مقدمة

شهدت ميادين العالم العربي منذ نهايات العام 2010 إلى منتصف العام 2018 سلسلة من الاحتجاجات متباينة الشدة، وضعت المُراقبَ أمام مشهد مرَّ بثلاث مراحل؛ أولها: الثورات العربية ذات الطابع السياسي المطالِبة بتغيير جذري يبدأ بإزالة الأنظمة الحاكمة، كما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن وبداية الثورة السورية، تلتها مرحلة من الذهول والترقب لما جرى من انقلاب على ما تحقق للثورات من نتائج، وإراقة غير مسبوقة للدماء في سوريا وليبيا واليمن، ونشهد حاليًّا مرحلة ثالثة من الاحتجاجات ذات الطابع الاقتصادي والمعيشي، ظهرت على شكل مقاطعة للبضائع وإضرابات عن العمل واعتصامات شعبية، في الأردن والمغرب وغيرها من الدول العربية كمصر وموريتانيا والجزائر وتونس.

كان العالم العربي دومًا يموج بالقضايا التي تدفع الشعوب نحو مختلف أشكال الرفض لواقعها المتردي من النواحي كافة، وكانت الحكومات العربية تعتبر أي شكل من أشكال الاحتجاج (مقاطعة، إضراب، اعتصام، ثورة، عصيان مدني، مظاهرة، حراك…) تهديدًا مباشرًا لوجودها، فأقامت أمامها سدودًا منيعة وفرضت عقوبات لمن يقوم بها تراوحت بين الملاحقة والحبس إلى حد التصفية الجسدية.

تغيَّرت هذه المعادلة بشكل لا يمكن إنكاره منذ بداية العقد الحالي، وكانت ثورات الربيع العربي خير شاهد على تحقيق اختراق للسد المنيع الذي حجزت فيه الحكوماتُ الشعوبَ عن الشارع والمجالات العامة، ولسنا هنا بصدد تدارسِ المرحلة الأولى ولا الثانية، ولكننا مهتمون بتناول عودة الاحتجاجات إلى الشارع العربي منتصف العام الحالي بعد فترة خمود نسبي طويلة، وتحديدًا ما شهده الأردن من احتجاجات قوية بدأت بإضراب دعت إليه النقابات المهنية، وتلاها اعتصام الدوار الرابع حيث رئاسة الحكومة، كما أننا لسنا مهتمين بدراسة الحراك الذي جرى في الشوارع والميادين، وإنما بالحراك الرقمي الذي تشهده مواقع التواصل الاجتماعي.

 

تعريف الاحتجاج الرقمي

وفق معجم اللغة العربية المعاصر، فإن “احتجَّ عليه” تعني: عارضه مستنكرًا رافضًا فعله، كمثل قولنا: “احتجَّ الطُّلابُ على رفع مصاريف الدِّراسة”(1). ويُعرَّف الاحتجاج الجماهيري بأنه وسيلة غير مؤسساتية لمحاولة التأثير على السلطة، ومنذ سنوات الستينات للقرن العشرين هناك تغير جذري في قراءة المظاهرات الاحتجاجية؛ إذ أصبح الاحتجاج الجماهيري إحدى الوسائل الشرعية للتأثير واعتُبر جزءًا من حرية التعبير(2).

وحسب موسوعة بريتانيكا، فإن النشاط الرقمي (Digital activism) شكل من أشكال النشاطات التي تستخدم الإنترنت ووسائل الإعلام الرقمية كمنابر رئيسية للتعبئة الجماهيرية والعمل السياسي، في البداية استخدم النشطاء الإنترنت كوسيلة لنشر المعلومات، نظرًا لقدرتها على الوصول الفوري إلى جمهور ضخم عابر للحدود، وتطور استخدام شبكة الإنترنت كموقع احتجاجي يعكس المظاهرات في الشارع ويكثفها، بعض أشكال النشاط الرقمي هي البريد الإلكتروني، وحملات مواقع التواصل الاجتماعي، والاعتصامات الافتراضية، وتهكير المواقع(3).

وعليه؛ ولغايات هذه الدراسة فإن الاحتجاجات الرقمية: شكل من أشكال النشاط الرقمي السلمي باستخدام مواقع

التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر من أجل معارضة الحكومة واستنكار ورفض قراراتها، أو لدعم قضية عامة تشغل المواطنين، ودفع الحكومة للاستجابة لمطالبهم، مستفيدين فيها من خصائص هذه الوسائل في نقل المعلومات، والتشبيك، والسرعة والانتشار.

  1. الإجراءات المنهجية للدراسة

أ- تساؤلات الدراسة 

في الحالة المدروسة هنا، لجأ الأردنيون إلى مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر لرفض مسودة مشروع قانون ضريبة الدخل، واستنكارًا لارتفاع الأسعار، ودفعًا للحكومة إلى محاربة الفساد، وظهرت لهذه الغاية عشرات الصفحات والمجموعات والوسوم (الهاشتاغات)(4).

وعليه، تطرح الدراسة تساؤلات حول:

  • سياقات ظهور الاحتجاجات الرقمية ودينامياتها.
  • دور الاتصال في تشكيل هذه الحركات الاحتجاجية الشبكية.
  • الأشكال التعبيرية للحركات الاحتجاجية والقيم والمعاني التي تنتجها.
  • تحول الوعي والعمل السياسي وآلياته.
  • علاقات الحركات الاحتجاجية بالمؤسسات الرسمية والسلطة، وآفاق هذه الحركات.

 

ب- مجتمع الدراسة وعيِّنته 

تحُول محددات الوقت والإمكانات والمنهج المستخدم، دون التوسع الأفقي وضم عدد كبير من الدول العربية التي شهدت الاحتجاجات الأخيرة إلى مجتمع الدراسة، ولذلك فقد اكتفت بتحديد الحالة الأردنية، لتحقيق غاية الفهم المعمق لما حصل فيها من احتجاجات في منتصف مايو/أيار 2018.

في مثل هذا النوع من البحوث الهادفة إلى الفهم المعمق وليس التعميم، فإنه لا يتم اختيار عينة ممثِّلة وإنما اختيار عينة قصدية غنية بالمعلومات تسمى عينة الحالات النموذجية (Typical case)(5). لهذا، وبعد تحديد السمات النموذجية للعينة القصدية، من حيث كونهم مشاركين فاعلين في الاحتجاجات الرقمية التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي، وكان لهم مشاركة فعلية في الإضراب واعتصام الدوار الرابع منتصف شهر مايو/أيار 2018. تم اختيار ستة شبان(6)؛ ثلاثة منهم ذكور يعملون في مهن مختلفة (الصحافة، والطب، والمحاسبة)، وثلاث إناث يعملن في مجالات الصحافة، وبعضهن يبحثن عن عمل بعد التخرج من الجامعة، أعمار المشاركين في منتصف العشرينات، جميعهم أردنيون يسكنون في العاصمة عَمَّان، ويحملون درجة البكالوريوس في تخصصات علمية مختلفة. وقد وافق جميع المشاركين على إجراء المقابلات وعلى ذكر أسمائهم الصريحة(7).

كما تم اختيار أربع شخصيات من الخبراء والفاعلين ذوي العلاقة المباشرة بالقضية محل الدراسة، وتمكَّنَّا -ضمن حدود الوقت والإمكانيات- من مقابلة المهندس، عبدالهادي الفلاحات، نقيب المهندسين الزراعيين، أحد الأطراف التي اقترحت الدعوة إلى إضراب من خلال النقابات، والسيد وليد عليمات، أحد الناشطين المشهورين في موقع فيسبوك، وأكاديميين مهتمين بالظواهر الاجتماعية ذات الأبعاد الرقمية، وهم: الدكتور علي رحومة، الباحث في الرقمية ومؤلف كتاب “علم الاجتماع الرقمي”، والدكتور عبدالرحمن الشعيري منظور، الكاتب والباحث في العلوم السياسية.

ج- منهج الدراسة

تطمح هذه الدراسة إلى محاولة تقديم إجابات معمقة للتساؤلات المطروحة، من خلال الابتعاد ما أمكن عن مقاربة القضايا نظريًّا، أو إحصائيًّا، والنزول إلى أرض الواقع، واستقراء ما فيه من حالات عايشت الاحتجاجات في الشارع وعلى مواقع التواصل، سعيًا للتعمق في فهمها، واستكشاف مواطن جديدة ربما لم تصل إليها دراسات أخرى عديدة تناولت الاحتجاجات الرقمية بالبحث والتحليل.

تعتمد الدراسة على المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي)، وهو منهج كيفي، وطريقة لوصف الأشياء والمواقف والأحداث الموجودة فعلًا كجزء من العالم الذي نعيش فيه، ينظر المنهج الفينومينولوجي إلى الواقع باعتباره متعدد الأوجه والحقائق، يمكن الوصول إليه وفهمه من خلال استقصاء الخبرات المعيشة لمن شاركوا بالظاهرة محل الدراسة بكامل وعيهم وإرادتهم.

وهي دراسة من نوع الدراسات المايكروسوسيولوجية التي تركز على الخبرات والتفاعلات الفردية في السياقات الاجتماعية، نأمل أن تحمل نتائجها أبعادًا عملية واقعية قد تسهم في تعميق فهم ظاهرة الاحتجاجات الرقمية واستخلاص أفكار جديدة حولها من خلال التعمق في فهم الحالة الأردنية.

ورغم عرضنا المقبل لمفهوم المجال العام عند يورغن هبرماس (Jürgen Habermas)، الذي قدَّمه في إطار نظريته في الفعل التواصلي، كإطار تنظيري محتمل، إلا أن الباحثة ستتجنب الدخول في أية محاولة لتحميل النتائج الثقل النظري المعروض، ولعل سلسلة من الدراسات العربية حول الظاهرة المدروسة، في بقية البلاد، باستخدام المناهج الكيفية، لاسيما المنهج الظاهراتي، ومنهج النظرية المجذرة، تتم فيها المقارنة وفرز الأنماط والعمليات التي تنطوي عليها هذه الظاهرة المهمة، ينشأ عنها إمكانات تنظيرية عربية للحالة الراهنة بعيدًا عن المحاولات المستمرة لإخضاعها للكثير من إرث النظريات الغربية المتداولة حول هذه القضية.

 

د- أدوات الدراسة

أ- حلقة نقاشية شبه مقننة: أجريت الحلقة النقاشية مع ستة شبان بتاريخ 13 أغسطس/آب 2018 في العاصمة الأردنية، عَمَّان، طرحت فيها مجموعة من التساؤلات وقدَّم كل شاب رؤيته النابعة من تجربته الخاصة بالحراك الرقمي والواقعي، خصوصًا في اعتصام الدوار الرابع منتصف شهر مايو/أيار 2018..

ب- المقابلة الشخصية شبه المقننة، تم إجراء مقابلات مع أربع شخصيات: ناشط ونقابي وأكاديمييْن من خلال موقع فيسبوك، حيث تم إرسال مجموعة من الأسئلة لهم، وقاموا بالرد عليها كتابة.

ج- تحليل مضمون منصة #معناش على فيسبوك، لتحري أشكال التعبير التي يستخدمها المحتجون الرقميون للتعبير عن أفكارهم ومواقفهم.

ه- استراتيجية تحليل البيانات

  • جمع البيانات من خلال الأدوات السابقة.
  • تفريغ البيانات حرفيًّا في نصوص مكتوبة.
  • تنظيم البيانات حسب مصادرها وطبيعتها.
  • الانغماس في البيانات من خلال قراءتها أكثر من مرة، وتسجيل الملاحظات.
  • ترميز البيانات وجمع الرموز المتشابهة في فئات.
  • ترتيب الفئات وتحديد الموضوعات المنبثقة.
  • ترتيب الموضوعات في عناوين رئيسية وفرعية.

و- اعتبارات الصدق

لا يهدف البحث الظاهراتي إلى تعميم نتائجه، وإنما إلى التعمق في فهم الظاهرة المدروسة، ولتحقيق ذلك، اتخذت الباحثة مجموعة من الإجراءات:

  • التثليث، من خلال استخدام أكثر من طريقة في جمع البيانات.
  • عرض نسخ التفريغ، والموضوعات المنبثقة من التحليل على أحد الأطراف المشاركة في البحث.
  • تحييد مواقف الباحثة، ووضع خبراتها بين قوسين، وتأجيل النظر في الدراسات السابقة بغية تحري الموضوعية، وعدم انسياق الباحثة باتجاه أفكار مسبقة.
  • تقديم واضح عن المشاركين في الدراسة، ووصف واضح عن إجراءات الدراسة.
  • استخدام الاقتباسات المباشرة من البيانات الكيفية، لدعم التفسيرات التي أجرتها الباحثة، وتم ذكر الاقتباسات حرفيًّا كما أوردها المشاركون في الحلقة النقاشية، لأنها اللغة المنطوقة التي يعيش ويفكر ويتفاعل بها المشاركون، وتشير إلى التعبير العفوي عن الصور الذهنية المرتبطة بموضوع الحديث، وما فيها من دلالات رمزية ثقافية، وخشية تحميلها عبء الدلالات اللغوية الفصيحة، بما يُعَظِّم من إمكانية التشويش الدلالي الذي قد يحصل أثناء تفسير البيانات.

 

  1. الاحتجاجات الرقمية: ممهدات الوعي ودوافع الفعل

الشكل رقم (1) يظهر ممهدات تشكُّل الوعي السياسي وتحوُّلها إلى فعل احتجاجي

الاحتجاجات من حيث هي فعل، لا يمكن في طبيعتها أن تنشأ إلا عن فكر واع، تصحبه مجموعة من الممهدات الموضوعية والذاتية، وقد أبان تحليلُ البياناتِ الكيفيةِ عدمَ القدرة على تجاهل جذور الظاهرة المتصلة بقضيتين أساسيتين لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى، تتعلقان بالظروف الموضوعية والذاتية التي مهدت لتشكُّل مستوى الوعي اللازم لإنتاج فعل الاحتجاجات في الشارع العربي والأردني تحديدًا، بشكليها الرقمي والواقعي؛ الأولى: تأثُّر الجيل الجديد من المحتجين بلحظة تفجُّر الثورات العربية، والثانية: نشأتهم في بيئة رقمية منذ نعومة أظفارهم، جعلت من تقنياتها وسيلتهم الأقوى للتواصل والتشبيك والمعرفة، وكلتا هاتين النقطتين لا تنفصلان كذلك عن حالة فريدة ومعقدة من أشكال الوعي المتراكم بفعل مرور الوقت، والخبرات، والصدمات.

أ- ثورات الربيع العربي: شرارة الوعي

لم تكفَّ الشعوب العربية يومًا عن التململ، ولكن ما حدث في 2011 شكَّل انعطافة سياسية واجتماعية كبيرة، ليس على مستوى تغيير الأنظمة وحسب، بل في تغيير وعي جيل كامل من الشباب تجاه مجتمعاتهم وقضايا أمتهم المصيرية، إنه لا يمكن بأية حال من الأحوال القول: إن العالم العربي قبل تلك الثورات هو العالم العربي بعدها.

يقرُّ الشباب المحتجون الرقميون الذين تمت مقابلتهم بغياب أي وعي سياسي لديهم قبل العام 2011، ولا يذكرون كثيرًا حرب الخليج وغزو العراق، إلا بما التقطته أذهانهم من أحاديث الأهل والأقارب، ولم يكن لديهم أي نشاط سياسي بفعل العمر والاهتمامات المنصبة على التسلية عبر مواقع التواصل وتطبيقات الإنترنت، فجاءت الثورات العربية وجاءت معها يقظة تجاه قضايا لم تكن ضمن أولوياتهم المعتادة.

كان لمتابعة الشباب مجريات الثورات العربية في مصر وتونس من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وبالذات فيسبوك فضلًا عن قناة الجزيرة، دور في تشكيل ذواتهم وأفكارهم السياسية، يقول مجد: “إحنا كـ جيل العشرينات، كثير مُتأثِّرين بـ الربيع العربي، وثورة مصر، هاي الثورة تابعتها على الجزيرة، وعلى مواقع السوشيال ميديا، هدول كانوا المكانين إلِّي شكَّلوا جزء كبير من ذاتي، أو كيفية تفكيري السياسي بالأمور.

يصف علي لحظة نجاح الثورة المصرية بأنها “لحظة خرافية” بالنسبة لنا كشباب، وما زال يذكر كيف تأثر بكلمات الثورة التونسية الخالدة “بن علي هرب”، ولجؤوا إلى الإنترنت للإجابة على التساؤلات التي كانت تدور بأذهانهم، علي: “نحن مش فاهمين، ولا منعرف مين بن علي، وصرنا ندور متى حَكَم؟ وقديش قعد؟ وليش الناس هيك سوَّت؟ يعني في إشي بتحرَّك داخلك“.

 

ب- الوعي التراكمي: تبعات الربيع العربي في الأردن

شهد الشارع الأردني قبيل الربيع العربي حراكات عُرفت بحراك المعلمين والمتقاعدين العسكريين، وكان لشيوع الإنترنت آنذاك دور في نشر مطالبهم والتفاعل معها شعبيًّا على مدى واسع، وبعد الربيع العربي، تبلورت حركة ما يسمى 24 مارس/آذار، وشهدت المدن الأردنية، ولاسيما العاصمة، سلسلة احتجاجات سلمية، يقول الشباب: إن مواقع التواصل الاجتماعي كانت نقطة التحشيد الأولى لها ولاسيما موقعا فيسبوك وتويتر، حسين: “كان فيسبوك وتويتر هي الوسيلة الوحيدة إلِّي بتجمعنا“. منذ عام 2011 وحتى اليوم(8)، دفعهم التحشيد الرقمي نحو الانعتاق مما كبَّل أجيالًا قبلهم كانوا أسرى مقولات تعكس أجواء التخويف والترهيب من بطش السلطة إذا عبَّرت في السياسة عن موقف أو رأي. يتحدث الشباب عن موقف أهاليهم المحبِّط عمومًا تجاه المشاركة في أي نشاط من هذا النوع، خوفًا عليهم من مستقبل قد يُرهن بالاعتقال أو التضييق، يقول مجد: “كانت القبضة الأمنية للدولة كثير شديدة، وأهلي كانوا مشدِّدين عليَّ أكثر، بس كنت عايش الجو من خلال السوشيال ميديا، فالسوشيال ميديا كانت تخلِّي الارتباط تبعك بالشارع واقع“. وربما كان موقف الأهل هذا يعبِّر عن يأس من قدرة هؤلاء الأبناء على التغيير، علي: “كانوا يعتبروني مجنون بالعيلة. إنّه ليش بتحكي؟ ليش بتكتب؟ شو مستفيد إنتَ أصلًا؟”.

 

ج- الوعي بالصدمة: العنف وخلق الشعور بالانتماء

في أول مواجهة مباشرة منذ وقت بعيد بين السلطة والشعب، كانت لحظة الرابع عشر من مارس/آذار 2011، بمثابة صدمة للشعب انهارت معها حدود الوهم المرسومة بينهما، وكانت المواجهة قاسية وعنيفة لكثير من الشباب لدرجة أنها شكَّلت صدمة تشكَّل معها نوع جديد من الوعي يمكن أن نسميه “الوعي بالصدمة”، تقول لين: كانت الصدمة بآذار، الدرك لأول مرة بتشوفه، كان بيعتدي عالبنات، كان في وحشية شوي من بعض أفراده، ما عم بحكي نهج“، لكن تلك الصدمة التي خلقها الصدام مع السلطة، نتج عنه تفجُّر مشاعر مخنوقة تجاه الوطن، لقد خلق الصدام حالة شعورية جديدة تجاه الوطن والانتماء له والتضحية لأجله، لين: “بجوز هاد أول شعور تولّد عنّا بإنّه البلد هاي إلنا. قبليها كنت بتحسّ حالك يا عم تطفو عالسطح، يا بدي أهاجر، يا بدي أطلع. يعني الصدام هو الّي خلق شعور “الانتماء”. يعني صار في خناق عالبلد. آه صرنا عم نتخانق عالبلد.

د- 2014-2018: خمول في الشارع واستمرار في الحراك الإلكتروني

كان لمواجهة حراك 24 مارس/آذار بالعنف والملاحقة أثر كبير في إحباط الشارع الأردني، حصل ذلك بالتوازي مع أحداث مأساوية على صعيد الثورة المصرية والليبية والسورية، فما جرى هناك من انقلابات عسكرية، وحرف المسار السلمي تجاه سفك الدماء والتهجير، وتنازع الناس حول موقفهم مما يجري في سوريا، كل ذلك وغيره أدى إلى حالة من اليأس والخمود، وجُعلت التجربة السورية شبحًا تخيف به الحكوماتُ شعوبها إذا هي فكَّرت بالنزول مرة أخرى، فأقرَّت “قانون الجرائم الإلكترونية”، ولاحقت الكثير من الحراكيين، يعبِّر علي عن تلك الفترة: “بعد 2011، خفّ نزول الناس عالشارع، شافت إنّه ما في فايدة كثير، بس ضلّت تعبّر عن مشاعرها عالفيسبوك وعلى تويتر وعالسوشيال ميديا“. وكان لمواصلة الاحتجاج عبر منصات التواصل الاجتماعي دور عظيم في توليد الزخم المطلوب لنجاح إضراب 30 مايو/أيار واعتصامات الدوار الرابع منتصف العام 2018.

في حين أجمع المشاركون في عينة النشطاء والخبراء على الدور الكبير الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي في تشكيل وعي الشعوب العربية وتقديم آليات جديدة للفعل السياسي، يرى علي رحومة أن مواقع التواصل “لم تصل لدرجة تحول الوعي الفاعل بقوة والعمل السياسي وآلياته إلا بدرجات قليلة سمحت ربما بتجاوز حاجز الخوف، وأطلقت الخوف المكبوت، بقدر ما، وسمحت بمستوى من الجرأة والمران الديمقراطي إلكترونيًّا”، ولكنه عبَّر عن تفاؤله بتأثيرها الحقيقي على مستوى وعي الشعوب مع تنامي التجربة بين المستخدمين العرب.

ه- احتجاجات الدوار الرابع، وإضراب 30 مايو/أيار

عبَّر الأردنيون عن موقفهم الرافض لمشروع قانون ضريبة الدخل الذي جاء بعد سلسلة إجراءات اقتصادية قاسية وغير واضحة تخص تسعير النفط والكهرباء ورفع الدعم عن الخبز وغيرها من موجات الغلاء المتلاحقة، فضلًا عن ملفات الفساد والتهرُّب الضريبي المقدر بالملايين. ساعَدَ تبني النقابات المهنية الأردنية لموقف الإضراب الذي أعلنت عنه في 30 مايو/أيار، تنظيم اعتصام شعبي على الدوار الرابع حيث رئاسة الوزراء، حُشِد له من خلال حراك رقمي واسع جدًّا، ظهر بعدة وسوم وعناوين عديدة، أهمها #إضراب_الأردن، #الدوار_ الرابع، #معناش وغيرها. وقد نجحت الاحتجاجات بكافة أشكالها في تغيير حكومة الملقي، وتعيين عمر الرزاز المقبول شعبيًّا وفق مجموعة من المؤشرات، ثم قيام الأخير بسحب مشروع القانون.

و- نشأة جيل الاحتجاجات في بيئة رقمية

 

الشكل رقم (2) يبيِّن مواقع التواصل في حياة الشباب

يتحدث الشباب المشاركون في الحلقة النقاشية عن الإنترنت وتطبيقاتها التواصلية، وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها جزءًا مهمًّا من حياتهم، وأداة أساسية في تنشئتهم، كبروا معها وأسهمت في صياغة عوالمهم ومعارفهم وطرق تفكيرهم. عبَّرت لين عن ذلك بقولها: “هاي الوسيلة إحنا كبرنا معها، إحنا من زمان عالفيسبوك، بالـ 2009، كلنا كبرنا معه، وبلّشنا نغير الطريقة ونغير الاهتمام، كلياتنا ساهمنا بتشكيل وعي بعض أو بطريقة تفكير بعض أو بشخصيات بعض“.

واستفادوا من خصائصها في البحث والتشبيك والتواصل والتأثير في مدى أوسع من نطاقاتهم المحدودة جغرافيًّا، ويؤكدون أن مواقع التواصل هي وسيلتهم الأهم والأقرب إلى قلوبهم لمتابعة الأحداث والمستجدات، يتساءل مجد: “مين بتابع الجرايد هلا فينا؟ يعني أنا ما بعتمدش بالأخبار إلّا عالسوشال ميديا، حتى وسائل الإعلام زي الجزيرة وجريدة الغد صاروا يجاروا السوشال ميديا، مش العكس، يعني صرت أفوت عالجزيرة من خلال الأكاونت تبعها على الفيسبوك أو تويتر مش العكس“. ونتج عن اندماج الشباب المبكر بمواقع التواصل الاجتماعي، رغبة ملحَّة وطبيعية في المشاركة في العمل العام، فاستخدمها الشباب لعرض مبادرتهم، وأعمالهم.

كما أتاحت مواقع التواصل للشباب متابعة كثير من القضايا المحلية والعربية والعالمية، وأدركوا أن الاهتمام بالسياسة والانخراط في قضاياها لا يعني بالضرورة النزول إلى الشارع، فكثير من الموضوعات التي طرحت على مواقع التواصل الاجتماعي، تم التعامل معها رسميًّا، وكان لها تأثير على مجرى الأحداث بعد ذلك، وكان هذا دافعًا لهم لزيادة وعيهم السياسي من خلال تكثيف القراءة والبحث عن المعلومة الصحيحة.

كان لتعرض الشباب لمجريات الكثير من الأحداث من حولهم، دور في زيادة حساسيتهم تجاه المعاني المتضمنة في المعلومات المتداولة، رغدة: “الّي وسّع مداركي أكتر عالسوشال ميديا، صار إنّه الّي بطرح معلومة يحكي عنما وراء المعلومة، الشباب صار متعطّش أكثر. يعني شوي شوي صرنا ناخد ما وراء الخبر، الشباب صار يبحث أكثر، صار بدّو يعرف أكثر“. ويؤكد الشباب أن مواقع التواصل كانت أداة قوية في يد الشباب للبحث والتأكد من صحة المعلومات، روان: “صار في تشكيك دائمًا بصحّة المعلومة حتى يثبت العكس“.

وربما هذا النوع من العلاقة بين الجيل الجديد من الشباب ومواقع التواصل بحاجة إلى مزيد من الدراسة لفهم الكيفية التي تصوغ فيها التقنية الرقمية وعي الشباب واهتماماتهم وقيمهم وفهمهم للعالم والحياة، وتوجه أفعالهم وسلوكياتهم، وبالطبع نحن لا نتحدث عن إيجابيات التقنية وسلبياتها، وإنما عن كونها أصبحت أداة أساسية بيد جيل كامل من الشباب تتجاذبه تقنيات غرست فيه الجرأة والاستقلال والانفتاح، وبين واقع يكبح فيه كل ذلك.

ز- دوافع المشاركة بالاحتجاجات

عبَّر الشباب عن مجموعة من الدوافع الذاتية والموضوعية التي جعلتهم ينشطون في مجال الاحتجاج بأشكاله الرقمية والواقعية.

الشكل رقم (3) يوضح الدوافع الذاتية والموضوعية للمشاركة في الاحتجاجات الرقمية

  1. دوافع ذاتية:

– القلق من المستقبل الغامض الذي ينتظرهم في ظل أوضاع متدهورة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، تقول لين: “أنا بضل قلقانة بمستقبلي، طب هل الإشي الي أنا بحبه رح أقدر أعمله بالبلد؟، حسين: “أنا بفكّر بنظرة مستدامة، هل أنا رح أبقى على حالي؟”، وبالتالي رغبتهم في صياغة مستقبلهم وتقرير مصيرهم.

– حب الوطن والدفاع عنه من أجل البقاء فيه، ورغبتهم بالاستمرار والاستقرار، دفعًا لفكرة الهجرة التي أصبحت تراودهم كثيرًا، كآخر وسيلة للخلاص. رغدة: “إحنا عم منحارب لنضلّ فيها، فعليًّا عم منجاهد لنكون موجودين“. لين: “أنا وياكم محتاجين البلد، بدنا نعيش مع بعض“.

– رغبة الشباب بالمساهمة في صنع القرار، لاعتقادهم أن الإنسان لم يُخلَق للأكل والشرب فقط، وإنما للتفكير والعمل السياسي ويستشهد الشباب بمقولة: “الإنسان حيوان سياسي“، فما يميز الإنسان العمل العام، والمشاركة بصنع مستقبله.

– الشعور بعدم الجدوى، فهناك الكثير ممن تعلم وحصل على شهادة جامعية ثم لا يجد وظيفة تتناسب مع تخصصه، ثم إذا وجد الوظيفة فإنه يشعر أنها لا تحقق له الحد الأدنى من الحياة الكريمة؛ لين: ” البلد ما عم تستوعبني، وما تحتويني وأنا ببداية عمري“. وحتى عند العاملين، رغدة: “أنا بهالشغل، حاسة حالي باخد هالراتب، وأنا زي ما أنا، ما في إشي جديد”.

  1. دوافع موضوعية:

– نمط الحكم السياسي، ويوضح عبد الرحمن منظور هذه النقطة “تغول الاستبداد والسلطوية في نمط الحكم السياسي، الذي عمل على خنق كل المساحات المستقلة للفعل السياسي والمدني، عبر آليات المنع من الحق في التنظيم وتأسيس الأحزاب والتضييق الأمني والقضائي على الجمعيات والشخصيات المعارضة“، وشاركه في ذلك عبد الهادي الفلاحات.

– غياب الإعلام الحر، وميل الموجود لخدمة مصالح السلطة، دفعهم للمشاركة في الاحتجاجات الرقمية التي توضح للناس كثيرًا من الحقائق التي لا تعرضها القنوات الرسمية، وهذا ما يراه المهندس عبد الهادي الفلاحات، نقيب المهندسين الزراعيين، في رؤيته حول دوافع استخدام منصات التواصل الرقمية: “كسرت مواقع التواصل الاجتماعي حاجز الحدود بين شعوب الأقطار العربية بعد أن كانت مغلقة بفعل الممارسات لهذه الأنظمة وقدرتها سابقًاعلى  التحكم بالمعلومة سواء حجبها أو فلترتها وتوجيهها بما يخدم مصالحها، ومحاولتها لتشكيل رأي عام يدعم سياستها من خلال التحكم بوسائل الإعلام الرسمية التقليدية والتلفزيون والصحف الورقية“.

– الفساد الظاهر والخفي المستشري في البلد، وعدم اتخاذ خطوات جادة لمحاربته والقضاء عليه، مما يحرمهم من الحصول على حقهم بحياة كريمة في وطنهم، وتسهم مواقع التواصل في فضح كثير من ملفات الفساد المسكوت عنها.

– توجيه رسائل للمسؤولين الذين يعيشون في حالة انفصال عن الواقع، بسبب عدم قيامهم بمسؤولياتهم، رغدة: “إنتَ فوق، إنتَ مش شايف الي تحت، لا انزل شوي تحت في ناس بموتوا من الجوع“.

– البطالة، وعدم المساواة في الحصول على فرص العمل. الغلاء الفاحش وتدهور الوضع الاقتصادي للطبقة الوسطى. حسين: “احنا الطبقة الوسطى، شوي شوي قاعدة بتتمزّع، عالقروض عايشين كلياتنا“. رغدة: “الطبقة الي فوق مش شايفة الناس الِّي تحت، نهائيًا... النظام مستفيد من تآكل الطبقة الوسطى“.

– انتشار الفقر والدفاع عن حق الشعب في حياة كريمة، والشعور التكافلي مع الفقراء والمسحوقين في البلد، مجد: “جزء من واجبي بهاد العالم، إحنا بس ندافع عن الفقراء مندافع عن حالنا بنهاية الأمر، مهو لو خربت البلد أنا برضه بتضرر“.

 

  1. الاحتجاجات الرقمية: آليات العمل في فضاء غير محدود

أبان استقراء البيانات الكيفية والبحث في موقع فيسبوك، وتحليل منصة #معناش الرقمية على فيسبوك، عن عدد من الموضوعات المهمة حول ظاهرة الاحتجاجات الرقمية في نسختها الأردنية.

أ- منصات التواصل المفضلة لتنظيم الاحتجاجات: فيسبوك أم تويتر؟

يُلاحظ أن الشعب الأردني فيسبوكي بالدرجة الأولى، وتؤكد الاحصائيات أن 72% من الأردنيين يستخدمون فيسبوك، مقابل نحو 3% يستخدمون تويتر(9). ويمكن إحالة ذلك إلى الأسباب التالية:

– ظهور فيسبوك قبل تويتر، أدى إلى إقبال المستخدمين عليه وتعودهم عليه، فقد ظهر الأول في العام 2004، وصدرت نسخته العربية 2009، بينما ظهر تويتر في 2006، وبدأ بدعم اللغات التي تكتب من اليمين إلى اليسار ومنها العربية في العام 2012(10)، وأصبح فيسبوك بمثابة أعرض شبكة علاقات اجتماعية أردنية رقمية.

– رغبة الأردنيين بالكتابة دون قيود تتعلق بحجم الكتابة كما هو في تويتر.

– يدرك المستخدمون أن الرسائل والتعليقات تصل أسرع إلى المسؤولين من خلال موقع تويتر حيث يوجد أغلبهم هناك، إلا أن فيسبوك يبقى موقع عامة الشعب المفضل لديهم، الذي أصبح بمثابة خزان للذاكرة الأردنية الحديثة.

– طبيعة تويتر المنفِّرة، التي تجعل كل شيء معروضًا أمام الجميع، بينما بإمكان مستخدمي فيسبوك اختيار المجموعة التي تطلع على منشورات المستخدمين.

ورغم ذلك، يعتقد كثير من الشباب المشاركين في الاحتجاجات الرقمية أن تويتر أفضل من فيسبوك لغايات الاحتجاج، للأسباب التالية:

– تغريدات تويتر ليس لها حدود وجمهورها مفتوح.

– تفرز خاصية الانفتاح على تغريدات تويتر حالة أقوى من التواصل والتشبيك.

– سرعة نقل المعلومات والأخبار إلى عدد غير محدود من الجمهور.

– يمكن لأي شخص أن يعلق على التغريدة حتى لو لم يكن أحد متابعيك.

– تغريدات تويتر تعطيك الخلاصة ولا ترهق القارئ في قراءة نصوص طويلة.

– جمهور تويتر نخبوي وشبابي وجاد أكثر في طرح القضايا واقتراحات علاجها، بعكس فيسبوك ذي الطابع الشعبي والعائلي.

بدأ كثير من الأردنيين يهاجرون إلى تويتر لاعتقادهم أنه أكثر فاعلية في إيصال رأيهم وصوتهم إلى المسؤولين، وفي التحشيد لقضايا مهمة. ورغم ذلك، تلاحظ الباحثة أن الأردنيين لم يتقنوا فن التحشيد الإلكتروني بعد على موقع تويتر، بسبب زهدهم باستخدام خاصية الوسوم التي تجمع الناس حول القضايا التي تهمهم، فكثيرًا ما كان المستخدمون يتحدثون بكثافة عن قضية مهمة تدور في البلد، إلا أنها لا تظهر على قائمة الموضوعات المتصدرة في الأردن.

ب- أنواع الاحتجاجات الرقمية

تُنبئ نتائج البحث عن كلمات مثل (إضراب، احتجاج، اعتصام، ثورة، مقاطعة، فساد…) عبر موقع فيسبوك عن حجم استخدام هذا الموقع في الاحتجاج الرقمي على عدد كبير جدًّا من القضايا العامة التي تقلق الشارع العربي. ويتبيَّن من خلال النظر في تلك النتائج إلى إمكان تصنيفها إلى أنواع متعددة، وفقًا لمجموعة من الاعتبارات.

  1. الاحتجاجات الرقمية من حيث موضوعاتها:

– الاحتجاجات ذات الطابع السياسي: بدأ هذا النوع من الاحتجاج مع بداية الربيع العربي، واستمرت أشكال الاحتجاج الإلكتروني على قضايا سياسية عديدة، مثل نتائج الانتخابات والتزوير، وقضايا القوانين المجحفة، ومخالفة الدستور، والفساد بكافة أشكاله، والملاحقات القضائية للشباب الناشط، وقضايا العلاقات مع إسرائيل، وقضايا العدالة والحرية، وحقوق الفئات المختلفة من الشعب، كما ظهرت صفحات تطالب بالإضراب والمقاطعة والعصيان المدني في أكثر من دولة عربية.

– الاحتجاجات ذات الطابع الاقتصادي/المعاشي: وهي ما شهدته البلاد العربية في العام 2018 من إضرابات ومقاطعات لعديد من المنتجات احتجاجًا على ارتفاع الأسعار والضرائب وقوانين ضريبة الدخل وغيرها. رافق هذه الاحتجاجات وهيَّأ لها مجموعة من الوسوم على تويتر وفيسبوك وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي.

– الاحتجاجات ذات الطابع الطلابي: كالاحتجاجات على رفع الرسوم، وطرد الأساتذة، وتغيير المناهج، وأحداث العنف الجامعي، والظلم في التعيينات، وغيرها الكثير، وكان لمواقع التواصل الاجتماعي دور كبير في إنجاحها من حيث التنظيم والتحشيد وتبادل الأفكار بشأنها، وكان لها تأثير في تغيير بعض القرارات الخاصة برفع الرسوم الجامعية، أو حرمان طلاب من الامتحان بسبب الغياب، وغيرها. وهذا ما أشار له الشباب من خلال الحلقة النقاشية، فاحتجاجاتهم ليست بالضرورة سياسية، ولكن قد تكون طلابية كذلك، مجد: “السوشال ميديا ساهمت جدًّا في إنجاح العديد من الاحتجاجات الّي صارت جُوّا الجامعة“.

– الاحتجاجات ذات الطابع الديني والاجتماعي: تُظهر مواقع التواصل الاجتماعي احتجاجات على قضايا ذات طابع اجتماعي تتعلق بالتعليم والصحة، ونقص الخدمات، وقروض المرأة، وغيرها لها علاقة بقضايا الأسرة والفقر والبطالة. كما توجد احتجاجات ذات طابع ديني، تدور حول قضايا الحجاب، والقنوات الدينية، والفكر المتطرف، والماسونية، وغيرها الكثير من القضايا.

  1. الاحتجاجات الرقمية من حيث انتقالها إلى أرض الواقع وإحداثها أثرًا:

يلاحظ أن الاحتجاجات الرقمية تتفاوت فيما بينها من حيث انتقالها إلى أرض الواقع، ومن حيث إحداثها أثرًا، على النحو التالي:

– احتجاجات على مواقع التواصل لم تلق استجابة: تزخر مواقع التواصل الاجتماعي بالعشرات من الصفحات والمجموعات والوسوم التي حملت قضية عامة إلى مستخدمي مواقع التواصل ودار حولها كثير من النقاش والتفاعل، لكنها اختفت وَخَبَتْ دون أن يكون لها أي أثر على أرض الواقع، ولم تصل أصواتها إلى المسؤولين، أو أنهم تجاهلوها، وعادة ما تكون هذه الاحتجاجات ذات طابع خاص ببعض الجماعات أو المهن، مثل صفحة: (الأردن أمي وجنسيتها حقي) للمطالبة بتجنيس أبناء الأردنيات.

– احتجاجات على مواقع التواصل لم تنزل إلى الشارع وجدت استجابة: هناك احتجاجات رقمية تبقى في مواقع التواصل الاجتماعي ويتم الاستجابة لها من قبل المسؤولين دون اضطرار أصحابها إلى النزول إلى الشارع. وعادة ما تكون هذه الحالات محدودة وخاصة بأحداث يومية، فعندما تداول المستخدمون لمواقع التواصل حادثة اعتداء أحد مستشاري الملك على سائق باص، تمت إقالته من منصبه، كما أسفر احتجاج الناس رقميًّا على رفض وزير الداخلية إقامة ندوة حول قانون الضريبة، عن تدخل رئيس الوزراء وسماحه لهم بإقامة الندوة.

– احتجاجات رقمية انتقلت إلى أرض الواقع بدون أن تحدث أثرًا: بعض الاحتجاجات حملت قضايا كبيرة تطالب بتغيير النهج السياسي المتبع في إدارة الدولة، وجدت لها فضاء رقميًّا وطولب فيها من خلال الشارع، لكن لم تلق أي استجابة من مثل: صفحة “الملكية الدستورية” على فيسبوك، وهاشتاغ #الشعب_يطالب_بالكشف_عن_الفاسدين على التويتر.

– احتجاجات رقمية انتقلت إلى أرض الواقع وأحدثت أثرًا: بعض الاحتجاجات القليلة بدأت من خلال مواقع التواصل ثم نزلت إلى أرض الواقع وأحدثت أثرًا واستجابة من قبل المسؤولين، ومن الأمثلة عليها صفحة: “الحملة الوطنية لحماية غابات برقش من الإعدام”، كما تقع ضمن هذه الفئة جميع الصفحات والمجموعات والوسوم التي حملت اسم الدوار الرابع، حيث استجاب الناس بشكل كبير لدعوات الاعتصام على الرابع من أجل إقالة رئيس الوزراء وإلغاء مشروع قانون الضريبة.

 

ج- الوسائل الرقمية والأشكال التعبيرية للحركات الاحتجاجية

يستخدم محتجو مواقع التواصل وسائل رقمية متنوعة لنقل المعلومات والتعبير عن أفكارهم حول القضايا محل الاحتجاج، ويمكن تصنيفها كالآتي(11):

– نصوص مكتوبة أو مصورة.

– صور واقعية أو تعبيرية.

– أفلام مسجلة أو مدبلجة أو منتجة خصيصًا لقضية الاحتجاج.

– روابط افتراضية.

– الرسوم التعبيرية الكرتونية.

– البث المباشر لمجريات الأحداث على أرض الواقع.

د- مضامين الوسائل الرقمية المستخدمة في الاحتجاجات الرقمية: متنوعة ومتداخلة

– مضامين ساخرة: النكات والسخرية والاستهزاء، تناقل هفوات المسؤولين، وزلات ألسنتهم، والمواقف المحرجة، والتناقضات التي يظهرونها.

– مضامين علمية: وسرد الحقائق والتوضيحات، وشرح بعض نصوص القوانين المتعلقة بجوانب قريبة أو بعيدة عن موضوع الاحتجاج.

– مضامين تشبيكية وتواصلية: كالربط مع أطراف ذات علاقة من خلال صفحاتهم على مواقع التواصل، وتبادل للمنشورات عبر مواقع التواصل الأخرى، وأحيانًا تظهر منشورات تهاجم الصفحة ويتم الرد على أصحاب الهجوم.

– مضامين مسرَّبة: وثائق حول الفساد، وكتب رسمية مسرَّبة، وأفلام مسجلة لجلسات رسمية وشخصية.

– مضامين إعلامية: عرض تصريحات المسؤولين، وتسجيلات من الميدان، وترجمات لما يُكتب عن القضية من مواقع أجنبية، وأخبار لاحتجاجات شبيهة من دول أخرى، والمقالات التي تُكتب عن الاحتجاج في الصحف المحلية.

– مضامين فنية وإبداعية: نشر الأغاني الوطنية، والرسومات، والأشعار والخواطر حول موضوعات ذات صلة بقضية الاحتجاج، والأفلام المدبلجة، وأغاني أُنتجت خصيصًا لغاية الاحتجاج(12).

– مضامين تنظيمية: والبيانات الصادرة عن الجهات المنظمة أو الداعمة، وتنظيم زيارات للمصابين من الشعب أو الدرك، وتنظيم حملات مقاطعة لبرامج تلفازية أساءت للحراك، ومشاركة حملات شعبية حول قضية تعني فئات معينة، مثل فئات المساجين والمعتقلين.

– مضامين استطلاعية: استطلاعات للرأي العام حول إجراء أو خطوة تصعيدية، ونتائج استطلاعات ودراسات حول الموضوع، ومنشورات تطلب الرأي والمشورة من خلال النقاش، واستفتاءات حول تقديم الثقة بالحكومات، ودعوات شعبية للحكومة بتبني مطالب معينة مثل العفو العام، وتصويتات لقياس الرأي العام حول موضوعات مهمة، والحوار بين الأطراف المشاركة بالنقاش وآراء حول أداء الوزراء وشخصياتهم.

– مضامين إخبارية: الإعلان عن فعاليات قادمة، وتهاني ومباركات بأي إنجاز على أرض الواقع ناتج عن الاحتجاج القائم، وضع المتابعين بصورة التطورات ميدانيًّا، والإعلان عن اختراقات تحصل للصفحة أو الإعلان عن الانتقال إلى صفحات جديدة، وآراء الخبراء والمختصين حول القضية محل الاحتجاج، والبيانات الصادرة عن العشائر أو عائلات أشخاص برزوا في الاحتجاجات سلبًا أو إيجابًا.

– مضامين توعوية: إبراز التناقضات بين تصريحات الرسمية الصادرة عن جهات حكومية، وانتقادات لأداء الحكومة والمسؤولين حول بعض الموضوعات، وتنبيهات على إساءة استخدام الصفحة أو الإخلال بأدبيات وتساؤلات حول موضوعات غامضة وغير منطقية، واستذكار لأحداث تاريخية ومواقف سابقة.

– مضامين تحفيزية: دعوات بث روح الحماس والاستمرار في الاحتجاج، والتأكيد على حقوق الشعب.

 

ه- آلية العمل: “اجتماع دائم وجدول أعمال غير منته”

للاحتجاج عبر مواقع التواصل الاجتماعي آليات عمل تختلف عن تلك التي تحدث في الشارع، ويمكن تلخيصها وفق الخطوات التالية:

– التدفق المستمر والآني للمعلومات والقضايا العامة، وكما يرى حسين “كل 5 دقائق بطلعلك قصّة والكل مجتمعين وقاعدين بسولفوا“؛ الأمر الذي يجعلها موضوعًا للحديث والنقاش، وهذا النقاش يفرز القضايا من جهة أهميتها وخطورتها، وينشئ شبكة علاقات حولها من المهتمين.

– أرضية للحشد والتعارف حول القضايا العامة، وتعارف الشباب وتجمعهم من خلال مواقع التواصل منذ 2011، كثير من الشبان ذوي الأفكار والاهتمامات المشتركة تعارفوا على بعض من خلال مواقع التواصل. علي: “أنا ما بعرفهم غير من السوشال ميديا بشكل أساسي، شفنا بعض هناك والتقينا في الرابع“.

– دفع جدار الحصار المفروض على حرية التعبير وفتحه وتطويره بشكل تلقائي. ويضع الشباب في أجواء محببة للاحتجاجات، مجد: “يعني السوشال ميديا والجو الّي صار عليها هو الي خلّاني أنزل، تمامًا هيك الّي صار“.

– ينشأ عن التحشيد أفكار عديدة، ثم ينشأ الاحتجاج الذي يكون أكثر تنظيمًا، مجد: “إحداث هاي الفعاليات بينتج عنها أفكار، والاحتجاجات بتكون أكثر تنظيمًا“.

– التنسيق والتنظيم العلني من خلال مواقع التواصل، هذه الشفافية والانفتاح يساهم في جذب عدد أكبر من الناس، مجد “يصير التنسيق على تويتر بالعلن، إنّه شو بدنا نعمل بكرة واليوم الّي بعده“.

– ينتقل الاحتجاج إلى الشارع في بعض الأحيان نتيجة اقتناع الناس بما يقال وما يُطرح من أفكار على مواقع التواصل الاجتماعي، ولشعورهم بالحنق من تجاهل الحكومة لواقعهم، وغياب قنوات التواصل بين الطرفين.

– وللاحتجاج الرقمي كبداية دور كبير في انتقال الأمر إلى الشارع، لصعوبة النزول إلى الشارع دون التحشيد، وقد ساعدت مواقع التواصل بهذا النقطة بشكل كبير. فعلي سبيل المثال، قام أحد الأشخاص بتطبيق فكرة “صفها واطفيها”، كفكرة للاحتجاج على رفع أسعار البنزين، بعد أن أنشأ أحدهم وسم #صفها_واطفيها على مواقع التواصل التي أصبحت أرضية صالحة لاستنبات الأفكار ونشرها بين المستخدمين. كما تخلق مواقع التواصل مزاجًا عامًّا “جوًّا” يضعون الناس فيه إزاء أية قضية عامة، هذا المزاج مهم جدًّا في قياس مدى تفاعل الناس ورغبتهم بالنزول إلى الشارع، إذا فشل الاحتجاج الإلكتروني في خلق مزاج عام لدى الشعب فلن ينجح النزول إلى الشارع.

– طبيعة الإنسان الراغب بنقل الأحداث يجعله مشاركًا في الاحتجاجات، حتى لو كانت بعض القضايا غير مهمة على المستوى الشخصي للمستخدم، إلا أنه ينقلها لمتابعيه، فيحصل الانتشار ويتوسع مداه أفقيًّا باتجاه الشعب وعموديًّا باتجاه السلطة. يقول علي: “ما كنت مهتم بموضوع رفع سعر البنزين لأني ما عندي سيارة، حاولت إنّي أطلع عشان أنقل صورة، كان عندي مُتابعين وكذا، قلت أشوف شو الّي بصير، وفعلًا طلعنا عالرابع وشفنا هالناس، ويمكن كانوا أقلّ من 100 واقفين وفش حتى هتاف مُوحّد، عشوائي يعني، المهم شوي عن شوي صار العدد يزيد“.

– أدرك الشباب من خلال خبراتهم المتراكمة، أن الوجود الإعلامي المكثف، والبث المباشر على مواقع التواصل الاجتماعي خير وسيلة لردع السلطة عن البطش بالمحتجين.

و- الفارق الرقمي: الاحتجاج في العاصمة وفي المحافظات

كثير من الاعتصامات والاحتجاجات التي حصلت في المحافظات ذات الطابع العشائري كانت قوية وكبيرة، ولكنها لم تكن بذات التأثير الذي أحدثه اعتصام الدوار الرابع في قلب العاصمة عمَّان؛ الأمر الذي دفع أهالي المحافظات إلى الانضمام إلى الدوار الرابع لإيصال صوتهم، ويعزو الشباب ذلك إلى مجموعة من الأسباب:

– أن أهل العاصمة هم من أنشأوا وسم #الدوار_الرابع، فكان تجاوب الناس في العاصمة أكبر، مما اضطر أهل المحافظات إلى القدوم إلى العاصمة لإسماع صوتهم. محمود: “وكأنّ الواقع والتغطية أجبرهم يلحقوا وين السوشال ميديا تُركّز وتتجّه في الوقت الحالي“. إشارة إلى غياب التغطية الصحفية لما يجري في المحافظات من احتجاجات.

– أن الطابع العشائري للمحافظات يجعل آلية التحشيد مختلفة، فهم لا يلجأون إلى مواقع التواصل بقدر اعتمادهم على المراكز والدواوين العشائرية. لين: “المحافظات عشائر، العشائر بتاخد القرارات من خلال مراكز عشائرية، بعمّان إحنا مفرّقين، والسوشال ميديا كانت الشي الي بقدر يجمّعنا”، ويؤكد علي ذلك: “فعلًا مشان يطلعوا بالصورة إجوا ع عمّان، هذا إشي مؤسف بصراحة… وفعلًا رفعوا سقف الهتاف يعني إشي فوق فوق، وبالآخر حقّهم، لأنّهم صوتهم ما كان واصل“. في المدن، فإن مواقع التواصل هي وسيلتهم المفضلة للالتقاء والتحشيد حول قضية عامة. مجد: “إحنا كشباب عمّان بالمجتمع المدني، صعب نتجمّع إلّا على السوشال الميديا ومنها مننطلق“.

– ولأن مطالب المحافظات عالية المستوى وتتجاوز المطالب الاقتصادية، فقد استجابت الحكومة لمطالب الرابع، فتم تبديل حكومة الملقي بحكومة اقتصادية، وتم سحب قانون ضريبة الدخل. وهذه رسالة من الدولة أن صوت أهل عمَّان هو المسموع فقط. ويعلِّل الشباب ذلك ربما بالكثافة السكانية للعاصمة. علي: “عمّان أكثر كثافة وبتفرق مع النظام وإلها دور أهم من أي محافظة ثانية“.

ز- القيم والمعاني التي تنتجها الاحتجاجات الرقمية والواقعية

يعبِّر الشباب الذين شاركوا باعتصام الدوار الرابع افتراضيًّا وواقعيًّا، عن مجموعة من الفوائد والقيم والمعاني أنتجتها تجربتهم تلك:

– أصبح الشباب أكثر جرأة في الحديث عن القضايا العامة وتسليط الضوء عليها، وتم كسر حاجز الخوف والصمت الذي رافق الحالة السورية، وإقرار قانون الجرائم الإلكترونية، رزان: “صار في عنا خلينا نحكي “كسر حاجز” كُنّا إحنا كثير خايفين منّه“.

– انعكس الحراك على شخصيات الشباب ونظرتهم لأنفسهم، أصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم، وأكثر قدرة على إثبات ذواتهم في المجتمع وأمام الدولة. رزان: “الاحتجاج عمل فرض لإثبات الذات للفرد، ما كان موجود من قبل… اللي صار بحُزيران، له قيمة نفسية ومعنوية بالنسبة إلي كثير“.

– تعزيز روح الانتماء للوطن ولقضاياه، رزان: “حسّيت بانتماء غريب، فظيع يعني، وشعور وطني كبير”.

– الإحساس بالمسؤولية تجاه البلد والمشاكل التي نواجهها والمطالب التي تهم الناس وحياتهم. رغدة: “الشعب صار يحسّ بمسؤولية أكثر تجاه البلد والقضايا والمشاكل إلّي منواجهها والمطالب الّي منواجهها بشكل أكتر“.

– تعزيز فكرة أن الشعب قادر على التغيير في أذهان الشباب، رغدة: “صحّ هو مش هالإنجاز الكبير، وممكن إنّه أسقطنا حكومة وممكن تيجي خكومة بديلة ونفس النهج وهيك بس إنّه بالآخر، الشعب أنجز“.

– الشعور بالفخر، رغدة: “بشعر بالفخر إنّه أنا من جماعة الرابع“، حسين: “شعور فخر كبير بالي قدرنا ننجزه بالشارع على الدوار الرابع لدرجة إنّه رنّيت على أُمي بعد ما أسقطوا الحكومة وسحبوا قانون الضريبة، وبقولها: زبطت معنا! وأنا ببكي.. بتقولي: يعطيك العافية، إنتَ وصحابك إلّي نازلين طول نهاركوا بتسهروا بالشارع، فكان إشي محطّ للسعادة والفخر صراحة“. علي: “أوّل مرّة بحسّ ثقتي وصلت بنفسي لهلدرجة بالأسبوع الّي عشناه بالرابع. فعليًّا إشي غريب، ما مرّش عليّ إشي زي هيك، عالسوشال ميديا وبالواقع“.

– الدقة والضبط في نقل الأفكار والمعلومات، تساعد مواقع التواصل في تجنب الوقوع في أخطاء في المعلومات وحتى في اللغة، حتى لا تكون سببًا في الخلاف. فالكتابة تعطي المستخدم خيار التدقيق اللغوي والتدقيق في الأخبار والمعلومات قبل نشرها. لين: “بتصلّح الإملاء، بتزبّط، إذا ناقصتك معلومة، بترجع على غوغل. بتلاقي الي بدّك ياه. إنتَ بتطلع إنسان رائع على تويتر، إنتَ بتكتب بدون ما تغلط! يعني كثير نادر ما ألاقي حدا بيغلط بمعلومة أو كذا، وإذا حدا بيغلط الكلّ بهاجمه، مو لأنّه بعرف، لأنّه كثير سهل تعرف وين المعلومة“.

– شكَّلت مواقع التواصل الاجتماعي حلقة وصل بين الشباب، ينبهون بعضهم عبرها إلى الأخطاء التي تقع في الشارع وعليهم تجنبها، وإلى تشكيل وعي جمعي بينهم جعلهم يرشِّدون حركاتهم وخطواتهم في الشارع. لين: “هون بالزبط بتيجي دور السوشال ميديا، إحنا منصير ننبّه بعض، سواء على تصرّفات فردية برّا بالشارع، أو حتى تويتاتنا. يعني صار عملية الوعي وتنضيج الحركات والخطوات، صارت بين الشباب بين بعض. فإذا في فائدة مرجوة من السوشال ميديا، فهي إنّه إحنا قمنا بتنضيج بعض بدون سُلطة من فوق، تنظّر علينا، وهي ما عاشت فعليًّا إلّي إحنا عشناه”.

التحرر من وصاية الكبار على الشباب وفي التحكم بآرائهم وتوجيههم باعتبارهم لا يعرفون، أو لا يتقنون، واعتمادهم على بعضهم البعض في النصح والتوجيه، وفق معطيات واقعية. لين: “أوّل تجمّع إلنا فعليًّا على تويتر وعلى فيسبوك، هاد الإشي بخلينا نحسّ إنّه إحنا آراءنا هي ملكنا ما عاد يتحكم فيها الأهل والأقارب”.

– خلق الشعور الجمعي: مفهوم جديد للعائلة: عبَّر الشباب عن نوع مختلف من الانتماء أحسوه من خلال اندماجهم بالحراك الرقمي والواقعي في منتصف 2018، وسموا أنفسهم “جماعة الرابع” والرابع هو اسم الدوار الذي وقفوا عليه، واسم الهاشتاغ الذي كان يغردون به #الدوار_الرابع. رغدة: “فعلًا الانتماء للرابع كان غير“. ما أنشأ لديهم مفهومًا جديدًا للعائلة، فهي لم تعد معتمدة على روابط الدم، وإنما روابط الأفكار والاهتمام كذلك، ولم تعد العائلة هي الأفراد الذين يعيشون معًا في بيت واحد، وإنما الأفراد الذين يسمعون لبعض. حسين: “مفهوم “الأُسرة” هُمّه الّي بيسمعوا بعض، مش الّي قاعدين بوجه بعض… يعني ما بيمرّ يوم إلّا وإحنا على تواصل مع بعض. منسمع بعض فعليًّا. فكان فيه شعور فعليًّا إنّه إحنا عيلة، عيلة وحدة، ولمّا شفنا بعض، على الرابع إنّه يا فلان هو أنتَ ما غيره، يعني فعلًا زي كأنّه عايشين ببلدان بعيدة عن بعض، لكن في شيء بيربطهم“. حسين: “اكتشفنا إنّه الّي بيربط الناس هو “الاتصال” مش “الدم”. يمكن أبوك إنتَ ما بتتفّق معه، ولا بتقعد معه، ولا بتحكي معه قد ما بتحكي مع الشباب والصبايا على تويتر“.

– الدفاع والحماية لبعضهم البعض، خلق شكلًا من التضامن الجمعي أثناء الاحتجاج، ولكل من يعتقل، جعلهم يشعرون أن “الناس قلبها ع بعض“، على عكس ما كانوا يعتقدون، من أن كل واحد يبحث عن راحته على حساب الآخرين.

ااثبات

ح- تحفظات الشباب على استخدام مواقع التواصل للاحتجاج: تتحكَّم بنا كما نتحكَّم بها!

يبدي الشباب مجموعة من التحفظات على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، ويمكن تصنيفها إلى نوعين؛ تحفظات موضوعية خاصة بطبيعة تلك المواقع، وتحفظات ذاتية خاصة بالشباب المحتج.

  1. التحفظات الموضوعية:

– الآليات التي تعمل بها مواقع التواصل الاجتماعي غريبة بعض الشيء، فهي قد تتحكَّم بالمستخدم، مثلما هو يتحكَّم بها وقد توجهه وفق معادلات لا يكون المستخدم واعيًا لها.

– مواقع التواصل ليست أداة محايدة تمامًا، كما يتخيلها الكثيرون، وهذا بالفعل ما أظهرته دراسة نشرها مركز بيو الأميركي؛ إذ إن منصات التواصل الاجتماعي تفرض رقابة على الآراء السياسية التي لا توافق عليها(13).

– تساعد مواقع التواصل في القضايا الطارئة والبسيطة، ولكن ليس في القضايا الكبيرة والدائمة. مجد: “السوشال ميديا بتساعدك بالشغلات الطارئة، أكثر من الأشياء الدائمة والبطيئة“.

  1. التحفظات الذاتية على استخدام مواقع التواصل للاحتجاج:

– تخوف من الاعتمادية على مواقع التواصل في التعبير والاحتجاج، “أصبحنا معتمدين عليها”، فماذا لو تم إيقاف مواقع التواصل الاجتماعي؟ ما الذي سيحصل: هل سنتوقف عن الاحتجاج؟ مجد: “إحنا إذا ما شكّلنا نخب، وبنينا بإيدينا على أرض الواقع ما حد رح يبني، يعني بدون عمل بطيء ومتراكم على أرض الواقع، احتجاجات السوشال ميديا، بتتحوّل لـ “تمظهرات نفسية”“.

– ضرورة وجود توازن بين الحشد الموجود في الشارع والموجود على مواقع التواصل، فنزول الشاب إلى الشارع للاعتصام والاحتجاج يتطلب وجود دعم مشابه له على مواقع التواصل؛ لأن ذلك يدعم الاحتجاج الواقعي ويعطي سندًا وظهرًا للمحتجين. تتحدث لين عن تجربتها في الاعتصام الجامعي حول رفع الرسوم: “ لمّا يصير توازن بين الساحة وبين الِّي عم ينكتب، أنا بصير حاسّة حالي بـ سِرب.. إلي “ظهر”، … إني جزء من إشي، … إنّي هلّا بمعركة ضد السُلطة“.

– أصبح الاحتجاج الرقمي موضة عند البعض، ووسيلة للشهرة والإشباع النفسي عند البعض بدون أي نتيجة. مجد: “على أهمية الاحتجاج الرقمي، بس المُشكلة إنّه صرت أحسّ إنّه في ظواهر عم تطلع، شباب أنا بعرفهم بتحسّ شغلته بالحياة بس إنّه ناشط، بخاف إنّه السوشال ميديا تصير هدف بحدّ ذاتها، ويشعر الناشط بالاكتفاء والامتلاء بمجرد انّه عم يعبّر عن رأيه عالسوشال ميديا، بينما فش عمل على أرض الواقع“.

– يتخوف الشباب من المحاسبة القانونية في ظل وجود قانون الجرائم الإلكترونية، قد يلاحق الشباب بأثر رجعي.

 

  1. علاقات الحركات الاحتجاجية بالمؤسسات الرسمية والسلطة

مرَّت السلطة في علاقتها باستخدام المواطنين للتقنيات الرقمية بمراحل عدة مرتبطة بمستوى تطور التقنية، ومدى استخدامها في مراقبة أداء الحكومات وكشف قضايا الفساد، وتفعيل الحراكات السياسية.

الشكل رقم (4) يبين مراحل تطور علاقة السلطة مع الاحتجاجات الرقمية

انتقلت العلاقة بين السلطة والاحتجاجات الرقمية من عدم اكتراث بداية ظهورها، إلى علاقة قلق وخوف ناتج من عدم قدرة السلطة على تقدير حجم الاحتجاجات الرقمية، وعدم قدرتها كذلك على التحكُّم بمخرجاتها كما كانت تفعل في الاحتجاجات التقليدية، كما جعل استخدام الشعوب لمواقع التواصل الاجتماعي لنقد أداء الحكومات وقراراتها، بمثابة الجهاز الرقابي على عملها، هكذا يرى الناشط على موقع الفيسبوك، وليد عليمات، من واقع خبرته الطويلة: “تشعر الحكومات أن مواقع التواصل هي جهاز رقابي على عملها، وهي تعلم أن أي تقصير منها سيُنشر سريعًا، وستتلقى الضغوطات الشعبية التي قد تجعلها تغير آراءها أو قراراتها“.

فتمظهر قلق السلطة وتخوفها في أشكال عدة، تختلف باختلاف موضوعات الاحتجاج، وسياقاته، وأشكاله، وقد حصرها المشاركون في المقابلات في:

– الاستجابة للاحتجاجات الرقمية واتخاذ قرارات سريعة لاحتواء الأوضاع.

– تتبع حركية المواقع الاجتماعية وفق مقاربة أمنية لتجنب أي تحرك ميداني يكون من مخرجات التفاعل السياسي في العالم الرقمي.

– دخول السلطة في اللعبة الرقمية بشكل سري من خلال الجيوش الإلكترونية، أو بشكل علني من خلال استخدام المسؤولين لحساباتهم على مواقع التواصل.

– مراقبة مواقع التواصل، ومعاقبة كل من يخرج عن السقف المسموح له، ومن خلال إقرار قوانين تتعقب المشاركين.

أ- القوانين: لعبة القط والفأر

مع ظهور أول موقع إخباري في الأردن، عام 2006، بدأت تبرز ملامح علاقة متوترة بين السلطة واستخدامات الإنترنت في نشر المعلومات، وشكَّل تكاثر تلك المواقع إزعاجًا كبيرًا للحكومات، كونها تنقل الأخبار بسرعة وشفافية لا تقارن بالإعلام الرسمي الذي بدأ بالانهيار وانكشفت سوءاته أمام المستخدمين الذين أقبلوا بشكل كبير على المواقع الإخبارية، وكان لخاصية التعليق على الأخبار دور كبير في ازدياد إقبال المستخدمين عليها وفي رصد مستوى التفاعل مع ما ينشر، وشكَّل ذلك قلقًا للحكومات، لاسيما استخدام المواقع الإخبارية في تحشيد الناس حول الحراكات الناشئة مثل حراك المعلمين وحراك المتقاعدين العسكريين.

شنَّت الحكومة حربًا على مواقع التواصل الاجتماعي قبل الربيع العربي بسنوات، فقد اعتبرتها منذ العام 2007 خاضعة لقانون المطبوعات والنشر(14)، وفي 2009، دعا رئيس الوزراء الأردني، نادر الذهبي، إلى لقاء مع أصحاب المواقع الإلكترونية لحثهم على تنظيم أنفسهم قبل أن تبادر الحكومة بالتدخل، وقامت الحكومة بوضع “مشروع قانون جرائم أنظمة المعلومات لسنة 2009″(15)، ودارت حوله انتقادات حادة من ناشري المواقع الإخبارية المحلية، الذين رأوا فيه تعبيرًا عن انزعاج الحكومة من كشف الصحافة الإلكترونية لمواقع الخلل والفساد الرسمي(16). وفي 2010، أخضع قرار صادر عن محكمة التمييز المواقعَ الإلكترونية إلى قانون المطبوعات والنشر، على اعتبار أن “الموقع الإلكتروني يعتبر من وسائل النشر التي تُدوَّن فيها الأفكار، والمعاني والكلمات وبأي طريقة كانت”.

وما كادت الحكومة تنهي أمر سيطرتها على المواقع الإخبارية حتى ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبح فيها كل مواطن بمثابة صحفي ينقل الأخبار من محيطه ويتفاعل معها جمهور كبير من المستخدمين؛ الأمر الذي اضطر الحكومة إلى إصدار قانون الجرائم الإلكترونية في العام 2015، واعتقل بموجبه عدد كبير من الناشطين، وفي هذا الوقت، ينتظر الأردنيون إقرار نسخة من قانون الجرائم الإلكترونية، سبقته حملة رسمية قوية ضد وسائل التواصل الاجتماعي متهمة إياه ببث الإشاعات واغتيال الشخصيات. بينما يرى فيه كثيرون محاولة لتكميم الأفواه ومنعهم من المشاركة في أي نشاط رقمي يكشف ملفات الفساد وشخصياته “سواء كانت نكته تهزأ من سكان مدينة معينة، أو بحثًا أكاديميًّا عن علاقة العشائر بالدولة، أو مقالًا ينتقد الخطاب المشيْطن لطائفة ما، ستكون جميع هذه المنشورات إنْ وُجِدت عبر “الشبكة المعلوماتية” أو “الموقع الإلكتروني” أو “أنظمة المعلومات” بدايةً لطريق صاحبها إلى السجن، الذي سيمكث فيه، بحسب مقترح القانون، سنة بالحد الأدنى، أو سيدفع غرامة مالية حدها الأدنى 5000 دينار”(17).

 

ب- سعي السلطة إلى حصر الاحتجاج في مواقع التواصل

سعت السلطة في أعقاب اعتصامات حركة 24 مارس/آذار إلى حصر الاحتجاجات داخل إطار مواقع التواصل الاجتماعي وعدم تفجرها في الشارع مرة أخرى، وسعت إلى استمرار الأمر على تلك الحال طوال السنوات التي تلت الربيع العربي؛ لاعتقادها أنه طالما بقيت في إطار المواقع، فهي لا تشكِّل خطورة على الأمن والنظام.

أثناء ذلك، استخدم الأردنيون مواقع التواصل كأداة للتنفيس والتعبير، وانتشر ما يسمى بـ”المؤثرون”، والمدونون بالكتابة “bloggers”، والمدونون بالتسجيلات المصورة “vloggers”، فضلًا عن التسجيلات المباشرة عبر فيسبوك (Live Video)، ولم يَرُقْ للسلطة حصول هؤلاء المؤثرين على أعداد كبيرة جدًّا من المتابعين، فحاولت التحكم بمدى التأثير الذي يمكن لهم إحداثه في أوساط الشباب، لاسيما المؤثرون ذوو المضامين الجادة، ومن يتحدثون في قضايا عامة تخص المسؤولين والفساد، واستخدمت لذلك وسائل التهديد، أو الاستقطاب، كما لجأت السلطة حسب الشباب إلى استخدام “مجندين إلكترونيين” للدفاع عن وجهة النظر الرسمية، ويسمى هؤلاء بالمفهوم الشعبي “سحيجة”.

أفرز حصر الاحتجاج على مواقع التواصل واقعًا غير صحي، فالوضع الطبيعي، كما يرى حسين، هو أن يجد الناس صدى للأفكار المتداولة على الإنترنت صداها في الشارع “المفروض إنتَ حكيت رأيك على تويتر، تنزل عالواقع تحكيه، بس فعليًّا كان في محاولات، من مُجنّدين إلكترونيين، لفترة طويلة، بإنّهم يخلّوا الاحتجاج على السوشال ميديا فقط. ويحشروه بهاي الخانة، حتى ما يتحرّك“.

حظيت بعض احتجاجات الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي باهتمام رسمي انتقائي، واستجابت لبعض مطالبهم التي وصلت إلى المسؤولين باستخدام خاصية “المنشن” أي ذكر اسم المسؤول المختص عن هذه القضية عبر حسابة على تويتر أو فيسبوك، وهو أمر جيد بالنسبة لبعض الشباب، إلا أن هذا لا يسمى احتجاجًا، وفق بعضهم الآخر، وإنما شكْل من أشكال التواصل المباشر بين الشعب والحكومة، الذي كان يمنع حدوثه طبقة فاسدة من البطانة تزين الواقع للمسؤولين، ويرى حسين أنه “إذا أعطى الاحتجاج على مواقع التواصل النتيجة المطلوبة فلا داع للنزول الى الشارع“.

 

ج- مراوغة رقمية لإنتاج علاقات جديدة مع السلطة

أدركت السلطة أن لا مهرب من التعامل مع مواقع التواصل الرقمية كأمر واقع، من حيث الانتشار الواسع والاستخدام في الاحتجاجات والتأثير في الرأي العام، ووجدت أنه لا مفر من دخولها اللعبة الرقمية، فجعلت بعد إسقاط حكومة الملقي، بفعل اعتصامات #الدوار_الرابع وغيره على امتداد البلاد، له بديلًا يملك مهارة التواصل الرقمي من خلال حساباته على موقعي تويتر وفيسبوك، فجاء عمر الرزاز وبدأ بالتواصل مع الجماهير منذ لحظة تكليفه برئاسة الحكومة. يربط مجد لجوء الحكومة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي كونها عرفت قوانينها وكيف تستفيد منها لصالحها: “المجتمع الرقمي إلو قوانينه الّي بمشي عليها والسُلطة فاهمة هاد الشي وبتلعب عليه“.

الصورة رقم (1): رسالة رئيس الوزراء، عمر الرزاز، لمتابعيه على تويتر ردًّا على تعليقات الناس حول مجموعة من القضايا(18) الصورة رقم (2) توضح تفاعل رئيس الوزراء، عمر الرزاز، مع المغردين(19)

 

د- الشعب يمثِّل نفسه وإلغاء مجلس النواب

في حالة من النشوة أصابت جماهير المستخدمين لمواقع التواصل، بدأت أذهانهم تتفتق عن أفكار لتطبيقات رقمية تمكِّنهم من إيصال أصواتهم ومطالبهم للحكومة بشكل مباشر عبر قنوات ومنصات رقمية، ليس ذلك فحسب، لا بل يتم الاستغناء عن الانتخابات النيابية، ومجلس النواب، الذي بات يشكِّل مصدر إحباط مستمر للشعب، بينما يُفترض أن يمثِّل مصالحه وتطلعاته عند السلطة، لكنه تحوَّل -في نظر هؤلاء المستخدمين- إلى بؤر للفساد وأداة رسمية لتمرير القوانين المجحفة.

فظهرت دعوات عديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالب رئيس الوزراء الرقمي بتطبيق نظام إلكتروني يتم من خلاله التصويت على القوانين والقرارات المختلفة من خلال الرقم الوطني، فالشعب يمكنه تمثيل نفسه بوسائل مباشرة، دون الحاجة إلى الأدوات السياسية القديمة.

الصورة رقم (3) لتغريدة تتضمن مقترحًا لرئيس الوزراء، عمر الرزاز، والتي أُعجب بها وعلَّق عليها لاحقًا(20)

 

تفاعل رئيس الوزراء مع الاقتراح من خلال خاصية الإعجاب وبدا ذلك مؤشرًا على قبوله للفكرة، أعلن بعدها الدعوة إلى إنشاء منصة إلكترونية حكومية لفتح المجال أمام المواطنين للتواصل مع الحكومة والتعبير عن آرائهم وأفكارهم وقضاياهم والتفاعل معها، وتضع ذلك هدفًا في قائمة مشاريعها قيد التنفيذ.

أسهم تواصل رئيس الوزراء مع الناس في تحصيل رضى شعبي كبير، فهو -كما قال كثيرون- على الأقل لا يتجاهلهم، ويتفاعل معهم ويرد على رسائلهم، وقد أشاع هذا بالفعل حالة من الرضى الذي أمكن رصدها بسهولة من خلال التعليقات في الأيام الأولى لتوليه رئاسة الوزراء، وظهرت دعوات لإعطاء الرجل فرصة للعمل، لأنه بدا لهم مختلفًا عن غيره من رؤساء الوزراء السابقين، فهل أكلَ الناس الطُّعم؟

يعلِّق مجد على الشكل الجديد من العلاقة التي بدأت تتشكل بين الحكومة والشعب: “من الواضح إنّه تواصل الرزاز مع الناس، عم يرضي فئات واسعة منهم، وعم يشعر الناس إنّه في شيء عم يصير مع إنّه فش شي عم يصير. فش إشي إلو وزن على أرض الواقع“.

صحَّت توقعات مجد والشباب وكثير من المعلقين عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ ففي هذه الأثناء تضجُّ مواقع التواصل الاجتماعي بدعوات التحشيد للنزول إلى الشارع مجددًا. لا، بل انتشرت دعوات عصيان مدني عبر منصات عدة، بسبب اعتزام الحكومة إحالة مشروع قانون ضريبة الدخل مرة أخرى إلى مجلس النواب لإقراره، وكذلك قانون معدل للجرائم الإلكترونية(21).

ومن اللافت أن الحديث حول القضايا العامة التي تستدعي الاحتجاج الرقمي عبر منصات التواصل قد وصل إلى الدائرة الضيقة في الدولة؛ فقد انشغل الأردنيون مؤخرًا بالتغريدة التي نشرها الأمير حمزة بن الحسين، ولي العهد السابق وشقيق الملك عبد الله الثاني، عبر موقعه على تويتر والتي يحتج فيها على سياسة اللجوء إلى جيب المواطن بدلًا من الإصلاح ومحاربة الفساد، وقد طافت التغريدة بشكل سريع عبر مواقع التواصل وتفاعل معها عدد كبير من الأردنيين عبر صفحاتهم، تأييدًا وتحليلًا واندهاشًا، خصوصًا أنها جاءت بعد تغريدة للأمير علي بن الحسين نشر فيها فيديو(22) يتحدث عن أضرار الضرائب، وتأثيرها السلبي على مواطني دول العالم الثالث.

الصورة رقم (4) لتغريدة الأمير حمزة التي لقيت تفاعلًا شعبيًّا كبيرًا(23)

ه- تصحُّر سياسي: مواقع التواصل بديلًا لضعف الأحزاب

يشخِّص الشبان حالة بائسة تعيشها الأحزاب في الأردن، بسبب عدم ثقة الناس بها من جهة، والتضييق عليها من الدولة من جهة أخرى، فما هو حقيقي منها يواجه التضييق والملاحقة، ما يجعلهم غير مقتنعين بالعمل الحزبي في شكله الحالي، علي: “الأحزاب مؤسّسة أصلًا زيها زي البرلمان“، إشارة إلى فشل التجربتين، الحزبية والبرلمانية، في الأردن، فأصبح الشباب على حد تعبيره “يهربوا من الأحزاب“، ولكن ذلك لا يعني عدم أهمية الأحزاب في الحياة السياسية لأية دولة، علي: “الربيع العربي كان ردّ فعل على الموت السياسي بالوطن العربي كامل. فالحالة الحالية، بدنا أحزاب وبدنا إجراء حقيقي نوصّل صوتنا، الحزب رح يوصّل صوتنا للبرلمان، البرلمان يوصل صوتنا للجهة التنفيذية، بتغيّر حالنا. لكن هذا فعليًّا مش موجود، في تصحّر سياسيّ بالبلد!”.

ويرى الشباب أن الدعوات للمشاركة في العمل السياسي من خلال تشكيل الأحزاب أمر غير جاد، وباءت محاولات كثير من الشباب لتشكيل أحزاب بالفشل لأسباب عدة، أولها عدم جدية الجهات الرسمية، فضلًا عن تعرض أي شاب حزبي للتضييق وتوجيه التهم المختلفة له؛ الأمر الذي يدعو الشباب للتساؤل: لماذا تدعون الشباب للانتماء للأحزاب ثم تضيِّقون عليهم.

حالة التصحر السياسي، وغياب الثقة، والتضييق، أثرت على مفاصل العلاقة بين الشعب والحكومة، رزان: “غياب الأحزاب السياسية الفعّالة، خلق نوعًا من عدم الثقة وخلق التوتّر الي إحنا شايفينه“.

تعاني الأحزاب الموجودة من أوضاع تنفِّر الشباب من الانتماء إليها عمومًا، ما يستدعي تطوير نفسها مستقبلًا لتكون أكثر إقناعًا، حسين: “مش مقتنع بالأحزاب الموجودة حاليًّا، ولن أنتمي لأحد منها، بس بعتقد إنّها رح تطوّر حالها مستقبلًا“. ويرى الشباب أن الفساد طال الأحزاب السياسية كذلك، مجد: “يعني في أمين عام أحد الأحزاب ما ترك المنصب تبعه لـ45 مرة على التوالي، فالأحزاب أكثر ديكتاتورية من السلطة أصلًا. وفي تجارب لشباب كانوا بدهم يخلقوا إشي من الحزب تبعهم ويثوَّروه بس ما قدروا، لأنّه العقلية أجمد بكثير من السلطة“. ولذلك، تفتخر لين بأنها “مو محسوبة على أحد“، فالعمل المستقل يعطي الفرد مساحات حرية أوسع من العمل المنظم حزبيًّا.

و- البديل الرقمي مؤقت

من الملاحظ أن الأحزاب السياسية كافة قد نأت بنفسها عن المشاركة الصريحة بالحراكات الاحتجاجية ضد الضرائب ومشروع قانون ضريبة الدخل، وشارك شبابها بصفتهم غير الحزبية، وهذا ما لوحظ أثناء الاعتصام على الدوار الرابع، علي: “بالمناسبة، الإخوان كان حضورهم جدًّا واضح، للي بعرف شباب الإخوان.. كان وجودهم عظيم“. وتعتبر لين أن عدم إفصاح الشباب الحزبي عن انتماءاتهم الحزبية أثناء احتجاجات الرابع حركة ذكية تحسب لهم، لرغبة الناس جميعهم التوحد تحت مظلة الوطن الذي يجمع الكل، ولعدم ثقة شريحة كبيرة من أفراد المجتمع بالأحزاب وعدم قبول العمل خلفهم. وهذا يستدعي من الأحزاب أن “تمرّ بمرحلة موت تام وتحلّل حتى ترجع تطلع بأشياء جديدة“.

أسهم الكثير من العقبات التي تحول دون اكتمال تجربة حقيقة للعمل الحزبي في الأردن، في اتجاه الشباب نحو مواقع التواصل الاجتماعي كمنصة حرة ومستقلة للتعبير عن أفكارهم وآرائهم في القضايا العامة، وربما يكون نشاطهم الرقمي هذا طريقًا لإنشاء أحزاب سياسية تمثِّلهم في المستقبل، حسين: “أنا بعتقد إنّه ممكن نفس السوشال ميديا ينشئ أحزاب، يعني ممكن إحنا نصنع حزب مُستقبلًا“، رزان: “ليش تعتمدي عالأحزاب الحالية؟ ليش ما تخلقي حزب؟“.

وكحل بديل، يمكن للأحزاب القوية المُحارَبة من الدولة، الاتجاه إلى مواقع التواصل الاجتماعي، حسين: “إذا هاي الأحزاب اتجهت على السوشال ميديا، وتبنّت الشباب الموجودين بالسوشال ميديا، بصير في إلها قاعدة أكبر، وبصير إلها تمثيل أكبر وإذا صار إلها تمثيل أكبر بصير إلها تأثير على أرض الواقع“.

وخلاصة موقف الشباب هي أهمية مواقع التواصل الاجتماعي في إيصال صوت الشعب والشباب ومطالبهم إلى الحكومة إلا أن ذلك لا يلغي أهمية وجود أحزاب كوسيط بين الشعب والسُلطة.

ح- النقابات المهنية

بالمقابل، شكَّل التحرك تحت مظلة النقابات مصدر راحة وثقة أكبر لعامة الناس والشباب، وفاقَ مستوى المشاركة في دعوة النقابات للإضراب، بتاريخ 30 مايو/أيار 2018، التوقعات، شعرت رغدة أن النقابات “أملنا الأخير“، وترى رزان أن “النقابات أعطت الاحتجاج صفة رسمية تقريبًا” للإضراب.

ولا يعول الشباب كثيرًا على مؤسسات المجتمع المدني الأخرى الموجودة في الأردن فهي لا تقوم بوظيفتها الحقيقية كوسيط بين المجتمع والحكومة، ولا تمثل منصَّة حقيقية للشباب، ولا تتبنى مطالبهم وآمالهم، لا بل يرون فيها سببًا في “تمييع الشباب“، روان: “مؤسسات المجتمع المدني هي الّي ميّعت الشباب، أنا ما بقدر أحكي إنّها هي منصَّة للشباب“، كما أن بعض الهيئات التي تشكِّلها الحكومة مثل “هيئة شباب كلنا الأردن” تعطي فرصًا غير متساوية للشباب، لأن قرار الانتماء لها مرتبط بالموافقة الأمنية.

  1. الإطار النظري: المجال العام والتحولات البنيوية

ليست المجالات العامة، وفق الفهم الذي عرضه الفيلسوف الألماني المعاصر، يورغن هبرماس، في أطروحته “التحول الهيكلي في المجال العام”(24)، وقفًا على المجتمعات الأوروبية، ففكرة المجال العام ظهرت بأكثر من شكل على امتداد المجتمعات الشرقية والغربية على حدٍّ سواء، ما يهمنا هو التركيز على الخصائص التي تمنح هذا المفهوم سماته الخاصة، فمن الواضح أن المفهوم ثابت في الخصائص لكنه مرن في الشكل؛ إذ يسمح لقوى التاريخ أن تُجري فيه فعلها، فيظهر ويختفي ويتحوَّل وفق تبدلات الزمان والمكان.

يُحسب لهبرماس أنه قدم وصفًا دقيقًا لما يمكن تسميته ظهور الحالة المثالية للمجال العام الأوروبي في القرنين الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، في الصالونات العامة والنوادي والمقاهي، ومن ثم تراجعه وتفككه التدريجي. يقول هبرماس: “إننا نعني بداية بالمجال العام حيزًا من حياتنا الاجتماعية يمكن أن يتكوَّن فيه شيء يقارب الرأي العام، والمشاركة به مضمونة لكل المواطنين”(25).

من خصائصه المميزة أنه مفتوح للجميع، ومستقل عن النظم السياسية والاقتصادية، يمكِّن الأفراد من الدخول طواعية، وعلى قدم المساواة، في نقاشات عامة غير مقيدة(26). لا تجمع الأفراد المشاركين في هذه المجالات مصالح اقتصادية فحسب، وإنما تجمعهم أهداف مشتركة تتطور من خلال النقاش والحوار الحر، الذي يضمن أدورًا متساوية للجميع وثقافة مشتركة تساعد هؤلاء على اكتشاف حاجاتهم والتعبير عن اهتماماتهم، وتشكيل مفهوم الصالح العام(27). يشعر المشاركون في المجالات العامة بامتلاكهم لسلطة ونفوذ عام، وتدريجيًّا، يشكِّل الرأي العام لديهم قوة تمكِّنهم من التحقق من شرعية السلطات الحكومية المغلقة وغير التمثيلية، من خلال التحقق فيما إذا كانت القوانين والسياسات تعمل للصالح العام أم لصالح فئة محددة من الساسة، وهنا يتم وضع شرعية الحكومات على المحك(28).

 

أ- التحول البنيوي الأول: وسائل الإعلام الجماهيري

تعرَّض المجال العام لتحوُّل بنيوي عميق أدى به إلى التفكك والانهيار في القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد انتشار وسائل الاعلام الجماهيرية كالصحف والمجلات والإذاعة والتلفاز، واكتسابها القدرة التدريجية على الانتشار والتداول بين العامة، واستيعابها من قبل الشركات الرأسمالية العملاقة العاملة لمصلحة أفراد أصحاب نفوذ اقتصادي وسياسي(29) وتطور وظيفتها من وسيلة لجني الأرباح من خلال نقل التقارير الإخبارية، إلى وظيفة سياسية من خلال جعلها وسيطًا ورائدة في نقل الرأي العام وتشكيله، وأداة بيد السياسيين؛ الأمر الذي أفقد الرأي العام استقلاليته ووظيفته النقدية، وبدلًا من تعزيزها للحرية ودعمها للخير العام، بدأت بالفعل بتضييق الخناق على الحريات ومحاصرتها. وأصبحت الدولة ومؤسساتها الاقتصادية والسياسية أكثر مهارة في تحقيق الفوز بالتزكية العامة، والدعم، والظهور بمظهر الشرعية(30).

عمدت الدول الغربية الحديثة إلى تطوير أدوات سياسية تهدف إلى توسيع فكرة المجال العام واستمراره في أداء وظيفته النقدية للأنظمة السياسية والاقتصادية، فظهرت البرلمانات المنتخبة، والأحزاب، ومؤسسات المجتمع المدني، إلا أن الهوة المتزايدة الاتساع بين فكرة المجال العام التقليدي والواقع الاجتماعي والسياسي لم تغلق تمامًا، وبقي هبرماس ومعه الكثير يبحثون عمَّا يغلق تلك الهوة مرة أخرى.

وعلى العموم، تبدو الصورة هنا مختلفة(31)، فبعد أن تحقق للشعوب العربية استقلالها عن الاستعمار الغربي في النصف الثاني من القرن الماضي، وظنت أنها تخلصت منه دون رجعة، وصدَّرت لنا الدول المستعمرة نموذجها في الدولة الحديثة، وانتظر الناس تحقيق وعود الديمقراطية والحرية والعدالة التي ظنوا أنها ستأتي حزمة واحدة مع شكل الدولة الحديثة، إلا أن أيًّا من هذه الوعود لم يتحقق بعد.

أغلقت المجالات العامة التقليدية التي كانت جزءًا من ثقافة المجتمعات، وأنشأت نماذج شكلية لبرلمانات، ومؤسسات مجتمع مدني، وأحزابٍ القوي منها مُحارَب، وأُفشلت التجارب الديمقراطية كلها، تحت دعاوى أن الشعوب غير ناضحة بعد، وكان ضروريًّا لإنفاذ ذلك كله، إغلاق المجالات العامة، ومصادرة الرأي وحرية التعبير والاحتجاج.

لطالما عانت شعوب العالم العربي ولفترات طويلة من انسداد أفق التعبير الحر عما يشغل بالهم، وساد بينهم الخوف والترهيب ومنعهم من الخوض في الحديث عن القضايا السياسية والحقوق والحريات، وبقي الأمر كذلك إلى لحظة تفجُّر الربيع العربي، وربط كثيرون ذاك التحول التاريخي على الساحة العربية بظهور الإنترنت وما فيها من تطبيقات تواصلية(32)، فهل كان لتطور وسائل الإعلام والاتصال وظهور مواقع التواصل الاجتماعي دور آخر في ظهور ما أصبح يسمى “المجالات العامة الرقمية”.

ب- التحول البنيوي الثاني: منصات التواصل الرقمي

قامت الباحثة بجهود بحثية سابقة(33) خلصت فيها إلى أننا نعيش تحولًا تاريخيًّا لا يمكن تجاوزه في إمكانيات الفعل التواصلي العقلاني وأدواته، وهذا التحول وضعنا أمام تحول تاريخي آخر لمفهوم المجال العام، أفرزته البيئة الرقمية التي تغلغلت في حياة الناس ومجتمعاتهم، وظهرت نتيجة له تحولات عميقة في مجمل المفاهيم التي تشكل الوجود الإنساني، كالزمان والمكان والهوية واللغة والمعرفة والثقافة والتاريخ وغيره.

الفرق بين التحوُّلين أن الأول جاء عقب انتشار وسائل الإعلام الجماهيرية (من الفرد إلى الجمهور) كالصحف والراديو والتلفاز، وكان أثره سلبيًّا على المجال العام من حيث تفكيكه وانهياره، وهذا ما حصل أيضًا في البلاد العربية حيث سعت الحكومات كما يقول عبد الهادي الفلاحات: إلى “التحكم بالمعلومة سواء حجبها أو فلترتها وتوجيهها بما يخدم مصالحها، ومحاولتها لتشكيل رأي عام يدعم سياستها من خلال التحكم بوسائل الإعلام الرسمية التقليدية والتليفزيون والصحف الورقية“.

أما التحول الثاني، فجاء عقب انتشار وسائل الإعلام الرقمي ومنصاته المختلفة (من الجمهور إلى الجمهور)، وكان أثرها إيجابيًّا على المجال العام من حيث إعادة إحيائه وإتاحته لأكبر عدد من المستخدمين. وعادت له وظيفته في التأثير على الأنظمة السياسية، وأصبح جزءًا من آلية العمل السياسي، كما يرى عبد الرحمن منظور أنها “صارت مرتَهَنة بشكل كبير للنقاش العام داخل مواقع فيسبوك، والحملات المنظمة من قبل النشطاء الفيسبوكيين، لذلك أدت الحملات الافتراضية في مقاطعة المنتجات والانتخابات ومعارضة بعض القرارات الصادرة عن السلطة السياسية إلى فعل سياسي ميداني وضغط شعبي على الحكومة… وكان لحركية التشبيك وإبداع الفيديوهات والتدوينات الأثر الأساس في تشكيل رأي عام افتراضي“.

وانطلاقًا من حقيقة أن المجال العام مفهوم ثابت نسبيًّا في وظيفته، متحول في بنائه وفقًا للبيئة الحاضنة له، قدمت الباحثة شكل التحول الثاني الذي مرَّ به المجال العام والذي رافق انتشار منصات التواصل الاجتماعي الرقمية، وعرضته في الجدول التالي.

الجدول رقم (1) يقارن بين المجال العام التقليدي والمجال العام الرقمي

المجال العام التقليدي- هبرماس المجال العام الرقمي- فيسبوك
يوجد في الصالونات والنوادي والمقاهي يوجد إلى حد كبير في المجموعات والصفحات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي
الدخول طوعي استخدام الموقع طوعي
المشاركون متساوون فيما بينهم المستخدمون على قدم المساواة في القدرة على المشاركة والتعبير
حرية الرأي والتعبير مجال واسع للتعبير عن الرأي بحرية
مفتوح للجميع فيسبوك موقع مفتوح للجميع
مستقل عن الأنظمة السياسية والاقتصادية والدينية مستقل عن الأنظمة السياسية والاقتصادية والدينية
تطرح فيه قضايا عامة تهم الجميع تطرح فيه قضايا عامة تهم الجميع

استخدم الأردنيون مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها فيسبوك في وقت مبكر حتى قبل إطلاق النسخة العربية منه، وكان لارتفاع المستوى التعليمي للأردنيين، ونشأة الجيل الشاب منهم في بيئة رقمية، رافقها إفساد رسمي للمجالات العامة المتاحة، والسيطرة على مجمل أشكال التنظيمات المدنية، ووقوعها تحت عيون السلطة، دور كبير في انتشارها بينهم أولًا، ثم التوجه لاستخدامها في كافة أشكال التواصل، وجعلوا القضايا العامة جزءًا من اهتمامهم، إلا أن ثورات الربيع العربي فجرت مستوى جديدًا من الوعي، جعل من مواقع التواصل المتنفس الأسهل والأفضل لإنشاء المجموعات والصفحات التي تناقش القضايا ذات الأهمية لعامة الشعب. استخدم الشباب الأردني مواقع التواصل الاجتماعي طواعية دون إلزام، كونها متاحة للجميع، بغض النظر عن مكان الإقامة أو المستوى التعليمي أو الجنس أو أي اعتبار اجتماعي آخر، وشعر فيها المستخدمون أنهم أحرار ومستقلون إلى حد كبير عن أية وصاية، لاسيما الوصاية التي يفرضها النظام السياسي ومؤسساته، كما وجدوا أن فيها من الخصائص ما يسهم في “كسر حاجز الصمت لدى الشعوب العربية وكسر احتكار  المعلومة والخبر من قبل المؤسسات الرسمية العربية … وشكلت منابر حرة بلا قيود للتعبير عن الرأي والحشد للجماهير وأضعفت قدرة السلطات بالتحكم بها وبمسار عملها لأنها جيش كبير من المستخدمين كما أنها شكلت ساحة للنقاش والحوار والتواصل بين الشعوب حول القضايا الحياتية التي تشغل تفكير واهتمام قطاعات واسعة من أبناء  الشعوب العربية خصوصًا فئة الشباب..”، كما يقول عبد الهادي الفلاحات.

وعليه، يمكن فهم كل ما عُرِض من نتائج أعلاه في إطار دخول مفهوم المجال العام بمرحلة تحول بنيوي جديدة بفعل انتشار وسائل التواصل الرقمية، والإطار النظري الأقرب.

وخلاصة الأمر أن وسائل التواصل الاجتماعي هي الخيار المتاح أمام الشعوب العربية للتعبير وتبادل الآراء وإيصال موقفها من كثير من القضايا التي تشغلها، وتبقى إجابة السؤال الذي طرحه علي: “في أمل ولا ما في أمل؟ هذا الشيء صعب نجاوب عليه” رهنًا بتعمق تجارب الشعوب الحرة في اجتراح الوسائل التي تعاند فيها قساوة الواقع بحثًا عن بقعة ضوء.

استنتاجات

– تنتقل عدوى الوعي والحراك بين الدول العربية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لما يجمعها من ظروف سياسية واقتصادية متشابهة إلى حد كبير، فعندما تحدَّث الشباب الأردني عن همومهم الوطنية، لم يتمكنوا من فصلها عن الحالة العربية العامة، وكيف أسهمت الثورات العربية في تشكيل وعيهم السياسي تجاه القضايا العربية والمحلية.

– أسهمت الثورات العربية ونقل أحداثها أولًا بأول من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب نشأة جيل الشباب الحالي في بيئة رقمية في ارتفاع منسوب الوعي السياسي لدى الشعوب العربية وتطوير آليات العمل السياسي بشكل ملحوظ.

– لجأ المحتجون لمواقع التواصل الاجتماعي لأسباب تتعلق بغياب المجالات العامة التي يستطيعون فيها ممارسة حقهم في النقاش حول قضاياهم وهمومهم، وبسبب غياب الإعلام الحر، وميل الموجود لخدمة مصالح السلطة، ولما تتمتع به مواقع التواصل من مزايا وخصائص في نقل المعلومات، والتشبيك، والسرعة والانتشار.

– ينشط المحتجون الرقميون عبر مواقع التواصل لدوافع ذاتية تتعلق بالقلق من المستقبل وحب البلد، والشعور التكافلي مع الطبقات المسحوقة، ورغبة في المساهمة بصنع القرار، ودوافع موضوعية تتمثَّل في نمط الحكم الاستبدادي، وانتشار الفساد بكافة أشكاله، ومعاناة الناس من ظروف معيشية صعبة كالفقر والبطالة والغلاء الفاحش، وانكماش الطبقة الوسطى.

– يستخدم الناس مواقع التواصل الاجتماعي لمختلف أشكال الاحتجاجات، منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني، وإن كان يغلب عليها الطابع السياسي أكثر من غيرها. كما تختلف مآلات الاحتجاجات، فمنها ما حقق نجاحًا ومنها ما بقي “مجرد صيحات في واد وهوامش على متن الفعل السياسي”.

– يستخدم المحتجون الرقميون وسائل رقمية متنوعة لنقل المعلومات كالنصوص المكتوبة أو المصورة، والصور، والأفلام، والروابط، والرسوم التعبيرية. تتضمن رسائل ذات مضامين متنوعة؛ ساخرة، وعلمية، وتشبيكية، واستطلاعية، وتنظيمية، وتوعوية، وتحفيزية، وتسريبات إعلامية.

– تخضع الاحتجاجات الرقمية لآلية عمل تميزها عن غيرها، وتعتبر بمثابة اجتماع دائم وجدول أعمال غير منته، تبدأ بالتدفق المستمر للمعلومات، وتمر بسلسلة تطورات حتى يتقرر مصيرها.

– أنتجت الاحتجاجات الرقمية مجموعة من المعاني والقيم، نتيجة كسرها لحاجز الصمت، فظهرت قيم الجرأة في قول الحق، والثقة بالنفس المرتبطة بالقدرة على الفعل والتغيير، وتعزيز روح الانتماء، والإحساس بالمسؤولية، والفخر، والدقة والضبط، والشعور الجمعي، والاستقلالية والتحرر من وصاية الكبار.

– لمواقع التواصل سلبيات تتعلق بالخوف من الاعتماد عليها في التعبير والاحتجاج، واتخاذها وسيلة للشهرة والإشباع النفسي الوهمي، وعدم وضوحها وعدم ضمان حياديتها، كما عززت أجواء الخلاف في بعض القضايا وأظهرت سوءات المجتمع دون مواربة.

– اختلف شكل العلاقة بين السلطة السياسية والاحتجاجات الرقمية وفق عامل الزمن وتعمق الخبرة وحساب المخاطر، واستخدمت القوانين دومًا لضبط إيقاع آليات العمل السياسي الرقمي، ومرت القوانين بسلسلة من التطورات تعكس عدم قدرة الحكومة على ملاحقة مارد التقنية الرقمية، فكلما وضعت قانونًا لتقنية تواصلية جديدة، وجد الناس طريقَهم إليها، حتى تظهر تقنية أخرى أكثر تطورًا.

– حالة التصحر السياسي الناتجة عن ضعف الأحزاب وضعف مجلس النواب، وعدم ثقة الناس بهما، أحد أسباب اتجاه الشباب نحو العمل السياسي الرقمي.

– تحمل مواقع التواصل الاجتماعي والتقنيات الرقمية الحديثة إمكانيات عديدة يمكن استغلالها لصالح الحكومات والشعوب معًا، ويبدو أن خوف الحكومات المستمر وغير المبرر من أداء هذه التقنيات واستخداماتها يشير إلى خلل كبير في الأداء الحكومي، كما يعكس حجمًا هائلًا من عدم الثقة بين الطرفين.

 

 

مراجع

  • معجم المعاني، (د.ت)، (تاريخ الدخول: 28 أغسطس/آب 2018):

https://bit.ly/2NmDJcm

  • سعدي، أحمد، في مفهوم الاحتجاج وعرضه من قبل لجنة أور، مجلة عدالة الإلكترونية، العدد السادس، أكتوبر/تشرين الأول 2004، (تاريخ الدخول: 28 أغسطس/آب 2018):
  • Encyclopedia Britannica, 25 June 2014, (Visited on 29 September 2018):

https://www.britannica.com/topic/digital-activism ,

  • في الرابط تفاصيل كاملة حول الاحتجاجات التي حصلت في الأردن: “أزمة الاحتجاجات بالأردن.. القصة الكاملة”، الجزيرة نت، 4 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 6 سبتمبر/أيلول 2018):

https://bit.ly/2Lmg1fT

  • تدرك الباحثة أن اختيار عينة واسعة التباين (Maximum Variation Sample) سيكون أفضل من ناحية شمولها لكافة الاتجاهات والشرائح الاجتماعية والفئات المتباينة الرأي في حالة الاحتجاجات الرقمية، وحال دون ذلك ضيق الوقت والإمكانيات المخصصة لهذه الدراسة.
  • شكر خاص للمهندس محمود أبو عادي الناشط في مواقع التواصل الاجتماعي وفي حراك الرابع، لمساعدته في تنظيم الحلقة النقاشية، ومشاركته بها، وللرابطة العربية للتربويين التنويرين الذين سمحوا لنا بعقد الحلقة النقاشية في مقرهم.
  • المشاركون في الحلقة النقاشية هم: حسين الصرايرة، صحفي، ومجد السليتي، طبيب، ورزان خصاونة، خريجة حديثة، ولين الغرايبة، مذيعة وخريجة جديدة، ورغدة خليل، صحفية، وعلي أبو هواش، محاسب.
  • يجد القارئ تفاصيل حول الحراك الأردني في الأعوام 2011-2012 في الصفحة التالية: تاريخ الدخول: 25 سبتمبر/أيلول 2018:

https://bit.ly/2xXk5Pt

  • “Social Media Stats Jordan”, (Visited on 26 September 2018):

http://gs.statcounter.com/social-media-stats/all/jordan

  • “Twitter in Arabic and Right-to-Left Languages”, (Visited on 26 September 2018):

http://blog.globalizationpartners.com/twitter-in-arabic.aspx

  • استخدمت صفحة المنصة الاحتجاجية #معناش على فيسبوك، التي تبنت الاحتجاج على مشروع قانون ضريبة الدخل في الأردن، والتي يشارك فيها نحو 40 ألفًا حسبما تُظهر الصفحة، والصفحة ما زالت فاعلة إلى الآن، حيث أعادت الحكومة طرح مشروع القانون مرة أخرى، وتم إجراء تحليل لمضامينها وذلك بتاريخ 14 سبتمبر/أيلول 2018.

12) “فيديو الشوسمو الرابع – عملنا اضراب”، يوتيوب، 5 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 26 سبتمبر/أيلول 2018):

 https://www.youtube.com/watch?v=x2fSkc-PXLM&feature=youtu.be– “فيديو معناش”، يوتيوب، 8 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 26 سبتمبر/أيلول 2018):

https://www.youtube.com/watch?v=cGoevyok0jQ&feature=share

  • Smth, Aaron, “Public Attitudes Toward Technology Companies”, Pew Research Center, 28 June 2018, (Visited on 20 September 2018):

 http://www.pewinternet.org/2018/06/28/public-attitudes-toward-technology-companie

  • “الأردن يبدأ مراقبة المواقع الإخبارية الإلكترونية أسوة بالمطبوعات”، صوت الوطن، 23 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 26 سبتمبر/أيلول 2018):

https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2007/09/23/104816.html

  • “مشروع قانون جرائم أنظمة المعلومات لسنة 2009″، قانوني الأردن، (تاريخ الدخول: 26 سبتمبر/أيلول 2018):

https://bit.ly/2Rpk5j4

  • النجار، محمد، “قانون أردني يقيد صحافة الإنترنت”، الجزيرة نت، 7 ديسمبر/كانون الأول 2009، (تاريخ الدخول: 20 سبتمبر/أيلول 2018):

https://bit.ly/2ydzWZk

  • المصري، ريم، “قانون الجرائم الإلكترونية: كيف تسيطر الدولة على الوسيلة؟”، حبر، 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2018):

https://www.7iber.com/technology/cyper-crimes-law-controlling-7-million-internet-users/

  • “رسالة رئيس الوزراء لمتابعيه على تويتر ردًّا على تعليقات الناس حول مجموعة من القضايا”، تويتر، 17 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2018):

https://twitter.com/OmarRazzaz/status/1008323997199687681

  • “تفاعل رئيس الوزراء مع المغردين”، تويتر، 10 أغسطس/آب 2018، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2018):

https://twitter.com/OmarRazzaz/status/1027954762338250752

  • “تغريدة تتضمن مقترحًا لرئيس الوزراء والتي أُعجب بها وعلَّق عليها لاحقًا”، تويتر، 13 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2018):

https://twitter.com/Ghaidharairy/status/1006908778254602240

  • تم فعليًّا إحالة مشروعي القانونين إلى مجلس النواب ويجري حاليًّا مناقشتهما بهدف الإقرار.

22) “فيديو سيناتور أميركي يتكلم عن ضرورة رفع الضرائب للدول الفقيرة في إفريقيا لأنها سوف تزداد فقرًا”، يوتيوب، 5 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2018):

 https://www.youtube.com/watch?v=nrq-_SN2Nac

23) “تغريدة الأمير حمزة التي لقيت تفاعلًا شعبيًّا كبيرًا”، تويتر، 24 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2018):

https://twitter.com/HamzahHKJ/status/1044444588084269059

  • Habermas, Jürgen,The Structural Transformation of the Public Sphere: An Inquiry into a Category of Bourgeois Society, Burger, Thomas (Translator) , The MIT Press, Cambridge).
  • Ibid, 49.
  • Ibid, 30.
  • Ibid, p. 74.
  • Ibid, p. 110.
  • Ibid, p. 181.
  • Ibid, p. 190.
  • يحتاج الأمر إلى كثير من البحث التاريخي لمعرفة كيف ظهرت تطورت وتفككت المجالات العامة في عالمنا العربي الإسلامي.
  • هناك الكثير من الدراسات العربية والأجنبية التي ربطت الثورات العربية بالتطور الرقمي في وسائل التواصل، يصعب حصرها ولكن هذه بعض من النماذج التي نشرت باللغة الإنجليزية، وببحث بسيط يحصل الباحث على عشرات النماذج باللغة العربية.

Brown, Heather; Guskin, Emily and Mitchell, Amy, The Role of Social Media in the Arab Uprisings, Pew Research Center, 28 November 2012).

http://www.journalism.org/2012/11/28/role-social-media-arab-uprisings/

Gladwell, Malcolm, “Twitter, Facebook, and Social Activism: Small Change – Why the Revolution Will Not Be Tweeted”, The New Yorker, 4 October 2010.

http://www.newyorker.com/reporting/2010/10/04/101004fa_fact_gladwell

Khamis, Sahar and Vaughn, Katherine, “Cyberactivism in the Egyptian Revolution: How Civic Engagement and Citizen Journalism”, Arab Media and Society, Summer 2011

Lim, Merlyna, “Clicks, Cabs, and Coffee Houses: Social Media and Oppositional Movements in Egypt, 2004-2011″, Journal of Communications, April 2012.

Barrie, Axford, “Talk about a Revolution: Social Media and the MENA Uprisings”, Globalizations 8.5, 2011.

  • Malkawi, Asma, Digital Public Sphere within the Jordanian Political Movement: A Case Study for Saving Bergesh Forests through Facebook, British Journal of Humanities and Social Sciences, Vol. 8 (1), 16 December 2012.

ملكاوي، أسماء، أخلاقيات التواصل في العصر الرقمي: هبرماس أنموذجًا، )المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات،