنظمات الإقليمية في عمليات صنع القرار على المستوى الدولي سيسهم في تحقيق توازن أفضل بين الاستجابات العالمية والاحتياجات الإقليمية الخاصة. ويمكن أن تستفيد المنظمات الإقليمية من الدعم التقني واللوجيستي الذي توفره الأمم المتحدة، سواء في مجالات التدريب، أو تطوير القدرات، أو دعم البنية التحتية. ويمكن للأمم المتحدة تقديم مساعدات تقنية لتعزيز نظم الحوكمة داخل المنظمات الإقليمية؛ مما يسهم في تحسين أدائها وقدرتها على تنفيذ برامج تنموية أكثر استدامة(57).
- تحقيق الاستقلالية وتقليل الاعتماد على الأمم المتحدة
رغم أهمية التعاون مع الأمم المتحدة، تواجه المنظمات الإقليمية تحديًا في تحقيق التوازن بين تعزيز هذا التعاون وبين الحفاظ على استقلالية قراراتها. في كثير من الحالات، يعتمد نجاح المنظمات الإقليمية على مدى قدرتها على تبني سياسات إقليمية تعكس مصالح الدول الأعضاء، دون أن تكون خاضعة بالكامل لتوجهات الأمم المتحدة. ولذلك، ينبغي على المنظمات الإقليمية تطوير آليات تمويل ذاتية تقلِّل من اعتمادها على المساعدات الأممية، مثل إنشاء صناديق استثمار إقليمية أو تعزيز دور القطاع الخاص في دعم المشاريع الإقليمية(58).
كما أن تعزيز التنسيق بين المنظمات الإقليمية نفسها يمكن أن يكون بديلًا إستراتيجيًّا لتقليل الاعتماد على الأمم المتحدة. فبدلًا من اللجوء إلى الأخيرة في كل القضايا، يمكن لتلك المنظمات تشكيل تحالفات وشبكات تعاون فيما بينها لمواجهة التحديات المشتركة، سواء في المجالات الاقتصادية، أو الأمنية، أو البيئية. علاوة على ذلك، فإن تعزيز قدراتها المؤسسية يمكن أن يزيد من قدرتها على التعامل مع الأزمات دون الحاجة إلى تدخل الأمم المتحدة. وقد يتحقق ذلك من خلال تطوير أنظمة حوكمة أكثر فاعلية، والاستثمار في تدريب الكوادر الإدارية والفنية، وإنشاء آليات رقابة تضمن تنفيذ الاتفاقيات الإقليمية(59).
- مستقبل الشراكة
مع استمرار التحولات الجيوسياسية العالمية، من المتوقع أن تتطور طبيعة العلاقة بين الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية لتصبح أكثر تكاملًا وإستراتيجية. فمن جهة، قد تشهد السنوات القادمة تعزيزًا لدور المنظمات الإقليمية في حل النزاعات وإدارة الأزمات؛ مما قد يدفع الأمم المتحدة إلى منحها المزيد من الصلاحيات في هذا المجال. ومن جهة أخرى، فإن تصاعد التحديات العالمية مثل تغير المناخ، والأوبئة، والإرهاب، والمخدرات، والأزمات الاقتصادية، قد يفرض على الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية تبنِّي آليات تعاون أكثر مرونة واستجابة سريعة للمتغيرات(60).
سيعتمد مستقبل هذه العلاقة إلى حدٍّ كبير على مدى قدرة المنظمات الإقليمية على تطوير رؤى وإستراتيجيات مستقلة تعزز من فاعليتها داخل النظام الدولي. فإذا تمكنت من تحقيق هذا الهدف، فقد تصبح أكثر قدرة على التأثير في القرارات الدولية، بدلًا من أن تكون مجرد كيانات تابعة للأمم المتحدة. علاوة على ذلك، فإن الاتجاه نحو تعزيز الحوكمة الرقمية والاعتماد على التكنولوجيا الحديثة قد يسهم في تحسين كفاءة التعاون بين الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية. فباستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، يمكن لهذه المنظمات تحسين عمليات صنع القرار وتعزيز الشفافية في تنفيذ برامجها؛ ما يجعلها أكثر قدرة على تحقيق نتائج ملموسة على المستويين، الإقليمي والدولي(61).
على سبيل المثال، بمراجعة تقرير الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، بطرس بطرس غالي، عن أعمال المنظمة 1996، أشار إلى التعاون الجاد بين المنظمات الإقليمية والأمم المتحدة، فقد أشار إلى تعاون الأخيرة مع الاتحاد الإفريقي في مجال الدبلوماسية الوقائية، ومشاركة الدول الأعضاء في عمليات حفظ السلام. وقد حققت المنظمتان تقدمًا كبيرًا في إنشاء الاتحاد الاقتصادي الإفريقي وفي مجال تنمية الموارد البشرية والتدريب والثقافة ومحو الأمية ومساعدة اللاجئين وتطبيق الديمقراطية. وتعاونت بعثة مراقبي الأمم المتحدة مع رابطة الدول المستقلة لحفظ السلام في جورجيا. كما عملت الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في طاجيكستان. وفي مجال التعاون مع جامعة الدول العربية، أثبتت المشاريع المشتركة في الميدانين، الاقتصادي والاجتماعي، أنها ذات فائدة بالنسبة إلى التنمية في الدول العربية(62).
وأصبحت هذه العلاقات أقوى وأعمق في عهد الأمين العام الحالي للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عبر طائفة واسعة من الأنشطة، من بينها صنع السلام والوساطة في الأزمات، وحفظ السلام، وتقديم المساعدة الإنسانية. ودعمًا لهذا التعاون المتزايد في الميدان، عقد غوتيريش، وبدعم من الإدارة السياسية، عددًا من الاجتماعات رفيعة المستوى مع رؤساء المنظمات الإقليمية من أجل كفالة التنسيق والتفاهم بشأن المتطلبات العملية، وبشأن المسائل الإستراتيجية الأوسع التي تواجه الأمم المتحدة وشركاءها(63).
خاتمة
بيَّنت الدراسة أن هناك تعاونًا وتنسيقًا بين منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية، وليس هناك تنافس أو تنازع في الميدان العملي. وخلصت إلى أن المنظمات الإقليمية تؤدي دورًا محوريًّا في تعزيز التعاون الدولي وحل القضايا المشتركة بين الدول الأعضاء، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني.
ومع ذلك، ثمة تحديات كبيرة في ظل المتغيرات العالمية المتسارعة، بما في ذلك التنافس بين القوى الكبرى، وتغير الأنماط الاقتصادية، وتزايد الأزمات الإقليمية التي تتطلب استجابات سريعة وفعَّالة. وقد أظهرت الدراسة أن قدرة المنظمات الإقليمية على التعامل مع هذه التحديات تتوقف على مدى مرونتها المؤسسية، وتطور أطرها التنظيمية، وقدرتها على بناء شراكات إستراتيجية مع الفاعلين الدوليين، وعلى رأسهم الأمم المتحدة. كما أكدت الدراسة أن العلاقة بين المنظمات الإقليمية والأمم المتحدة تظل عاملًا حاسمًا في تحديد مستقبل هذه الكيانات؛ حيث يمكن أن تسهم هذه العلاقة في تعزيز أدوار المنظمات الإقليمية من خلال الدعم الفني واللوجيستي، والتنسيق في إدارة النزاعات، ودعم برامج التنمية المستدامة. غير أن هذا التعاون يواجه عقبات تتعلق بالاختلاف في الأهداف والأولويات بين المنظمات الإقليمية والأمم المتحدة، فضلًا عن التحديات السياسية التي قد تعرقل فاعلية هذه الشراكات.
وفي ظل المتغيرات العالمية المتسارعة، تَبرز المنظمات الإقليمية فاعلًا أساسيًّا في صياغة النظام الدولي الجديد؛ حيث أصبحت القضايا الإقليمية أكثر تعقيدًا وتداخلًا مع التحديات العالمية. وبينما يمثل التعاون مع الأمم المتحدة فرصة لتعزيز الاستقرار والتنمية، فإن هذا التعاون يطرح في الوقت ذاته تحديات تتعلق بمدى استقلالية المنظمات الإقليمية وقدرتها على رسم سياساتها الخاصة بعيدًا عن التأثيرات الخارجية. ومن هنا، فإن البحث عن آليات توازن بين الاستفادة من الدعم الأممي وتعزيز الاستقلالية يُعدُّ أمرًا ضروريًّا لضمان فاعلية هذه المنظمات في المستقبل. ويرى البعض أن التعاون بين الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية هو ضرورة حتمية، نظرًا إلى تعقيد المشكلات العالمية التي لم يعد في إمكان أي جهة التعامل معها بمفردها. فالأزمات الإنسانية، والتغيرات المناخية، والصراعات المسلحة، وانتشار الأوبئة، كلها تحديات تتطلب تنسيقًا دوليًّا وإقليميًّا متكاملًا. لذلك، فإن الدعم الأممي يمكن أن يعزز من قدرات المنظمات الإقليمية، سواء من حيث التمويل، أو تبادل الخبرات، أو تحسين أنظمة الحوكمة. وفي المقابل، هناك مخاوف من أن يصبح هذا التعاون عبئًا يحد من استقلالية المنظمات الإقليمية؛ حيث قد يؤدي إلى فرض أجندات دولية لا تتماشى بالضرورة مع المصالح الإقليمية.
تطرح قضية الاستقلالية تحديًا كبيرًا أمام المنظمات الإقليمية؛ إذ إن العديد منها ما زال يعتمد بشكل كبير على التمويل الخارجي، سواء من الأمم المتحدة أو من قوى دولية أخرى. يجعل هذا الوضع من الصعب على بعض المنظمات اتخاذ قرارات تتماشى مع أولوياتها الإقليمية دون التأثر بالضغوط الخارجية. ولتحقيق استقلالية حقيقية، ينبغي على المنظمات الإقليمية العمل على تطوير مصادر تمويل ذاتية، مثل إنشاء صناديق استثمار إقليمية أو تعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء. كما أن تعزيز التنسيق بين المنظمات الإقليمية المختلفة قد يكون بديلًا إستراتيجيًّا يتيح لها الاعتماد على قدراتها الذاتية بدلًا من اللجوء إلى الدعم الأممي في كل القضايا.
ومع تقدم التكنولوجيا، أصبح بإمكان المنظمات الإقليمية تبني حلول رقمية تسهم في تحسين كفاءة عملياتها وتعزز من قدرتها على الاستجابة السريعة للأزمات. فالاعتماد على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات يمكن أن يساعد في تطوير سياسات أكثر استنادًا إلى الأدلة؛ مما يسهم في تحسين عملية صنع القرار وتقليل الاعتماد على المؤسسات الدولية. كما أن التحول نحو الحوكمة الرقمية يمكن أن يعزز من الشفافية والمساءلة داخل المنظمات الإقليمية؛ مما يزيد من ثقة الدول الأعضاء في فاعليتها. ومع ذلك، يبقى التساؤل قائمًا حول قدرة هذه المنظمات على الاستثمار في هذه التقنيات، خاصة في ظل محدودية التمويل والقدرات التقنية في بعض الدول الأعضاء.
بناءً على ذلك، توصي الدراسة بضرورة تبني إصلاحات هيكلية داخل المنظمات الإقليمية لتعزيز قدرتها على التعامل مع الأزمات، وزيادة التنسيق بين الدول الأعضاء لضمان استدامة مشاريع التعاون الإقليمي. كما تدعو إلى تطوير آليات أكثر فاعلية للتعاون بين المنظمات الإقليمية والأمم المتحدة، بما يضمن تحقيق تكامل بين الجهود الإقليمية والدولية في مواجهة التحديات العالمية.
إن مستقبل المنظمات الإقليمية يعتمد على قدرتها على التكيف مع التحولات الدولية، وتعزيز الحوكمة الرشيدة، وتطوير سياسات أكثر شمولية تعكس مصالح الدول الأعضاء وتحقق الاستقرار الإقليمي والعالمي. وإن مستقبل المنظمات الإقليمية يعتمد بشكل كبير على قدرتها على التكيف مع التغيرات العالمية، وتطوير إستراتيجيات تضمن تحقيق التوازن بين التعاون الدولي والحفاظ على استقلالية القرار. فمن ناحية، يمكن لهذه المنظمات أن تستفيد من الشراكات مع الأمم المتحدة لتعزيز قدراتها، ومن ناحية أخرى، فإن نجاحها الحقيقي سيعتمد على مدى قدرتها على تطوير هياكلها الداخلية، وتعزيز التكامل الاقتصادي، وحل النزاعات الإقليمية.
يبدو أن العلاقة بين المنظمات الإقليمية والأمم المتحدة ستظل محور نقاش في المستقبل، فهذه المنظمات ستواجه خيارات صعبة بين تعزيز التكامل مع المؤسسات الدولية أو تبني سياسات أكثر استقلالية. وبينما توفر الأمم المتحدة دعمًا مهمًّا للمنظمات الإقليمية، فإن ضمان استدامة هذه المنظمات يتطلب تطوير آليات داخلية أكثر فاعلية، وتعزيز التعاون فيما بينها، والاستفادة من التكنولوجيا في تحسين أدائها. ومن خلال تبني إستراتيجيات متقدمة، يمكن لها أن تصبح لاعبًا رئيسيًّا في تشكيل مستقبل النظام الدولي، بما يسهم في تحقيق نظام عالمي أكثر عدالة واستدامة.
المراجع
(1) Brian Frederking & Paul F. Diehl (eds.), “The Politics of Global Governance: International Organizations in an Interdependent World” (Boulder, CO; London: Lynne Rienner Publishers, 2001), p. 4.
(2) Ian Hurd, “International Organizations: Politics, Law, Practice” (Cambridge: Cambridge University Press, 2024) , p. 7.
(3) David M. Malone, Ian Johnstone & Simon Chesterman, “Law and Practice of the United Nations”, 3rd ed. (Oxford: Oxford University Press, 2019), p. 213; David Snidal et al., “The Power of the Weak and International Organizations,” “The Review of International Organizations”, vol. 19 (2024), p. 13.
(4) David M. Malone, Ian Johnstone & Simon Chesterman, op. cit., pp. 213–215; E.M. Muschik, “Introduction: Towards A Global History of International Organizations and Decolonization,” “Journal of Global History”, vol. 17, no. 2 (2022), p. 174.
(5) “خطة اللاجئين، زيادة متواضعة لأزمة متفاقمة”، جريدة الغد، 13 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 20 يونيو/حزيران 2025)، (https://tinyurl.com/yvwwydm )
(6) M. Bradley & M. Erdilmen, “Is the International Organization for Migration Legitimate? Rights-Talk, Protection Commitments and the Legitimation of IOM,” “Journal of Ethnic and Migration Studies”, vol. 49, no. 9 (2023), pp. 2332–2354.
(7) Brian Frederking & Paul F. Diehl (eds.), op. cit., p. 267.
(8) Linda Fasulo, “An Insider’s Guide to the UN” (New Haven, CT: Yale University Press, 2021).
(9) United Nations, “Charter of the United Nations and Statute of the International Court of Justice” (San Francisco: United Nations Department of Public Information, 1945), p. 26.
(10) A.J. Bellamy, P.D. Williams & S. Griffin, “Understanding Peacekeeping” (Cambridge: Polity Press, 2010), p. 342; J.A. Moore Jr. & J. Pubantz, “The New United Nations: International Organization in the Twenty-first Century” (London & New York: Routledge, 2022).
(11) علي محافظة، “النشأة التاريخية للجامعة العربية”، في: “جامعة الدول العربية: الواقع والطموح” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1983)، ص 52.
(12) المرجع السابق، ص 49.
(13) S. Van Hecke, H. Fuhr & W. Wolfs, “The Politics of Crisis Management by Regional and International Organizations in Fighting Against a Global Pandemic: The Member States at a Crossroads,” “International Review of Administrative Sciences” , vol. 87, no. 3 (2021), p. 677.
(14) John Baylis, James J. Wirtz, & Colin S. Gray, “Strategy in the Contemporary World: An Introduction to Strategic Studies”, 6th ed. (Oxford: Oxford University Press, 2018), p. 85.
(15) L. Fawcett, “Alliances and Regionalism in the Middle East: International Relations of the Middle East”, 4th ed. (Oxford: Oxford University Press, 2016), p. 205.
(16) حسن نافعة، “التنظيم الدولي العالمي بين النظرية والتطبيق” (القاهرة: جامعة القاهرة، 2019)، ص 159-160.
(17) أحمد طاهر الضريبي، “دور المنظمات الإقليمية في النزاعات الداخلية: دور دول مجلس التعاون الخليجي في أزمة البحرين نموذجًا”، سلسلة الإصدارات الخاصة، العدد 37 (الكويت: مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية، 2014)، ص 61.
(18) L. Alan Winters & Maurice W. Schiff, “Regional Cooperation, and the Role of International Organizations and Regional Integration” , vol. 2872 (Washington: World Bank Publications, 2002) , pp. 5-7.
(19) كريم مصلوح، “سياسة الدفاع الأوروبي” (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022)، ص 20-23.
(20) حسن نافعة، مرجع سابق، ص 16.
(21) Mario Telò (ed.), “European Union and New Regionalism: Competing Regionalism and Global Governance in a Post-Hegemonic Era” (Farnham, UK: Ashgate Publishing Ltd., 2014), pp. 3-6.
(22) فراس بورزان، “التنافس الدولي في آسيا الوسطى: هل هي لعبة كبرى جديدة؟”، مركز الجزيرة للدراسات، 5 أكتوبر/تشرين الأول 2022، (تاريخ الدخول: 22 يونيو/حزيران 2025)، https://studies.aljazeera.net/ar/article/5472
(23) داليا عرفات، “التوجه التركي للهيمنة الإقليمية والنهوض الدولي: رؤية تحليلية-تقييمية”، “مجلة السياسة والاقتصاد”، المجلد 16، العدد 15 (2022)، ص 288-344.
(24) سليمان ناصر، “التكتلات الاقتصادية الإقليمية كإستراتيجية لمواجهة تحديات الانضمام إلى المنظمة العالمية للتجارة”، “مجلة الباحث”، العدد 1 (2002)، ص 82-93.
(25) Leland M. Goodrich & David A. Kay, “International Organization: Politics & Process” (Wisconsin: University of Wisconsin Press, 1973) , p. 38.
(26) Mario Telò (ed.) , op. cit., pp. 4-6 & 11.
(27) L. Fawcett & A. Hurrell, “Regionalism in World Politics: Regional Organization and International Order” (Oxford: Oxford University Press, 1995) , pp. 13-17.
(28) أحمد الشقيري، “الأعمال الكاملة”، سلسلة الكتب والدراسات القومية (2)، المجلد 12 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006)، ص 3053-3055.
(29) Michael N. Barnett, “Dialogues in Arab Politics: Negotiations in Regional Order” (New York: Columbia University Press, 1998) , pp. 47-50.
(30) أحمد المالكي، “موقف بريطانيا من تأسيس جامعة الدول العربية 1943-1945″، حوليات آداب عين شمس، المجلد 50، العدد 2 (2022)، ص 27.
(31) H. Haftendorn, R. Keohane & C. Wallender (eds.), “Imperfect Unions: Security Institutions over Time and Space” (Oxford: Oxford University Press, 1999), pp. 13-17, 119-112, 153-155; A. Carrillo Rao & J.P.D. Santana, “Regional Integration and South-South Cooperation in Health in Latin America and the Caribbean,” “Revista Panamericana de Salud Pública”, vol. 32, no. 5 (2012), pp. 368-375.
(32) J. Wesley Scott, “The EU and ‘Wider Europe’: Toward an Alternative Geopolitics of Regional Cooperation?” “Geopolitics”, vol. 10, no. 3 (2005), pp. 429-454.
(33) محمد صالح المسفر ودينا محمد أبو رمان، “المنظمات الدولية: التاريخ، السياسة، الاقتصاد، القانون، الإدارة” (الدوحة: دار نشر جامعة قطر، 2021)، ص 15.
(34) A. Moravcsik, “Why the European Union Strengthens the State: Domestic Politics and International Cooperation” (New York: Princeton University, 1994) , pp. 30-36.
(35) داليا عرفات، مرجع سابق، ص 292-298.
(36) A.M. Bielakowski, “Eisenhower: The First NATO SACEUR,” “War & Society” , vol. 22, no. 2 (2004), pp. 95-108.
(37) سمية كامل حسين وأحمد فاضل جاسم، “المنظمات الإقليمية في بلدان العالم الثالث وأثرها في الإصلاحات السياسية والاقتصادية”، “مجلة جامعة تكريت للحقوق”، المجلد 2، العدد 5 (2010)، ص 15-16.
(38) نايت عبد العزيز نجيب، “دور المنظمات الإقليمية في تسوية النزاعات في إفريقيا-الإيكواس وتسوية النزاع الإيفواري أنموذجًا”، رسالة دكتوراه، جامعة مولود معمري تيزي وزو، الجزائر، 2020، ص 72-75.
(39) سميرة خليفة عبد الله كنيدل، “المنظمات الإقليمية وعلاقتها بالشؤون الدولية”، مجلة القرطاس للعلوم الإنسانية والتطبيقية، المجلد 2، العدد 23 (2023)، ص 12-14.
(40) وهيبة كواشي، “المبادرة الجزائرية في إصلاح المنظمات الإقليمية: الاتحاد الإفريقي نموذجًا 2001-2021″، رسالة دكتوراه، جامعة الجزائر3، كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، 2023، ص 98-102.
(41) أحمد عبيس نعمة الفتلاوى وعلي مؤمل محمد الصدر، “الدبلوماسية الوقائية في ضوء ممارسات المنظمات الإقليمية وغير الحكومية”، “مجلة الكوفة للعلوم القانونية والسياسية”، العدد 38 (2018).
(42) محمود إبراهيم أبو عياش، “المنظمات الإقليمية الآسيوية 1967-2014: منظمة جنوب شرق آسيا (الآسيان) نموذجًا”، رسالة دكتوراه، جامعة القدس، ص 112-115.
(43) محمد براهمي وسامية جلاب، “إسهامات الاتحاد الإفريقي في الحوكمة الأمنية القارية 2001-2018″، رسالة دكتوراه، جامعة العربي تبسي تبسة، الجزائر، 2019، ص 145-148.
(44) علي عواد الشرعة، “الآسيان وتجربة التعاون الإقليمي: دراسة في مقومات التجربة وتحدياتها وإمكانات الاستفادة منها”، “إنسانيات”، العدد 8 (1999)، ص 75-77.
(45) وفاء لطفي، “القوى الآسيوية الصاعدة في النظام الدولي: الهند نموذجًا”، مجلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، المجلد 24، العدد 1 (2023)، ص 231-260.
(46) J.A. Moore Jr. & J. Pubantz, op. cit.
(47) S. Mathias, “Structural Challenges Facing International Organizations: Re-assessing the League of Nations,” “International Community Law Review” , vol. 17, no. 2 (2015) , pp. 127-137.
(48) R.A. Luken, “Greening an International Organization: UNIDO’s Strategic Responses,” “The Review of International Organizations” , vol. 4, no. 2 (2009) , pp. 159-184.
(49) C.C. Ngoepe et al., “A Critical Analysis of the Difficulties Faced by International Organisations within the Context of the Role of the United Nations,” “Africa’s Public Service Delivery and Performance Review” , vol. 7, no. 1 (2019), pp. 1-5.
(50) J.E. Krasno (ed.), “The United Nations: Confronting the Challenges of a Global Society” (Boulder, CO; London: Lynne Rienner Publishers, 2004).
(51) L.L. Martin & B.A. Simmons, “International Organizations and Institutions,” in: “Handbook of International Relations” , vol. 2 (2013), pp. 326-351.
(52) A. Betts, “Regime Complexity and International Organizations: UNHCR as a Challenged Institution,” “Global Governance” , vol. 19, no. 1 (2013), pp. 69-81.
(53) R.W. Stone, “Controlling Institutions: International Organizations and the Global Economy” (Cambridge: Cambridge University Press, 2011) , pp. 45-75.
(54) Fred Harter & Samuel Getachew, “Israel’s Ambassador is Ejected from an African Union Event,” “AP News” , 9/4/2025, at: (https://tinyurl.com/mwhj9udd)
(55) أروى طاهر رضوان، “اللجنة السياسية: الجامعة العربية ودورها في العمل المشترك” (بيروت: دار النهار للنشر والتوزيع، 1973)، ص 235.
(56) J.A. Moore Jr. & J. Pubantz, op. cit., pp. 110-145.
(57) F. Morgenstern, “Legal Problems of International Organizations: Reissue with New Foreword by Jan Klabbers” (Cambridge: Cambridge University Press, 2024) , pp. 220-250.
(58) H. Farrell & A.L. Newman, “The Janus Face of the Liberal International Information Order: When Global Institutions are Self-Undermining,” “International Organization” , vol. 75, no. 2 (2021), pp. 333-358.
(59) Q. Wright, “Problems of Stability and Progress in International Relations” (Berkeley, CA: University of California Press, 2021) , pp. 50-70.
(60) E.B. Haas, “Beyond the Nation-state: Functionalism and International Organization” (UK: ECPR Press, 2024) , pp. 112-145.
(61) M. Louis & L. Maertens, “Why International Organizations Hate Politics: Depoliticizing the World” (London & New York: Routledge, 2021) , p. 222.
(62) بطرس بطرس غالي، “التقرير السنوي عن أعمال المنظمة في عيدها الخمسين” (نيويورك: الأمم المتحدة، 1996)، ص 314-318.
(63) الأمم المتحدة، إدارة الشؤون السياسية وبناء السلام، الشراكات والتعاون، (تاريخ الدخول: 4 يوليو/تموز 2025)، https://dppa.un.org/ar/partnerships-and-cooperation
* أ. د محمد صالح المسفر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة قطر.
*Dr. Muhammad Saleh Almusfir, Professor of Political Science at Qatar University.
