ملخص:

تبحث هذه الورقة في السيناريوهات الإستراتيجية المحتملة لمستقبل سوريا الجديدة في مرحلة ما بعد الإطاحة بنظام بشّار الأسد، مع التركيز على كيفية تأثير انهيار النظام في إعادة تشكيل الديناميات الجيوسياسية والتحالفات الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط. واعتمادًا على منظور “تحليل السيناريوهات”، تناقش الورقة ثلاثة مسارات رئيسية محتملة لمستقبل سوريا: الاستقرار النسبي، أو فشل الدولة، أو عودة الاستبداد. وتُقيّم الورقة كل سيناريو من حيث تأثيره المحتمل على التوازن الإقليمي للقوى، والتحالفات بين الدول، والمصالح الجيوسياسية للأطراف الإقليمية والدولية الرئيسية المعنيّة بسوريا، بما فيها تركيا وإيران وإسرائيل ودول الخليج وروسيا والولايات المتحدة. ويكشف التحليل أن التطورات الداخلية في سوريا لن تؤثر فقط على استقرارها المحلي، بل ستؤثر بشكل عميق على التماسك الإقليمي وهيكل التحالفات وتوزيع القوى في المنطقة. إضافةً إلى ذلك، تُبيّن الورقة أن تفاعل الخيارات الإستراتيجية بين الأطراف الإقليمية والدولية سيحدد بشكل كبير مسار سوريا المستقبلي.

Abstract:

This paper explores the strategic scenarios for the future of Syria in the post-Bashar al-Assad era, focusing on how the collapse of the regime impacts the geopolitical dynamics and strategic alliances within the Middle East. Using the “scenario analysis” approach, it discusses three potential pathways for Syria: relative stability, state failure or renewed authoritarianism. Each scenario is evaluated in terms of potential implications on regional power balances, interstate alliances and geopolitical interests of key regional and international stakeholders involved in Syria, including Turkey, Iran, Israel, the Gulf states, Russia and the United States. The analysis reveals that internal developments in Syria will significantly affect not only domestic stability but also regional cohesion, alliance structures and power distribution. Additionally, it demonstrates that the interplay of strategic choices made by regional and international actors will considerably determine Syria’s future trajectory.

__________________________

*د. علي باكير، أستاذ مساعد الشؤون الدولية والأمن والدفاع في مركز ابن خلدون، جامعة قطر.

Dr. Ali Bakir, Assistant Research Professor of International Affairs, Security and Defence at Ibn Khaldon Centre for Humanities and Social Sciences, Qatar University.

مقدمة

في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024،(1) أطلقت المعارضة السورية المسلّحة المنضوية تحت “قيادة العمليات العسكرية” عملية عسكرية ضد نظام بشّار الأسد تحت شعار “ردع العدوان”. قادت “هيئة تحرير الشام” هذه العملية العسكرية، واستمرت 11 يوماً فقط، استطاعت خلالها تحرير كامل إدلب وحلب وحماة وحمص، ودخول دمشق والإطاحة بنظام الأسد الذي انهار بشكل سريع ومفاجئ بعد صراع دام أكثر من 13 عاماً منذ انطلاق الثورة السورية في مارس/آذار 2011، منهيةً بذلك حقبة امتدت ما يزيد عن نصف قرن منذ الانقلاب العسكري الذي قام به حزب البعث وحافظ الأسد عام 1970 وتوريث ابنه بشّار الأسد الحكم في سوريا عام 2000 حتى نهاية العام 2024.

وتشكّل إطاحة المعارضة السورية بنظام الأسد واحدة من أبرز التطورات الجيوسياسية في الشرق الأوسط على الإطلاق منذ الثورة الإيرانية في العام 1979. ومن المنتظر أن يترتب على تغيّر النظام في سوريا انعكاسات على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية على دول المنطقة، لا سيما البلدان المحيطة بسوريا في الدائرة الجغرافية الأولى والثانية على وجه الخصوص، وتحوّلات كبرى فيما يتعلق بموازين القوى الإقليمية وخارطة التحالفات والتوازنات، والتنافس بين الأقطاب الإقليمية والدولية على المصالح والنفوذ في سوريا الجديدة والمنطقة.

ولأنّ الإطاحة بنظام الأسد لا تزال حديثة العهد، فإنّ المسار الذي ستسلكه سوريا الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع ليس واضحاً أو راسخاً بعد، وسيستلزم الكثير من الجهد والوقت، علما بأن اتجاه هذا المسار وشكله سيؤثّر حتماً على الوضع الداخلي، كما هو الحال على الوضع الإقليمي. ولأنّ هناك العديد من المتغيرات أكثر مما يمكن رصده، ولأنّ العوامل الداخلية والخارجية التي يمكن أن تعيد تشكيل شكل ومسار سوريا الجديدة ليست واضحة بعد، فإنّ القطع بالمسار الذي ستسلكه الآن وتداعياته على الداخل وعلى القوى الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السوري؛ يعتبر أمراً غير ممكن. وعليه، تبحث هذه الورقة في السيناريوهات الإستراتيجية المحتملة لمستقبل سوريا الجديدة في مرحلة ما بعد الإطاحة بنظام الأسد، مع التركيز على كيفية تأثير انهيار النظام في إعادة تشكيل الديناميات الجيوسياسية والتحالفات الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك بالاعتماد على منظور “تحليل السيناريوهات”.

يتكوّن البحث من ثلاثة أقسام رئيسية، بالإضافة إلى المقدّمة والخاتمة. تقدم الورقة في القسم الأول الاعتبارات المنهجية المتعلّقة “بمنظور تحليل السيناريوهات” الذي سيتم اعتماده لتقدير السيناريوهات الأساسيّة للاتجاهات المستقبلية وانعكاسات كل منها على الداخل السوري والتوازن في ميزان القوى الإقليمي والتحالفات الإقليمية ومصالح ونفوذ القوى المعنيّة إقليميَّا ودوليًّا. ويمهّد القسم الثاني للسيناريوهات بتقديم السياق الذي صاحب الإطاحة بنظام الأسد على المستوى المحليّ والإقليمي والدولي، مع التركيز على مواقف الدول التي حاولت دعم النظام. أما القسم الثالث، فيناقش تداعيات سقوط نظام الأسد وصعود سوريا الجديدة فيما يتعلق بإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية والانعكاسات المحتملة على التحالفات الإقليمية والأمن الإقليمي، في حين يناقش القسم الرابع، ثلاثة سيناريوهات أساسية هي: سوريا مستقرة نسبيًّا، سوريا دولة فاشلة، وسوريا دولة دكتاتوريّة.

أوّلاً: اعتبارات منهجيّة (منظور تحليل السيناريو)

تُرجِع بعض المعاجم الشهيرة تاريخ الاستخدام المعاصر لمصطلح “سيناريو” إلى أوائل العشرينيات من القرن 20،(2) لكن يُرجَّح أنّ جذور الكلمة تعود إلى اللغة الإيطالية المشتقة بدورها من اللاتينية القديمة في القرن 17(3). تطوّر معنى واستخدام مصطلح “سيناريو” عدّة مرات خلال القرون الماضية، إذ كان يشير في البداية إلى معنى المشهد، ثمّ مشاهد المسرح، ثم مخطط لحبكة عمل درامي، ثمّ أصبح يشير في العام 1960 إلى الحالة المُتصوّرة أو المُتخيّلة، في إشارة إلى حرب نووية محتملة(4). استخدم مصطلح “سيناريو” بهذه المعاني في مجالات مختلفة، لكن من الواضح إنّ أبرز الاستخدامات كانت في مجال الأعمال الدرامية: المسرح والسينما، ثم انتقل لاحقاً إلى المجال العسكري.

يقول ويليام هس، في مقال علمي له نشرته المجلة الدوليّة للتنبؤ/توقّع عام 1988، إنّ مصطلح السيناريو تمّ الترويج له لأوّل مرّة في المجال العسكري من قبل هيرمان كاهن، عندما كان يعمل في مؤسسة راند للأبحاث في خمسينيات القرن الماضي، حيث كان يتم استخدام المصطلح في الدراسات العسكرية والإستراتيجية(5). لكن ورقة قديمة كتبها المؤرخ العسكري هارفي ديويرد، في العام 1967 تحت عنوان “سيناريوهات سياسية عسكرية” -يمكن الاطلاع عليها في أرشيف راند-(6) تشير إلى أنّه سمع مصطلح “سيناريو” يُستخدم لأوّل مرّة في المجال العسكري من قبل الفريق الأوّل بن ليار، الذي طلب “سيناريو” الفعاليّة العسكرية التي جرت حينها في صيف عام 1944. ويشير ديويرد إلى أنّه لم يكن يعرف كلمة سيناريو سابقا إلا بمعنى مُتّصل بالنصوص المتعلّقة بالإذاعة أو التلفزيون، لكن عندما يُستخدم المصطلح في المجتمع الدفاعي فإنّه على الأغلب يستخدم لوصف أحداث سياسية عسكرية تؤدي إلى أزمة، بالإضافة إلى الأزمة نفسها(7).

ويُعرّف أمروم كاتز، السيناريو بأنّه “رواية قصيرة ومتخيّلة وقابلة للنقاش حول تسلسل الأحداث المؤدية إلى حرب مستقبلية”. وبشكل مقتضب، يخبرنا السيناريو بما حصل، ويصف السيناريو البيئة التي حصل فيها، وقد يتم إعداده لأغراض متعددة: 1) يُمكن النظر إليه على أنّه بمثابة الخلفيّة العامّة أو السياق للقرارات أو السياسات الدفاعيّة التي يُفترض أخذها بعين الاعتبار. 2) قد يتم تصميمه كمقدّمة أو عمل افتتاحي أو الإعداد لتمرين لعبة الحرب. 3) قد يتم إعداده لتوفير بيئة يمكن من خلالها اختبار عمل أنظمة الأسلحة أو إستراتيجية عملها. 4) قد يتم إعداد السيناريو لغرض محدد، وهو الأكثر خطورة وإشكالية، ويتمثل في اختبار فعالية نظام أسلحة أو إستراتيجيتها بشكل معيّن في الميدان. 5) السيناريو قد يستخدم أيضاً للتحضير للتخطيط المتعلّق بحالات طارئة(8).

في ستينيات القرن الماضي، شهدت تقنيّات توقّع المستقبل أو محاولات التنبؤ به طفرة كبيرة، واعتمدت آنذاك بشكل متزايد على نماذج إحصائية وعلى معالجة بيانات تاريخية في محاولة لقراءة المستقبل، وغالباً ما كان يتم ذلك في قطاع الأعمال وإدارة الأعمال والتداولات المتعلقة بالأعمال. ومع ذلك، فقد فشلت هذه التقنيات في عدد من الجوانب المهمّة، لاسيما قدرتها على مراعاة المتغيّرات النوعية بشكل منهجي، وتوقّع نقاط التحوّل المفصلية، وكذلك جسر الهوّة بين التخطيط للتوقّع واتخاذ القرار. وفي هذا السياق، بدأ منظور “تحليل السيناريو” يحظى حينها باهتمام أكبر، وعكف باحثون على تطوير هذه التقنية بشكل مستمر(9).

في عام 1971، على سبيل المثال، قارن مقال في مجلة “هارفرد بيزنس ريفيو” عددًا من أساليب التوقّع لتوفير بعض الإرشادات للقارئ حول نجاعة التقنيات المعتمدة، وأيهما أفضل بالنظر إلى حالات معيّنة(10). عرّف المقال السيناريوهات على أنها “توقّعات رؤيويّة”. وعرّف المؤلفون هذا النوع بأنه “تخمينات ذات طابع شخصي وخيال؛ بشكل عام.. الطرق المستخدمة في السيناريوهات غير علميّة.. (السيناريوهات هي) مجموعة من الصور المحتملة حول المستقبل أعدها عدد قليل من الخبراء في ضوء أحداث ماضية”. ورغم كونها غير مكلفة، تم تصنيف هذه التقنيات على أنها ضعيفة من حيث الدقة وتحديد نقاط التحول.

في سبعينيات القرن الماضي، كان قد تم تسريع توظيف نمط “تحليل السيناريوهات” في الميدان العسكري والدراسات المستقبلية، وفي صناعة النفط بشكل خاص. وقد استمر استخدام منظور تحليل السيناريوهات أيضاً في مجال الأعمال والإدارة بشكل كبير. ففي عام 1971، نشرت شركة “جنرال إلكتريك” نتائج منظور تحليل السيناريوهات لدراسة أجرتها تحت عنوان “أربعة سيناريوهات بديلة عالمية/أميركية”(11). لكن شركة “رويال دتش شل” المتخصصة في مجال النفط والطاقة كانت قد اشتهرت بشكل كبير في مجال اعتمادها لمنظور تحليل السيناريوهات، خاصّة عندما ساعدها ذلك في التحضير للتعامل مع الأزمات النفطية التي جرت في أعوام 1973 و1974 و1979(12).

في العام 1986، نشرت مجلّة “هارفرد بيزنس ريفيو” مقالاً مغايرا للاتجاه الذي ساد في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، أشار إلى أنّ السيناريوهات أداة تحليل نوعيّة مهمّة، مُعرّفةً إيّاها بأنّها “سرديات تتكشّف بسلاسة، تصف مستقبلاً مفترضًا يتم التعبير عنه من خلال تسلسل الأطر الزمنية”. في الواقع، تم تصنيف فعالية هذه التقنية بشكل مرتفع جدًا من قبل المؤلفين لأنها تتطلب الحد الأدنى فقط من الدعم الرياضي أو الحاسوبي، ولا تتطلب بيانات تاريخية واسعة، ويمكن أن تعكس التغييرات الداخلية بسهولة، وتتكيف جيدًا مع التحولات(13).

ويتم تعريف السيناريو على أنّه وصف سردي لمجموعة مُتّسِقَة من العوامل التي تحدد من الناحية الاحتمالية صورا بديلة من المستقبل أو حالة مستقبلية محتملة، بما في يشمل التطورات التي تؤدي إلى الحالة المذكورة. ولا تهدف السيناريوهات إلى وصف كامل ودقيق للمستقبل، ولكنها تشير إلى العناصر الأساسية للمستقبل المحتمل، وتلفت النظر إلى العوامل الرئيسية التي من شأنها أن تدفع التطورات المستقبلية. وتعتبر السيناريوهات بمثابة افتراضات يتم تصوّرها، وقد لا تُمثّل الواقع بالضرورة. ويعتبر كاهنمان وتفيرسكي (1982) أن السيناريو الجيد “يربط الفجوة بين الحالة الأولية والحدث المستهدف من خلال سلسلة من الأحداث الوسيطة.. يكون السيناريو مرضيًا بشكل خاص عندما لا يكون المسار المؤدي من الحالة الأولية إلى الحالة النهائية واضحًا على الفور، بحيث ترفع المراحل الوسيطة فعليًا من الاحتمالية الذاتية للحدث المستهدف”(14).

ويستخدم منظور تحليل السيناريو عندما يتعلق الأمر بمناقشة افتراضات متوسطة إلى بعيدة المدى، وعندما تتّسم البيئة التي يتم نقاشها بنقص في البيانات ووجود عدد كبير من المتغيّرات، بالإضافة إلى عوامل مؤثرة وغير قابلة للقياس، وغموض في التوجهات المستقبلية. وتحليل السيناريوهات ليس طريقة للتنبؤ بالمستقبل، وإنما هو افتراضات لاحتمالات ممكنة لصور متعدّدة من المستقبل، ليست بالضرورة حقيقية ولا يتم الادعاء بأنّها الواقع أو تمثّله. تختلف فائدة السيناريوهات تمامًا عن أساليب التنبؤ الأخرى. وتشكّل السيناريوهات جسرًا بين التنبؤ والتخطيط، وبإمكانها أن تكون بمثابة نظام إنذار مبكّر يهدف إلى نشر الوعي باحتمال حصول بعض الأحداث، بما يسمح بالاستعداد لإمكانية مواجهتها بشكل مبكّر والاستجابة لها بسرعة عند حدوثها.

وهناك عدّة تقنيات لمنظور تحليل السيناريوهات، بما فيها المنطق الحدسي، وتحليل الاتجاه العام بناء على معطيات مسبقة، وطريقة ديلفاي، والتحليل النوعي، والتحليل التاريخي الذي يعتمد على بيانات تاريخية، والتحليل الإحصائي.. إلخ. ورغم تطبيق منظور تحليل السيناريوهات على سياقات ومحالات مختلفة، فإنّه لا يوجد إطار محدّد فيما يتعلق بأفضلية اختيار طريقة معينة أو سيناريو معيّن. وللسيناريوهات عدّة استخدامات، إذ يمكن استخدامها لإنتاج المعرفة حول الحاضر والمستقبل. ثانياً، يمكن استخدامها كوظيفة تواصل مع الآخرين، ويمكن استخدامها كأداة تواصل مع العامة لإثارة الانتباه إلى قضايا محددة. وثالثاً، باستطاعة السيناريوهات مساعدة صانعي القرار على تحديد أهدافهم. علاوةً على ذلك، يمكن استخدامها لتوفير أدوات لاختبار الفعالية المحتملة لإستراتيجيات مُعدّة مسبقاً أو لسياسات قد يجري التحضير لها أو اتخاذها.

في هذه الورقة، سنستخدم التحليل النوعي البسيط لمنظور تحليل السيناريوهات، وسنناقش ثلاث حالات مفترضة لسوريا المستقبل وتداعيات هذه الصور المستقبلية على الوضع الداخلي، وتوازن القوى الإقليمي، والتحالفات الإقليمية والدولية فيما يتعلق بالموقف من سوريا، وانعكاسات ذلك على الأمن الإقليمي، وعلى خارطة المصالح والنفوذ داخل سوريا.

ثانياً: السياق الإقليمي للإطاحة بنظام الأسد

في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أطلقت المعارضة السورية المسلّحة المتجمّعة تحت “قيادة العمليات العسكرية” عملية عسكرية ضد نظام بشّار الأسد تحت شعار “ردع العدوان”. قادت هيئة تحرير الشام هذه العملية العسكرية، واستطاعت خلالها تحرير كامل إدلب وحلب وحماة وحمص. حاول حلفاء النظام مساعدته، إلا أن العمليّة انتهت بعد 11 يوما من إطلاقها بدخول المعارضة السورية المسلّحة العاصمة دمشق والإطاحة بنظام الأسد الذي انهار بشكل سريع ومفاجئ، بعد صراع دام أكثر من 13 عاماً منذ انطلاق الثورة السورية في مارس/آذار 2011.

جاءت هذه العملية في سياق إقليمي مضطرب للغاية، بينما كانت إسرائيل تستكمل عدوانها على غزة بعد مضي أكثر من عام على إطلاق عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. لقد كانت عملية “طوفان الأقصى” بمثابة مفاجأة غير متوقعة للجميع، بمن فيهم إسرائيل وإيران. استغلت إسرائيل الوضع لمحاولة القضاء على حركة حماس وإضعاف إيران وأذرعها في المنطقة في لبنان وسوريا والعراق واليمن. وعلى المقلب الآخر، وضعت هذه العملية إيران وأذرعها في موقف حرج، بينما كانت تتحضّر لمواجهة احتمال ترشّح وفوز دونالد ترمب في الرئاسيات الأميركية أواخر العام 2024 من موقع قوّة. لكنّ طوفان الأقصى ترك إيران بين خيارين صعبين لم تكن قد تحضّرت لهما بشكل جيّد، فإمّا الانضمام إلى معركة غير مستعدّة لها تتعرّض فيها أذرعها لخسائر شديدة، وبالتالي تفقد إيران أوراقها في مواجهة احتمال صعود ترمب مجددا إلى الرئاسة في البيت الأبيض وتعرّض نفسها للخطر، وإمّا تجاهل الأمر وتحييد نفسها وأذرعها عن المشهد، وبالتالي اهتزاز الصورة التي سعت إيران لتكريسها حول نفسها بوصفها من تقود “محور المقاومة”، وهو ما يعرض مشروعها الإقليمي إلى تحديات جدية، لا سيما إن خسرت هذه المرة  جزءا مهمًّا من المؤمنين بدورها “المقاوم”.

بين هذا وذاك، قرّرت طهران اختيار موقفٍ وسطٍ لا يجعلها تنخرط بشكل مباشر في المعركة، ولا يحيّدها عن المشهد تماماً في نفس الوقت،. كان هدفها البقاء في دائرة صورة قيادة المحور، عقب انخراطها الدموي في سوريا، والتأكيد أيضاً على فكرة “وحدة الساحات”. لكن موقفها الوسطي هذا سرعان ما انقلب عليها وعلى أذرعها، فلا هي نأت بنفسها تماماً، ولا هي انخرطت بشكل كامل من شأنه أن يؤثر على موقف إسرائيل. فهمت الأخيرة ذلك على أنّه انعكاس لمأزق تعيشه إيران، وحالة ضعف لا تستطيع طهران الدفاع عنها. وعليه، قرّرت إسرائيل استغلال الوضع للانقضاض على طهران وأذرعها منتقلةً من الدفاع إلى الهجوم. دمّرت إسرائيل إلى حد بعيد قدرات حزب الله العسكرية بشكل غير مسبوق، وذلك للمرّة الأولى منذ إنشائه، ودمّرت هرمه القيادي، واغتالت جلّ قيادييه من الصف الأوّل والثاني(15)، كما شنّت هجمات هي الأولى من نوعها على جماعة الحوثي في اليمن(16)، وهدّدت المليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق(17). ولم يخل التصعيد الإسرائيلي من استهداف العمق الإيراني بشكل علني للمرّة الأولى، فيما بدا واضحا أنّ طهران لا تريد الانخراط في مواجهة مباشرة، وأنّ جل ما تريده هو رفع الحرج عنها أمام تعرّضها لضربات إسرائيل(18) والقيام برد يمكن تصويره على أنّه أقل من شيء وأكثر من لا شيء، يرفع الحرج عن إيران ولكنه لا يدخلها في حرب مع إسرائيل(19).

أمام هذا الواقع، حاول نظام بشّار الأسد في سوريا عزل نفسه عن التصعيد الحاصل بين إسرائيل وبين إيران والمحور التابع لها، وذلك لأنّ وضعه لا يسمح له بلعب أي دور في هذا المجال(20)، لدرجة أنّ كثيرين شككوا في كونه لا يزال تابعاً للمحور الذي تقوده إيران بسبب غياب أي رد فعل على كل التصعيد الإسرائيلي ضد حماس وحزب الله وإيران. وإن كان موقفه من حماس قد يكون مفهوماً بمنظوره، فإنّ عدم وجود أي تعليق أو موقف حقيقي له من التصعيد ضد حزب الله وإيران أثار الكثير من علامات الاستفهام. وللتغطية على هذا الوضع، قرر نظام الأسد أن يصعّد ضد المعارضة السورية في إدلب من باب التسويق لمحاربة التطرّف والإرهاب(21)، وهي أجندة لطالما أجمع عليها معظم اللاعبين الإقليميين والدوليين بمن فيهم إسرائيل وإيران والولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين والسعودية والإمارات. لكن محاولة توظيف هذه الورقة سرعان ما انقلبت عليه أيضا عندما قررّت المعارضة السورية المسلّحة الرد على التصعيد الحاصل من قبل نظام الأسد بإطلاق عملية عسكرية مضادة تحت شعار “ردع العدوان”(22)، خاصّة أنّ موقف الأسد المحايد من التصعيد الإسرائيلي-الإيراني كان قد كشف -بشكل علني- ضعف النظام السوري.

زادت عملية “ردع العدوان” من إرباك مختلف القوى الإقليمية والدولية، ولأنّ العملية جرت دون تدخلات خارجية وبشكل غير متوقع وسريع، فقد كان من شبه المستحيل على أي من الأطراف التدخل لإيقاف سقوط نظام الأسد الذي سرعان ما انهار خلال 11 يوما. في هذه الأثناء، كانت العديد من المصادر قد روّجت أنّ سقوط نظام الأسد كان نتيجة لتخلّي داعميه عنه، أي إيران وروسيا بالتحديد(23). وهناك من ادّعى أنّ إسقاط النظام كان بترتيب أميركي-إسرائيلي وتفاهمٍ مع المعارضة السورية وتركيا، كما أوحى بذلك المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي(24). وهناك أيضاً من قال إنّ تركيا كانت تدير العمليّة، لكن أيّا من هذه الادعاءات لم يكن صحيحاً. يمكن تفسير الانهيار السريع لنظام الأسد من خلال مجموعة من العوامل المتداخلة، بعضها آني والبعض الآخر إستراتيجي، وتتوزع بين عناصر مرتبطة بالمعارضة السورية وأخرى متعلقة بالنظام نفسه، إضافة إلى عوامل تتعلق بالحلفاء والبيئة الإقليمية والدولية المحيطة.

على المستوى الآني، يمكن القول إنّ العامل الأبرز تمثّل في توقيت الهجوم وطبيعته، حيث جاء في لحظة انشغال النظام بمحاولة تجنّب الانجرار إلى النزاع الإسرائيلي-الإيراني، مما جعله يركّز على السياسة الخارجية على حساب الاستعداد الداخلي. ورغم نجاح النظام جزئيًا في النأي بنفسه عن الصراع الخارجي، فإن هذه السياسة وفّرت للمعارضة فرصة استثنائية لاستغلال ما رأته ضعفًا أو حيادًا من جانب الأسد، واعتبرت ذلك إشارة إلى هشاشة داخلية يمكن البناء عليها. بالإضافة إلى التوقيت، كان لطبيعة الهجوم دورٌ حاسم، فقد جاء سريعًا ومنظمًا ومعقّدًا بشكل فاجأ قوات النظام. وكان من اللافت أن المعارضة قدمت الهجوم إعلاميًا باعتباره دفاعيًا، وهو ما أدى إلى التقليل من شأنه عسكريا وعدم إدراك النظام لمدى خطورته، الأمر الذي أبقاه في حالة من الاسترخاء النسبي، معتبراً إياه مجرد مناوشات اعتيادية محدودة. وحينما حاول نظام الأسد التعامل مع تداعيات الهجوم عبر مبادرات سياسية وعسكرية ودبلوماسية، فشل في تحقيق نتائج ملموسة.

على الصعيد السياسي والدبلوماسي، بدأت اتصالات الرئيس بشار الأسد في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 مع الإمارات والعراق(25)، حيث تمتلك الإمارات علاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة، بينما يرتبط العراق بعلاقات مع إيران والولايات المتحدة. كان الأسد يأمل من خلال هذه الاتصالات؛ حشد دعم أوسع لنظامه. كما أفادت تقارير متعددة بزيارة مفاجئة قام بها الأسد إلى موسكو في إطار هذه المساعي، تلتها زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، إلى سوريا مطلع ديسمبر/كانون الأول 2024(26)، حيث نقل رسالة من القيادة الإيرانية تؤكد دعم طهران الثابت لنظام الأسد في “محاربته للإرهاب”، واستعدادها لتقديم كافة أنواع الدعم للحكومة السورية في هذا السياق.

لقد لعبت كل من إيران وروسيا والولايات المتحدة وإسرائيل أدوارًا مختلفة في دعم نظام الأسد أو في إطالة أمده أو في منع سقوطه منذ بداية الثورة السورية. وفي اتصالاته الأخيرة، كان الأسد يعتمد على إعادة إنتاج سردية الإرهاب كوسيلة لإقناع هذه الأطراف بتقديم الدعم السريع الذي يحتاجه. وفي 2 ديسمبر/كانون الأول، أي بعد يومين من اتصال الأسد بالرئيس الإماراتي، نشرت وكالة رويترز تقريرًا يفيد بأن الولايات المتحدة بحثت مع الإمارات إمكانية رفع العقوبات المفروضة على نظام الأسد. ورغم الإشارة إلى أن هذه المحادثات كانت قائمة منذ فترة، فإن اللافت كان تأكيد التقرير على أن إسرائيل أيضًا سعت لرفع العقوبات عن الأسد في إطار مساعدته(27).

وفي خطاب متلفز له في 5 ديسمبر/كانون الأول 2024، أي قبل يومين من انهيار النظام، أكد الأمين العام الجديد لحزب الله اللبناني، نعيم قاسم، أن الحزب سيقف إلى جانب نظام الأسد حتى النهاية، واصفًا المعارضة السورية بأنها مجموعات إرهابية تكفيرية تسعى إلى إسقاط النظام وتخريب سوريا خدمةً لمصالح إسرائيل، مؤكدًا عدم قدرتها على تحقيق أهدافها بفضل دعم الحزب للنظام في إحباط هذه المحاولات(28).  أما الجانب الإيراني، فقد استمر في إصدار بيانات الدعم لنظام الأسد على مختلف الأصعدة، فضلاً عن التزامه بتقديم الدعم العسكري للنظام حتى اللحظات الأخيرة من انهياره. وفيما يتعلق بروسيا، فقد أكد وزير خارجيتها خلال مشاركته في منتدى الدوحة يومي 7 و8 ديسمبر/كانون الأول 2024 على استمرار بلاده في دعم نظام الأسد(29).

على المستوى العسكري، أدت محاولات النظام لتبرير خسائره السريعة في حلب وحماة باعتبارها انسحابات تكتيكية استعدادًا لمعركة مضادة؛ إلى إرسال رسائل متناقضة أضعفت معنويات قواته وسرّعت الانهيار العسكري. كما ساهمت سرعة الأحداث وتعقيداتها الإقليمية في منع أي دعم فعّال من إيران أو روسيا أو حتى من أطراف مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، التي كانت أبدت إشارات إيجابية تجاه تخفيف العقوبات عن الأسد. أما القوات الروسية فقد شنّت مقاتلاتها في 5 ديسمبر/كانون الأول، أي قبل يومين من انهيار النظام، العديد من الغارات، من بينها ما لا يقل عن 9 غارات على جسر الرستن في ريف حمص الشمالي بهدف فصل مدينة حمص عن ريفها الشمالي المتاخم لمحافظة حماة ومنع تقدم المعارضة(29).

أمّا إيران، فقد كانت ردة فعلها في الدفاع عن النظام مرتبكة وغير حاسمة، ولم تتناسب مع سرعة تقدم قوات “ردع العدوان”، رغم ورود أنباء عن معارك خاضتها مليشيات قريبة من إيران فضلا عن عناصر حزب الله، لكن انهيار قوات النظام، وربما عدم التنسيق العسكري المناسب مع القوات الروسية، جعل رد فعل المليشيات التابعة لإيران ضعيفة ومحدودة، ولم يتبين بشكل مؤكد سبب عدم دخول المليشيات العراقية، لدعم النظام، رغم أنها كانت قرب الحدود، ويبدو أن الأمر يعود إلى رفض الحكومة العراقية وعدد من القيادات الشيعية بمن فيها مقتدى الصدر، التورّط في الوضع السوري. وكان الصدر قد أصدر يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2024، بياناً طالب فيه بمنع أي تدخلات عراقية من الحكومة أو الشعب أو المليشيات أو القوات الأمنية في سوريا(31).

إلى جانب ما سبق، لعبت عمليات التطبيع السياسي والاقتصادي بين نظام الأسد وبعض الدول العربية والأوروبية دورًا سلبيًا غير مباشر، إذ أوحت للنظام بأن موقفه قد استقر وأنه حقق نصرًا، مما دفعه إلى التراخي أمنياً والتصلّب سياسياً، فرفض تقديم تنازلات سياسية أو الدخول في عمليات مصالحة حقيقية. كما أعطى هذا التطبيع انطباعًا زائفًا لحلفاء الأسد بأن الوضع الداخلي في سوريا مستقر نسبيًّا، مما شجعهم على تقليل اهتمامهم بالوضع السوري والتركيز على ملفات إقليمية ودولية أخرى مثل الأزمة في أوكرانيا والصراع مع إسرائيل. وعليه، يمكن القول إنّ نجاح المعارضة السورية في استغلال التوقيت الملائم وتنفيذ هجوم سريع وفعّال أدى إلى انهيار معنوي وعسكري سريع لقوات النظام، وقَطَع الطريق أمام الدعم الخارجي المحتمل.

 

ثالثا: إعادة تشكيل موازين القوى إقليميًّا

أدى سقوط نظام الأسد إلى تحوّل سريع في موازين القوى في الإقليم، ويمكن تصنيف وضع الدول إزاء هذا الحدث إلى أربع فئات على الأقل: دول منتصرة ومستفيدة، دول منهزمة ومتضررة، دول مترقّبة، ودول متحوّلة. برزت تركيا وقطر كدول مستفيدة في هذا الصراع، وكلتاهما دعمت الثورة السورية والمعارضة السورية بأشكال مختلفة طيلة فترة الصراع، حتى في الوقت الذي ساد فيه تصوّر بأنّ نظام الأسد كاد ينتصر.

احتفظت تركيا بعلاقة متعددة المستويات مع جماعات المعارضة السورية، ومنها هيئة تحرير الشام. وبغض النظر عن طبيعة الدور التركي وحجمه في عملية “ردع العدوان”، فإن تركيا بدت بوصفها أكبر المستفيدين، فهي من ناحية بلغت بداية الطريق لإنهاء مشكلة اللاجئين السوريين، وتخلصت لأول مرة منذ عدة عقود من تهديدات جدية شارك فيها أو دعمها نظام الأسد ضد أمنها القومي المتعلق بسوريا، ومن بين ذلك مشكلة كيان الأمر الواقع الكردي في شمال شرق سوريا. لقد حدث تحول كامل من العداء مع نظام الأسد إلى الشراكة مع الإدارة السورية الجديدة، وقد ترافق ذلك طبعا مع إنهاء النفوذ الإيراني، وإضعاف النفوذ الروسي وربما خروجه من البلاد، بالإضافة إلى التمهيد لخروج القوات الأميركية من سوريا. إخراج اللاعبين الثلاثة الأكثر ثقلا من الناحية العسكرية في سوريا، يتيح المجال لصعود النفوذ التركي بشكل غير مسبوق. على أنّ هذه الاستفادة من التحوّلات التي رافقت انهيار نظام الأسد موقوفة على استقرار الوضع السوري وتطوّره باتجاه إيجابي، كما سيتم نقاشه لاحقاً.

وفي المقابل، برزت إيران وروسيا كأكبر الخاسرين في الصراع، ويمكن تصنيف إيران على وجه الخصوص بأنّها الدولة الأكثر تضرّراً من الإطاحة بنظام الأسد، إذ أدى انهيار النظام في سوريا إلى تراجع كبير في نفوذ إيران الإقليمي، هو التراجع الأكبر لها منذ الحرب الإيرانية-العراقية. لقد كان النظام السوري بمثابة حجر الزاوية في مشروع إيران الإقليمي، والجسر الرئيسي الذي سمح لنفوذها بالوصول إلى لبنان وشرق البحر المتوسط. علاوة على ذلك، فقد شكّل نظام الأسد شريان حياة لحزب الله الذي تعاظم شأنه وكبر حجمه وازدادت قوته بسبب الدعم الإيراني الذي يأتيه عبر سوريا. لقد استثمرت طهران مالياً وسياسيا ودبلوماسياً وعسكرياً في النظام السوري لعقود طويلة، لاسيما خلال العقدين الماضيين، ولذلك فإنّ سقوطه يعد ضربة قاسية لإستراتيجية إيران الإقليمية في ظل غياب البدائل، ومع السياق الجيوسياسي الصعب الذي تعانيه إيران بعد تعرض أبرز أذرعها الإقليمية -وهو حزب الله اللبناني- إلى ضربات إسرائيلية موجعة، رافقها قيام سلطة سياسية لبنانية ترفض اعتبار لبنان جزءا من “محور المقاومة”، ولا تخفي نياتها في منع حزب الله من مشاركة الدولة في احتكار السلاح.

أما روسيا، فقد شكّل الإطاحة بنظام الأسد انتكاسة لجهودها في الاحتفاظ بقاعدتها العسكرية شرق المتوسط، وما زالت الخسارة تهديدا واقعيا داهما، إلا أن روسيا بذلت منذ سقوط الأسد، جهودا سياسية متعددة لتخفيف الضرر إلى أدنى حد ممكن، من خلال تواصل فعال مع الإدارة الجديدة، قد يكون وراء عدم طرح موضوع قاعدتي حميميم وطرطوس الروسيتين على جدول الأولويات المعلنة للإدارة الجديدة في دمشق. تدرك موسكو أن خروجها الكامل من سوريا سيكون له عواقب إستراتيجية، في سياق دولي معقد، وقد يلي ذلك دفع سوريا الجديدة باتجاه النفوذ الغربي. وفي ظل الاستقطاب الدولي والتنازع الأميركي-الصيني، قد يتم إخراج موسكو وبكين من الحسابات السورية مستقبلا.

وبين موقف المعسكرين الداعم والمناهض لنظام الأسد، يمكن المجادلة بأنّ معسكر التطبيع مع نظام الأسد والذي يتكوّن بشكل رئيسي من الإمارات ومصر والسعودية قد تفكّك بحكم زوال السبب، وظهر على الفور تباين واضح بين أطرافه تجاه الإدارة الجديدة في دمشق، فالمملكة العربية السعودية تبنت بشكل قوي التغيير الذي حصل، على اعتبار أنّ شكل وطريقة التغيير والنتائج التي نجمت عنه تخدم مصالح الرياض، دون أن تكون الأخيرة مضطرة إلى بذل أي مجهود. وعليه، فإن الاستثمار في المكسب المجاني الذي حصل يعتبر أولوية للسعودية، خاصة أنّه أدى إلى إنهاء نفوذ إيران وأذرعها في سوريا، مع ما لهذا الأمر من انعكاسات على جوار سوريا المباشر لاسيما لبنان، وكذلك على الإطار الإقليمي الأوسع. أمّا مصر والإمارات، فبدا أنّ موقفهما يشوبه شيء من الامتعاض والتشكيك والترقّب، فالإمارات كانت اللاعب الإقليمي الأكثر استثمارا في إعادة تأهيل نظام الأسد سياسيا ودبلوماسيا ومالياً، كما دعمت مصر محاولات دمج النظام السوري في المنظومة العربية. ولذلك، فقد كان من الطبيعي ألاّ يكون وقع التحوّل الذي حصل سهلا على الدولتين، سيما مع ما يعرف عنهما من خصومة مع التيار الإسلامي. لكن من الناحية الشكلية، حصل هناك ترحيب وقام الرئيس الشرع بزيارة مصر في إطار مشاركته في القمّة العربية الطارئة يوم 4 مارس/آذار 2025، بينما زار وزير الخارجية السوري الإمارات مرتين: الأولى برفقة وزير الدفاع خلال جولة إقليمية في يناير/كانون الثاني الماضي، شملت أيضا قطر والأردن. والثانية في فبراير/شباط الماضي للمشاركة في قمّة الحكومات العالمية في دبي.

وفيما يتعلق بالموقف الغربي، يمكن تصنيفه أيضاً ضمن خانة المترقّب والمشكك. فقد استمرت العديد من الدول الأوروبية في دعم نظام الأسد من خلال المضي قدماً في عملية تطبيع سياسية وأمنيّة خلال الأعوام الأخيرة. وعلى الرغم من أنّ الموقف الأميركي لم يكن مؤيداً للتطبيع من الناحية الشكلية والعلنية، وفرضت واشنطن عقوبات على نظام الأسد، أشهرها العقوبات وفق قانون قيصر، فإنّ الولايات المتّحدة لم تكن تريد الإطاحة بنظام الأسد بقدر ما كانت تريد توظيفه. وبما أنّ الإطاحة بالنظام أدّت إلى إضعاف النفوذ الروسي في سوريا، فقد كان ذلك بمثابة حافز للولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي للنظر إلى الوضع بمنظور مختلف. ورغم المؤشرات الإيجابية التي صدرت عن عدد من الدول الغربية فور الإطاحة بنظام الأسد، فإن هذه الدول لم تنفتح تماماً على التغيير، وإنما قام بعضها بتخفيف العقوبات على سوريا لاختبار الإدارة السورية الجديدة. كما انخرط مسؤولو بعض هذه الدول الغربية مع المسؤولين الجدد في سوريا لاستكشاف رؤيتهم واختبار موقفهم ومحاولة التأثير على مسار إعادة تشكيل سوريا بما يأخذ بعين الاعتبار المصالح الغربية.

أمّا إسرائيل، فقد كانت تراهن على بقاء الأسد ضعيفا، إذ يمكّنها ذلك من فرض أجندتها دون الحاجة إلى تدخل ذاتي سياسي أو عسكري. وعلى الرغم من أنّ الفضل في بقاء نظام الأسد خلال الثورة السورية يعود إلى إيران وروسيا، فإنّ سياسات دول أخرى ساهمت بشكل قوي أيضاً في إبقائه، لاسيما السياسات التي تمّ اتباعها من قبل إسرائيل والولايات المتّحدة. رغبة الرئيس الأميركي باراك أوباما في التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران جعله يغض النظر عن سياسات طهران في سوريا ليضمن موافقتها. أمّا إسرائيل، فقد كانت ترى أنّ بقاء الأسد أفضل من رحيله(32)، ولذلك حصل تقاطع مصالح غير مباشر بين رغبة إسرائيل في تحقيق ذلك وبين قيام حزب الله وإيران بدعم نظام الأسد. كما أنّ تدخّل حزب الله وإيران في سوريا استنزفهما وسمح في النهاية لإسرائيل بخرقهما واستغلال نقاط ضعفهما واقتصر دورها على احتواء دورهما في سوريا. وبالرغم من أنّ نظام الأسد حاول التماهي مع الدور الإسرائيلي المراد له أن يلعبه، لاسيما خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، والحرب ضد حزب الله في لبنان؛ من خلال عزل نفسه عن الأحداث، وعدم الانخراط فيها، وفتحِه جبهة ضد المعارضة في إدلب، فإنّه لم يستطع في نهاية المطاف الصمود بعدما قررت المعارضة استغلال الظرف لإطلاق عملية عسكرية ضدّه.

وعلى الرغم من أنّ الإطاحة بنظام الأسد قد تكون خدمت إسرائيل لناحية إنهاء نفوذ إيران وقطع الإمدادات العسكرية عن حزب الله في لبنان وإخراج سوريا من محور إيران الإقليمي، فإنّها خلقت مشكلة أكبر لها بانتصار المعارضة السورية ذات العمق العربي-الإسلامي، والمقرّبة من تركيا. علاوة على ذلك، فإنّ سوريا مستقرّة وموحّدة سيفتح الباب أمام تعظيم النفوذ التركي في المنطقة بشكل كبير، مما من شأنه أن يخلّ بموازين القوى الإقليمية القائمة منذ عقود بشكل غير مسبوق، وقد يستقطب ذلك العديد من الدول فتصبح سوريا بمثابة قاطرة عربية أو نواة لتحالف إقليمي يضم دولا مع تركيا، الأمر الذي يتعارض مع المصالح الإسرائيلية. ولعلّ تقاطع المصالح القطرية-السعودية مع تركيا في سوريا، بالإضافة إلى سعي أنقرة لتشكيل تحالف خماسي من الدول المحيطة بسوريا (لبنان، الأردن، العراق، وتركيا) لدعم دمشق؛ يعزز التخوّف الإسرائيلي(33).

 

رابعا: الأمن الإقليمي وإعادة رسم التحالفات القائمة

أدى سقوط نظام الأسد إلى إحداث تحولات في تحالفات سابقة، وإنهاء تحالفات قائمة، وتمتين تحالفات ناشئة، وتعزيز الفرص لقيام تحالفات جديدة. ولعل من أبرز نتائج إخراج نظام الأسد من المشهد في سوريا والإقليم، إنهاء التحالف الأطول والأكثر استمرارية واستقراراً في الشرق الأوسط لما يقارب النصف قرن، وهو التحالف بين إيران وسوريا(34). لقد استطاع هذا التحالف، على مر العقود، تجاوز العديد من العقبات والأزمات، كما استطاع تحمّل الضغوط الإقليمية والدولية لاسيما من قبل دول الخليج والولايات المتّحدة، لكن مع رحيل نظام الأسد وصعود إدارة سورية جديدة تتبنى نظرة سلبية تجاه إيران باعتبارها سبباً رئيسياً في تدمير البلاد وبقاء النظام في السلطة لأكثر من عقد، أصبح هذا التحالف في حكم المنتهي.

أسفرت الإطاحة بنظام الأسد كذلك عن تقويض إستراتيجية إيران في المنطقة، المعروفة بعقيدة الدفاع المتقدم، حيث كانت سوريا تمثل منصة انطلاق رئيسية لنفوذ إيران، خاصة تجاه لبنان وشرق البحر المتوسط، وتمكنت إيران من خلاله من دعم حزب الله، الذي اعتُبر في مرحلة من المراحل أحد أكبر إنجازات إيران الإقليمية. ومع انهيار نظام الأسد والضربة التي تلقاها حزب الله في لبنان من قبل إسرائيل، يكون المحور الشيعي بقيادة إيران والذي يضم العراق وسوريا ولبنان واليمن، قد تفكّك بشكل كبير على المستوى الجغرافي والسياسي والمالي والعسكري، مما يدفع باتجاه إعادة تشكيل العلاقات بين هذه الدول على أسس جديدة تتماشى مع تراجع دور ونفوذ وقوة إيران الإقليمية.

وبموازاة ذلك، يبدو أنّ التحالف الإيراني-الروسي الذي كان قائماً في سوريا قد تفكك مع اتجاه موسكو إلى اعتماد إستراتيجية مختلفة خلال المرحلة الحالية، تحاول من خلالها الحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ في سوريا عبر الاعتراف بالوضع القائم، ومحاولة بناء الجسور مع الحكومة السورية الجديدة، وعرض إمكانية المساعدة بناءً على المصالح المشتركة، وهو ما قد يتوافق مع طريقة تعامل الحكومة الجديدة مع موسكو بالمقارنة مع طريقة تعاملها مع طهران والتي بدت أكثر حدّة وحزما لعدة أسباب.

ينظر السوريون بشكل سلبي كبير تجاه إيران ودورها في سوريا، سواء تعلق الأمر باتهامها بمساعدة النظام على البقاء، أو المشاركة في جرائم ضد الشعب السوري، أو في نقل الصراع الطائفي والأجندة الطائفية بشكل حاد إلى سوريا ذات الغالبية السنية، فضلا عن أن إيران هي من دعت موسكو إلى التدخل عسكريا في سوريا باعتراف المسؤولين الإيرانيين أنفسهم(35). ويبدو أيضا أن مكانة روسيا كقوة دولية ودولة عضو دائم في مجلس الأمن، مهمة لدى القيادة الجديدة في دمشق، أملا في أن تلعب موسكو دوراً موازناً في حال انقلاب المعسكر الغربي ضد الحكومة السورية أو حاولوا ابتزازها لاحقاً. وتأمل روسيا من خلال بناء علاقات مع الحكومة الجديدة؛ أن تحافظ على ما تبقى من نفوذها، بالإضافة إلى إمكانية بناء جسور أو تفاهمات مع الولايات المتّحدة حول سوريا الجديدة، وفي حال فشل هذا الخيار فبإمكان موسكو العودة دوماً إلى اتّباع سياسات أكثر انحيازا إلى المنظور الإيراني.

وبموازاة ذلك، فقد أدّى سقوط نظام الأسد إلى تعزيز التحالف القائم عملياً بين تركيا وقطر منذ العام 2014، والذي يعتبر حاليا من التحالفات الأكثر استقراراً ومتانة في الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين(36). فعدا عن التكامل في الأدوار الإقليمية، فإنّ عودة سوريا إلى العمق العربي ترفع من احتمال توسيع دائرة هذا التحالف تبعاً لتقاطع المصالح مع الدول الأخرى المعنيّة، لاسيما السعودية. فقد أدّى انهيار نظام الأسد إلى زيادة الشرخ الذي حصل بين التحالف الذي كان قائما بين السعودية والإمارات ومصر إبّان فترة الثورات العربية، والذي كان يُعرف باسم محور الثورات المضادة. تفكك هذا المحور إلى حدّ كبير بعيد المصالحة الخليجية عام 2021 التي تمّ تدشينها باتفاق سعودي-قطري أدى فيما بعد إلى اتجاه أعضاء هذا التحالف إلى تفضيل أولويات مختلفة على الصعيد الإقليمي، مع الإبقاء على موقفهم المشترك فيما يتعلق بالتطبيع مع نظام الأسد في سوريا. لكن مع الإطاحة بنظام الأسد، انتقلت السعودية بشكل سريع من التطبيع إلى الاعتراف بالنظام الجديد وتبنيه ودعمه، مما يجعل الرياض في هذا السياق أقرب إلى تركيا وقطر. في المقابل، تبنت الإمارات ومصر موقفاً حذراً من التغيير ومترقّباً، وهو يجعلها أقرب إلى المواقف الغربية في المرحلة الحالية.

هذا التشكّل في المواقف بين التحالفات الإقليمية القديمة والجديدة إزاء الوضع في سوريا وما يصاحبه من تحوّل في موازين القوى؛ يعني أنّ الكفّة بدأت تميل لصالح الدول التي توصف بأنّها تمثّل الثقل الإسلامي- السنّي في المنطقة (هكذا يُنظر إليها غربياً وإن لم تصف نفسها بهذا الأمر). يفتح هذا التحوّل في التحالفات وموازين القوى الباب أمام إمكانية حصول تقاطع مصالح علني أو سرّي بين الدول التي تمثّل الاتجاهات الأقلّوية في المنطقة، سواء الطائفية أو الدينية أو العرقية، على مستوى الدول كإيران أو إسرائيل، أو على مستوى الجماعات. السوابق والشواهد التاريخية للتقاطع في المصالح بين إيران وإسرائيل سواء في حقبة الشاه أو في حقبة المرشد الأعلى والجمهورية الإسلامية الإيرانية، لاسيما إبّان الحرب ضد العراق، تعزّز من إمكانية حصول مثل هذا الأمر(37).

وفقاً لعدد من التصريحات الصادرة عن مسؤولين في كلا البلدين، بالإضافة إلى النقاشات الداخلية التي تجري، فإنّ إمكانية حصول مثل هذا التلاقي فيما يتعلق بالموقف من سوريا الجديدة عالٍ وإن لم يشر أي من الطرفين علناً إلى الطرف الآخر كحليف محتمل. الهدف من ذلك هو إعادة التوازن في موازين القوى الإقليمية، بالإضافة إلى خدمة مصالح وأولويات الطرفين، لا سيما فيما يتعلق بتقويض الصعود التركي أو الاستفادة التركية من الوضع السوري، وتقويض إمكانية صعود سوريا كدولة عربية موحّدة، قوية، قادرة، ومزدهرة، وأخيراً البحث عن منافذ أو فرص محتملة لاستعادة النفوذ وتعزيزه. وبهذا المعنى، فإنّ التلاقي بين الطرفين الإيراني والإسرائيلي قد يتم عبر السعي إلى تحقيق نفس الهدف، وهو تقويض الوضع القائم، أو من خلال دعم نفس المليشيات، أو من خلال تبني نفس السياسات.

على المستوى الدولي، هناك رغبة لدى الدول الغربية بشكل عام في ملء الفراغ الذي أحدثه سقوط الأسد، بالإضافة إلى الرغبة في إعادة تشكيل سوريا الجديدة بما يتماشى مع التوجهات الغربية، أو على الأقل بما لا يتناقض معها. تاريخياً، كانت علاقات سوريا بالمعسكر الشرقي قوية، لا سيما في عهد حزب البعث، وقد استمر الوضع على هذا الحاله بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث اهتم نظام الأسد بتمتين علاقاته مع روسيا والصين وكوريا الشمالية. وبعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، أصبحت علاقات سوريا مع روسيا والصين وكوريا الشمالية أكثر أهمّية، خصوصا على المستوى السياسي والأمني.

ومع الإطاحة بنظام الأسد، سعت العديد من الدول التي تقف على طرفي نقيض مع كل من طهران وموسكو وبكين، وبيونغ يانغ، إلى إيجاد موطئ قدم لها في سوريا الجديدة من خلال نسج علاقات دبلوماسية مع الحكومة الجديدة، أو إنشاء علاقات جديدة. ومن أبرز هذه الدول: أذربيجان، وأوكرانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية.

 

 

خامسا: سيناريوهات مستقبلية

(أ) سوريا مستقرة نسبيًّا

في سيناريو سوريا مستقرة نسبياً وتتقدّم على المسار الصحيح، فإنّ معظم التحوّلات التي تمّت مناقشتها في النص سابقا ستتعزّز. يفترض هذا السيناريو أنّه سيتم تجاوز معظم التحدّيات الرئيسية التي تواجه البلاد والحكومة الجديدة بنجاح، وهذا يعني أنّه سيتم التصدّي للوضع الاقتصادي الملحّ للحكومة والشعب السوري من خلال المساعدات التي ستتلقّاها سوريا من الدول الحليفة والصديقة بالدرجة الأولى، ومن خلال إطلاق عملية إعادة الإعمار وبناء مؤسسات الدولة، وأخيراً من خلال تحرير موارد البلاد الاقتصادية والاستفادة منها في إعادة بناء الاقتصاد.

على المستوى السياسي، يفترض السيناريو أنّ المرحلة الانتقالية ستسير في الاتجاه الصحيح بشكل يساهم في إعادة بناء مؤسسات الدولة، مع الحرص على تفادي الصراع مع الأقليات أو المكوّنات المختلفة في إطار سياسة احتواء، تمهيداً لإعادة إشراك المكونات السورية بشكل فعّال في الشأن العام السوري.

أمّا على المستوى الأمني، فيفترض السيناريو أنّ تحسّن الوضع الاقتصادي والتقدّم على المستوى السياسي سيساعدان في تحقيق استقرار أمني وضبط السلاح المنفلت إلى حد كبير، خاصة مع تعزيز الاتفاقات التي تمّت بخصوص حل فصائل المعارضة المسلّحة وجمع السلاح وبناء جيش وطني محترف وحل التنظيمات الأخرى المسلّحة بناءً على الاتفاقات التي تمّت معها، ومن بينها الاتفاق مع “قوات سوريا الديمقراطية” التي يشكّل تنظيم “واي بي جي” -الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني- عمودها الفقري.

انعكاسات هذا السيناريو على وضع سوريا الداخلي والإقليمي، وعلى موازين القوى، والتحالفات الإقليمية والدولية، سيكون بمثابة استكمال للخط الحالي. إعادة بناء سوريا ومؤسساتها تفتح الباب واسعاً أمام عودة سوريا إلى العمق العربي. تاريخياً، فإنّ سوريا قوّية تعزّز من العمق الجيوسياسي والاقتصادي لكل من مصر والأردن، وكلتاهما تعزّز من عمق الخليج الجغرافي والأمني والدفاعي.

وبالنظر إلى خصوصية تركيا في الوضع السوري، فإنّ سوريا مستقرّة نسبيًّا تخدم مصالح أنقرة بشكل مثالي من الناحية السياسية والاقتصادية والأمنيّة، كما تشكّل الجسر البرّي الذي يصل تركيا بالأردن ومنه إلى السعودية وباقي دول مجلس التعاون الخليجي، وهو -ممر بخلاف الممر العراقي- صار خاليا تماما من أي نفوذ إيراني.

تعظّم هذه المعطيات من قدرات تركيا كقوّة إقليمية في الشرق الأوسط، كما تعزز من موقع ودور دول مجلس التعاون الخليجي، وتقوّض في نفس الوقت من نفوذ إيران وإسرائيل، ولذلك فإنّ احتمال نشوء تقاطع مصالح بين الطرفين سواء لمنع صعود سوريا أو لتقويض موقع ودور تركيا أو للحد من التفاعل الخليجي مع دمشق؛ سيكون عالياً، كما هو عليه الحال الآن(38). آليات إيران وإسرائيل في تحقيق هذه الأهداف قد تكون مشابهة إلى حد بعيد، وهي تعتمد بشكل أساسي على التخريب(39)، لا سيما فيما يتعلق بتبني ودعم أقليات طائفية (علوية، درزية)، أو عرقية (كردية)، مع أفضلية لصالح الجانب الإسرائيلي في هذا السيناريو نظراً للعامل الجغرافي من جهة، والقدرات العسكرية من جهة أخرى.

لكن مع تعزيز المصالحات الداخلية في سوريا والتوافق مع الأقليات سيصبح من الأصعب على إيران وإسرائيل استغلال الأقليات وتوظيفها، وإن لم يكن ذلك مستحيلاً. لكن هذا المُعطى يطرح تساؤلاً حول الكيفية التي سيتم بها تقويض الوضع، وقد يتضمن ذلك حالات اغتيال، بما فيها اغتيال رئيس الجمهورية أحمد الشرع، أو تشجيع انقلاب داخلي، أو تكثيف عمليات التحريض على الفتنة والاقتتال الداخلي، أو استكمال لعمليات الضم والقضم والاحتلال في الحالة الإسرائيلية، على أمل أن يؤدي ذلك إلى ولادة شرخ داخلي بين من يريدون التركيز على بناء الدولة السورية ومؤسساتها واقتصادها، وعلى من يريدون إعطاء الأولوية لتحرير الأرض السورية المحتلة أو مقاومة إسرائيل. والمفارقة أنّه إذا ما قامت إسرائيل بالمبالغة في استخدام الخيار الثاني، فهذا الأمر قد يفتح نافذة لإيران مستقبلا للنفاذ منها إلى الداخل السوري وإنشاء أو دعم جماعات مسلّحة بحجّة مقاومة إسرائيل، لتحوّل سوريا مع الوقت إلى ما كان عليه حال لبنان تحت سيطرة حزب الله حتى نهاية العام 2024.

على المستوى الدولي، يفترض هذا السيناريو أنّ الدول الغربية توصّلت إلى حد أدنى من التفاهم مع القيادة الجديدة، مما سمح برفع العقوبات وإطلاق عملية إعادة بناء المؤسسات السورية وإعادة إعمار البلاد، مقابل تعزيز مصالحها وتوجهاتها، لا سيما من الناحية السياسية والاقتصادية والأمنيّة. وهذا يعني أنّ المصالح الغربية ستطغى على مصالح روسيا والصين في سوريا المستقرة، لكن محاولة عزل الدولتين الكبريين، خاصة روسيا، قد تدفعها إلى معسكر تقاطع المصالح مع إيران وإسرائيل على المستوى الإقليمي. ولذلك، فإن دواعي الاستقرار ستتطلب نوعا من التوازن في العلاقات بين روسيا والصين وبين الغرب، أو على الأقل إبقاء العلاقة قائمة مع الدولتين بمستوى جيد لاستغلالها لاحقا في إحداث توازن مع المعسكر الغربي.

 

 

(ب) سوريا دولة فاشلة

في سيناريو آخر، تفشل الحكومة السورية الجديدة في الانتقال بشكل صحيح بالبلاد إلى مستوى يؤمّن الاستقرار النسبي، وذلك لعوامل داخلية و/أو خارجية. من أبرز هذه العوامل في هذا السيناريو عدم القدرة على تأمين الوضع الاقتصادي المُلح، وعدم توافر الموارد اللازمة لصرف رواتب موظفي الدولة، وارتفاع التضخم، وعدم قدرة الدول الحليفة والصديقة على تحويل وعودها إلى واقع، وبقاء العقوبات إلى حد كبير واستخدامها كأداة ابتزاز لإعادة تشكيل الوضع السوري غربياً، بالإضافة إلى استمرار التحريض الطائفي والعرقي من قبل إيران وإسرائيل والولايات المتحدة وروسيا ودعوة الأقليات في الشمال والجنوب (العلوية والكردية والدرزية) إلى الاستقلال عن السلطة المركزية، وعدم قدرة الأخيرة على بسط سلطتها على كامل الأراضي السورية نظراً لهذه العوامل، بالإضافة إلى استمرار إسرائيل في قصف القدرات العسكرية السورية للتأكد من عدم قدرة الحكومة على السيطرة على كامل الأراضي السورية.

وينعكس الوضع الاقتصادي المتردّي وعدمُ قدرة الحكومة على بسط سيطرتها ومقاومة التدخلات الخارجية؛ على الوضع السياسي، وتاليا على الوضع الأمني في البلاد، بحيث يصبح من الصعب السيطرة على الأوضاع الأمنيّة، لا سيما في مناطق الأطراف، مع تزايد المطالب المتعلقة باقتطاع ثروات من موارد البلاد للأقليات الطائفية والإثنية، فيؤدي استفزاز الأقلّية المدعومة من الخارج إلى استنفار الأغلبية، مما يُطلق موجات من العنف والتطرف.

يؤدي هذا السيناريو إلى تحوّل في موازين القوى الإقليمية في الاتجاه المعاكس لما هو حاصل حالياً، إذ يعزز الانقسامَ الداخلي والمحاصصة السياسية ويفتت البلاد إلى كانتونات طائفية أو عرقية بدعم خارجي إقليمي ودولي. ويفتح هذا الوضع الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية وإمكانية عودة النفوذ الإيراني وزيادة النفوذ الإسرائيلي في البلاد، كما يفتح الباب على الصراع بين القوى الإقليمية والدولية لتحديد مناطق نفوذها ونطاق مصالحها. تتدخّل القوى الكبرى لضمان موطئ قدم لها في سوريا بدعوى حماية الأقليات ومحاربة الإرهاب والتطرف وملء الفراغ، فالولايات المتّحدة ستتدخل لحماية حزب العمّال الكردستاني الذي سيعيد تنظيم صفوفه في سوريا لاقتطاع الشمال الشرقي ككيان أمر واقع، وإسرائيل ستتدخل بدعوى حماية الدروز على الحدود من فلسطين المحتلّة، وقد تقضم المزيد من الأراضي أو تعطي الجنسية الإسرائيلية لعدد من الدروز مقابل امتيازات يتم منحها لهم، وإيران ستتدخل بدعوى حماية الشيعة والعلويين، وبما أنّهم لن يكونوا قادرين على السيطرة على كامل سوريا فسيطالبون بانفصال أو إدارة مستقلة وفيدرالية في أحسن الأحوال، وفرنسا والاتحاد الأوروبي سيتدخلان لحماية المسيحيّين.

في هذا السيناريو يبني الجانب الإيراني شرعية تدخّله على سردية حماية الأقلية الشيعية والعلوية، ويحاول أن يجعل أجندته منسجمة مع الاتجاه الغربي والدولي في محاربة الإرهاب والتطرف ليحصل على شرعية للتدخل، وسيتجاهل إسرائيلَ تماماً كي لا يستعجل مواجهة مبكّرة أو فيتو على نشاطاته في سوريا. وبموازاة العمل على تنظيم ودعم الطائفة الشيعية والعلوية، يبدي الجانب الإيراني انفتاحه على مفاوضات حول برنامجه النووي و/أو قضايا أخرى تتعلق بترسانة صواريخه وسياساته الخارجية لكسب الوقت وإعادة وصل ما انقطع في الساحة اللبنانية، من خلال إعادة بناء قدرات حزب الله وتالياً باقي المليشيات الشيعية في سوريا والعراق واليمن.

وتتحول سوريا في هذا السيناريو من فرصة ومصلحة تركيّة إلى أعظم تحدٍّ لأنقرة من الناحية الأمنيّة والاقتصادية. ويترك مثل هذا السيناريو تداعياته على الوضع السياسي التركي الداخلي وعلى مستقبل تركيا، ويجبر أنقرة على التدخل عسكرياً خوفاً من استغلال الوضع القائم لإنشاء دويلات على حدودها الجنوبية، أو تعزيز تمركزها العسكري الموجود في البلاد، مما يفتح المجال أمام إمكانية حصول صدام مع المليشيات المدعومة من الخارج أو مع الدول الراعية لها داخل سوريا.

من الناحية الاقتصادية، يقطع هذا السيناريو صلة الوصل الجغرافية البريّة بين تركيا وبلاد الشام ودول الخليج، وهو ما يعني أنّ المشاريع الاقتصادية الكبرى والممرات التجارية ومشاريع البنى التحتيّة ستصبح في مهبّ الريح، كما أنّ الوضع الأمني في سوريا، لا سيما لناحية عدم الاستقرار وعودة النفوذ الإيراني وصعود الأقليّات والتطرّف، سيقوّض وضع العراق ودور ونفوذ أنقرة فيه، وهذا الأمر سيهدد بدوره العلاقات التركية-العراقية ومشروع طريق التنمية الذي يضمّ تركيا والعراق وقطر والإمارات ويهدف إلى وصل الخليج العربي بأوروبا عبر العراق وتركيا، وتمّ المضي فيه قدما في العام 2024.

وفي مثل هذا السيناريو حيث تسود سوريا كدولة فاشلة، ويتم تقويض موقع ودور ومصالح تركيا، كما يجري تمهيد الطريق لعودة التدخل الأميركي والروسي، ويتم دعم أجندة الأقليات، فإنّ اليد العليا على المستوى الإقليمي ستعود لإسرائيل، شريطة أن تكون حالة الفوضى مُقيّدة وليست منفلتة كي لا تتعرّض إسرائيل لأي مخاطر من تنظيمات تصنّفها على أنها تنظيمات راديكالية أو إرهابيّة. كما أنّ توازن القوى الإقليمي سينتقل من الدول ذات الأغلبية السنيّة في المنطقة إلى الدول التي تمثّل الأقليات الدينية أو الطائفية أو العرقية في المنطقة. وستحاول إسرائيل الحفاظ على الوضع القائم حينها، مع استغلال الأوضاع للدفع باتجاه المزيد من التطبيع مع الدول العربية من موقع القوّة. فدول الخليج العربي ستكون منقسمة في هذا السيناريو إلى دول تريد أن تتحضّر لصعود إيران مجدداً بتقارب أكبر مع إسرائيل، ودول تريد تفادي سيناريو أن تكون عالقة بين خياري إيران وإسرائيل فتتّجه إلى تمتين علاقاتها مع تركيا أو أميركا أو ربما باتجاه تنويع التحالفات مع علاقات أقوى مع دول أوروبية أو الصين.

(ج) سوريا دولة دكتاتورية

يأتي هذا السيناريو وسطًا بين السيناريو الأول والثاني، ويقوم على فكرة أنّه مع الفشل في تحقيق السناريو الأوّل لأسباب عديدة داخلية وخارجية، فإنّ الخوف من الاتجاه إلى السيناريو الثاني يفرض أن يتم حكم البلاد بقبضة حديديّة. تفسير هذا الاتجاه يعني أنّ شرعيّة الحكم ستأتي من خلال القوّة القاهرة، لا من خلال مصادر أخرى. في غالب الحالات التي شهدت خبرة مماثلة، عادة ما يتم ذلك عبر انقلاب عسكري للسيطرة على مفاتيح البلاد. وتاريخياً، تعتبر سوريا في طليعة الدول العربية التي شهدت أكبر عدد من الانقلابات العسكرية، ويصنّفها البعض في المرتبة الثانية بعد السودان(40). الانقلابات العسكرية بدأت في سوريا عام 1949، واستمرت حتى العام 1970، وذلك بواقع 9 انقلابات عسكرية. انقلاب عام 1970 مهّد الطريق لعائلة الأسد لحكم سوريا ما يزيد عن نصف قرن.

اللافت للنظر في هذه الانقلابات أنّها حصلت نتيجة تقاطع معطيات داخلية وأخرى خارجية يتقاطع بعضها مع الوضع الحالي لسوريا. آنذاك أيضاً، كان للخارج تأثير مباشر سواءً من خلال التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إبّان الحرب البادرة، أو التنافس بين الملكيات والجمهوريات العربية، أو الصراع بين الدول العربية وإسرائيل. بعض الزعماء السوريين دفع باتجاه الوحدة مع مصر، وآخرون كانوا يدفعون باتجاه تفاهم مع إسرائيل، بينما اتجه البعض لاحقاً إلى التحالف مع إيران. بعضهم استغل منصبه لتعزيز دور وموقع الأقلّيات في الشأن السياسي، وآخرون فعلوا الأمر نفسه في الشأن العسكري(41) أو في الاثنين معاً كنظام الأسد الأب والابن.

ويرى سيد عبد العال، في كتابه “الانقلابات العسكرية في سوريا 1949-1954″، أن النظام الحاكم بقيادة الرئيس شكري القوتلي فشل في حكم المجتمع السوري بسبب كثرة اختلافاته البينية، وسعي كل طائفة أو أقلية للبحث عن مصالحها وزيادة نفوذها. استقطاب آخر شهدته البلاد منذ حقبة الاحتلال الفرنسي، وهو استقطاب أيديولوجي بين الاشتراكيين الذين أسسوا فيما بعد لانقلابات البعث المتتالية في ستينيات القرن الماضي، وبين التيارات الديمقراطية والإسلامية التي كانوا يصفونها بالقوى الموالية للرأسمالية العالمية أو قوى الرجعية والتخلف”(42).

لا تزال هذه المعطيات موجودة بشكل أو بآخر في سوريا التي خلّفها النظام البعثي، وهو ما يعني أنّ مهمة الإدارة الجديدة للبلاد والرئيس أحمد الشرع لن تكون سهلة على الإطلاق. لكن الفارق بين الحقبة الماضية والحقبة الحالية فيما يتعلق بإمكانية القيام بانقلاب عسكري، هو عدم وجود جيش حقيقي بعد الإطاحة بنظام بشّار الأسد، وعدم وجود مؤسسات في البلاد. ولهذا السبب بالتحديد، فإن قدرة النظام البائد على القيام بانقلاب عسكري في الوقت الحالي أو على المدى القريب؛ تعتبر ضئيلة للغاية أو شبه معدومة. لكن محاولات أنصار النظام السابق وفلوله من القوات العسكرية أو المليشيات الطائفية للتكتّل والانفصال أو التخريب أو الانقلاب تبقى قائمة بالفعل.

ولعلّ الأحداث التي افتعلتها مجموعة “درع الساحل” العلوية المشكّلة من فلول النظام من العلويين الموالين للأسد في مارس/آذار 2025 وما تبعها من ردود أفعال محليّة ومواقف دولية داعمة للأقليات، تعدّ مؤشّراً على مثل هذا الأمر. وعليه، فإن انزلاق البلاد تجاه المركزية والدكتاتورية يُعتبر أمرا ممكنا.

لكن الأنظمة من هذا النوع عادة ما تحظى بالشرعية من الخارج، مع وجود دعم من القوى الكبرى. وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى تيّارين رئيسيين: أميركا والغرب، وروسيا. كما أنّ التفاهم مع إسرائيل يعدّ في صلب سيناريو نشوء نظام دكتاتوري غير شعبي لا يمثّل الأغلبية و/أو لا يحظى بدعمها.

في هذا السيناريو، يتم فرض الوضع الأمني للبلاد بالقوّة، ويتحقق الاستقرار الزائف الذي عادة ما يؤدي على المدى الطويل إلى الانفجار. وتوجهات النظام الإستراتيجية سترتبط في الغالب بتوجهات القوى الخارجية التي تؤمّن الشرعية للنظام، فإما باتجاه أميركا وإمّا باتجاه روسيا. وفي كلتا الحالتين، ستكون هناك تداعيات على مستوى توزان القوى الإقليمي والعلاقة مع الفاعلين الإقليميين، كما ستكون هناك مشاكل سياسية واقتصادية كبيرة، وهو ما سيدفع سوريا للاتجاه نحو أحد المسارين بقوّة. قد يرضي هذا الوضع الأنظمة غير الديمقراطية في المنطقة، لكنّه سيخلق حالة كبيرة من عدم الاستقرار. والدكتاتورية التي تكتسب شرعيتها من غطاء روسي يعني أنّ سوريا ستكون غالبا في محور يضم إيران وأذرعها، مع ما يتركه ذلك من تأثير على موازين القوى والتحالفات في المنطقة، كما أنّ دكتاتورية تكتسب شرعيتها من غطاء أميركي تعني أنّ سوريا ستكون غالباً قريبة من محور تتزعّمه إسرائيل، مع ما يتركه مثل هذا المسار أيضا على موازين القوى والتحالفات. في كلتا الحالتين سيتعارض ذلك على الأرجح مع ما تفضّله تركيا لسوريا داخليا أو خارجيا.

خاتمة

تؤكد السيناريوهات التي تم تحليلها أنّ التحوّل الذي تشهده سوريا في مرحلة ما بعد نظام الأسد، يمثل لحظة مفصليّة تعيد تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية وموازين القوى وترتيب التحالفات الإستراتيجية في الشرق الأوسط. وبدلاً من التنبؤ بنتائج محددة في هذا الإطار، ناقشت الورقة الطبيعة المحتملة للمسار السياسي السوري، والتداعيات الإستراتيجية التي ستنجم عنه، بالإضافة إلى الانعكاسات الإقليمية المرتبطة به بعمق، لا سيما فيما يتعلق بالديناميكيات الإقليمية الأوسع، وأجندات القوى الإقليمية والدولية.

ولذلك، فإن إعادة بناء البنية السياسية والاقتصادية والأمنيّة والاجتماعية لسوريا لن تؤثر فقط على استقرارها الداخلي، بل ستؤثر بشكل كبير على منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وتعيد تشكيل موازين القوى، وربما تعيد تعريف محاور التحالفات، وتؤثر على الحسابات الإستراتيجية للأطراف الخارجية.

من الناحية الإستراتيجية، قد تؤدي النتائج في سوريا إلى تحولات جوهرية في التوازنات الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بتصاعد نفوذ تركيا الإقليمي، وتحديد نفوذ إيران الإقليمي، وإعادة رسم أدوار دول الخليج، وبالأخص السعودية وقطر، بالإضافة طبعاً إلى إعادة تعريف التأثير الغربي والنفوذ الروسي في ظل اقتناص إسرائيل للفرص ومحاولات التأثير على جهود إعادة تشكيل سوريا المستقبل، وما يرتبط بها من تحوّلات إقليمية.

ظهور سوريا مستقرة يمكن أن يعزز محورا يمتد من تركيا إلى الخليج مرورا بالأردن وسوريا، ويقوي التماسك العربي، بينما قد يؤدي فشل الدولة إلى إعادة إشعال طموحات إيران وتعزيز نفوذ إسرائيل. إضافة إلى ذلك، قد تؤدي التحولات في التحالفات إلى ظهور اصطفافات غير تقليدية، حيث تحاول الدول التكيّف مع حالة عدم اليقين، مما يؤدي ربما إلى تقاطع مصالح بين أطراف كانت تاريخياً متعارضة. وبالتالي، فإن استقرار المنطقة يعتمد على التفاعل بين هذه الاصطفافات الإستراتيجية واستعداد الفاعلين الدوليين إما لتعزيز أطر التعاون أو استغلال الانقسامات.

كذلك، يوضح نموذج تحليل السيناريوهات الذي تمّ اعتماده من الاستقرار إلى فشل الدولة أو عودة الاستبداد؛ التعقيد الذي يواجه أصحابَ القرار المحليين والإقليميين والدوليين. كما يؤكد على الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه الحكم الشامل، والانتعاش الاقتصادي، والانخراط الدولي المتوازن في توجيه سوريا نحو تعافٍ مستدام، أو ما يمكن أن يؤدي إليه بقاءُ العقوبات وعدمُ الانخراط واستمرار التحريض الخارجي الطائفي والعرقي من تداعيات مدمّرة على الدولة والإقليم.

المراجع

 (1) Suleiman Al-Khalidi, “Syrian Rebels Launch Attack against Army in Aleppo Province,Reuters, 28 Nov. 2024, https://www.reuters.com/world/middle-east/syrian-rebels-launch-attack-against-army-aleppo-province-2024-11-27/ (accessed Feb. 1, 2025).

(2)  Oxford English Dictionary, “Scenario verb,” Fact Sheet, https://www.oed.com/dictionary/scenario_v?tl=true&tab=factsheet (accessed Feb. 1, 2025).

 (3) Online Etymology Dictionary, “Scenario,” https://www.etymonline.com/word/scenario#:~:text=scenario%20(n.),reference%20to%20hypothetical%20nuclear%20wars (accessed Feb. 1, 2025).

(4) Ibid.

 (5) William R. Huss, “A Move Toward Scenario Analysis,”International Journal of Forecasting” 4 (1988): 377–388.

 (6) Harvey A. DeWeerd, olitical-Military Scenarios (Santa Monica: RAND Corporation, February 1967), https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/papers/2009/P3535.pdf (accessed Feb. 10, 2025).

 (7) Ibid., 2–3.

 (8) Ibid., 1–2.

(9)  Huss, “A Move Toward Scenario Analysis,” 377.

(10)  John C. Chambers, Satinder K. Mullick, and Donald D. Smith, “How to Choose the Right Forecasting Technique,”Harvard Business Review”, July 1971, https://hbr.org/1971/07/how-to-choose-the-right-forecasting-technique (accessed Feb. 13, 2025).

(11)  Environmental Task Force of the Corporate Executive Staff, General Electric, “Four Alternative World/U.S. Scenarios 1971–1980,” January 21, 1971; in Huss, “A Move Toward Scenario Analysis,” 380.

(12)  Pierre Wack, “Scenarios: Uncharted Waters Ahead,”Harvard Business Review”, September 1985, https://hbr.org/1985/09/scenarios-uncharted-waters-ahead (accessed Feb. 15, 2025); and idem, “Scenarios: Shooting the Rapids,”Harvard Business Review, November 1985, https://hbr.org/1985/11/scenarios-shooting-the-rapids (accessed Feb. 15, 2025).

(13)  David M. Georgoff and Robert G. Murdick, “Manager’s Guide to Forecasting,”Harvard Business Review, January 1986, https://hbr.org/1986/01/managers-guide-to-forecasting (accessed Feb. 23, 2025).

  (14) Huss, “A Move Toward Scenario Analysis”, 380.

(15) Johanna Moore,Understanding Israel’s Campaign to Defeat Hezbollah in Lebanon, Institute for the Study of War, Nov. 21, 2024, https://www.understandingwar.org/backgrounder/understanding-israel%E2%80%99s-campaign-defeat-hezbollah-lebanon (accessed Feb. 25, 2025).

 (16) Sophie Tanno, “Israel Strikes Yemen for the First Time Following Deadly Houthi Drone Attack. Here’s What We Know,”CNN”, July 22, 2024, https://edition.cnn.com/2024/07/21/middleeast/israel-strikes-houthi-rebels-explainer-intl/index.html (accessed Mar. 1, 2025).

 (17) Dilshad Anwar, “Pro-Iran Militia in Iraq Halts Attacks on Israel to Avoid Retaliation,”Voice of America”, Dec. 24, 2024, https://www.voanews.com/a/voa-kurdish-pro-iran-militia-in-iraq-halts-attacks-on-israel-to-avoid-retaliation/7912086.html (accessed Mar. 10, 2025).

(18) “Iran ‘Essentially Naked’ after Israel Destroys Russia-Provided Air Defence Systems, Say Officials,”First Post”, Oct. 31, 2024, https://www.firstpost.com/world/iran-essentially-naked-after-israel-destroys-russia-provided-air-defence-systems-say-officials-13830851.html (accessed Mar. 15, 2025).

(19) Andrew Thomas, “Israel-Iran in Dangerous Game of Face-Saving Missile Strikes,”Asia Times”, Oct. 28, 2024, https://asiatimes.com/2024/10/israel-iran-in-dangerous-game-of-face-saving-missile-strikes/# (accessed Mar. 16, 2025).

(20) Sirwan Kajjo, “Why Has Syria Stayed Out of the Israel-Hezbollah Conflict?” “Voice of America”, Oct. 4, 2024, https://www.voanews.com/a/why-has-syria-stayed-out-of-the-israel-hezbollah-conflict-/7810883.html (accessed Mar. 17, 2025).

 (21) Massive Displacement in Syria’s Idlib amid Assad Regime Attacks,” “The New Arab”, Oct. 31, 2024, https://www.newarab.com/news/massive-displacement-syrias-idlib-amid-assad-regime-attacks (accessed Mar. 17, 2025).

” (22) Syrian Opposition Says Advance Aims to Protect Civilians from Assad Regime,” “Daily Sabah”, Dec. 3, 2024, https://www.dailysabah.com/politics/syrian-opposition-says-advance-aims-to-protect-civilians-from-assad-regime/news (accessed Mar. 17, 2025).

 (23) Nicole Grajewski, “Why Did Iran Allow Bashar al-Assad’s Downfall?” “Diwan – Carnegie”, Dec. 9, 2024, https://carnegieendowment.org/middle-east/diwan/2024/12/why-did-iran-allow-assads-downfall?lang=en (accessed Mar. 17, 2025).

(24) “خامنئي: الإطاحة بالأسد جاءت نتيجة لخطة أعدتها أميركا وإسرائيل وإحدى الدول المجاورة لسوريا”، “القدس العربي”، 11 ديسمبر 2024، https://shorturl.at/pbAzj (تم الدخول: 18 مارس/آذار 2025).

(25) “الرئيس السوري يبحث خلال اتصال هاتفي مع الرئيس الإماراتي ورئيس الوزراء العراقي…”، “الوكالة الوطنية للإعلام”، 30 نوفمبر 2024، https://shorturl.at/z7Ota (تم الدخول: 19 مارس/آذار 2025).

(26) “إيران توفد عراقجي لدمشق وتتعهد بدعم الجيش السوري”، “الجزيرة.نت”، 1 ديسمبر/كانون الأول 2024، https://shorturl.at/6b73u (تم الدخول: 20 مارس/آذار 2025).

(27) Maya Gebeily, Parisa Hafezi, and Alexander Cornwell, “Exclusive: US, UAE Discussed Lifting Assad Sanctions in Exchange for Break with Iran,” “Reuters”, Dec. 2, 2024, https://www.reuters.com/world/us-uae-discussed-lifting-assad-sanctions-exchange-break-with-iran-sources-say-2024-12-02/ (accessed Mar. 20, 2025).

(28) “نعيم قاسم: حزب الله سيكون إلى جانب سوريا لإحباط عدوان تقوده أميركا وإسرائيل”، “العربي الجديد”، 5 ديسمبر/كانون الأول 2024، https://shorturl.at/gkFof (تم الدخول: 21 مارس/آذار 2025).

(29) Russian Ministry of Foreign Affairs, “Foreign Minister Sergey Lavrov’s Answers to Questions at the 22th Doha Forum,” Dec. 7, 2024, https://mid.ru/en/foreign_policy/news/1986144/ (accessed Mar. 22, 2025).

(30) “وسائل إعلام: غارات روسية تدمر جسر الرستن بين حماة وحمص”، “الشرق”، 6 ديسمبر 2024، https://shorturl.at/16LA7 (تم الدخول: 22 مارس/آذار 2025).

(31) “الصدر يدعو لعدم التدخل في الشأن السوري واجتماع عراقي سوري إيراني ببغداد”، “الجزيرة.نت”، 6 ديسمبر/كانون الأول 2024، https://shorturl.at/NwnXJ (تم الدخول: 22 مارس/آذار 2025).

(32) Efraim Halevy, “Israel’s Man in Damascus: Why Jerusalem Doesn’t Want the Assad Regime to Fall,” “Foreign Affairs”, May 10, 2013, https://www.foreignaffairs.com/articles/israel/2013-05-10/israels-man-damascus (accessed Mar. 22, 2025).

(33) فراس فحّام، “هل تنجح مساعي تركيا لتشكيل تحالف رباعي إقليمي يشمل سوريا؟”، “الجزيرة.نت”، 24 فبراير/شباط 2025، https://rb.gy/4zgti7 (تم الدخول: 22 مارس/آذار 2025).

(34)  Edward Wastnidge, “Iran and Syria: An Enduring Axis,” “Middle East Policy” 24, no. 2 (2017): 148–159.

(35)  “Iran Lobbied for Russian Campaign in Syria, Officials Say,” “CBS News”, Oct. 7, 2015, https://www.cbsnews.com/news/iran-lobbied-for-russian-campaign-in-syria-officials-say/ (accessed Mar. 22, 2025).

(36)  Ali Bakir, “The Evolution of Turkey—Qatar Relations Amid a Growing Gulf Divide: The Anatomy of a Crisis,” in “Divided Gulf”, ed. Andreas Krieg (Singapore: Palgrave Macmillan, 2019), https://doi.org/10.1007/978-981-13-6314-6_12.

  (37) Trita Parsi, “Treacherous Alliance: The Secret Dealings of Israel, Iran and the United States” (New Haven, CT: Yale University Press, 1997).

(38) “مقابلة مع وزير الخارجية البريطاني الأسبق جاك سترو”، برنامج “وفي رواية أخرى”، “التلفزيون العربي”، 15 فبراير/شباط 2020، https://www.youtube.com/watch?v=QuE1hDe7OPI (تم الدخول: 22 مارس/آذار 2025).

 (39) Ali Bakir, “Deep Dive: How Qatar and Turkey Will Shape Post-Assad Syria,” “Amwaj Media”, Jan. 10, 2025, https://amwaj.media/en/article/deep-dive-how-qatar-and-turkey-will-shape-post-assad-syria (accessed Mar. 22, 2025).

 (40) Ali Bakir, “Why Israel Wants Syria to Become a Failed State,” “Middle East Eye”, Mar. 3, 2025, https://www.middleeasteye.net/opinion/why-israel-wants-syria-become-failed-state (accessed Mar. 23, 2025).

(41) علي باكير، “إيران.. التحريض على مواصلة التخريب في سوريا”، “عربي 21”، 28 ديسمبر/كانون الثاني 2024، https://rb.gy/8ror7i (تم الدخول: 22 مارس/آذار 2025).

(42) “هل يمكن أن تلتقي إيران مع إسرائيل ضد تركيا في سوريا؟”، “عربي 21″، 11 يناير/كانون الثاني 2025، https://rb.gy/9xgzi4 (تم الدخول: 22 مارس/آذار 2025).

(43) محمد شعبان أيوب، “سوريا من أكثر البلدان قابلية للانقلابات العسكرية فلماذا؟”، “الجزيرة.نت”، 5 يناير/كانون الثاني 2025، https://rb.gy/4uuvmv (تم الدخول: 23 مارس/آذار 2025).

(44) نفس المرجع السابق.

(45) نفس المرجع السابق.