ملخص:

 تسعى الدراسة للتعرف على قدرة الشعبوية على الاستفادة من الفرصة السياسية عندما تصبح متاحة لها أو ممنوعة عنها. وذلك من خلال مقارنة الفرص السياسية المتاحة في الأنظمة المختلفة وكيفية تأثيرها على صعود الشعبوية. والمقارنة هنا بين الأنظمة الديمقراطية والسلطوية. ويسعى البحث إلى اختبار الإطار التحليلي المُسمى “نظرية الفرصة السياسية المتاحة”. وهو الإطار المعروف لدى الباحثين في حقل الحركات الاجتماعية. ويسعى هذا البحث لتفسير إستراتيجيات الشعبوية كنتيجة لبنية النظام السياسي. والسؤال المركزي للبحث هو: كيف تؤثر بنية النظام السياسي والعلاقة بين شبكاتها ومؤسساتها على نشوء الحركات الشعبوية؟ وتخلص الدراسة إلى نتيجة مفادها أنه ليست النظم السلطوية وحدها من توفر البيئة لصعود الشعبوية، وإنما النظم الديمقراطية أيضًا؛ فالفجوات والإخفاقات في الأنظمة الديمقراطية أعطت الفرصة لصعود الشعبوية. ومنها الفساد بين النخب السياسية، والإخفاقات في السياسات المحلية والاقتصادية، والإعلام التنافسي الذي يوفر منافذ إعلامية للتركيز على القصص التي تغذي الروايات الشعبوية، مثل قضايا الهجرة.

كلمات مفتاحية: الفرصة السياسية المتاحة، الحركات الاجتماعية، الشعبوية، الديمقراطية، السلطوية.  

 

Abstract: The study aims to measure the extent to which populism can benefit from the political opportunities when granted or denied this opportunity. This is made by comparing the available political opportunities across the different political systems and examining how they influence the rise of populism. The comparison here covers democratic and authoritarian regimes. The research seeks to examine the theoretical framework known as the Political Opportunity Theory. This framework is known to social movement researchers. The current study seeks to explain populist strategies and momentum resulting from the opportunity given by existing political structures. The central question of the study is: how do state structure and the relationship between its networks and institutions influence the rise of populist movements. The study concludes that authoritarian regimes are not the only systems of governance that act as a breeding ground for populism, but so are democratic regimes. The failures of local and economic policies, polarizing media outlets provide an atmosphere focused on stories that feed populist narratives, including those related to migration.

Keywords: Political Opportunity structure, Social Movements, Populism, Democracy, Authoritarianism

 

مقدمة

فتح صعود الشعبوية خلال السنوات الأخيرة في بعض الديمقراطيات الراسخة نقاشًا أكاديميًّا بشأن قدرة هذا التيار على تهديد الديمقراطيات. وكان هذا ظاهرًا في الدور الذي لعبته الشعبوية في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة في عام 2016. ومع مطلع عام 2017، تعززت ما تسمى الشعبوية اليسارية في البلدان التي تضررت بشدة جرَّاء الأزمة المصرفية، وسياسات التقشف النيوليبرالية في الاتحاد الأوروبي مثل اليونان والبرتغال، وتصاعدِ التمثيلِ السياسي لليمين المتطرف في ألمانيا والنمسا وفرنسا.

تعتبر الشعبوية ظاهرة تستحق الدراسة والفهم من خلال الحقول الاجتماعية والمعرفية الأخرى، وهذا يساعد في فهم تشكلها وتكوينها وأسباب انتشارها، وهي ظاهرة عابرة للفئات والحركات والأيديولوجيات والدول. ولها أسباب تتداخل ما بين العالمية مثل الكساد الاقتصادي والحروب، وأسباب محلية مثل البطالة واللجوء. وهي ظاهرة متشعبة الارتباط مع الثقافة والأيديولوجيا والدين. كما أنها ترتبط بـ “الزعيم” تارة، وبالحركات السياسية والاجتماعية والأشكال التنظيمية تارة أخرى. وهي كذلك ظاهرة لا تتجسد بشكل تنظيمي، وإنما بممارسات خطابية وسياسية من منصات متنوعة. وهذا التشعب والسيولة لهذه الظاهرة، يفتح المجال لدراستها من حقول معرفية متنوعة وعابرة للتخصصات. ولا يمكن الادعاء بأن هناك مقاربة أو نظرية هي الأنسب لدراسة الشعبوية، وإنما يساعد كل إطار نظري في فهم الشعبوية بشكل مختلف.

ويهدف هذا البحث إلى تطبيق إحدى نظريات الحركات الاجتماعية وهي نظرية الفرصة السياسية (Political Opportunity Structure) لتفسير نشوء وصعود أو خفوت الحركات الشعبوية. ومعرفة النتائج التي سيوصلنا إليها هذا الإطار التحليلي، وذلك من خلال محورين، الأول: تفسير العلاقة بين نظام الدولة ونشوء الشعبوية، والثاني: المقارنة بين العوامل المساعدة في نشوء الشعبوية في الأنظمة الديمقراطية من جهة والأنظمة الديكتاتورية من جهة أخرى.

لقد ناقش العديد من الدراسات الحركات الاجتماعية والشعبوية من خلال نظرية الفرصة السياسية، إلا أن الفرصة السياسية وفرت عدة عوامل تساعد في فهم الحركات الاجتماعية، وهي على مستويين: العوامل التي تتعلق بالدولة نفسها، بمعنى درجة الانفتاح (openness) التي تخلق للحركات الاجتماعية الفرصة للوصول إلى النظام السياسي أو تحقيق أهدافها، أو الانغلاق (closedness) الذي يمنعها من ذلك. أما المستوى الثاني فهو العوامل المرتبطة بالحركات نفسها، مثل الأيديولوجيا والعلاقات مع النخب الأخرى والتحالفات مع الفاعلين الآخرين، مع دراسة العلاقة بين هذه العوامل والنظام السياسي بالطبع.

تفترض الدراسة أن جدوى الاستفادة من نظرية الفرصة السياسية متأثر بإعادة ترتيب دراسة عوامل النظرية وفق شكل النظام السياسي، فأشكال الحكم الديمقراطي المعاصرة تشير إلى تداخل بين الجهات الفاعلة كالحركات الاجتماعية والشعبوية والسياسية والمجتمع المدني مع الدولة؛ حيث تصبح هذه الجهات جزءًا لا يتجزأ من المؤسسات السياسية من خلال العلاقات غير الرسمية وأحيانًا العلاقات الرسمية أيضًا. لذلك، فإن التركيز على الفرص السياسية التي تأتي من جانب الدولة ومؤسساتها فحسب سيفوِّت الفرصة لدراسة العلاقات بين الفاعلين والتحولات التي طرأت عليهم. فالفرص السياسية في الأنظمة الديمقراطية أكثر استقرارًا. وبالتالي فإن إعطاء الأولوية لدراسة الحركات الاجتماعية والشعبوية والسياسة والأنشطة الاحتجاجية يكون أكثر جدوى لفهم هذه الحركات، ومن العوامل المتعلقة بالحركات والتي يمكن دراستها في هذه الحالة: الأيديولوجيا، والعلاقة مع النخب، والعلاقة مع الأحزاب والحركات الأخرى، وقد تناولت نظرية الفرصة السياسية كافة هذه الجوانب في حين أنه في الأنظمة السلطوية تكون الفرص السياسية المتعلقة بالنظام أكثر تقلبًا؛ ففتح وإغلاق “نوافذ الفرص”، يؤثر بشكل حاسم ومركزي على أشكال الحركات وخياراتها وأهدافها وتحولاتها بكافة أشكالها. وبالتالي، فإن البحث سيعتمد منهجية ثنائية التشعب لدراسة تأثير الفرصة السياسية على الحركات الشعبوية؛ حيث سيتم إعطاء الأولوية للعامل الأكثر تأثيرًا على الشعبوية في الأنظمة السلطوية مثل انفتاح وانغلاق الفرص السياسية المتعلقة بالنظام السياسي نفسه، في حين ستتم دراسة العوامل المتعلقة بالشعبوية نفسها في الأنظمة الديمقراطية مثل الأيديولوجيا والعلاقة مع النخب والعلاقة مع الأحزاب الأخرى، على افتراض استقرار وثبات العامل المتعلق بالفرص الناتجة من النظام السياسي نفسه.

أولًا: الشعبوية.. مقاربة مع الحركات الاجتماعية

تنوعت تعريفات الشعبوية، سواء أكانت تلك المرتبطة بالزعامة والقيادات، أو باعتبارها حالة خطابية عابرة للفئات والحركات، أو كحركات تتقاطع بالعديد من صفات الحركات الاجتماعية والسياسية، وتقترح الدراسة الذهاب للمسار الأخير في التعريف، فهو يقنِّن التعريف بدلًا من تشعبه، ويساعد في تحقيق أهداف الدراسة.

رغم اعتبار جان فيرنر مولر (2016) أن الشعبوية مناقضة للديمقراطية، إلا أنه منهجيًّا يرفض الحكم على الشعبوية بالاستناد للسياقات التاريخية التي عايشتها قبل الحرب العالمية الثانية، والتي عايشتها أيضًا في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ويرى مولر أهمية الابتعاد عن الإطار التحليلي التقليدي للشعبوية لفهم منطق هذه الظاهرة بشكل أفضل، ومراعاة التغييرات الهيكيلة في البنى السياسية الليبرالية والنيوليبرالية(1).

وقد حدد كل من ديفيد سول وهانزبيتر كريسي (David A. Snow and Sarah A. Soule) خمسة أبعاد للتعبئة الشعبوية، وهي: “العمل الجماعي أو المشترك؛ وتغيير الأهداف أو المطالب؛ وبعض الإجراءات الجماعية غير المؤسسية؛ ودرجة معينة من التنظيم ودرجة معينة من الاستمرارية الزمنية”(2). ويشير هذا التعريف إلى تشابه مع خصائص التعبئة للحركات الاجتماعية، ولكن ما يختلف عنها هو الآنية وعدم الاستمرارية سواء في الأساليب أو المطالب.

لا يمكن الاستغراب من مبرر صعود الشعبوية في النظم الديمقراطية، وإلا من باب أولى أيضًا الاستغراب من نشاط الحركات الاجتماعية في الأنظمة الديمقراطية نفسها، فالحركات الاجتماعية تنظم أنشطتها من أجل مجموعة من المطالب التي تسعى لتحقيقها. سواء لنفسها أو لتمكين المحرومين من حقوقهم مثل حقوق المرأة والحقوق المدنية. وفي الأنظمة الديمقراطية ورغم مرور عشرات السنين على تكريس العدالة والمواطنة والاحتكام للقانون، إلا أن ذلك لم يوقف أنشطة الحركات الاجتماعية. وخاصة مع النظام الديمقراطي التمثيلي.

لقد ربط العديد من الدراسات بين الحركات الاجتماعية والشعبوية، واعتبر بعض الباحثين أن الحركات الاجتماعية تمارس الشعبوية في بعض الأحيان؛ فمثلًا كاريج كالهون (Craig Calhoun)، في كتابه الصادر عام 1982 والذي كان بعنوان “سؤال الصراع الطبقي: الأساس الاجتماعي للراديكالية الشعبية أثناء الثورة الصناعية”، ناقش أن الاحتجاج الشعبي تم تنظيمه من قبل الراديكاليين المؤدلجين والمدافعين إلى حد كبير عن القيم التقليدية للثقافة والمجتمع ضد النظام الصناعي الناشئ، وأن الحركات الاجتماعية الأكثر انتشارًا في العالم الحديث كانت التي تعتمد على الشعبوية في تعبئتها(3).

وفي مسار آخر ليس ببعيد عما قدمه “كالهون”، اعتبر كينت ردينغ (Kent Redding) أن الحركات الاجتماعية في أصلها حركات شعبوية(4). ويعود هذا السبب للتعبئة الشعبوية التي مارسها العديد من الحركات الاجتماعية في القرنين الماضيين، مثل التعبئة الشعبوية في تحالف المزارعين في القرن التاسع عشر، والتعبئة الشعبوية للحركة الطلابية الصينية في احتجاجات عام 1989. والحركات اليمينية الراديكالية الأوروبية(5). والحركات الشعبوية في الولايات المتحدة الأميركية المناهضة لحقوق السود.

ويرى كاس مود وكريستوبال روفيرا كالتفاسر (Cas Mudde and Cristóbal Rovira Kaltwasser) أن العديد من الحركات الاجتماعية والسياسية غير المنخرطة في النظام السياسي تعتمد في تحقيق أهدافها على أدوات بعيدة عن المؤسسية أو الدولانية والأقرب للشعبوية، لحين التمكن من الانخراط في النظام السياسي. ودرجة اعتماد الحركات الاجتماعية على الشعبوية تقاس بمقدار امتلاكها لقنوات وأدوات رسمية وشرعية. ومن الممكن أن تكون الممارسة الشعبوية إجراءً مرحليًّا ومؤقتًا في حال ابتعدت عن القنوات التي تمكنها من العمل السياسي، وذلك من خلال ثلاث طرق: القيادة الشخصية، والحركة الاجتماعية نفسها، والحزب السياسي(6)، نظرًا لتفضيلها للعمل السياسي عبر القنوات التي يوفرها النظام السياسي مثل الانتخابات وما إلى ذلك. لكن ما يناقض هذه الجدلية هو أن هناك حركات سياسية امتلكت أدوات فعالة وكان لديها إمكانية تأثير على النظام السياسي ضمن الانتخابات أو البرلمان، لكن ذلك لم يمنعها من ممارسة الشعبوية وهي في رأس الهرم أو في نظام الحكم. كحالة رئيس الولايات المتحدة الأميركية السابق، دونالد ترامب، والشعبوية اليمينة في أوروبا، وفي كلتا الحالتين فقد عادَتِ الشعبويةُ النخبَ السياسية، وسعت للتواصل مع الجمهور من خارج المؤسسات الرسمية، واحتكار الحديث باسم الأغلبية ضد التشكيلات الوسيطة مثل الأحزاب والحركات(7).

ومن ناحية أخرى، فمن الممكن أن تعتمد الحركات الاجتماعية على الشعبوية في بعض ممارستها الخطابية أو التعبوية، كمرحلة مؤقتة وتكتيكية. لأن أكثر من ذلك قد يضر بها ويؤثر على العضوية لديها، لأن الشعبوية في إطارها العام متغيرة، وعابرة للفئات، وفق المطلب الذي تنادي به الحركات الشعبوية. وهذا يجعلها لا تمتلك فئة صلبة تستند إليها على فترات زمنية طويلة.

وحسب الوصف الأيديولوجي للشعبوية، فقد جادل كل من “مود” و”كالتفاسر” بأن الشعبوية تأخذ شكل الأيديولوجيا الضامرة (Thin Ideology)(8). بمعنى أن الشعبوية نادرًا ما توجد في شكل أيديولوجي أو فكري نقي. وبدلًا من ذلك، فإنها تظهر بالاشتراك مع مفاهيم أخرى وذلك حسب الظرف السياسي. هذا الوصف الأيديولوجي للشعبوية يؤشر إلى أن الشعبوية تُفسَّر على أنها ظاهرة عابرة. إما أنها تفشل أو إذا نجحت “تتخطى” نفسها إلى شيء آخر. ويكمُن الانسياب الرئيسي للشعبوية في إمكانيتها لاستخدام مفاهيم من أيديولوجيات أخرى، متجاوزة بعض القيود الصلبة للحركات الأيديولوجية التقليدية. وهذه الميزة تجعلها متفوقة على الحركات الاجتماعية من ناحية الانتشار والتوسع.

ثانيًا: الإطار النظري.. الفرصة السياسية المتاحة

من النظريات التفسيرية التي يمكن أن تقدم تفسيرًا للعلاقة بين الحركات الاحتجاجية وبنية النظام السياسي نظرية الفرصة السياسية (Political Opportunity Structure)، وهي أبرز نظريات الحركات الاجتماعية (Social Movements)، والفرصة السياسية مفهوم يشير إلى البيئة الخارجية للحركة الاجتماعية، والتي تؤثر على تعبئتها وتنميتها وتحقيق أهدافها. وتجادل الفرصة السياسية بأن نجاح الحركات الاجتماعية أو فشلها يتأثر بالفرصة السياسية المتاحة(9). وقد حظيت نظرية الفرصة السياسية المتاحة باهتمام المختصين في الحركات الاجتماعية، كونها تساعد في فهم قدرة الحركات الاجتماعية في التعبئة والتأطير للوصول إلى نظام سياسي معين، على اعتبار أن الحركات الاجتماعية هي عبارة عن “جهات فاعلة ومنظمات تسعى إلى تغيير عجز السلطة وإحداث تحولات اجتماعية من خلال الدولة، ومن خلال تعبئة المواطنين العاديين للعمل السياسي المستدام”(10). وتسعى الحركات الاجتماعية إلى “منافسة” النظام السياسي؛ حيث يرى ويليام جامسون (William A. Gamson) أن الحركات الاجتماعية تسعى إلى تغيير بعض جوانب الهيكل الاجتماعي والسياسي من خلال مواجهة أو منافسة نظام السلطة الحاكم(11).

ومن أوائل الباحثين الذين ناقشوا مفهوم الفرصة السياسية هو سيدني تارو (Sidney Tarrow)، وعرَّف له أربعة أبعاد، وهي: درجة انفتاح أو انغلاق النظام السياسي الرسمي لوصول الحركات الاجتماعية للحكم، ودرجة استقرار التحالفات السياسية أو عدمها، ووجود شركاء وحلفاء في المواقف الإستراتيجية وفي تصور الأحداث(12)، والصراعات السياسية داخل النخب(13).

وقد عرَّف دوغ ماك آدم (Doug McAdam) الفرصة السياسة بأنها آلية عمل (mechanism) تغير شكل العلاقات بين مجموعات محددة من العناصر، ويؤثر هذا التغيير على مجموعة متنوعة من مواقف الفاعلين(14). وهناك ثلاثة أشكال من الآليات، تتمثل الأولى بالآليات البيئية، والتي “تعني التأثيرات المتولدة خارجيًّا على الظروف التي تؤثر على الحياة الاجتماعية”؛ والآليات المعرفية “التي تعمل من خلال تغيير المفاهيم الفردية والجماعية، و”الآليات العلائقية التي تغير الروابط بين الناس، والجماعات، والشبكات الشخصية”(15). وحدد ماك آدم ثلاثة أبعاد للفرصة السياسية: الانفتاح النسبي أو انغلاق النظام السياسي المؤسسي؛ واستقرار أو عدم استقرار تحالفات الحركات الاجتماعية مع النخب الاقتصادية والاجتماعية التي تخضع عادة لنظام سياسي؛ والسياسات التي تتبعها الدولة نحو الحركات الاجتماعية سواء بالسماح لهم بالمشاركة السياسية أو منعهم وقمعهم(16).

ويرى شارلز تيلي (Charles Tilly) أن العوامل الأساسية التي تسعى نظرية الفرصة السياسية المتاحة لدراستها تتلخص بالآتية: (1) البنية الداخلية وديناميكيات التنظيم للحركة الاجتماعية(2)، وتشكيل الأيديولوجيات(3)، وآثار الهياكل الرسمية للدولة على الحركة الاجتماعية، بمعنى درجة الانفتاح (openness) التي تخلق للحركات الاجتماعية إمكانية الوصول إلى نظام سياسي، وتأثير الدولة على الحركات الاجتماعية يقع ضمن ثلاثة محددات: قوة الدولة وهيمنتها، ومقدار القمع، والفرصة التي تتيحها الأنظمة للحركات الاجتماعية(17).

يظهر مما سبق أن هناك توافقًا بين الباحثين حول العناصر الأساسية للفرصة السياسية، ويمكن تصنيفها في صنفين: عوامل تتعلق بالبنية المؤسسية للأنظمة السياسية، وعوامل أخرى تتعلق بالفاعلين أنفسهم سواء أكانوا حركات اجتماعية أو أحزابًا أو نخبًا. وقد اختلفت الممارسات التطبيقية لنظرية الفرصة السياسية، فقد ناقش الباحثان، كاي أرزهايمر وإليزابيث كارتر (Kai Arzheimer and Elisabeth Carter)(18)، في دراستهما “هياكل الفرص السياسية ونجاح حزب اليمين المتطرف”، تأثير المتغيرات الاجتماعية والديمغرافية على توجهات الناخبين للتصويت لصالح الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، وذلك من خلال الاعتماد على منهجية تتكون من ثلاث مجموعات من العوامل: المجموعة الأولى من المتغيرات تتعلق بالخصائص المؤسسية طويلة المدى على أحزاب اليمين المتطرف، مثل النظام الانتخابي، والمجموعة الثانية تبحث في العوامل متوسطة المدى التي تتعلق بالحزب نفسه، مثل الأيديولوجية والتحالفات والتنافس مع أحزاب أخرى. أما المجموعة الثالثة من المتغيرات فتبحث في المتغيرات قصيرة المدى، مثل البطالة والهجرة.

وتسعى الحركات الشعبوية كما الحركات الاجتماعية إلى تحقيق مطالبها من خلال عدة أهداف، منها الدخول إلى النظام، والاعتماد على تحالفات متنوعة مع النخب في المجتمع. وفي الأنظمة السلطوية، كلما تقلص قمع الدولة السياسي، كانت حظوة وفرصة الحركة أو الحزب لتحقيق أهدافها أعلى(19). ومن إستراتيجيات الحركات الشعبوية “توسيع الفرص” شرطًا مباشرًا للتعبئة(20)، وتشجيع الفاعلين على الاحتجاج أو الانخراط في أنشطتها، وبحسب وجهة النظر هذه فإن الفرص السياسية لها أهمية لرصد ودراسة الظروف التي تسمح بالاحتجاج وصدى ذلك على الحكومة والجهات الفاعلة الاجتماعية الأخرى، وعلى دراسة السياسات التي تؤثر على تشكلات الحركات الاجتماعية ومساراتها وخياراتها.

ثالثًا: الشعبوية في الأنظمة الديمقراطية

من الأسئلة المركزية التي تواجه الأنظمة الديمقراطية: ما مبررات صعود الشعبوية لديها، والتي من المفترض أنها تقدم فرصًا للمحرومين للتعبير عن مطالبهم من خلال ممارسات مؤسسية متنوعة ومفتوحة؟ وربما تفتح هذه الإشكالية الخلاف حول العلاقة بين الديمقراطية والشعبوية. فوجهة النظر الأولى ترى أن الشعبوية تشكل خطرًا جوهريًّا على الديمقراطية وتمثل انحرافًا عن الديمقراطية التمثيلية وإجراءاتها(21). في حين يرى باحثون آخرون خلاف ذلك؛ فهم يعتبرون أن الشعبوية هي الشكل الحقيقي الوحيد للديمقراطية، وأن الشعبوية تعزز الديمقراطية من خلال السماح بتجميع مطالب القطاعات المستبعدة(22). إلا أن جيوريل كوران (Giorel Curran) يرى أن البنية السياسية تفرض في بعض الأحيان آليات عمل الشعبوية، إما عن طريق الانخراط في السياسة الديمقراطية التقليدية لتغييرها من الداخل أو من خلال أدوات خارج المؤسسة والاعتماد على الرموز والرسائل والخطاب. وهناك النوع الثالث وهو الحفاظ على السلطة. والدمج بين الأسلوبين السابقين، يعني التغيير من الداخل والخارج(23). ويتفق كل من إلينا بلوك ورالف نيجرين (Elena Block and Ralph Negrine) مع النوع الثالث، ومن الأمثلة التي يطرحونها ممارسات كل من دونالد ترامب وبيرني ساندرز في الولايات المتحدة الأميركية(24).

إن علاقة الشعبوية في تفاعلها مع النظام السياسي الديمقراطي أعقد من أن يتم تصنيفها أنها سلبية أو إيجايبة، فالعلاقة تفاعلية تدفع الشعبوية لأن تكون نتاج توترات الديمقراطية البنيوية. ولكن في نفس اللحظة للأنظمة الديمقراطية قدرة على احتواء هذه التوترات من خلال تعديل خطابها، أو من خلال تغيير النظام السياسي لبعض جوانبه القاصرة أثناء احتوائه. فمثلًا تقيس الشعبوية نجاحها في النظام الديمقراطي من خلال طريقتين: أولًا: الاختراق الانتخابي، أي الفوز بأصوات كافية لدخول الساحة السياسية (مثل البرلمان أو الرئاسة)؛ وثانيًا: الصمود الانتخابي، أي القدرة على التطور إلى قوة ثابتة ضمن النظام السياسي(25). وهذا يعني أن العوامل المرتبطة بالنظام السياسي الديمقراطي والفرص الناتجة عنه تكون مستقرة نسبيًّا. في حين أن العوامل المرتبطة بالشعبوية نفسها أكثر تغيرًا، ومن هذه العوامل العلاقة مع النخب، والعلاقة مع الحركات المنافسة الأخرى، والأيديولوجيا.

1.العلاقة مع النخب

هناك تحولات بنيوية أعمق تدفع بصعود الشعبوية في أماكن متفرقة من العالم، وهذه التحولات تتعلق بشكل كبير بوظيفة الدولة أساسًا، على اعتبار أن الدولة الفاعل المركزي، وأنها ترتبط بمجتمعها من خلال مجموعة من المؤسسات والممارسات التمثيلية(26). وعلى الصعيد الدولي فالدولة جزء من الترتيبات المؤسسية والعلاقات الدولية. وتُعتبر النخب من الفاعلين المركزيين لتحقيق وظيفة الدولة وإعادة إنتاجها كمؤسسة شرعية للحكم السياسي(27)، ومساعدتها بالتكيف مع النظام الدولي. وعلى الصعيد المحلي، فإن على النخب مهمة الالتزام بمعيار التمثيل الشرعي وتلبية مجموعة متنوعة من المطالب المجتمعية، ونسج الشبكات السياسية والاقتصادية والعسكرية.

تتصاعد معضلة النخب عند تناقض المتطلبات الدولية والمحلية. وأيضًا فإن ممارسة النخب لأدوارها من جهة والسعي إلى تحقيق مصالحها من جهة أخرى، تؤدي إلى الاختلال الذي يمثل فرصة لصعود الشعبوية بسبب التحولات في أدوار النخب. ويأخذ التحول في أدوار النخب مسارين، يتمثل أولهما بتعزيز سيطرة السياسيين والبيروقراطيين على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والأمنية بدافع العولمة. ومن ثم انتقال نخب الدولة من الشبكات المحلية أو الوطنية إلى الشبكات فوق الوطنية أو العابرة للحكومات(28).

أما المسار الثاني في تحول أدوار النخب والذي يمثل فرصة للشعبوية، هو ما أسماه هولمز كريستوفر (Holmes Christopher) الصراع بين مبدأين أو منظومتين داخل الدولة، “مبدأ الليبرالية الاقتصادية” و”مبدأ الحماية الاجتماعية”(29). فأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية انخرطت في الليبرالية الاقتصادية ضمن سياسات التمويل والعولمة. وقد دفع هذا لإخراج السوق من الحماية الاجتماعية المحلية؛ مما أدى إلى زيادة انعدام الأمن وهشاشة الترابط الداخلي. وفي طريق ذلك تم تهميش البعد الثقافي والاجتماعي لصالح البعد العالمي والسوق المفتوح. وقلَّل هذا التهميش الآمال في تكريس العدل والمساواة. والأخطر من ذلك انعكاس هذه التحولات على العلاقة بين الديمقراطية من ناحية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية من ناحية أخرى.

لقد أدت العولمة والانخراط في التجارة العالمية إلى تضرر الطبقة الوسطى والعمالة؛ مما دفعها للغضب من النخب. كما أن تهميش الثقافة المحلية وقضايا الهوية دفع العديد من الفئات للشعور بالحرمان النسبي. وقد زاد شعور الحرمان مع زيادة وفادة العمالة الخارجية بسبب خفض الأجور، وزيادة الهجرة. وكان هذا مدخلًا لصعود الشعبوية التي انتقدت تجاهل الثقافات المحلية، وجددت مطالبها بالعودة إلى الانغلاق والتوجه نحو الداخل(30).

لم يمنع استقرار المؤسسات الديمقراطية، وظهور الأحزاب والنظام التمثيلي في الحكم، وحرية الرأي وتكريس المواطنة والحقوق للأفراد والجماعات من تشكل بيئة لصعود التيارات الشعبوية؛ فتداول الحكم بين فئة قليلة من النخبة السياسية والاقتصادية، وتبادل القوة والمصالح والنفوذ بينهم، عمَّق اغتراب أفراد المجتمع عن السياسة، وعزز شعور شرائح عريضة ومتنوعة من المجتمع بمشاركتهم الشكلية من خلال الانتخابات، وعدم تأثيرهم العميق في البنى السياسية والبرامج والسياسات(31). كل ذلك يمثل بيئة خصبة للشعبوية في النظم الديمقراطية. وهذا ما يؤيده شانتال موف (Chantal Mouffe)(32)، فهو يرى أن تبادل السلطة بين النخب أنهى فعليًّا “السياسة”، ومن أجل قطع الطريق على الاستبدادية الأوليغشارية من المهم إعادة رسم الحدود السياسية، لتشكيل ما يسمى مرحلة “عودة السياسة” بعد سنوات مما بعد السياسة، وإنقاذ الديمقراطية من أنظمة تريد إضعافها، فالشعبوية في هذه اللحظة مقاربة إيجابية، تجعل السياسة ممكنةً لفئات متنوعة من المجتمع، لمواجهة البيروقراطية وإعادة تأكيد وتوسيع القيم الديمقراطية. في هذه اللحظة، وحسب “موف”، فإن الشعبوية تقترب لأن تكون مسارًا ثوريًّا أقرب للشعبي منه للشعبوية في وجه احتكار السلطة(33).

ويختلف كل من “كاسو كريستوبال” و”روفيرا كالتواسر” وعزمي بشارة مع “شانتال موف” في اعتبار الشعبوية حلًّا لاستفراد النخبة بالحكم، فحسب رأيهم فإن الشعبوية لا تملك منطقًا سياسيًّا، ولا يمكن ضمان مساراتها النهائية. كما أن من مخاطرها استبدال التقسيمات الهوياتية بالتقسيمات السياسية. وقد حذَّر بشارة من انتشار سياسات الهوية ومخاطبة الغرائز ونشوء حركات شعبوية تخوض العمل السياسي من منطلقات معادية للمؤسسات(34) وآليات التمثيل(35). فلم يضع المؤيدون للشعبوية كآلية لتصويب مسار الديمقراطية حلولًا بديلة لإنهاء احتكار النخب السياسية للحكم، وتجاوز تحكم الجهاز البيروقراطي غير المنتخب. كما أن نجاح الشعبوية قد يدفع الديماغوغيين لمغازلة الغضب الشعبي، والحشد والتحريض ضد الأحزاب والحكومة، واستكمال حملتهم في حال نجحت في التحريض ضد القضاء والآليات الديمقراطية.

2-العلاقة مع الحركات الاجتماعية والسياسية الأخرى

توفر البنية السياسية للأنظمة الليبرالية فرصة للحركات الاجتماعية لعقد تحالفات مع المنظمات والأفراد الذين يتفقون على بعض القضايا، ومن الممكن عقد تحالفات على أساس كل قضية على حدة. فنظام الحكم الليبرالي يوفر فرصًا عديدة للمشاركة، وبإمكانه تحقيق مكاسب سياسية. وفي نفس الوقت، يوفر نظام الحكم الليبرالي بيئة للتنافس بين نفس المنظمات والأفراد(36). في المقابل، توجد في النظام الليبرالي دوائر انتخابية متباينة في الظروف، تدفع للمشاركة السياسية غير الدستورية، وذلك نتيجة اختلالات في التحالفات، أو صعود قادة سياسيين شعبويين في تلك المنطقة، أو نتيجة ظروف اقتصادية أو اجتماعية طارئة(37).

إن الشعبوية في الأنظمة الديمقراطية لا تتشابه؛ حيث يربط العديد من الباحثين مفاهيم “الشعبوية الديمقراطية” أو “الشعبوية التقدمية”(38) بالأحزاب اليسارية كحزب الخضر في ألمانيا، الذي شارك في النظام السياسي. وقد اعتبر بعض الباحثين أن الشعبوية اليسارية قادرة على أن تعيد التوازن في النظام السياسي الديمقراطي في أوروبا، فهي على نقيض الليبراليين في فردانيتهم وتجاهلهم للمكونات الثقافية للمجتمع(39)، فالشعبوية اليسارية في أوروبا تركز في نضالها على شعارات العدالة الاجتماعية وتدخل الدولة في النشاط الرأسمالي. وهذا أيضًا على نقيض اليمينيين الشعوبيين بسبب تجاهلهم الحقوق الاجتماعية ومعاداتهم للأجانب.

يرى كاثلين بلي (Kathleen M. Blee) أنه وعلى الرغم من أن الأنظمة الليبرالية الديمقراطية تتيح فرصًا للمنافسة السياسية، إلا أنها في نفس اللحظة تتحكم في وصول الفاعلين والحركات الاجتماعية لبعض المؤسسات في بعض مناطقها الانتخابية؛ فالمراقبة المشددة للحكومة الفيدرالية على الجماعات اليمينية، جعلت التنظيم لهذه الجماعات أكثر صعوبة؛ مما أدى إلى منع بعض الإستراتيجيات وقطع الدعم المحتمل عنها، حتى مع وجود أنظمة حكم ذات توجه مؤسسي(40).

وكغيرها من الحركات والأحزاب، تسعى الشعبوية إلى التنافس للوصول إلى الحكم أو التأثير. وتعتمد الشعبوية على “رسائل أساسية” أكثر واقعية عند التواصل مع الجمهور(41). وهي أقرب لسياسة التواصلية التي تعتمد على التفاعلات ما بين النشطاء في الحركات الاجتماعية والسياسية؛ حيث يقدم هؤلاء الأشخاص وعودًا ملموسة للجمهور تتعلق بتوزيع السلطة والثروة على خلاف ما هو قائم(42). وفي العلاقة مع بنية الدولة، فإن الحركات الشعبوية تسعى لاعتماد سياسات إستراتيجية يسعى من خلالها “الزعيم” للحصول على سلطة أو ممارستها من خلال الدعم المباشر وغير المؤسسي من خلال مجموعة من الأتباع غير المنظمين وخاصة في الأنظمة السلطوية(43). وذلك من خلال تحديد العناصر الأساسية خارج أطر الحركات الاجتماعية المؤثرة عليها. كما أن الفاعلين المشاركين في الخطاب الإعلامي الشعبوي يختارون أفضل الخيارات للعمل والتواصل لتحقيق أهدافهم.

3-الأيديولوجيا

اعتبر كيرك إيه هوكينز (Kirk Hawkins) أن الشعبوية أيديولوجيا ضامرة ليست لديها إجابات على كل الأسئلة. بمعنى أن هناك فسحة كبيرة للشعبوية لكي تعبِّر عن مطالبها من خلال الخطاب المشحون أخلاقيًّا لتحقيق أهدافها(44)، وتعتبر ذلك تعبيرًا عن الإرادة العامة للشعب أمام النخب الحاكمة(45)، وهي إحدى الإستراتيجيات لصنع المعنى وخاصة مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي. بمعنى أن الأيديولوجيا بالنسبة للشعبوية هي لصناعة المعنى من ناحية، وإستراتيجية تواصل من ناحية أخرى. وهذه الازدواجية في “الوظيفية” تعطي نتيجة أن الشعبوية هي أقرب في تركيزها على الأفكار أكثر منها على تصور شامل للقضايا. والأفكار تركز على محتوى كإستراتيجية سياسية لتحقيق الأهداف(46). وتستند سياسات التواصل الشعبوي على ثلاثة مكونات أساسية، وهي: مركزية الجمهور، ومعاداة النخبوية، واستعادة السيادة الشعبية(47). وتواصل الشعبوية يعبِّر عن محتواه من خلال المرتكزات الثلاثة بطريقة أيديولوجية مرنة.

والأيديولوجيا بالنسبة للشعبوية هي مفتاح العلاقة مع البنية السياسية. بمعنى أن الشكل الأيديولوجي غير التقليدي للشعبوية يجعلها رشيقة متخففة من أحمال الحركات السياسية والأيديولوجية الأخرى مما يمكنها من الوصول لفئات متنوعة من جهة. والوصول لمنصات التأثير بسرعة من جهة أخرى. فالمجتمعات بطبيعتها لا تعتنق أيديولوجيات صارمة وشاملة، ولا تتخذ موقفًا من معظم القضايا. وهذا ما يدفع الشعبوية في الاستثمار في طرق وإستراتيجيات الاتصال والتواصل أكثر منه في تحديد رؤية شاملة وصلبة تجاه القضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى.

وكمثال على الممارسات الأيديولوجية والخطابية للشعبوية، فالشعبوية تقسم المجتمع إلى مجموعتين متجانستين ومتعاديتين: “الأشخاص الطيبون” مقابل “النخبة السيئة”، وتفترض السيادة غير المقيدة للشعب، وتمجيد الشعب(48)؛ وهذا قد يدفع إلى خلخلة القواعد الراسخة في التنافس وخاصة في النظم الديمقراطية(49).

رابعا: الشعبوية في الأنظمة السلطوية

إن تفاعل المجتمعات الديمقراطية مع مطالب الحركات الاحتجاجية يدفع بازدهارها تحت ظل هذه الأنظمة. ويلعب توفر المنصات في الأنظمة الديمقراطية دورًا مساندًا للحركات الشعبوية والاجتماعية. لكن ومن ناحية أخرى، فإن انغلاق منصات الدولة أمام الحركات المطلبية بكافة أشكالها، يؤدي إلى جعل هذه المنصات هدفًا للشعبوية، والحشد والتعبئة من أجل الوصول إليها والاعتماد على منصات تواصل مباشر مع الجمهور(50).

في الإجابة على سؤال كيفية سير الشعبوية في الأنظمة السلطوية، تجادل حنا أرندت بأن الأنظمة السلطوية استخدمت الشعبوية لتأسيس نظامها؛ وذلك من خلال استخدام أدوات وادعاءات تبدو ديمقراطية لتعبئة الجماهير من أجل الوصول للحكم(51). بمعنى أن محور النظم السلطوية هي الشعبوية، وهي ممارسة سلطوية أكثر منها ممارسة حركات احتجاجية. وبعد استكمال النظام الشمولي، يبدأ النظام الناشئ بخلق أولوياته في خوض معاركه مع الجهات المعادية وتكثيف معاني الأعداء الخارجيين والداخليين، والهدف من ذلك هو إعادة تشكيل العلاقة مع الجمهور(52).

وفي إطار المقارنة التي أجرتها الباحثة دونتلا بورتا (Donatella Porta) بين الاحتجاجات التي اندلعت ضد الأنظمة السلطوية ذات الفرص السياسية المغلقة، في بعض المناطق العربية منذ العام 2011، وفي ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا خلال الفترة الانتقالية في أواخر الثمانينات(53)، فقد رأت بورتا أن ما يتشابه بين هذه الاحتجاجات هو النضال ضد النخب الفاسدة، باعتبارها المحتكرة للسلطة، والمتسببة في إغلاق الفرص السياسية أمام الحركات الاجتماعية الأخرى، مع اختلاف التعبير عن الذات و “نحن” لهذه الحركات(54)؛ حيث تتشابه الشعبوية بين الأنظمة الديمقراطية والسلطوية بأنها تقدم نفسها على أنها مناهضة للنخبة.

درس جان مولر العديد من تجارب الشعبوية في أميركا اللاتينية وروسيا، ووقف على ثلاث إستراتيجيات مركزية للشعبوية في تلك البلدان، سواء أكانت في الحكم، أو في إطار مواجهة انعدام الفرص السياسية، والإستراتيجيات هي: “محاولات اختطاف جهاز الدولة والفساد والزبائنية الجماعية”(55). ففي تلك التجارب قدَّم الشعبويون أنفسهم على أنهم مناهضون للنخبوية، وبمجرد وصولهم إلى السلطة، استمروا في استغلال الانقسام بين “الأشخاص النقيين” و”النخبة الفاسدة”.

يُعاد إنتاج العلاقة بين الشعبوية والأيديولوجيا في الأنظمة السلطوية وخاصة الشعبوية اليسارية؛ فتتحول من أيديولوجية خفيفة أو ضامرة لأيديولوجية ثقيلة وادعاؤها لتمثيل الطيف المجتمعي بأكمله؛ مما يسهم في تعزيز الانقسام الهوياتي، ويقدم مولر أمثلة تشير إلى ذلك؛ منها: هوغو شافيز ونيكولاس مادورو اللذان حشدا حجة “الحرب الاقتصادية” التي شنَّها الإمبرياليون لتبرير الفوضى في فنزويلا. وقد كرست الشعبوية في أميركا اللاتينية وروسيا شكلًا من أشكال “استعمار الدولة”، والانخراط في الفساد والمحسوبية، والقضاء على المجتمع المدني(56).

واجهت الأحزاب اليسارية الشعبوية انغلاق مؤسسات الدولة أمامها من خلال إستراتيجية سماها كينيث روبرتس (Roberts Kenneth) النموذج العضوي (Organic Model)(57). وهي اتباع الشعبوية أسلوبًا مختلطًا؛ حيث تشارك في السياسة الانتخابية المُتاحة والمنافسة على المواقع، وفي نفس الوقت تشارك في مساومات خلافية غير مؤسسية في السعي لتحقيق أهدافها. وقد جادل هربرت كيتشيلت (Herbert Kitschelt) بأن الحركة الاشتراكية في بوليفيا كانت لديها أشكال بديلة للتنظيم السياسي. فقد رفضت مأسسة الحركة كحزب بحجة أنها قد تؤخر التغيير السياسي؛ ما دفع الحركة الاشتراكية في بوليفيا لإيجاد أشكال بديلة للتنظيم السياسي لا يمكن وصفها بسهولة بأنها إما حركات اجتماعية أو أحزاب سياسية بالمعنى التقليدي(58).

تستند الشعبوية في الأنظمة السلطوية على مرتكز أساسي وهو الزعيم أو القائد، الذي يحدد مسار التعامل مع الفرقاء أو الهيكليات السياسية القائمة أو في الاستقطاب(59). ويجادل أرنستو لاكلاو (Ernesto Laclau) بأن الشعبوية تتخذ أشكالًا شخصية إلا أن إضفاء الطابع الشخصي لا يكفي لنجاح الشعبوية وتمكنها في الحكم، فإن ما تحتاجه لكي يؤهلها للسياسة هو نوع الفكر الذي تطرحه. فوجود الزعيم مع مجموعة من الأفكار يجعل السياسة ناجحة للاستقطاب(60).

إن الشعبوية في الأنظمة السلطوية، سواء أكانت هي الحاكمة أو الحركة المناهضة للحكم، تتميز هيكليًّا بالتحيز الراديكالي في تفسير حكم الأغلبية؛ هذا يعني أنه إذا وصلت حركة شعبوية إلى السلطة، فقد يكون لها تأثير مشوه على المؤسسات وسيادة القانون وتقسيم السلطات التي تشكل الديمقراطية الدستورية(61). فالأفكار التي تستند إليها الشعبوية تدمج ما بين الأيديولوجيا والديمقراطية الشعبية أو ديمقراطية الجماهير. بمعنى أن الشعبوية في تلك الحالة لا تقتصر على العمل السياسي أو الخطاب، وإنما تتعداه لتعطي طبقة الناس العاديين أو العاملين دورًا مركزيًّا كشرط لسياسة الشفافية في مقابل الممارسة اليومية للتسوية والمساومة التي يسعى إليها السياسيون. وهكذا، وحسب وصف “آرنستو لاكلاو”، تبدو الشعبوية أكثر مساواة أو ديمقراطية من تلك التي يتم الحصول عليها من خلال الإجراءات التمثيلية. وقد وصف “وليام كورنهاوزر” هذا النوع من السياسة بـ”السياسة في مجتمع جماهيري”(62). ويرى “كورنهاوزر” أن الديمقراطية الشعبية دون حماية مناسبة للحريات ستترك الأفراد فريسة أمام نخب ذات توجه شعبوي يمكن أن تُسيطر عليهم. فعدم تقنين الصلاحيات ستدفع الديمقراطية الشعبوية لاستخدم فئات شعبوية ستصبح لاحقًا معادية للحرية(63).

خلاصة

كما أنه يمكن تطبيق نظرية الفرصة السياسية إطارًا تحليليًّا للحركات الاجتماعية، فإنه يمكن أيضًا تطبيق نفس النظرية على الحركات الشعبوية، فكلا النوعين من الحركات يتأثران بالفرصة السياسية التي يتيحها النظام السياسي. وكما أن الشعبوية تختلف عن الحركات الاجتماعية في استجابتها للفرصة والتحولات السياسية، فالحركات الاجتماعية نفسها وفي نفس السياق السياسي تختلف أيضًا في استجابتها للفرصة السياسية وكيفية تعاملها معها، بناء على عدة عوامل كالأيديولوجيا والتحالفات. وهناك عوامل تخص كل نوع من الحركات الاجتماعية والشعبوية تؤثر على مساراتها. إن أحد الأهداف المركزية للحركات الاجتماعية والشعبوية هو التأثير على مؤسسات الدولة إما بالنضال أو الدخول فيها.

ويعتمد مدى تهديد الشعبوية للديمقراطية على كيفية تفاعل النظام السياسي مع الشعبوية. إما بإغلاق المنافذ عليها، وإما باحتوائها أو التأثير عليها ودمقرطتها. وإما أن يعتبرها النظام السياسي فرصة لتصحيح بعض أخطائه وأبرزها كسر احتكار بعض النخب للسلطة والثروة، وتصالح الليبرالية مع الحقوق الاجتماعية والهوية والثقافة.

من القضايا التي تشترك فيها الأنظمة السلطوية والديمقراطية والتي تمكِّن من صعود الشعبوية: فقدان النخب الحاكمة قدرتها على تشكيل هوية جمعية، والانخراط في تحقيق مصالحها؛ مما يوفر فرصة للجمهور غير المسيس لتشكيل هوية جمعية مناقضة للحكم. فعدم وجود إطار موثوق به في مواجهة التحديات سيمكِّن من تكوين سريع لهوية جماعية بين مئات الآلاف من المواطنين غير المسيسين، وهذا يوفر بيئة خصبة للشعبوية.

 

 

المراجع

 (1) Jan-Werner Müller, What Is Populism? (US: University of Pennsylvania Press, 2016).

 (2) David A. Snow et al. (eds.), The Blackwell Companion to Social Movements, )Oxford: Blackwell Publishing, 2004), 6.

 (3) Craig Calhoun, The question of class struggle: Social foundations of popular radicalism during the Industrial Revolution, (Chicago: University of Chicago Press, 1982).

 (4) Kent Redding, “Failed Populism: Movement-Party Disjuncture in North Carolina, 1890 to 1900,” American Sociological Review 57, no. 3 (1992): 340.

 (5) Jiping Zuo & Robert D. Benford, “Mobilization Processes and the 1989 Chinese Democracy Movement,” The Sociological Quarterly 36, no.1(1995): 131–156.

 (6) Cas Mudde and Cristóbal Rovira Kaltwasser, Populism: A Very Short Introduction, (Oxford: Oxford University Press, 2017).

(7) عزمي بشارة، “الشعبوية والأزمة الدائمة للديموقراطية”، سياسات عربية، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، العدد 40، 2019)، ص29.

 (8) Mudde and Kaltwasser, Populism,6-7.

 (9) David S. Meyer, Debra C. Minkoff, “Conceptualizing Political Opportunity,” Social Forces 82, no. 4 (2004): 1457–1492.

 (10) Edwin Amenta at al., “The Political Consequences of Social Movements,” Annual Review of Sociology 36, no. 1(2010): 288.

 (11) William A. Gamson, The Strategy of Social Protest, (CA: Wadsworth Pub Co, 1990).

 (12) Sidney Tarrow, “Straggling to Reform: Social Movements and Policy Change During Cycles of Protest”, Western Societies Program Occasional Paper, (Cornell University, New York, No. 15, 1983): 28.

(13) Sidney Tarrow, “Struggle, Politics, and Reform: Collective Action. Social Movements, and Cycles of Protest”, Western Societies Program Occasional Paper (Cornell University, New York, No. 21, 1989): 35.

 (14) Doug McAdam et al., Dynamics of contention, (Cambridge: Cambridge University Press, 2001): 25.

 (15) Ibid: 25-26.

 (16) Doug McAdam et al. (eds.), Comparative Perspectives on Social Movements: Political Opportunities, Mobilizing Structures, and Cultural Framings, (Cambridge: Cambridge University Press, 1996): 27.

 (17) Charles Tilly, From mobilization to revolution, 1st ed. (US: Addison-Wesley, 1978).

 (18) Kai Arzheimer and Elisabeth Carter. “Political Opportunity Structures and Right-Wing Extremist Party Success”, European Journal of Political Research 45, issue (3) (2006): 419-443.

(19) Doug McAdam, Comparative Perspectives on Social Movements.

(20) David S. Meyer, Debra C. Minkoff, Conceptualizing Political Opportunity: 1460.

 (21) Pierre Rosanvallon,”Populism and Democracy in the 21st Century” (paper presented at the Conference on Populism and Democracy in the 21st Century, Asahi World Forum, 2017). https://www.asahi.com/eco/awf/en/archive/2017/day02_04.html

 (22) Ernesto Laclau, On populist reason, )London: Verso, 2007(.

 (23) Giorel Curran, “Mainstreaming populist discourse: the race-conscious legacy of neo-populist parties in Australia and Italy”, Patterns of Prejudice 38, no.1(2004): 37–55.

(24) Elena Block & Ralph Negrine, “The Populist Communication Style: Toward a Critical Framework”, International Journal of Communication 11, (2017): 178–197. https://ijoc.org/index.php/ijoc/article/view/5820/1892

(25) Mudde and Kaltwasser, Populism, 42-61.

(26) Michael Mann, “The autonomous power of the state: its origins, mechanisms and results”, European Journal of Sociology 25, No.2(1984): 185–213.

(27) Stephan Leibfried et al.(eds.), The Oxford Handbook of Transformations of the State, (Oxford: Oxford University Press, 2015).

(28) Angelos Chryssogelos, “State transformation and populism: From the internationalized to the neo-sovereign state?” Politics 40, No.1(2018).

(29) Holmes Christopher, Polanyi in times of populism: Vision and contradiction in the history of economic ideas, (London: Routledge, 2018).

(30)  بشارة، مرجع سابق، ص30

(31) المرجع السابق، نفس الصفحة.

 (32) Chantal Mouffe, For a left populism, (London: Verso, 2019).

 (33) Ibid.

 (34) Mudde and Kaltwasser, Populism.

(35) راجع: بشارة، مرجع سابق.

(36) Thomas R. Rochon and David S. Meyer, Coalitions & Political Movements: The Lessons of the Nuclear Freeze, (US:  Lynne Rienner Pub, 1997).

 (37) David S. Meyer et al. (Eds.), Social Movements: Identity, Culture, and the State, (Oxford: Oxford University Press, 2002).

(38) راجع:

Amit RonMajia Nadesan (eds.), Mapping populism: Approaches and methods, )Abingdon, Oxon: Routledge, 2020(.

Romand Coles. “The Promise of Democratic Populism in the Face of Contemporary Power”, The Good Society 21, no. 2 (2012): 177–93.

(39) بشارة، مرجع سابق، ص30-31.

 (40) Kathleen M. Blee, Inside Organized Racism: Women in the Hate Movement, (Berkeley: University of California Press, 2003).

(41) Sven Engesser et al., “Populist online communication: introduction to the special issue,” Information, Communication & Society 20, No. 9 (2017): 1279–1292.

(42) Ibid.

(43) راجع:

حسن أوريد، الشعبوية أو الخطر الداهم، (الرياض: المركز الثقافي للكتاب، 2023).

(44) Kirk A. Hawkins, Venezuela’s Chavismo and Populism in Comparative Perspective (Cambridge: Cambridge University Press, 2010).

(45) Cas Mudde and Cristóbal Rovira Kaltwasser. Populism in Europe and the Americas: Threat or corrective for democracy? (Cambridge: Cambridge University Press, 2012).

(46) Sven Engesser et al., Populist online communication: 1279–1292.

(47) Margaret Canovan, “Trust the People! Populism and the Two Faces of Democracy,” Political Studies 47, No.1(1999): 5.

(48) Koen Abts and Stefan Rummens, “Populism versus Democracy,” Political Studies 55, Issue (2) (2007): 405–424.

(49) Margaret Canovan, Populism, (New York: Harcourt Brace Jovanovich, 1981).

(50) Peter Van Aelst & Stefaan Walgrave, “Information and Arena: The Dual Function of the News Media for Political Elites,” Journal of Communication 66, no.3(2016): 507.

(51) Hannah Arendt, The origins of totalitarianism, (New York: Harcourt Brace Jovanovich, 1973).

(52) Tom G. Palmer. “The Terrifying Rise of Authoritarian Populism”, The Cato Institute, 24/07/2019. accessed on 21/08/2021 at:  https://www.cato.org/commentary/terrifying-rise-authoritarian-populism

(53) Donatella della PortaAlice Mattoni (eds.), Spreading protest: Social movements in times of crisis (Colchester: ECPR Press, 2015).

(54) Porta and Mattoni (Eds.), Spreading protest, 114.

(55) Müller, What Is Populism, 4.

(56) Ibid, 47-48.

(57) Roberts Kenneth, Deepening democracy? The modern left and social movements in Chile and Peru, (Stanford, Calif: Stanford University Press: 1999).

(58) Richard S. Katz & William Crotty (eds.), Handbook of Party Politics, (US: SAGE Publications Ltd, 2006), 288.

(59) Ernesto Laclau, On populist reason.

(60) Ibid.

(61) Nadia Urbinati, “Political Theory of Populism,” Annual Review of Political Science 22, No.1(2019): 111-127.

(62) William Kornhauser, The Politics of Mass Society, (London: Taylor and Francis: 2017).

(63) Ibid.